الواقع اللغويّ وأزمة الهُويّة!

آمال عوّاد رضوان

بدعوة من مجمع اللغة العربيّة في حيفا، عقدت مدينة الناصرة العربيّة مؤتمرًا في فندق جولدن كراون، تحت عنوان "مؤتمر اللغة العربيّة في الواقع اللغويّ في (إسرائيل)، وذلك بتاريخ 25-8-2012، ووسط حضور من المثقفين والأدباء.

وفي كلمة رئيس المجمع البروفيسور محمود غنايم جاء:
الأخوات والإخوة.. الواقعُ اللغويّ للّغة العربيّة في إسرائيل لا يستدعي عملاً فرديًّا فحسب، بل عملاً مؤسّساتيًّا تتضافر فيه جميعُ الجهود، لوضع لغتنا العربيّة في مقدّمة الأمور التي يجب الحفاظُ عليها. أقول عملاً مؤسّساتيًّا، لأنّ استثناءَ أيّةِ مؤسّسة ثقافيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة خطأٌ، لن يقودَ إلاّ إلى الاتكاليّة وإلى التباطؤ والترهّل، بدلَ شدِّ الأحزمة والتشمير من أجلِ البناء والعمل المُثمر.

إنّ ما تقوم به بعضُ المؤسّسات للمحافظة على اللغة العربيّة، وإعطائها مكانتَها كلغة قوميّة على جميع الأصعدة، عملٌ يجب أن يُشجَّع، ويجب أن يَلقى الدعمَ جماهيريًّا، وأخصُّ بالذكر بهذه المناسبة ما تقوم به بلديّةُ الناصرة من سنّ القوانين، لوضع اللغة العربيّة في مركز حياة المواطن، سواء من خلال التعامل بها في المكاتبات الرسميّة، أو من خلال إبرازِها في المشهد المكانيّ على الأماكن العامّة والخاصّة. وأُهيب بالبلديّات والمجالس العربيّة أن تحذوَ حذوَ الناصرة في سنّ القوانين المساعِدة، لإكساب اللغة العربيّة مكانَها ومكانتَها التي تستحقها في المشهد اللغويّ، سواء من خلال المراسلات، أو من خلال علامات الإشهار وغيرِها. نحن في مجمع اللغة العربيّة أقمنا العديدَ من المؤتمرات والندوات والأيّام الدراسيّة حول اللغة العربيّة، وأقمنا مؤتمرًا قبل سنتيْن عن اللغة العربيّة في المشهد اللغويّ، وها نحن نعود ثانية لهذا المؤتمر الذي يعالج هذه الظاهرة. نأمُل أن يكونَ هذا اليومُ الدراسيّ مُثمرًا، ولا بدّ أن تتبعَه أيّامٌ أخرى، لتبقى اللغةُ العربيّة في مركز الوعي الجماهيريّ. 

الأخوات والإخوة.. هناك في علم السيمياء ما يُسمّى بالرموز، واللغةُ هي رمز، والتعامل معها ليس مجرّدَ اتخاذها وسيلةً للاتّصال والتخاطب اليوميّ، بل لها وظيفةٌ فارقة في رؤية الإنسان لذاته على المستوى الشخصيّ أوّلاً، وعلى المستوى الجمْعيّ ثانيًا. ولقد بات من البديهي أنّ اللغةَ ليست وسيلةَ اتّصال فحسب، بل هي دالةٌ على الوعي السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. إن الاعتزازَ باللغة العربيّة والتمسّكَ بها هما جزءٌ من الاعتزاز بشخصيّتِنا، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا. كما أنّ هذا الاعتزازَ لن يتأتّى إذا لم نُطوّر في مجتمعنا وفي أبنائنا وبناتنا الوعيَ لهذه الجزئيّة من حياتنا.   

إنّ التسمياتِ التي تُطلق على المواقع والشوارع والبلدان هي جزءٌ أساسيّ من تمسُّكِنا بهُويّتنا ومجتمعنا وثقافتنا، ويجب عدمُ التهاون في هذه الرموز التي قد تبدو للبعض ليست مُهمّة. العكسُ هو الصحيح، إذا استهنّا بالظواهر الفرديّة والظواهرِ الهامشيّة، ولم نقفْ لها بالمرصاد قبل أن تستفحلَ، فلن يتوانى البعضُ عن التفريط بأكثرَ من ذلك. تبدأ بحرف وبكلمة ولا نعرف أين تنتهي. لذلك انشغلنا في السنة الأخيرة بالتوجّه للمؤسّسات المختلفة، للمحافظة على وجود اللغة العربيّة في اللافتات وفي الجامعات وفي المؤسّسات المختلفة، وعلى النقد المتداوَل بصورة صحيحة وحسبِ قواعد اللغة، ويأتي هذا المؤتمر لتأكيد ما نؤمن به في مجمع اللغة العربيّة.

سنقود معركةً ليست هيّنة ولا بسيطة على قضيّة تسميات المدن والمواقعِ واللافتات في الطرق، وهذه قضيّةٌ تحتاج إلى دعمٍ جماهيريّ وسياسيّ. نحن كمؤسّسة ثقافيّة لا نعمل في السياسة بصورة مباشرة، ولكنّنا على اتّفاقٍ وعِلم، أنّ الكثيرَ من القضايا اللغويّة والتسميات لن تُحَلَّ إلاّ بقراراتٍ سياسيّة، وهذه القراراتُ لن تُتّخذَ إلاّ بالوعي الجماهيريّ لِما يجري على الساحة المحليّة.

المؤسّسة الأدبيّة من كُتّاب ونقّاد لها دورٌ كبير في غرزِ القيم الثقافيّة والتراثيّة في المجتمع، من خلال التركيز على الأسماء في الأدب، سواءٌ لتعزيز العلاقة مع المكان أو الزمان أو الإنسان. ليست القضيّةُ لعبةَ حروف وكلمات، بل هي بناءُ حضارة عبرَ الحفاظ على المخزون الثقافيّ والتراثيّ الذي يصلنا بالمكان والزمان. إنّ بلورةَ روايةٍ تاريخيّة مدعمةٍ بالأسماء، هي جزءٌ أساسيّ من بلورةِ الهُويّةِ الكلّيّةِ لهذه الجماهير الفلسطينيّة في هذه البلاد، ونحن في صراع على الحيّز، بكلّ ما يحمل هذا الحيّزُ من دلالة معنويّة ومادّيّة.

وكوني أتيتُ من حقل الأدب وتحليل النصّ، فقد استوقفتني كلماتٌ في أغنية فيروز:

أسامينا شو تعبوا أهالينا                                 تَ لاقوها وشو افتكروا فينا
الأسامي كلام شو خصّ
الكلام                  عينينا ... هنّي أسامينا

نعم الأسماءُ هي الهُويّة، وكم تعبت الأجيالُ السابقة وهي تَسِمُ هذه الرموزَ وتطبعُها في الذاكرة التاريخيّة وفي الحضارة الإنسانيّة، الأسماءُ ليست مجرّدَ كلام، إنّها العيونُ التي ننظر بها، والهُويّةُ التي نُعْرَفُ من خلالها.

وفي كلمة المهندس رامز جرايسي؛ رئيس بلدية الناصرة واللجنة القطريّة جاء:
اِسمحوا لي أن أُعبّر عن التقدير لمجمع اللغة العربيّة بكلّ ما يقوم به، من أجل تعزيز اللغة العربيّة، والقيام بجهد لعملٍ هامّ يتعلّق بملاءمة احتياجات العصر لتطوير اللغة، وتحديد استعمالات يوميّة تُلائِم أمورًا استُحدِثت نتيجة التطوّرات العلميّة والعصريّة بشكلٍ خاصّ، فأهمّيّة الندوة تأتي على خلفيّة جانبَيْن هما وجهان لنفس العملة:

الجانب الأوّل: كون اللغة جزءًا من الهُويّة الوطنيّة والثقافيّة لأيّ شعب.

والوجه الآخر: في واقعنا وخصوصيّة واقعنا هي التحدّيات، التي تواجهها اللغة في ظلّ واقعنا كأقلّيّة قوميّة، ضمن دولة تعتمد لغةً أخرى كأساس في تعاملها، وهذا الأمر يُحتّم أن تُلائِمَ الأقليّة نفسَها لهذا الواقع، وفي عمليّة الملاءمة تلك، يجري تآكلٌ في مكانة واستعمالات اللغة الأمّ. اللغة العربيّة في هذه الحال، والأمر ليس فقط نابعًا من واقع وتطوّر طبيعيّ ضمن هذا الواقع، وإنّما أيضًا من خلال عمل منهجيّ مؤسّساتيّ، للحدّ من مكانة اللغة العربيّة وتقليص التعامل بها.

