كثرت الأقاويل حول ابنة حارتنا جانيت، لوهلة تبدو فتاة جميلة الوجه، سمارها الداكن يعطيها جاذبية خاصة، وشعرها الأسود الطويل المجدل بجدولين يضفي عليها مسحة جمالية تشد الأبصار.
ولكنها فتاة لا تحب عمل البيت، وتجلس وحيدة معظم ساعات النهار.
كنا صغارا نتفاجأ من وحدتها ومن عبوسها الدائم في وجوهنا. أهلنا نبهونا أن لا نتعرض لها، لأن الله يحب كل أبنائه مهما كانوا مختلفين .
لم نفهم مسألة حب الله لأبنائه رغم اختلافهم ، فنحن لم نطرح تساؤلات عن هذا الموضوع. ولم نفهم بالتالي تخوف أهلنا من مضايقتنا لابنة حارتنا جانيت.
في الحقيقة كنا نسخر منها، ونحاول إثارة غضبها لتلحقنا بفردة حذائها وهي تنط مثل الجندب. هذا الأمر كان يملأنا ضحكا.
في جيل المراهقة صرنا ننظر إلى جانيت نظرات فيها شهوة غريبة لم نعرفها سابقا. كانت حين تحرك ساقيها لتغيير زاوية جلوسها ينكشف بعض فخذها فوق الركبة ، فنهلل بسعادة ونبدأ بإشارات لإثارتها وجعلها دائمة الحركة فوق كرسيها.
كانت تمضي الأيام على شقونتنا وسؤال واحد يقلقنا ، لماذا لا تشارك جانيت بنات الحارة في ألعابهن؟ انها فتاة جميلة، بل أجمل من الكثير من بنات الحارة، عاقلة جدا وصموتة جدا الا حين ننجح بإخراجها من صمتها وهدوئها.
قالوا لنا أنها مصابة بلطف الله. لم نفهم لطف الله الا بأنه أضفى عليها حسنة نفتقدها.في فجر أحد الأيام انفجر غضبها على أهلها.. علت شتائمها وطار الزبد من شفتيها، وبصعوبة أمسكوا بها،وهي تقاوم بشراسة بكل قوتها، لم نكن نعرفها بهذه الشراسة والعدوانية.
ومن يومها غابت جانيت عن حارتنا وغابت عن كرسيها في زاوية بلكون بيتها وبدأنا ننسى جانيت ، وحين نسال عنها يقال انها في مصحة عقلية، وبعضنا قال انها في العصفورية، وتعلمنا ان العصفورية هي مصحة عقلية لمن يصابون بلطف الله وان لطف الله يعني الجنون، وليس حسنة تضاف للشخص الذي يختاره الله للطفه.
هل حقا كانت جانيت مجنونة، أم أنها جنت فجأة في فجر ذلك اليوم؟
نحن نعرف المجانين مشردين في الشوارع ، ثيابهم رثة ووسخة،ويكلمون انفسهم ، ونلحقهم لنضحك على كلماتهم وحركاتهم، ولكن جانيت كانت فتاة مرتبة الثياب ، شعرها دائما بجدوليه يتدلى على ظهرها طويلا جميلا تتمناه كل فتاة. رغم شقوتنا ومحاولاتنا لاستفزازها كانت قليلا ما تغضب وتلحقنا بشتائمها. واذا فعلت تعود بعد دقائق الى مقعدها هادئة وكأن شيئا لم يحدث ، مما يجعلنا حقا نلوم انفسنا على ما سببناه لها، ونتعهد ان لا نكرر فعلتنا، وكثيرا ما وصلت شكاوي والدتها لأهلنا، فتعرضنا للعقاب الشديد بسبب تطاولنا على جانيت.
الشيء الغريب في قصة جانيت انها كانت تحب السباحة وتجيدها، وفي ايام الصيف ترافقها والدتها الى بركة السباحة ، حيث تسبح ولا تخرج من الماء الا بعد رجاء والدتها الطويل . ترى هل هي مجنونة حقا، ام بها مرض آخر ؟ لا تبدو مثل مجانين البلد . بل منعزلة وهادئة، فهل هذا يعتبر جنونا؟ ام مرضا يعالج بسهولة.
