"أحبّك"، كلمة صغيرة بعدد حروفها ولكنّها عظيمة بمعناها الّذي يؤثّر في كيان الإنسان، ويبعث في نفسه الكثير من الطّمأنينة والسّلام والفرح. إذ إنّ هذه الكلمة تشعره بأهمّيّته وقدره، وبأنه محبوب كشخص. ولعلّ الإنسان يبذل جهداً لا بأس به ليجذب الآخر إليه، ويسعى أبداً ليكون مرغوباً بوجوده ومحبوباً. ولو بحثنا عميقاً في علم النّفس وعلم الاجتماع لوجدنا أن أساس المشاكل الإنسانيّة والإضطرابات السّلوكيّة والنّفسيّة تنتج عن نقص في الحبّ. فمحور حياة الإنسان الأساس، ومهما انغمس في الأمور الحياتيّة ومشقّاتها، هو البحث عن الحبّ، وإن كان أحياناً بشكل غير واعٍ.
للحبّ وجوه عديدة، تختلف باختلاف المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان في مسيرته الحياتيّة وباختلاف الظّروف الّتي يعيشها منذ طفولته الأولى. وتتجسّد هذه الوجوه المتباينة في عدّة عناوين منها، الحبّ المتعلّق بالعاطفة الوالديّة، والحبّ الأخويّ بين الأصحاب والأصدقاء، والحبّ المرتبط بالجنس المختلف. والوجه الأخير هو الأكثر حاجة للإنسان، إذ إنّه لا يكتفي بالحبّ الوالدي والأخوي بل ينتظر دوماً ذلك الحبيب الّذي سيشتعل من أجله قلبه بومضة لامعة، لا يمكن شرح مصدرها أو كينونتها ولكن يمكن استشعارها والإحساس بها.
يتوق الإنسان إلى آخر يحبّ فيه ذاته، ذاك الّذي هو نصفه الثّاني أو الشّخص المكمّل. هو نصف يبحث عن نصفه الآخر كما يتحدّث عنه أفلاطون. وقد يتعلّق القلب بشخص معيّن ثمّ يُكتشف لاحقاً أنّه وهم، وذلك لأنّ المشاعر الإنسانيّة ليست ثابتة بمعنى أنّها تتبدّل وفق الخبرات الشخصيّة والنّموّ العاطفيّ والنّضج الفكريّ. كما أنّها معقّدة ومتناقضة وتحتاج الكثير من التّامّل بغية تلمّس بعضٍ من الفهم لها.
والحبّ، الحاجة الإنسانيّة العظمى، يعادل في معناه "الحياة"، فمن لم يعرف الحبّ أو لم يسع إليه فإنّما هو جثّة متحرّكة في هذا العالم. ولكن لا بدّ لنا عندما نتكلّم عن الحبّ أن نتبيّن الفرق بين معنى الحبّ الحقيقيّ ومعناه الملتبس.
الحبّ في معناه الملتبس:
ترتسم ملامح الحبّ الأولى في سنّ المراهقة؛ إذ يبدأ الإنسان في هذه المرحلة بالتّعرّف على مشاعره وانجذابه نحو الجنس الآخر المكمّل له، إلّا أنّ ما ينقصه في هذه المرحلة هو النّضج العاطفي الّذي يسمح له بالتّأكّد من مشاعره ومشاعر الآخر.
ويمرّ الإنسان بحالات عدّة قد يعتبرها حبّاً إلّا أنّها تكون مجرّد إعجاب أو رغبة أو تعلّق عاطفيّ أو سعي لملء فراغ عاطفيّ، فقد يعجب إنسان بآخر بشدّة في لحظة ما، ويرغب في بناء علاقة جدّيّة معه ويقدّم شيئاً من التّنازلات لإرضائه، والتّعبير له عن حبّه، وما يلبث أن يمضيَ الوقت حتّى يكتشف أحد الطّرفين أو الاثنان معاً أنّ ما مرّا به ليس سوى حالة من الإعجاب أو تجربة عاطفيّة جميلة، هذا ما نسمّيه الحبّ من النّظرة الأولى. في هذه الحالة لا يمكننا التّكلّم عن علاقة حبّ فعليّة، لأنّ بداية الحبّ ليست حبّاً وإنّما هي مشاعر تتحرّك باتّجاه شخص آخر فتخلق نوعاً من العاطفة والتّعلّق الشّديد والرّغبة في ملاقاة هذا الشّخص باستمرار.