نحن نشهد في الفترة الأخيرة تعاظمًا في الهجمة على اللغة، كجزء من الهجمة على الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في هذه البلاد. الهجوم على اللغة وكلّ المحاولات للمسّ بمكانتها الرسميّة ومكانتها الفعليّة، هو جزء من كلّ ما يتعلّق بموجة التحريض المُعادي للعرب، التي تسود وتتعاظم في هذه الدولة.

يمكن أن نُعدّد الكثير من النماذج، ولكن يكفي أن أشير إلى نموذجيْن من الفترة والسنوات الأخيرة:

النموذج الأوّل: حوالي سنة 2009، تمثّل بوضع تسميات وتغيير في تسميات المواقع، وفي نفس الوقت اعتماد النص العبريّ في كتابتها اللغة العربيّة، مثلاً الناصرة تصبح في اللغة العربيّة نتسرات، ويافا تصبح باللغة العربيّة يافو، وشفاعمرو تصبح باللغة العربيّة وتكتب بالحروف العربية شفارعام، وتمّ نشر هذه التسميات على موقع وزارة المواصلات في حينه، ولإعطائها شرعيّة تمّ إقحام اسم بروفيسور راسم خمايسي ضمن اللجنة، التي يُفترض أنّها أقرّت هذه الأسماء، وطبعًا، وبعد لفت نظر بروفيسور خمايسي لهذا الأمر، طلب إسقاط اسمه من اللجنة، وهذا ما تمّ، لأنّه حينما توجّهت برسالة إلى وزير المواصلات، وهدّدت بالتوجّه إلى محكمة العدل العليا حول هذا الموضوع، قاموا بتغيير الصفحة الأولى، وكتبوا عليها باللون الأحمر "مسودة تيوتا"، ولكن فعليًّا، مَن يُتابع اللافتات التي يتمّ تجديدها في كثير من الأحيان، فقد اعتمدوا أسلوب السلامة اسمًا بعدَ اسم، حتى يُقلصوا مِن قوّة مواجهة هذا التصرّف.

في الرسالة التي وجّهتها قلت: إنّ هذا ليس مجرّد تغيير أسماء، إنّما هو اعتداء على التاريخ واعتداء على الحضارة، وهو جريمة ثقافيّة، وتحديدًا بالنسبة لمدينة الناصرة، فقد هدّدتُ بالتوجّه إلى اليونيسكو، لأنّ اسم الناصرة هو ليس مجرّد اسم مكان، إنّما هو قيمة في التراث الإنسانيّ، وطبعًا، أسماء معظم المواقع والبلدات العربيّة هي ليست مجرّد أسماء أماكن، وليست مجرّد لفظ، إنّما هي جزء من تاريخ وحضارة وتراث إنسانيّ، وأيّ اعتداء على هذه التسميات، هو اعتداء على التاريخ والحضارة والتراث الإنسانيّ، وطبعًا، بالنسبة لنا، على التراث الوطنيّ.

والنموذج الآخر، هو محاولة تغيير حتى الجانب الشكليّ في مكانة اللغة العربيّة من ناحية القانون، فمبادرة الوزير ديختر، وهو لا يُعتبر من اليمين المتطرّف، واليوم لا أعلم ما هو اليمين وما هو اليمين المتطرّف، وحتى أحيانًا ما هو اليسار، فيما يتعلّق بالتعامل معنا، مع الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة المواطنين في الدولة، طبعًا هذه محاولة بائسة لتثبيت ما هو قائم.

في سنوات الخمسينيات والستينيات كانت القوانين والأنظمة تُترجَم للغة العربيّة، وكانت أيضًا تُطبَع باللغة العربيّة وتُوزّع باللغة العربيّة، ولديّ في بلدية الناصرة العديد من هذه القوانين والأنظمة باللغة العربيّة، وكان يتمّ تراسل حتى مع مؤسّسات رسميّة باللغة العربيّة، وكانت المؤسّسات الرسميّة تدأب على أن يكون هناك من يعرف اللغة العربيّة، وانتهى من زمن، وأصبح موضوع أنّ اللغة العربية لغة رسميّة في البلاد، ليس أكثر من أمر شكليّ.

أمّا من ناحية الممارسة فبعيدٌ جدّا عن التعامل معها كلغة رسميّة ثانية في البلاد. طبعًا عندما يصل الأمر  حتى إلى المؤسّسات الجامعيّة، تلك المؤسّسات التي يُفترَض أنّها متنوّرة حضاريًّا كما حدث مع جامعة حيفا، التي اضطرّت إلى التراجع عن التوجيهات التي أُعطِيت بإسقاط اللغة العربيّة من شعار الجامعة، هذا يدلّ أيضًا، أنّه يمكن التأثير في لجم هذا التدهور، ولا شكّ أنّ لكلّ منّا دورًا، وهناك مَن عليه أن يُترجم هذا الدوْر إلى فعل على أرض الواقع، ومنها السلطات المحليّة، ونحن في اللجنة القطريّة وأكثر من مرّة، بحثنا هذا الموضوع وتوجّهنا بنداءات إلى كلّ رؤساء السلطات المحليّة أوّلاً، باعتماد اللغة العربيّة كلغة التعامل داخل السلطة المحليّة، وما بين السلطة المحليّة والمواطنين.

أحيانًا، ما باليد حيلة، لأنّ التعامل مع المؤسّسات الرسميّة يتمّ باللغة العبريّة، وهذا أصبح واقعًا ليس بيدنا أن نُغيّره، ولكن على الأقلّ، بيدنا أن نفرض التعامل باللغة العربيّة داخل مؤسّساتنا وما بيننا وبين المواطن، وقد وُوجِهْنا في كثير من الأحيان من مدراء دوائر وأقسام، أن ليس لديهم المقدرة اللغويّة لصياغة مثلاً مَحضرًا باللغة العربيّة، فيُصاغ باللغة العبريّة. أو محام يُوجّه رسالة باللغة العبريّة، وعندما يُطلب منه أن يكتبها باللغة العربيّة، يجيب: تعلمت باللغة العبريّة وليست لديّ المقدرة بأن أصوغ الرسالة باللغة االعربيّة.

هذه النتيجة تعني أنّ هناك عمليّة متواصلة، في جوهرها تآكل اللغة العربيّة، وتبدأ من المدارس، وعندما قبِلَ وزير المعارف حين كنتُ أحد الذين توجّهت إليه، بأن يفرض أن يكون هناك مستوًى وحدّ أدنى من معرفة اللغة العربيّة لدى أيّ معلّم يتمّ تعيينه، وليس بالضرورة للغة العربيّة، لأنّه لا يُعقل أن يقف المعلم أمام الطلاب، وليس بمقدوره أن يُعبّر عن الموضوع والفكرة التي يريد إيصالها للطالب بلغته وبصورة جيدة ومقبولة. من هنا تبدأ المشكلة.

أصبح موضوع تعلم اللغة العربيّة والتقدّم لامتحانات البجروت التوجيهيّة بخمس وحدات في اللغة العربيّة معضلة، ربّما أكبرمن معضلة الرياضيّات واللغة الإنجليزيّة، ولذلك أصل إلى مَن تحمّلون أيضًا المسؤوليّة، فقلت السلطات المحليّة، وما تمّ الإشارة إليه من سنّ قانون مُساعِد، نأمل أن يتمّ المصادقة عليه قريبًا، لإلزام أيّة مؤسّسة وأيّ إعلان في حدود المدينة، أن يُصاغ على الأقلّ ثلثه باللغة العربيّة إن كان بثلاث لغات، أو نصفه بلغة عربيّة إن كان بلغتيْن، وهذا ينطبق أيضًا على اسم الموظف في البنك، يجب أن يكون أيضًا باللغة العربيّة.

وأيضًا للمدارس، ولمدراء المدارس، وللجان أولياء أمور الطلاب في المدارس دوْر في الإصرار على أن يكون للغة العربيّة مكانة متميّزة، ضمن برنامج التعليم لأيّ طالب، من روضة الأطفال فصاعدًا، والآن أصبح التعليم من جيل ثلاث سنوات مجانيًّا، فمِن هنا يبدأ إدخال أهمّيّة اللغة إلى إدراك الطفل، وبالتالي ينمو مع فكرة أهمّيّة اللغة عندما يكبر.