صرنا شبابا ومعظمنا تزوج وصار أبا لأولاد ، وصارت جانيت نسيا منسيا من الماضي، توفيت والدتها وظل والدها العاجز حيا لفترة أطول قليلا، ولكن أختها العانس ظلت في البيت، لم تكن جميلة،بل بشعة الوجه بشكل لا يريح النظر لوجهها، وكثيرا ما قالت والدتي لو أن الله عدل لأعطى وجه جانيت وشعرها الجميل لأختها ليرزقها الله بعريس، وأعطى جانيت الهبلة وجه أختها. وكنت أسمع وقتها تعبير "الهبلة" لأول مرة.
في فجر أحد الأيام سمعنا حركة سيارات قرب منزل جانيت، وشاهدنا أختها تخرج راكضة لتعانق امرأة تنزل من إحدى السيارات ، ولولا شعرها المجدل الطويل لما عرفنا أنها جانيت. جمالها لم يتغير. تعانقت الأختان. كانت الحارة تبصبص من الشبابيك والبلاكين على هذا اللقاء الذي لم يتوقعه أحد.
ترى هل عادت جانيت إلى وعيها وعقلها؟
هذه الأسئلة ترددت كثيرا في الأيام الأخيرة. لم تعد جانيت تجلس على كرسيها في البلكون. كانت تتحرك داخل البيت، أحيانا نراها تكنس أو تمسح الأرض، وأحيانا تنشر بعض الغسيل. ترى هل اكتمل علاجها؟ هل أعفاها الله من لطفه ؟!
وبدأت تتجمع الحكايات عن جانيت، قالوا أن تحريرها جاء بعد أن أثبتت أنها امرأة عاقلة ومسئولة.
وكيف جرى ذلك؟
يقال إن أحد المرضى في نفس العصفورية، سقط في بركة مياه عميقة، بعد أن تسلق الحاجز، الذي يفصل ساحة المستشفى عن البركة ، وقام ضجيج قوي من الممرضات المرعوبات ، فما كان من جانيت إلا أن ركضت وقفزت فوق الحاجز ، وغاصت وراءه إلى قعر البركة وسحبته إلى سطح البركة وأنقذته من الموت غرقا.. وعليه قرر الأطباء أنها فتاة عاقلة تستطيع أن تعيش وسط الناس بدون مشاكل.
وبما أننا أقرب الجيران فقد دعونا جانيت وأختها للعشاء في أحدى الأمسيات.
وبصراحة تصرفت جانيت بشكل طبيعي ، وشكرتنا على الوجبة الشهية، وعندما عرضنا عليها فنجان قهوة اعتذرت بقولها إنها لا تشرب إلا الشاي فأعدت لها والدتي فنجان شاي.
كانت صموتة، وترد على التساؤلات بكلمات مقتضبة. وحدثتنا أختها بفخر كبير عن جانيت كيف أنقذت شابا من الغرق،الأمر الذي حدا بأطباء المستشفى أن يحرروها إلى بيتها. وها هي حقا هادئة تتجاوب مع الناس، لا يبدو عليها أمر غريب ، أو غير عادي عن أي شخص لم يصيبه الله بلطفه.
سألتها ونحن نجلس في الصالون بعد العشاء:
- وهل ما زلت تحبين السباحة يا جانيت؟
- السباحه أجمل ما في الحياة.
- ولم تخافي من الغرق عندما قفزت لإنقاذ زميلك المريض؟
هزت رأسها مبتسمة :
- ولماذا أخاف ، أنا سباحة ماهرة؟
- وهو هل تحسنت حالته ؟
- للأسف لا .
قالتها بحزن شديد.
- هل مات متأثرا من غرقه؟
- مات معلقا من رقبته في الحمام؟
- هل انتحر؟
- لا لم ينتحر.
- ولماذا شنق نفسه في الحمام؟
- لم ينتحر. أنا علقته ليجف من الماء...
nabiloudeh@gmail.com