كما ونرى حالات عاطفيّة يعرّف عنها بالحبّ من طرف واحد، واللّفظ هنا أيضاً يعرّض الحبّ في معناه الحقيقيّ للالتباس، في حين أنّ الحبّ هو تفاعل بين شخصين. وأمّا فيض المشاعر من قبل شخص واحد والّذي يقابَل بعدم الاهتمام، فما هو إلّا حالة عاطفيّة مؤلمة يخيّل للإنسان من خلالها أنّه في حالة حبّ. وقد تعود أسباب هذه الحالة العاطفيّة إمّا إلى أنّ هذا الشّخص وجد الصّورة الّتي رسمها في ذهنه عن آخر معيّن وتاق إليها كحقيقة، ولمّا وجدها على أرض الواقع فاض كل اهتمامه ومشاعره عليها، وبالتّالي تعلّق بها. وإمّا أنّه تعلّق بفكرة الشّخص، بمعنى أنّه أحبّ ما يتوقّعه من محبوبه وليس شخصيّة المحبوب كما هي. وينتج عن هذه التّجربة العاطفيّة الكثير من الألم لأنّ هذا الشّخص مقتنع أنّ الطّرف الآخر يحبّه بالطّريقة عينها ويدّعي عدم الاهتمام، كما أنّه يعيش ما يسمّيه حالة الحبّ هذه في خياله كحالة واقعيّة، فيكرّس كلّ طاقاته الفكريّة والعاطفيّة للعيش مع محبوبه في خياله.
وجه آخر من الحبّ الّذي يفرض نفسه بالكثير من التّملّك والأنانيّة والغيرة بحيث أنّ المحبّ يعتبر أنّه يمتلك محبوبه بكلّيّته لدرجة أسر حرّيّته ومراقبة تصرّفاته وسلوكيّاته بدقّة وحرص، ممّا يسبّب الحزن والضّيق للطّرف الآخر وللشّخص نفسه. فتتّسم شخصيّته بالارتباك والقلق اللّذين لا يفارقان حياته فتصبح في اضطراب لا متناهٍ. وهذه الحالة تعود إلى الشّعور بعدم الثّقة بالآخر وبحبّه بشكل غير واعٍ، والخوف المستمر من خسارته لأيّ سبب كان، كما أنّها إحساس بفقدان القيمة الّذاتيّة إذا ما اختفى الآخر من حياته.
الحبّ في معناه الحقيقيّ:
يقول أرسطو: إن الحبّ الّذي ينتهي ليس حبّاً حقيقيّاً، ويضيف أنّه أسطورة تعجز البشريّة عن إدراكها إلّا لمن صدق في نطقها ومعناها. فالحبّ هو هذه القوّة الّتي تعصف بالإنسان دون سابق إنذار وتدخله في عالم داخليّ وغير منظور. وهذه القوّة غير المدركة عقليّاً أو بمعنى أصح، الّتي يصعب على العقل شرحها منطقيّاً، كما يعسر عليه البحث عن أسباب وجودها بشكل تحليليّ وعقلانيّ، هي قوّة روحيّة بامتياز تفعل فعلها في داخل الإنسان فتبدّل شخصه وتخلقه من جديد، لتظهر شخصه الحقيقيّ، الأنا المستترة في أعماقه. فما يخفيه الإنسان من مشاعر مرهفة وضعف إنسانيّ يظهر متى نفض الحبّ عنه غبار تراكمات الحياة. وهذه الولادة الجديدة ما هي إلّا حالته الّتي كان عليها مذ وجد في هذا العالم، الخالية من الشّوائب والتّشويهات الّتي تتعرّض إليها الذّات الإنسانيّة نظراً لظروف حياتيّة أو تربويّة. ومتى عاد إلى هذه الحالة تخلّى عن الأنانيّة وحبّ السّيطرة والتّملّك وأطلق العنان لمشاعره الفيّاضة لترتدّ عليه سعادة مرتبطة بألم الشّوق والتّوق إلى المحبوب. فالحبّ الخالي من الألم ليس حبّاً، فالنفس الّتي تحبّ وتشقى، كما يقول الكاتب الفرنسيّ فيكتور هيجو، لهي في أسمى حالات السعادة في الحياة. والألم غير الحزن، فالحزن وإن تسرّب إلى حنايا الحبّ قتله، لأنّه يعطّل المشاعر الإيجابيّة ويدمّر قدرة الإنسان على الإبداع. أمّا الألم فهو المصباح الّذي ينير سبيل الإنسان إلى الحبّ الحقيقيّ. وهو زاد الشّوق ليتعاظم أكثر فأكثر فيطهّر الرّوح كيما تنفتح البصيرة فتقوى على رؤية المحبوب وإن كان في أقاصي الأرض، والإحساس بحضوره القويّ وكأنّه حاضر بالجسد. وهو نبع الإلهام والإبداع والقدرة على الخلق.