وأودّ أن أشير إلى أمر أيضًا في رأيي له أهمّيّة ضمن واقعنا، وكما هو معروف، منذ سنتيْن بدأت تعمل في مدينة الناصرة أوّل كليّة أكاديميّة معترف بها من مجلس التعليم العالي، ورئيسها بروفيسور جورج قنازع، وطبعًا دون أن يكون هناك أيّ تمويل، لأنه كما يظهر، أنّ مَن أعطى المصادقة كان على ثقة مِن عدم إمكانيّة تفعيل مؤسّسة أكاديميّة بدون تمويل، مؤسسة جماهيريّة طبعًا، ولكن في نهاية السنة الحاليّة ستُصدر المؤسّسة أوّل شهادات B.A  و B.S.C ،  والأمر المهمّ والذي نأمل أن يتمّ إنجازه قريبًا جدًّا، وكان قرارًا استراتيجيّا، هو بناء سيلابوس لتدريس اللغة العربيّة للقب الأوّل كلغة أمّ، فالأمر غير القائم في كلّ الجامعات الإسرائيليّة، التي تُدرّس فيها اللغة العربيّة كلغة أجنبيّة، وفي كثير من الأحيان هناك دروس باللغة العبريّة، وهذا طبعًا له دلالة، ليس فقط أنّه يتيح الفرصة لتخريج خريجي اللغة العربيّة بمستوى أعلى من المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة، وإنّما له أيضًا دلالة معنويّة هامّة.

وألخّص؛ بأنّ لهذا الموضوع أهمّيّة كبيرة على خلفيّة واقعنا وموقعنا، وضمن مُجمَل التحدّيات التي نواجهها ونناضل من أجل الأرض والقرى غير المعترف بها والقرى المُهجّرة، وبنفس المستوىن يجب أن نناضل من أجل الحفاظ على لغتنا، وفي هذا النضال دوْرنا الذاتيّ أكبر بكثير من دوْرنا الذاتيّ في الإشكالات والتحدّيات التي نواجهها، وأن يقوم كلّ منّا ضمن مجتمعنا بأقصى ما يمكن لتحقيق هذا الهدف، لأنّ البديل هو الضياع القوميّ، والضياع الوطنيّ، والضياع الحضاريّ، وطبعًا أزمة الهُويّة!    
ومن ثمّ ابتدأت الجلسة الأولى، فتناولت البُعدَ التاريخيّ لموضوع اللغة العربيّة والتسميات، وقد تولى رئاستها محمود كيّال، وألقى المحاضرة الأولى بروفيسور راسم خمايسي في جامعة حيفا، بعنوان أسماء المواقع في بلادنا بين الماضي والحاضر:

تحدّث عن تدارس ونقاش مسألة المكان في الواقع اللغويّ، وكيف نستطيع أن نُحضّر وننتج معرفة، ونربط بين اللغة العربيّة والمكان، خاصّة على خلفيّة هجمة التحريض، وعمليّة محاولة عبرنة الأسماء وتذويتها، سواء بواسطة الخرائط ، أو الإعلام والإنتاج المعرفيّ الأكاديميّ.
وقد قدّم دراسة تناولت أسماء المواقع بين خارطتيْن، فترة في الماضي والحاضر، بحيث رصد وناقش كيفيّة نشوء أسماء المواقع ومسمّياتها، كجزء من الموروث الحضاريّ والتراث اللغويّ، والواقع الموضوعيّ للغة العربيّة في حيّزنا، وكيف أنّ هناك عمليّة ممنهجة ومبرمجة لتغييب وإنكار هذه الخارطة، بواسطة عبرنة الأسماء وخلق خارطة بديلة .
 
هناك صراع بين خارطتين ، والذي يُعبّر عن الصراع السياسيّ الحيزي الثقافيّ بين مشروعيْن على هذه البلاد، وحاولت أن أترجم كيفيّة إبراز هذه الخارطة العبريّة مكان الخارطة العربيّة، من خلال أدوات تُستخدَم فيها المؤسّسة، يُستخدَم فيها الإعلام، تستخدم فيها إنتاج اللغة العبريّة، وعمليًّا، محاولة إنكار اللغة العربيّة في هذا الواقع، وقد أعطيت عدة توصيات:

عمليّة نشر الأبحاث واجب على السلطات العربيّة، وأن تقوم بإعداد خرائط تمثّل الموقع وتُبرز الموقع والفولكلور المحليّ بتسميات المواقع، ولديها القدرة ولديها الإمكانيّات، ودون أيّ مانع .بالإضافة لذلك، هناك نوع من حالة إنتاج الخارطة العربيّة كما هي، قبل الثمانية وأربعين، وكذلك إنتاج الخارطة كما نتجت في الواقع الجديد الذي نشأ، بحيث يكون فيها تعبير للغة العربيّة، للواقع العربيّ، ولهذا الحضور العربيّ .

يُشكّل الصراع على أسماء المواقع أحدَ مُركّبات الصراع الرئيسة بين المجموعات القوميّة، الإثنيّة، الثقافيّة التي تعيش في نفس الحيز، وكلّ مجموعة تسعى إلى تغليب حضورها وسيطرتها على الحيّز، من خلال فرض أسماء مستقاة من تراثها وثقافتها.

لا شك بأنّ الاسم هو نتاج لغة مجتمع ذي تراث، ثقافة وحضور، وكلّ غالب في صراع يسعى إلى خلق خارطة أسماء للمواقع، تعبّر عن روايته، ثقافته وتراثه؛ ولذلك نجد أنّ فرض أسماء على المواقع تخلق غُربة بين المجموعة القوميّة الثقافيّة وبين محيطها، إذا لم يكن هناك تجانس وانسجام بين أسماء المواقع، وبين تاريخ وتراث المجموعة التي تعيش في الحيّز.

كانت الحركة الصهيونيّة على وعي بأهمّيّة خلق خارطة أسماء مواقع، كجزء من عمليّة مُبرمَجة لاحتلال المكان وإقصاء الإنسان العربيّ الفلسطينيّ، وتغييب تراثه، وتزييف تاريخ المواقع العربيّة الفلسطينيّة من خلال عرض مسطرة تاريخية انتقائيّة أو مُحرّفة؛ لذلك بدأ الصراع على وضع اسم للبلاد عامّة، وعلى اسم كلّ بلدة، واد، جبل...إلخ، خاصّة، منذ أن بدأ المشروع الصهيونيّ يُنفّذ في بلادنا، وتمّ تنظيم عمليّة تبديل وتحريف أسماء المواقع بعد إقامة "لجنة الأسماء المنبثقة عن الكيرن كيّيمت" عام  1922، وفي عام 1952  تمّ إقرارها بموجب قانون لتصبح لجنة الأسماء الحكوميّة، وهذه اللجنة خلقت خارطة جديدة لأسماء المواقع، وهي ما تزال فاعلة، تتخذ قرار وضع اسم لكلّ موقع.

تهدف المحاضرة إلى وضع عرض نظريّ لعلاقة الصراع على تسمية المواقع وأثرها في خلق الحيّز العامّ، وكيفيّة تطبيق تغيير أسماء المواقع في بلادنا، وتعرض المحاضرة حالة خلق خارطتيْن لأسماء المواقع: واحدة تُمثّل الرواية، التراث، الثقافة والحضور العربيّ الفلسطينيّ؛ وأخرى تمثل الرواية الصهيونيّة الإسرائيليّة، كما تتناول المحاضرة دوْرُ ثنائيّة الخرائط في خلق غربة بين الإنسان وحيّزه، ولأجل مواجهة تغيير وتحريف الخارطة الأصلانيّة، وتأمين المشاركة في إنتاج الحيّز العامّ والحضور فيه، تَعرض المحاضرة بعض التوصيات لمواجهة السياسات الحكوميّة المُبرمَجة، لأجل تغليب الأسماء المفروضة، ومحاولة محو الأسماء التاريخيّة من الواقع والذاكرة العربيّة الفلسطينيّة، وبالموازاة وضع أسماء تتجانس وتتناسب مع التراث والحضور العربيّ.

أمّا د. عبد الرحمن مرعي من كليّة بيت بيرل فكانت له محاضرة تحت عنوان: الصراع اللغويّ على الحيّز وانعكاسه في مسميّات البلدات واللافتات.

