في خضم أوار الثورات العربية، يرى الكاتب أن مصالح مشتركة جمعت الأحزاب الدينية مع الأنظمة في المجتمعات الناخرة بالفساد، بشكل يتم فيها تبادل منافع فاسدة تبقي شبح التغيير بعيداً، وعلى الجميع البحث عن قيادات واعية شابة تؤمن بالدين دون تحريف لمنفعة دهاليز الأنظمة والأحزاب.

أَفْيَنَةُ الدين خدمة لمصالح النظام والأوضاع الفاسدة

فرّاس حج محمد

تعد الأديان بشكل عام في أصل الفلسفة التي تقوم عليها منبعاً لليقين وراحة الضمير مما يكدر النفس من شوائب الحياة وأطماعها ومصاعبها، ويؤدي الدين لأجل ذلك ضمانا نفسيا واجتماعيا يأمن فيه الإنسان على نفسه وماله من القهر والعدوان والتسلط والأنانية، وقد أظهرت حركة الدين في المجتمعات أنها ذات آثار جليلة في حياة المجتمعات إن أحسن فهم نصوصه، وطبقت تعاليمه على وجهها دون مواربة أو تحريف أو تزييف.

ويسبق ظهور الأديان والمعتقدات الجديدة عادة تردي الأوضاع السائدة من سياسية واجتماعية وثقافية، فيؤدي الدين دورا ثوريا تغييريا، فيقلب الأوضاع المتردية ويحل محلها ما يظن أنه الأنفع والأجدى، متوسلا من أجل ذلك مجموعة من القواعد والمبادئ الإنسانية بمنطلقات فكرية تدعو إلى أن يناقشها القوم فيتبعون أحسنها وأجلاها وأدعاها لتبديل الأوضاع المتردية لجعل الحياة أفضل.

وتدخل هذه الأفكار في صراع مع أركان تلك المجتمعات التي اعتادت أوضاعا معينة، هي في غالب أمرها تخدم فئة محددة من البشر، على عكس الأفكار الدينية فإنها في مجملها تراعي الإنسان في المجتمع كونه إنسانا بغض النظر عن أي اعتبارات طارئة سياسية أو اجتماعية، ولا تكون تلك الأفكار حكرا على مجموعة دون أخرى، وإلا لم تكن الأفكار الدينية صالحة للتغيير والإصلاح.

وتكون الغلبة في نهاية الصراع للأفكار الدينية؛ لأنها هي الأكثر منطقية، وهي التي تراعي إصلاح المجتمع، وهي التي تريد أن تقلب أوضاع الناس، وهي التي تقول للآخرين بأن دواء آلامكم وأوجاعكم عندي فهلموا إلي، فتتكاثر عليها الناس، وتستقر لها الأوضاع، ويحدث التغيير، ويتغلب الدين أو أي أفكار جديدة على تلك الأفكار القديمة، وتستقر لها الظروف، ولكن بعد صراع مرير وتضحيات كبيرة، تزهق فيها أنفس وتذهب فيها أموال.

وتأخذ حركة الأفكار الجديدة في المجتمع في الترسيخ، ويتعاقب على تطبيقها أناس مختلفين في الهمة والتوجه والمصالح، وتأخذ الفئات الفاسدة بالظهور من جديد، وتأخذ بالابتعاد شيئا فشيئا عن تعاليم الأفكار التي أحدثت التغيير، حتى إذا ما مضى زمن طويل أو قصير، بعدت الشقة بين الأفكار الأولى، ومآلاتها التطبيقية، واستقر الوضع من جديد لأناس فاسدين، وأصبح الوضع يتطلب إصلاحا أو تغييرا، واشتدت نقمة الناس، فصارت الفئات الفاسدة تبحث عن حل؛ فكيف يمكن لها أن تسيطر على الأوضاع وتحافظ على استقرارها؟