والحبّ في معناه الحقيقيّ لا يستبعد رغبة الجسد، وسيلة التّعبير عن الحبّ، إلّا أنّه آخر ما يمكن استخدامه كلغة للتّعبير عنه. رغبة الجسد الّتي تتجلّى في فعل الحبّ، تؤول إلى التحام كلّيّ بين الحبيب والمحبوب فيصير الاثنان واحداً في علاقة جسديّة يمنح فيها الواحد للآخر كلّ ذاته بحرّيّة مطلقة وثقة كبيرة. ولتستحقّ هذه العلاقة قيمتها الإنسانيّة عليها أن تنبع من إحساس بالحبّ وليس من رغبة غرائزيّة، فوكأنّها آخر الكلام الّذي يمكن للحواس أن تنطق بها.
وعلى الرّغم من قدسيّة هذه العلاقة وحميميّتها إلّا أنّها قد تخفّف من التّوق الدّاخليّ للمحبوب، فيتحوّل الحبّ مع الوقت، ولا نقول ينتهي، إلى نوع من وداد أو صداقة تدغدغها مشاعر الحبّ. أمّا وإن بقي الحبّ على مستوى التّفاعل الرّوحيّ فقط، فلقد دخل في إطار الحبّ من أجل الحبّ، ولا يعود بحاجة إلى عمل حسّيّ للتّعبير عنه. فاتّحاد المتحابّين يكون على مستوى الإنسان الدّاخليّ ولعلّ هذا الاتّحاد أقوى وأمتن.
كلّما ارتفعت قدرات الإنسان الباطنيّة كلّما خفّت حاجة الجسد إلى الإدراك الحسّيّ للحبّ، وهذا ما نسمّيه الدّخول إلى صرح الحبّ من خلال دائرة الصّمت. فأبلغ ما يقال من كلام في الحبّ هو الكلام الّذي لا يقال، ولا يقوى على الخروج من الّذات لأنّه حديث أرواح لا تحتاج إلى تعابير تقليديّة. وكلّما تسامى هذا الحبّ وعظم ارتفع عن الأرضيّات والسّلوكيّات الإنسانيّة المتعارف عليها كالغيرة على سبيل المثال أو التّملّك، فالحبّ الحقيقيّ لا يعرف معنى الأسر والاستعباد. إنّه حبّ من أجل الحبّ، يحرّر الحبيب والمحبوب في آنٍ معاً، ويخرجهما من دائرة الحبّ الآنيّ والمؤقّت والمرتبط بمصالح وأهداف وإن كانت إيجابيّة، ليدخلهما في عظمة سرّ الحبّ.
وكلمة سرّ، هي أعظم كلمة ترادف كلمة حبّ، لأنّ الحبّ كما السّرّ، حالة للاكتشاف المستمر وحقيقة للعيش وليس مسألة يمكن تقديمها ثمّ تحليلها ثمّ الوصول إلى نتائج نهائيّة لها. إنّه السّرّ الّذي يحجب كلّ تساؤل، ويفتح قلب الإنسان عل معنى الحياة.
حبّ ينتهي ليس حبّاً لأنّه شوق إلى الخلود كما يقول سقراط، لأنّه الحياة. ويكمل سقراط ليعطي الحبّ رفعته القدسيّة بقوله إنّه شوق النفس الإنسانية المُلحّ إلى الجمال الإلهي. والمقصود بالجمال الإلهيّ، نبع الحبّ الحقيقيّ الّذي لا ينضب والّذي لا غاية لحبّه إلّا الحبّ.
لم يعرف الحبّ الحقيقيّ إلّا قليلون وهم الّذين عدّوا الحبّ قضيّة مقدّسة وإنسانيّة بامتياز، خاوية من أيّ هدف أو غاية. هذه القلّة وبعدما صقلت مشاعرها بالتّأمل بمقاصدها النّبيلة وتنزّهت عن الحاجة الجسدية والحسّيّة، وأيقنت أنّ أقصى درجات المتعة الجسديّة هي الزّوال، دخلت في سرّ الحبّ العظيم لتسبر أغواره وتحيا حياة أبديّة تبدأ هنا ومنذ الآن في هذا العالم لتكتمل لاحقاً في الحياة الحقيقيّة.
من دخل سرّ الحبّ لامس الحقيقة وعاين من خلالها الذّات الإنسانيّة الأصيلة والنّبيلة المرتبطة بما هو أبعد من الجسد والحواس. كما أنّه أيقن أنّ الإنسان كتلة حبّ متحرّكة غاية وجودها الوحيدة هي الحبّ من أجل الحبّ. الحبّ وسيلة للخلاص، بحسب أفلاطون، إذ إنّه السبيل للتّحرّر الفكريّ والعاطفيّ، وبالتّالي السبيل إلى حرّيّة الإنسان.
* كاتبة من لبنان