الصراع العربيّ الإسرائيليّ قديم حديث، فهو وليد الأحداث التاريخيّة والدينيّة في القديم، وترسّخت جذوره حديثًا في المناحي السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، وهو في جوهره صراع بقاء على الأرض والسيطرة على الحيّز، وتشكّل اللغة الوسيلة الرئيسة في هذه المعركة الوجوديّة، فوجود اللغة في بيئة تكثر فيها الصراعات، وتَناقُضُها مع لغة أخرى، يجعلانها أكثر بكثير من أداة اتّصال يوميّ، إذ تتحوّل إلى تعبيرات مُركّبة لها مدلولات عميقة، منعكسة عن قلب الصراع الدائر بين الأطراف المعنيّة، كما يؤكّد الباحث ياسر سليمان.

تتناول هذه المداخلة جانبًا واحدًا من هذا الصراع، وهو تغيير أسماء البلدات العربيّة بعد قيام الدولة عام 1948 ، وحضور اللغة العربيّة في المشهد اللغوي. منذ نشأة الحركة الصهيونيّة وحتى اليوم، أقيمت لجان مختصّة تُعنى بمسمّيات البلدات والمواضع الجغرافيّة، وفق رؤية سياسة واضحة تسعى إلى محو الذاكرة الجماعيّة، عن طريق تهويد المكان، أي عبرنة أسماء البلدات والمواقع العربيّة.

لقد عملت الدولة على تغيير معالم المكان، وطمس المشهد الفلسطينيّ بإلغاء الاسم العربيّ، وجعله اسمًا عبريًا، بغية إضفاء الطابع اليهوديّ- التوراتيّ على المكان.

يخدم الاسم العبريّ الصالح العام الإسرائيليّ ،لأن الأجيال الشابّة العربيّة التي لم تشهد النكبة ولم تقرأ عنها، تتقبّل الاسم كأمرٍ مسلّمٍ به، على اعتبار أنّ المكان أو الحيّز مُلك لليهوديّ.

استخدمت عدّة طرق لتغيير المسميّات العربيّة، منها استعمال الاسم العربيّ وملاءمته للفظ العبريّ، أو تحريفه أو ترجمته، أو إعطاء اسم مقابل له من التوراة والمصادر اليهوديّة.

أمّا الصراع على محتويات اللافتات ،فلم تخمد أنفاسه حتى اليوم، ففي البداية كانت غالبية اللافتات في الطرقات بين المدن ثنائية اللغة بالعبريّة والإنجليزيّة، والمسمّيات العربيّة كانت قليلة ومليئة بالأخطاء، وبعد تدخّل محكمة العدل العليا، ألزمت الشركة القوميّة للطرقات في إسرائيل أن تُكتب العربيّة في اللافتات وبشكل صحيح، وفي عام 2006 تمّ تعليم مساق في موضوع الخرائط واللافتات، تحت إشراف لجنة المسمّيات الحكوميّة ومجمع اللغة العبريّة، يهدف إلى إضافة أسماء بلدان بالعربيّة على لافتات لم تتضمّن هذه الأسماء، وكذلك تصحيح أغلاط إملائيّة كانت السبب في اللفظ غير الدقيق لأسماء بلدان كثيرة.

وما حصل على أرض الواقع، كان نحو الأسوأ، وهو كتابة المسمّيات العربيّة وفق اللفظ العبريّ، مثل يافا- يافو، عكا- عكو... أمّا في البلدات المختلطة فيخوض السكّان صراعًا مريرًا مع السلطة المحليّة، في مسألة مسمّيات الشوارع التي تطلق عليها أسماء يهودية.

بهذا الصد، من الجدير ذكره أنّ المسميّات العربيّة تُساهم في تثبيت الحضور العربيّ في المدينة، لمواجهة سياسة التهويد، وتثبيت الحقّ التاريخيّ على الأرض، وترسيخه في الذاكرة الجماعيّة للأجيال القادمة، بالإضافة إلى تخليد ذكرى الشخصيّات الرائدة، التي تركت بصماتها على المجتمع، وناضلت في معارك البقاء والتراث، على اعتبار أنّها تشكّل رمزًا ومثلاً يحتذى به.

بعد الانتهاء تمّ توجيه الأسئلة للمحاضرين ومناقشة المواضيع المطروحة.

بعد استراحة قصيرة عقدت الجلسة الثانية تحت عنوان الأسماء العربية في التجربة الأدبيّة، وتولّى عرافة الجلسة د. نبيه القاسم.

ابتدأ المحاضرة الأولى د. محمود أبو فنّه - باحث وعضو مجمع اللغة العربيّة ورئيس لجنة القضايا اللغويّة اليوميّة- حيفا، وتناول موضوع دلالة المكان في أدب الأطفال المحلّي فقال:
تأخّر ظهور أدب الأطفال المحلّي مقارنة مع ظهور هذا الأدب في العالم العربيّ لأسباب سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة؛ حيث صدر الكتاب الأوّل للأطفال في البلاد عام 1954، وكان مسرحيّة "ظلام ونور" لميشيل حدّاد وجمال قعوار، ثمّ صدرت المجموعة الشعريّة "ألحان الطالب" لجورج نجيب خليل عام 1956، وفي الستينات من القرن الماضي أصدر الأديبان محمود عبّاسي وجمال قعوار 15 كتابًا أو كتيّبًا للأطفال، متأثّريْن بموقف المجتمع اليهوديّ المحتفي بالأطفال وب"نموذج" الكيلاني في الكتابة للأطفال!

بعد تجربة عبّاسي وقعوار ظهرت بوادر اهتمام - نسبيّ- بأدب الأطفال، وبدأ كُتّاب محلّيّون يكتبون للأطفال إلى جانب كتابتهم للكبار مثل: سليم خوري، مصطفى مرار ..، وتدريجيّا، ولعدّة عوامل، أخذت المؤلّفات الخاصّة بالأطفال تزداد وتتنوّع، سواء في الأدب الأصيل أو في الأدب المترجم، وقد ساهمت مراكز أدب الأطفال التي أنشئت في هذا الانتعاش.

أمّا بالنسبة للمكان والتسميات في أدب الأطفال، موضوع المحاضرة، فمن الجدير ذكره أنّ لذكر المكان أو البيئة أهميّة في العمل الأدبيّ عامّة، وفي النصوص القصصيّة خاصّة؛ حيث يشكّل المكان عنصرًا أساسيّا فيها إلى جانب الزمان والعناصر الأخرى (الحبكة والأحداث، الشخصيّات، اللغة والأسلوب، الفكرة المحوريّة... وقد تتعدّد أنواع المكان (المغلق، المفتوح واللا متناهي)، وتتعدّد دلالاتها ووظائفها (وظيفة معرفيّة، وظيفة اجتماعيّة، وظيفة وطنيّة...) في النصوص الأدبيّة، وخاصّة في النصوص الموجّهة للمتلقين الكبار، الذين يمتلكون تجربة وثقافة وذائقة نقديّة تفوق ما لدى المتلقين الأطفال.

اقتصرت العيّنة في هذه الدراسة على أدب الأطفال المحلّي الأصيل، الذي كتبه أدباء محلّيون واستثنيَ الأدب المترجم، كما حاولنا تمثيل" أدب الأطفال المحلّي في مراحله المختلفة، وكان التركيز على لونيْن بارزيْن هما: القصّة والشعر.

في مجال القصّة تمّ فحص حوالي ثلاثين كِتابًا، وفي مجال الشعر تمّ فحص أكثر من عشرة دواوين شعريّة. أتناول في هذه المحاضرة نتائج هذا الجرد، متعرّضًا لأنواع المكان في أدب الأطفال المحليّ، ودلالات هذه الأنواع والتسميات المختلفة.

وفي مداخلة القاصّة والروائية فاطمة ذياب جاء: للتسميات دلالات لفظيّة ومجازيّة، وبداية اسمحوا لي أن أنطلق من ذاتي كي أصل إليها، من خلال معاقرة حروف الأبجديّة في حالة مخاض وولادة، ومن ثمّ تسمية المولود، وتحضرُني الآن تلك الحالة المُغلّفة بكثير من الحيرة والتردّد، فأيّ اسم أمنحه لكلّ قادم جديد، لا بدّ وأن يترك أثره على القارئ، فإمّا أن يدعوه إليه ويُحفّزه في تناوله، وإمّا أن يتردّد في ذلك، ومهما يكن الاختيار، فإنّه لا بدّ أن يتماهى مع النصّ من حيث الدلالات اللفظيّة والمجازيّة، مع انّنا في كثير من الاحيان نجد أنّ الاسم قد شذّ عن النصّ، فجاء النصّ غيرَ مُعبّر عن خواصّه وأبعاده.