إنها تبحث عن أسهل الوسائل وأبسطها للسيطرة والاستقرار، فلم تجد أسهل ولا أبسط من تعاليم الدين ونصوصه لكي تسيطر بها على القلوب والعقول، ويدخل الدين بنصوصه المتعددة في عمليات من المونتاج والفبركة الفكرية والتأويلات والتفسيرات التي تبعد النصوص عن مراميها، وتحدث الخلخلة في بناء الفكرة، إذ تشكل أفكار الدين منظومة متكاملة لا يُجتزَأ منها، فتقوم تلك الفئات الفاسدة إلى تجزئة الدين إلى مجموعة من النصوص المتناثرة دون أن يجمعها أي جامع، فيبدو بينها التعارض والتناقض، فتختار من تلك النصوص ما يُسكن الألم والوجع الاجتماعي من أجل استقرار الأوضاع لمصلحتها، وبذلك تكون قد أسهمت في جعل الدين أفيونا للشعوب، لا فرق بين دين ودين، ولا فرق بين عصر وعصر، فكما استخدمت الكنيسة يوما ما الدين بالتواطؤ مع القياصرة لأن تستقر الأوضاع السياسية، فإن الأنظمة الحاكمة اليوم في العالم الإسلامي تقوم بالدور نفسه، من جعل الدين أفيونا ومسكرا لتلك الشعوب، وأفرغت الدين ونصوصه من مهمتها التغييرية الثورية، وتسلحت تلك الأنظمة بمجموعة من العلماء بألقاب كبيرة جمعتهم في مؤسسة دينية تشرف عليها الدولة مباشرة، لتكوّن الأفهام الدينية كما تحب الفئات الفاسدة وتشتهي، فتُغيّب تلك المؤسساتُ مجموعةً من النصوص أو تُضعّفها، وبالمقابل تُعلي من شأن نصوص أخرى، وتقوّي ضعيفها، ويصبح الدين المجتمعي الذي تطالب به الدولة وتسعى إليه دينا مشوها ومدجنا، لا يسبّح الناس فيه بحمد الله إلا بقدر ما يسبحون بحمد الأنظمة واستقرارها، ويرون الفساد من تمام الصحة والعافية، فيركنون إلى الدعة والمتابعة لهؤلاء، لا يعنيهم سوى أن يظلوا في أعمالهم ومصالحهم اليسيرة، ولسان حالهم ومقالهم يقول: "ليس في الإمكان أبدع مما كان".

لقد بدا واضحاً العقد التصالحي بين الأنظمة والمؤسسات الدينية المختلفة الرسمية وغير الرسمية، وغدت المصالح مشتركة بين الفريقين، فمن الدولة المال والسلطان والهيبة والجاه، ومن العلماء ضمان الأوضاع وضخ المسكرات الأفيونية المستقاة من النصوص محرفة التأويل في المجتمع، ليشعر المجتمع بالأمان والاطمئنان، وراحة الضمير، فالدين موجود والحمد لله، والأوضاع مستقرة، وكفى الله المؤمنين القتال، لتجد الناس يدعون في صلواتهم بحفظ البلاد والحكام وإدامة الأوضاع، فيغدو التغيير عند هؤلاء بعيد المنال، وليس محلاً للتفكير أيضاً.

ومع ازدياد الثورات الشعبية في العالم العربي واستعار نيرانها في عدة دول، فقد بدت مهمة الدين المؤفين واضحة، وخاصة في اليمن ومصر، فقد استفاد النظامان من المشاعر الدينية في كلا البلدين من أجل استقرار الأوضاع وبقاء النظام، فبقي النظام على حاله في اليمن ولم يتغير غير شخص الرئيس الذي جاء نائبه بدلاً منه، مع بقاء الأوضاع كما هي لم يتغير فيها شيء يذكر، مما يدفعني للقول بفشل الثورة في اليمن فشلاً ذريعاً، ولم تحقق أي مطلب من مطالب الجماهير التي سعت للتغيير واعتصمت في ساحة التحرير.

وأما في مصر، فإن النظام بقي على ما هو عليه، وإن تغيرت بعض الشكليات، فزوال الرموز الحاكمة وليس شخص الرئيس فقط، مع بقاء النظام كما هو، لا يعد تغييرا، وقد أظهرت نتائج الانتخابات وخاصة في الدور الثاني أن الثورة وصوتها كان ضعيفا، فالمرشح المحسوب على نظام مبارك وحاشيته قبل الثورة أحمد شفيق كاد يحقق الفوز، ولم يكن الفارق بينه وبين محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين كبيرا، ما يدعو إلى القول: إن هناك ردة عن الثورة، أو تخبطاً، أو أنها لم تكن ذات أهداف واضحة، فمرشحو الثورة لم يحققوا أية إنجازات، ولم يجتازوا المرحلة الأولى، واعتمد مرشح الإخوان د. مرسي على دغدغة الناس بعواطف مجبولة من آلام الناس وآمالهم مع النصوص الدينية المبشرة بالفتح العظيم، وعلى الرغم من مضي أكثر من مئة يوم على حكمه لم يتم التغيير في أي شيء جلّ أو صغر، وبوادر فشل الثورة المصرية واضحة؛ فقد دفن الإخوان الثورة بنصوص دينية ليس لها واقع، بتأويلات بعيدة، قولا وليس عملا، وبقيت الأوضاع كما هي، وما زال الناس يَشْكُونَ من قلة الخبز.