لكلّ كاتب أسلوبه وأدواته وتجلّياته، وإن اختلفت هذه الأدوات والتجلّيات، يظلّ الاسم هو المفتاح السحريّ الذي يأخذنا إلى دهاليز النصّ، سواء جاء العنوان مُشفّرًا أو غير مُشفّر، وكما ذكرت، قد يحملنا العنوان إلى عوالم من الغرابة والغموض والإبهام، ممّا يجعلنا نتردّد في السفر بين النصوص، بل ربّما يستفزّنا هذا الغموض، فنُصرّ على كشف مكنونات النصّ.

بالنسبة لي، فقد لعب الموروث القادم من جذوري الشعبيّة دوْرَه في النصوص وفي التسمية، من حيث الانتماء للمكان والزمان، وحتى الشخوص والأدوات، وعلى سبيل المثال، لم يأتِ عنوان "دقة المهباج" لقصّة من مجموعة "جليد الأيام" اعتباطًا أو مصادفة، لو لم يكن المهباج يدقّ في خلايا الروح والجسد والذاكرة، لأنّي طفلة تراقصها الأدوات والذكريات والزمان والمكان، فأدعوه عنوانًا يُراقصني على أنغام الصفحات وعند حدود النصّ، فآخذه من بيت المختار كي أبرزه بخطّ عريض عنوانًا مُلتزِمًا لزمانه ومكانه، ليس هذا فحسب، بل أتعمّد كذلك في روايتي "مدينة الريح" الصادرة عام 2012، أن أنقل من بيادر الذكريات صورة مُكثّفة وصورة متأرجحة لكلّ أدوات ذاك الزمان، فهناك اللعبة المُسلّية مع "الزهر الأصفر"، وما بين أبوك سبع ولاّ ضبع، وما بين السبع والضبع تبادل حرفان ليتغيّر المعنى والمغزى، وهنا أيضّا صورة تحمل الأبعاد الأخرى ص 164:

"أيّتها الأنثى.. آخذك وآخني إلى بيادر الذكريات، يوم غادرت أمّي إلى البيدر، تحمل تحت إبطها بعض أرغفة من خبز الطابون الساخن جدّا، وعلى رأسها يسترخي الغربال، يحمل داخله القفّة، والقفّة تحمل القُبْعة والقبعة تحمل الصاع الخشبيّ المحروق، يومها كانت خالتي وعمّاتي وجدّتي والقطروز يستعدّون ليوم طويل من الغربلة. كانت جدّتي ترفع طرَفَي الشنتيان، وخالتي تربط أطراف فستانها بالزنّار، وعمّتي تشدّ عصبتها السوداء، أمّا القطروز فكان عند كومة السنابل يُلملم بشاعوبه الطويل ما تبعثر منها، ليُعيدها إلى الكومة الكبيرة.

ولم أُسقِط من حسابي الأماكن ومدلولاتها في سياق النصّ، فللناصرة حضورها القويّ، حتى بمناسباته الرمزيّة، ففي الفصل الثامن من رواية "مدينة الريح" كتبت:

"معًا سرت وصديقي في شوارع الناصرة، المدينة التي تصفعني هي الأخرى وأُحبّها، سمعته يقول: للناصرة نكهة خاصّة تحتلّ زائريها، فمَن يَزُر الناصرة لا يملك إلاّ أن يعود إليها. قلتُ: عن أيّة ناصرة تتحدث؟ ناصرة اليوم غير ناصرة الأمس؛ ناصرة توفيق زياد والأعلام الحمراء والأوّل من أيّار. اُنظُرْ مِن حولك.. كلّ ما في الناصرة مُزيّف الآن، حتى الوجوه واللافتات والشوارع والأسماء. أشعر أنّها مُهجّنة من عدّة أماكن. قال بألم: إلى حدّ ما أنتِ مُحقّة، فالناصرة اليوم تبحث عن مَخرَج لأزمتها السياحيّة!"

رواية "مدينة الريح" تتضمّخ بالصور الشعبيّة والأسماء التي تنتقل في أروقة التراث والتاريخ والجغرافيا، من عرابة الجليليّة إلى سخنين، ومن كابول إلى طمرة وصولاً إلى عبلين وشفاعمرو، أضِف إلى ذلك أكثر من مئتَيْ مثَلٍ شعبيّ ضمن سياق النصّ ودون افتعال، فكلّنا نحاور النصّ ونُعايشه قبل أن نمنحه الاسم الذي يُجسّده ويُجسّدنا، وقد ذكرتُ القرى المهجرة الدامون الرويس ميعار وغيرها في كتابي "الخيط والطزيز"، هذا العنوان الأكثر إثارة واستفزازًا وغرابة، من حيث الأبعاد الحسّيّة وغير الحسّيّة، فغرابة العنوان قد تجعلنا نتردّد في تناول النصّ وربّما يستفزّنا بغرابته، فنُقبِل عليه لكشف المطمون ومعرفة ما وراءه، كما حدث معي حين استفزني عنوان ديوان "رحلة إلى عنوان مفقود" للشاعرة آمال عوّاد رضوان، فالكثير من الأعمال الأدبيّة هي بمثابة بطاقة هُويّة، تحمل جذور الولادة والأزمنة التي عايشها الكاتب بأماكنها الجغرافية والتاريخيّة، من باب الصدق مع الذات والجذور، ومن باب ترسيخها في أذهان الأجيال القادمة، وكثيرًا أيضًا ما يحمل النصّ ملامحَ الكاتب بارتباطه زمانًا ومكانًا، وكلّما توغّلنا بالمَحلّيّة انطلقنا إلى العالميّة.

وفي المداخلة الأخيرة للقاصّ محمّد علي طه بعنوان "رائحة المكان وأنامل الزمان" قال:
ربط والدي، رحمه الله، منذ طفولتي، علاقتي بالمكان وأسمائه بوثاق حريريّ منسوج بحروف حُبّ المكان وحُبّ الحياة. كان بيتنا القرويّ الصغير الدافئ الجميل يقع في أقصى الحارة الجنوبيّة لقريتنا ميعار، ولا بيت بعده من تلك الناحية. وكان يُطلّ على قمم جبال الجليل الأسفل والجليل الغربيّ الخضراء، وعلى السفوح المكسُوّة بأشجار السنديان والعبهر والسرّيس والخرّوب، كما يُطلّ على واد سحيق يمنحه النهار جمالاً خلاّبًا ويهبه المساء رهبة.

  عندما كان والدي يمسك راحتيّ ويوجّهني إلى الغرب كنت أرى الكرمل، أنف الغزال الجميل ومدينة حيفا التي زرتها لأوّل مرّة وأنا شاب في الثامنة عشرة من عمري وتعلّق قلبي بها. وكنت أشاهد رأس الناقورة والبحر الأزرق والسهل الساحليّ الأخضر، وكنت أحيانًا أقف مع والدي ومع الجيران في ساعات الأصيل في أيّام فصل الشتاء، ونُصغي لتلاطم الأمواج في كهوف رأس الناقورة، نسمعها من مسافة بعيدة، وعندئذ يُحدّد الراصد الجوّيّ لبلدتنا أنّ الليلة عاصفة بإذن الله تعالى.

  كان والدي يصحبني في أيّام فصل الربيع المشمسة الدافئة إلى أرضنا الواسعة المسمّاة "وادي الشيخ علي"، على اسم جدّ أبي الشيخ الضرير حافظ القرآن، ومرجع القرية في الفتاوى والأمور الدينيّة. يردفني على الحمار أحيانًا وعلى الفرس أحيانًا أخرى، أو نسير راجليْن في طريق تُرابيّ بين الأعشاب الخضراء والأزهار الجميلة التي لثمها الندى. نمشي ويُعلّمني أبي الأسماء مثلما علّمها الله تعالى آدم. يُعلّمني اسم كلّ نبتة واسم كلّ شجرة واسم كلّ زهرة. هذا البلاّن وهذا القندول وهذا السرّيس وهذا الشومر، وهذا العلت وهذه الخبّيزة وهذا اللوف وهذا المُرّار، وهذه القُرْصعنّة وهذا الخُرفيش وهذه لفّة سيدي وهذا النرجس وذلك الأقحوان.