وأما البلاد التي لم تحدث فيها الثورة أو تتوجس من حدوث الثورة فإن الأنظمة الفاسدة مع ما تدخره من آلة إعلامية وإعلاميين وعلماء دين، أخذت تشجع الأحزاب الدينية الصوفية والسلفية غير الجهادية، وأصبح قادة هؤلاء الأحزاب مقربين عند الحكومات ويمنحون التسهيلات في حلهم وترحالهم، فالصوفية تنأى بنفسها مع أتباعها عن التدخل في شؤون السياسة وانكفأت في الزوايا مع فرق الإنشاد الصوفي في خيالاتها وأوهامها، لم تعُدْ تعرف المعروف فتدعو إليه، ولا تنظر إلى المنكر فتحاربه وتنفر منه، وصارت العلاقة تواطئية بينهم وبين النظام، رضي النظام عنهم ورضوا عنه، ولم يتدخل أحدهم بالآخر، وصارت النصوص الدينية أفيونا لأتباع هؤلاء يرتشفون منها كلما دق على دُف أو ترنح في مجلس من مجالس الأنس والنشيد!

وأما الأحزاب السلفية غير الجهادية فأوضاعها لا تبشر بأنها ستكون أداة تغيير حقيقية، لأنها انتقت من النصوص الدينية ما يوطد أركان النظام القائم، ويبرر له فساده، فصار الحكام في كل بلد هم ولاة أمر يجب طاعتهم، وحرمت الخروج عليهم، ورمت بالزندقة والكفر والتضليل كل من أراد أن يخرج على الحاكم الظالم مستعينة ببعض النصوص التي أخرجتها مخرجا تأويليا غير سليم، لتتوافق والفساد، وليتم تحقيق المصلحة المشتركة بين النظام وتلك الأحزاب الفاسدة التي رضيت بأن تخدم النظام، وأشربت أتباعها من أفيونها، حتى لم تعد ترى من الدين إلا الصلاة والصيام وشكل اللباس وإطالة اللحية، وتفننت في تلك الفتاوى الغريبة التي أحدثت جدلا لا طائل من ورائه في طول البلاد وعرضها.

وأما الأحزاب الإسلامية التي انتهجت طريق الجهاد والقتال فإنها منذ اشتغالها بهذا الأمر لم تحقق لمجتمعاتها أي مردود ديني أو مجتمعي، ولم تحرز أي نصر عسكري مؤثر يقلب أوضاعا عالمية، أو تحقيق أي نتيجة سياسية تغير حركة التاريخ، وما ذاك إلا لأنها أخذت كغيرها من الأحزاب من النصوص ما يتوافق مع طريقتها وجعلته غذاء روحيا تجند فيه جنودها، وربطت أتباعها بالعالم الآخر وبالجنة والنار، ونسيت أو تناست أن الهدف عند المؤمن ليس الجنة فقط، فما أسهل أن ينالها العبد إن صدق مع الله، ولكن على الإنسان مهمة إصلاح المجتمع فإن هلكوا وصاروا شهداء وانتقلوا إلى الجنة فهل هذا سيغير المجتمعات ويصلحها؟

لقد لقن الرسول الكريم هؤلاء وغيرهم درسا لن ينسى لو كان يعقلون، فيما انتهجه وخطه عمليا عندما كان يدعو دائما للجيش بالنصر وليس بالاستشهاد والشهادة، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم للمسلمين في بدر يؤكد ذلك، فقد كان يدعو الله "أللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض"، واستفاد خالد بالوليد من هذه الفلسفة في عيش المسلم في الدنيا عندما وضع خطة محكمة للعودة بالجيش من معركة مؤتة، وكان بإمكانه أن يظل مقاتلا حتى يحوز الشهادة، ولكن الفطنة والسياسة وعمق النظرة تقتضي أمرا آخر، إنه التغيير الذي لا يكون بالموت.

وهكذا، هو حال المؤسسات والأحزاب الدينية في علاقتها مع الأنظمة وفي صراعها من أجل الإصلاح أو استتباب الأمن والأمان في المجتمعات الناخرة بالفساد، جمعتها مصالح مشتركة، يتم فيها تبادل منافع فاسدة بين الطرفين ليظل المجتمع غارقاً في لجة الظلم والظلام، وليظل شبح التغيير بعيداً، فعلى الناس أن يدركوا واقع الفرقين، الأنظمة الفاسدة من جهة والأحزاب والمؤسسات الدينية الفاسدة من جهة أخرى، وعلى الجميع البحث عن قيادات واعية شابة تؤمن بالدين ونصوصه دون تحريف أو تأويل، ومن دون أن يمرّ في ساقية تلك الأنظمة أو في دولاب تلك المؤسسات ودهاليز تلك الأحزاب؛ ليعود للدين فعله التغييري الصحيح بعيدا عن كل ما يشوبه أو ينوبه مما يعكر صفو فكرته ونقاء مهمته!