  نشاهد حقل القمح الأخضر ونقطف أغصان الميرميّة والزوفا، ولا ينسى في مشوار العودة أن يُعرّج على نبعة الزرزروق لنغسل أيدينا ونرطّب وجهيْنا ورأسيْنا بمائها البارد، ونشرب منه حتى الارتواء.

   كان يأخذني في فصل الصيف إلى السهل الساحليّ، حيث مقاثي البطيخ والشمّام وحقول السمسم والذرة البيضاء، وفي ذهابنا وإيابنا كان يُعرّج على بير الصفا لنشرب ونبترد ونسقي الدابّة. كنت مُعجبًا بهذه البئر. تجتمع حولها الرعاة وقطعان الماعز والغنم والبقر والإبل، ويَرِدُها الفلاّحون الذاهبون إلى الساحل أو العائدون منه. كنت مُعجبًا بالاسم. بير الصفا. نبع الصفا. وكنت أصعد عدّة درجات حتى أصل إلى خرزة البئر وأجلس بجانب السقّاء عوض، على مقعدٍ حجريّ أملس، وأُحدّق في ظلام البئر العميقة وفي الدلاء التي تصعد ملأى بالماء الزلال وتعود إليها فارغة، كما كنت أُحدّق بقدمَيْ عوض الطويلتيْن الحافيتيْن السمراويْن اللتيْن تُحرّكان بَكَرَة الدلاء.

  سرقت النكبة طفولتي وألعابي وبيتي وأترابي وأصحابي وحوّلتنا إلى عائلة فقيرة.

 بقي حُبّي للطبيعة صامدًا أمام النكبة. كنت في يومَي الجمعة والسبت من كلّ أسبوع، أرافق أترابي في رحلة صيد العصافير، فنجوب الوديان والسفوح والحقول، نركض وراء عصفور صغير لنصيده. عرفنا مواقع الأرض وأسماءَها ونباتاتها وأشجارها وصخورها وعيونها. عرفت أزهار ونباتات كلّ موسم وطيور كلّ فصل من فصول السنة.

  كانت القرية: فلاّحوها ورجالها ونساؤُها وأطفالها ومواشيها وحقولها وزرعها وأزقّتها ودواوينها وهواؤُها وخُبزها وقهوتها ولغتها وأمثالها، وصمود الناس في معركة بقائِهم في الوطن والأرض مُتَحَدّين السلطات من الحاكم العسكريّ إلى المختار، ممثّل السلطة، هي عالم قصصي في مجموعاتي الأوائل، وبخاصّة في قصص "اللجنة"، و"المعركة"، و"المنغرسون في الأرض"، و"عناقيد العنب"، و"الاستثناء والقاعدة"، و"وردة لعيني حفيظة" وغيرهنّ.

  تعمّدت أن أذكر في قصصي أسماء النباتات والأشجار في حقولنا وأراضينا وهضابنا وأوديتنا وجبالنا، كما تعمّدت تدوين أسماء الأماكن العربيّة الفلسطينيّة. كنت أرى يوميًّا عبرنة وصهينة وأسرلة المكان. كان عليّ أن أحمي عروبة المكان وفلسطينيّته. هذا الجدول اسمه نهر المُقَطّع وليس الكيشون، وهذا اسمه نهر العوجة وليس اليركون، وهذه جبال الروحة وليس رمات مِنَشّه، وهذا الجرمق وليس ميرون، وهذه الجاعونة وليست روش بينة، وهذه الخالصة وليست كريات شمونة، وهذه البروة وليست أحيهود، وهذه ميعار وليست ياعَد. هذه الأرض اسمُها البصّ ومراح الغزلان وأمّ السحالي وبرّاد وراس البير، والهروبّة وراس الزيتون وبير الصفا والقسطل، والملّ ومرج ابن عامر ووادي الحوارث والبطوف.

  لأنّني ابن قرية مُهجّرة لم يبقَ منها سوى أطلالها ومقبرتها وشجيْرات صبّار وزيتونات تعلّق قلبي بالقرى المُهجّرة. وجدت قريتي ميعار في أطلال الطنطورة وفي أطلال الزيب، حيث أُحبّ أن أسبح. كلّما زرت الزيب مستجمًّا وجدت ميعار هناك وتذكرت طفولتي وأترابي. كتبت قصّتيْن عن قرية الزيب: القصّة الأولى اسمُها "العاديات"، حيث روَتْ لي العاديات الباقية في الزيب في المتحف الذي أقامه إيلي أفيفي قصصها وقصص أصحابها، وأمّا القصّة الثانية فاسمُها "رسالة الزيب في الأمر الغريب".

  في إحدى زياراتي للزيب رافقتني باحثة جامعيّة فلسطينيّة تُقيم في لندن. تجوّلنا في المكان ووصلنا إلى مدخل بيت عطايا مختار القرية، البيت الوحيد الباقي هناك، فوجدنا السيّد ايلي أفيفي يقف عند المدخل. عرض عليّ باللغة العبريّة أن يؤجّرني غرفة نوم عطايا وسريره مقابل مبلغ مالي زهيد. سألتني ضيفتي عمّا يقوله الرجل عن عطايا، فأجبتها بأنّه يشرح عن بيته ولم أقل لها الحقيقة. لقد حوّلوا بيت عطايا وديوانه وغرفة نومه إلى مبغى.

  كم تتحمل من إساءات أيّها الوطن!!

  مدينة عكا هي المدينة الأولى التي زرتها في العام 1947، وشربت من سبيل الطاسات واشتريت كعكبانًا بقرش كما اشتريت قلمًا ملوّنًا وطابة. ما زلت أذكر تلك الزيارة وسفري لأوّل مرّة في الباص من ميعار إلى عكّا ذهابًا وإيابًا. استوحيت من عكّا عدّة قصص مثل قصّة "ليرة ولوحتان"، ومسرحيّتي "فساتين" التي تحدّثت فيها عن فتاة عكّاويّة انضمت إلى المقاومة، ثم عادت إلى عكّا بعد صفقة تبادل أسرى تبحث عن فستان طرّزته لها أمّها ليوم عرسها، فتلتقي برجل تعرفه يمشي في السوق وينادي "عَ النظيف، يا عيني ع النظيف، أنا بيّاع النظيف" فتبحث معه عن الفستان.

  عملت في حيفا مُدرّسًا في الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة خمسة وعشرين عامًا، وعرفتها جيّدًا وأحببتها كثيرًا. عرفت وادي النسناس ووادي الصليب والحلّيصة ووادي الجِمال وشارع أللنبي، وشارع الخوري وشارع قيسارية وشارع الحريري، وشارع الجبل وشارع يافا وشارع الملوك، وشارع الكرمة وشارع عبّاس وشارع المتنبّي والألمانيّة والمحطّة وأدراج المدينة وأزقّتها.

  تجري أحداث قصّتي "حكاية إبريق الزيت" في حيفا، ويُصرّ البطل أنّ ساحة باريس اسمُها ساحة الحناطير مع أنّه، والله العظيم، لم يَرّ في حياته حنطورًا فيها، كما يُصِرُّ على أنّ مفرق تشيكبوست هو مفرق السعادة.

  في قصّة "خارطة جديدة لوادي النسناس"، التي كتبتها بعد لقائي في هافانا في صيف العام 1977 مع الشاعر أحمد دحبور ابن وادي النسناس، الذي غادره مع أهله طفلاً صغيرًا ويعيش في سوريا. كان أحمد دحبور يسألني يوميًّا عن وادي النسناس، أنا الذي أزور الوادي في معظم أيّام الأسبوع، حيث تقع مكاتب جريدة "الاتحاد". قمت بدراسة ميدانيّة عن الوادي قبل النكبة، عن أهل الوادي وعن البيوت والمتاجر والأفران، وعن حيفا وشواطئها وسهلها، عن شاطئ أبو نصور الذي صار اسمه هحوف هشاكيط، وعن مستشفى حمزة الذي صار اسمه مستشفى رامبام، وعن منطقة الموارس التي صار اسمها كريات أليعيزير، وعن وعنو...، وهذا ما برز في قصّتي التي أشار النقاد إليها معجبين بأسلوبها وبالرؤيا التي تحملها.

  في قصّتي "مشوار الأصيل" التي مثلتني في أنتلوجيا القصّة العربيّة، التي صدرت باللغة الإنجليزيّة في أمريكا يسير الرجل المتقاعد يوميًّا، من شارع عبّاس إلى شارع الجبل الذي صار اسمه شارع الأمم المتحدة، فلمّا زعلت إسرائيل من الأمم المتحدة أسمته شارع هتسيونوت أي الصهيونية، ثمّ يسير إلى الهدار ويصل إلى شارع الأنبياء.

هناك قصص عديدة لي تدور أحداثها في حيفا. عندما خرجت من القرية، من كاتب القرية، كانت حيفا هي المدينة التي احتضنتني. قصصي الحيفاوية وهي كثيرة تدور أحداثها في شارع عبّاس وشارع المتنبي وشارع المطران حجّار ووادي الجمال ووادي النسناس، وشارع الحريري والحليصة وفي البلدة القديمة. وجدت نفسي في هذه الأماكن التي حافظت على عروبتها وعلى فلسطينيّتها. رائحة المكان في هذه الأماكن تختلف عن رائحة المكان في أحياء الكرمل، في دينْيا وأحُوزا وجِبعات الموجي وجبعات جولدا. الهواء يختلف. النبات يختلف. هنا الياسمين البلديّ والنعنع والميرميّة والزعتر. اللغة تختلف. راديو المقهى يختلف. هنا رائحة الخبز في الأفران ورائحة الفلافل والحمّص والفول وليس رائحة الجبنة البلغاريّة المعفّنة ورائحة سمك الفسيخ المسمى داغ ملووّح. هنا رائحة القهوة البلديّة وليس رائحة الإسبريسو.

  وأمّا المدينة الثالثة التي كتبت عنها فهي القدس. كتبت قصّة "الخط الوهميّ" قبل العام 1967، وكانت أوّل قصّة تنشر لي في مجلة "الآداب" البيروتيّة، وأمّا بعد احتلال القدس في حزيران فكتبت قصّة "وصادروا الفرح في مدينتي"، التي بطلها الشيخ نصر الدين المعروف بجحا، الذي يزور المدينة المحتلة، ويسير على قدميْه من شارع صلاح الدين إلى باب العمود، ثم يمشي في السوق العتيقة، ثمّ كتبت قصة "سورة زهرة المدائن" التي تغنّيت بها بالقدس عروس الوطن وأمّ القضية.

  كتبت عدّة قصص تدور أحداثها في الناصرة وشفاعمرو وطبريّا، وقد دهشت حينما اكتشفت أنّ معظم قصصي النصراويّة يعيش أبطالها في حيّ الصفافرة، ما عدا قصّة واحدة تدور أحداثها في منطقة العين. هناك أكثر من قصّة تدور أحداثها في المدن المحتلة مثل نابلس "قصة الساعة"، ورام الله قصة "ندى"، وقصّة "ديمة والحسون" وبيت لحم والخليل وجنين وغزة.

  المخيم الفلسطيني مكان هامّ في قصصي، فالمخيم هو عنوان ملايين الفلسطينيّين في لبنان وسوريا والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة. سكّان المخيّمات هم وقود الانتفاضات والمظاهرات. هم أساس مقاومة الاحتلال ومقاومة الظلم والجوع والمرض. زرت مخيمات عديدة. زرت مخيّم بلاطه ومخيّم عسكر ومخيّم عين بيت الما في نابلس، وزرت مخيّم الأمعري ومخيّم قلنديا ومخيّم الجلزون في رام الله، وزرت مخيم الدهيشة في بيت لحم، وزرت مخيّم جنين ومخيم جباليا في قطاع غزة، وزرت مخيّم الوحدات في عمان ومخيم اليرموك في دمشق. عندما تضع قدميْك في الخطوة الأولى من الزقاق الأوّل للمخيّم تكتشف عالمًا آخر. تنتقل من عالم إلى عالم. تلتقي مع الفقر ومع البؤس ومع الغضب. تلتقي مع الصمود. صمود الناس في وجه قسوة الحياة. صمود الناس في وجه سفالة العالم ولا أخلاقه.

   هزّتني حرب تل الزعتر في صيف 1976، حينما حاصرت هذا المخيّم ميليشيات الكتائب اللبنانيّة، وداهمته الدبّابات السوريّة البعثيّة وجنود الرئيس حافظ الأسد، الرئيس الذي كان شعاره: أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة. وحدة حرّيّة اشتراكيّة. كتبت يومئذ قصّتي "عائد الميعاري يبيع المناقيش في تلّ الزعتر". اخترت الاسم عائد لبطل القصّة، لِما فيه من إيحاء وموقف فكريّ وسياسيّ، واخترت البطل صبيًّا لإيماني بالمستقبل، وكَنّيْتُهُ ميعاريًّا.

  قريتي ميعار مشهورة بزعترها وهذه النبتة منتشرة بكثرة في السفوح والهضاب والأودية، والفولكلور الفلسطينيّ يحفظ أكثر من طرفة عن ذلك. الفلاح الميعاري الذي وصل إلى مدينة عكا وسمع بائعًا ينادي "فطور العافية صحّة للنظر"، فتذكّر جوعه ومعدته الخالية، فتقدّم من البائع وطلب وجبة فطور، فناوله رغيفًا مع الزعتر فقال الفلاح مستغربًا: إذا كان هذا فطور العافية صحّة للنظر، فمعناه أنّ حمير بلدتنا ترى كنوز الأرض.

  ولا أنسى عندما كنّا في السنة الأولى التي أعقبت النكبة نسكن في بلدة سخنين في غرفة استأجرها والدي، وكان فطورنا الخبز وزيت الزيتون والزعتر والشاي. وحدث أن كان جارنا السخنينيّ موجودًا عندنا وقت الفطور، فألحّ عليه والدي أن يُمالحنا، وما أن أكل اللقمة الأولى حتى أبدى إعجابه بزعترنا، وسأل من أين لكم هذا الزعتر؟ فأجابه أبي: قطفناه من أرض ميعار وجففناه ثمّ أعدته أمّ العيال. فقال: وزعترنا قطفناه من ميعار، ولكن هذا الزعتر فيه حموضة زاكية وشهيّة ولا توجد في زعترنا. ومن المعروف أنّ هذه الحموضة هي ثمرة السمّاق الذي أضافته أمّي إلى الزعتر. قال أبي: هناك مواقع مختلفة. مواقع زعترها حامض ومواقع زعترها لفّاني ومواقع زعترها حلو. فقال جارنا: حينما تقطفون الزعتر في الربيع القادم، أرجو أن تدلّوا زوجتي على الموقع الملائم.

  لا توجد عائلات في المخيّم، ولا تستطيع أن تشير وتقول هذه حارة المحاميد أو حارة زبيدات، أو حارة دار طه أو حارة دار غنايم أو حارة دار ذياب. تحمل الحارات في المخيّم أسماء بلدات فلسطينيّة، هذه حارة المياعرة وهذه حارة الصفافرة والبراونة والدوامنة.

  كان عائد الميعاري في أثناء بيعه المناقيش يرسم خارطة فلسطين. يمرّ قرب الرجل اليافاويّ فالكناويّ فالصفوريّ فالنصراويّ، ويُنادي على بضاعته مُذكّرًا بشُهرة كلّ مدينة وبلدة. برتقال يافا. ملوخيّة صفورية. رمّان كفر كنا وهكذا، وكان يفهم السياسة بالفطرة، فالولد خرّيج مدرسة النكبة وكليّة المخيّم، وكان مُعجبًا بثوّار فيتنام ويكره أمريكيا وكان عائد يقود أترابه، مجموعة الأولاد وهو يُغنّي: " فيتنامي يا فيتنامي، يا ابن العزّ والكرامة، انت وراك هانوي وأنا وراي...." فيصرخ الأولاد: دمشق، فيصرخ عائد: طزّ. وهكذا يطزطز لجميع العواصم العربيّة: بغداد وعمّان والقاهرة وصنعاء وبيروت والرياض وطرابلس وتونس وغيرها، وفي النهاية يقول:" فيتنامي يا فيتنامي، يا ابن العزّ والكرامة، انت وراك هانوي، وأنا وراي حرامي".

  دخل عائد البيوت الفلسطينيّة وأحبّوه وسألوني عنه كثيرًا. رجال وسيّدات وآنسات سألوني عنه وما زالوا يسألونني عنه حتى اليوم. لا أعرف ماذا جرى له. هل خرج مع رجال المقاومة من بيروت إلى تونس أو الجزائر أو اليمن؟ هل عاد بعد اتّفاق أوسلو إلى مناطق السلطة؟ هل هو أسير من آلاف الأسرى في السجون الإسرائيليّة؟ أنا متأكّد أنّ عائد الميعاري لم يرْتشِ ولم يفسد ولم يَحْنِ رأسه، وما زال يسير في الطليعة.

  هناك قصّة عن المخيّم ومنه اسمها "صبيّ وبنت من الدهيشة". أبطالي في المخيّمات الفلسطينيّة هم أطفال. صبيان وبنات. الجيل الذي سيطلع الفجر حتمًا. كتبت قصصًا تدور أحداثها في سيّارة وفي قطار وفي طائرة. قصّة "ليلة في قطار ريغا" تدور أحداثها في قطار ليلي ومع حركة سير القطار. قصّتي وصار اسمه فارس أبو عرب"، وهي قصّة يوم الأرض تدور أحداثها في المدينة وفي الباص وفي القرية وفي مواقع الأرض المهدّدة بالمُصادرة. هذه القصّة تُرجمت ونُشرت في عدّة دول، وقد اختارها د. بدوي لتُمثّل القصّة الفلسطينيّة في كتاب "القصّة ديوان العرب".

  كما كان لأسماء الأماكن دور بارز في قصصي، كذلك كان لأسماء الأبطال وأسماء القصص وأسماء المجموعات. أبذل جهدًا في اختيار اسم بطل القصّة، فلاسْمِ البطل دوْر هامّ ومميّز في القصّة. عائد الميعاري. مروان بطل قصّة ليلة في قطار ريغا. مروان الشيوعيّ القرويّ. مروان معناه صخر الصوّان. حفيظة جارتي الجميلة بطلة قصّة "وردة لعيْنَيْ حفيظة". جابر وصابر ومصطفى أبطال رواية "سيرة بني بلوط". حشمة. ستّي بيكه. رقيّة. ندى الطفلة الأمّورة. أختار اسم القصّة بعد كتابتها. ويحدث أحيانًا أن أغيّره قبل النشر. غيّرت مرّة واحدة اسم قصّة بعد نشرها، كان اسمُها "صبيّ وبنت من الدهيشة" حينما نشرتها في "الاتحاد"، فصارت "الولد الذي قطف الشمس" حينما نشرتها في مجلة "الكرمل". وأبذل جهدًا مضاعفًا في اختيار اسم المجموعة. أختار عادة اسم قصص من قصصها. في مجموعتي الأولى لم أفعل ذلك. أسميتها "لكي تشرق الشمس". كنت شابًّا صغيرًا في الثانية والعشرين من عمري، مُتحمّسًا وأعتقد أنني أستطيع أن أغيّر العالم بقصصي. أن أغيّر الواقع وأن أقهر الجوع والفقر والجهل والمرض والظلم. أحتار كثيرًا في اختيار عنوان المجموعة، ولا يعني دائمًا أنّ القصّة التي تحمل المجموعة اسمها هي القصّة المفضلة عندي، أو القصّة التي أحبّها أكثر من غيرها. إحدى المجموعات كنت أرغب بأن أسمّيها "مشوار الأصيل"، إلاّ أنّ صديقًا لي تشاءم من الاسم وعارضني بشدّة، فأسميتها "النخلة المائلة". مجموعتي "جسر على النهر الحزين" كان اسمها المقترح "جسر مقدّس على نهرٍ حزين"، إلاّ أنّ صديقًا من أصدقائي اقترح عليّ أن أسمّيها "جسر على النهر الحزين"، كي يكون الاسم موسيقيًّا، فاقتنعت وفعلت ذلك، وأمّا مجموعتي الأخيرة فتنقلت في عدّة أسماء، حتى استقرّ الرأي على أن أسمّيها "في مديح الربيع".

  في كتابه القيّم "محمّد علي طه مبدع راودته الكلمات وراودها" يتطرّق الناقد البارز د.نبيه القاسم إلى المكان في قصصي، فيجد أنّ المكان هو البطل في بعض القصص، كما يشير إلى أنّ المكان ينفتح على الخارج، فيرى أنّ مخيّم تلّ الزعتر في قصّة "عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر"، ينفتح على القرى والمدن الفلسطينيّة، ويشير إلى أنّ القطار في قصّة "ليلة في قطار ريغا" ينفتح على الوطن وعلى الغرب وعلى الشرق، مع أنّ الأحداث تدور في قمرة من قمرات القطار الليليّ، وكذلك الأمر في قصّة "مشوار الأصيل"، فالشارع من حيّ عبّاس إلى حيّ الهدار في حيفا ينفتح على شوارع المدينة وعلى الوطن.

  كان للبيت دوْر هامّ في قصصي، وقد خصّصت له أكثر من قصّة، وقد أشار د.نبيه القاسم إلى عدّة بيوت في قصصي، مثل البيت العادي والبيت الأليف والبيت الحلم والبيت الوطن والبيت المُعادي أيضًا.

  دعاني أديب فلسطينيّ صديق لحفلة تدشين بيته في رام الله في أواخر التسعينات. دخلت إلى البيت الجميل مع زوجتي، وتجوّلنا في غرفه وفي المطبخ وفي المنافع وبقيت غرفة مغلقة. فتحتها بدون استئذان، وإذا هي مليئة بحقائب السفر الكبيرة والكثيرة. تعجّبت وسألت صديقي عمّا أرى فقال: حقائب السفر. كنّا نسكن بعد النكبة في مخيّم في الضفة الغربيّة. بعد حزيران 67 حملنا ما تيسّر من حاجاتنا ورحلنا إلى إربد، وفي أيلول 70 حملنا بعضها إلى دمشق، وبعدئذ حملت حاجاتي ورحلت إلى بيروت، وفي العام 1982 عدت إلى دمشق، ولمّا ضاقت بي دمشق رحلت إلى الجزائر، ومن الجزائر إلى تونس، ومن تونس إلى غزة فرام الله. هذا البيت هو محطتي الأخيرة.

  في لقاء لي في جنيف في الثمانينات مع مثقف مناضل فلسطينيّ، وفي سهرة على ضفة البحيرة قال لي، بأنّه يحلم أن تكون له مكتبة. رفوف على الحائط وعليها الروايات والمعاجم والموسوعات والسِّيَر الذاتيّة ودواوين الشعر. وفي الغرفة طاولة وكرسي وعلى الطاولة حاسوب. قال لي إنّه يُناضل منذ العام 67 حتى اليوم كي تكون له مكتبة. ذكر لي أنّه تنقّل في دول عديدة وفي عواصم عديدة، ولم يستطع أن ينقل معه كتبه التي يحبّها، وأمّا عندما سيحصل على البيت فستكون له مكتبة. هذا هو الفلسطينيّ. إنسان يحلم بالبيت.

منذ مجموعتي الأولى في العام 1964 وحتى اليوم وأنا أهندس بكلماتي وحروفي البيت الفلسطينيّ. رسمت العَلَم وكتبت النشيد الوطنيّ، ورافقت السجناء إلى الزنازين، كما رافقت المقاتلين إلى الميادين، والمتظاهرين إلى الشوارع، وحرصت على أن يكون البيت جميلا ودافئًا. أهتمّ بالتفاصيل الصغيرة للأماكن، وعندما أكتب عن مكان أدرسه جيّدًا. أدرس الجغرافيا والتراب والهواء والنبات والناس. لا يكفي أن أعرف كفر قاسم وشهداءها وأحداث مجزرتها، بل يجب أن أعرف المواقع التي حدثت بها المجزرة من المزلقان حتى المقبرة.

  هذا الارتباط بالمكان وبالزمان وبالأسماء المُعبرة الموحية ربطت قصصي بالقرّاء، فكم قارئ اتّصل بي وأقسم لي أن هذه القصّة حدثت في بلدته، قرّاء من باقة الغربية ومن أمّ الفحم ومن طمرة ومن سخنين ومن عرابة ومن الناصرة ومن شفاعمرو.

سألتني مرّة، في احدى محاضراتي، مُدَرّسة صبيّة عن الوطن ومفهومه في قصصي. قلت فيما قلت: عندما أسافر إلى أوروبا أو إلى الخارج، وأقضي أيّامًا هناك أو أسابيع لا أشعر بالغربة إلاّ في فترات قصيرة، ولكن حينما أهبط في مطار اللدّ الذي صار يُسمّى مطار بن غوريون أشعر بغربة ووحشة. أقود سيّارتي وأخرج من المطار وشعور الغربة يُرافقني. أمرّ بالقرب من نتانيا ومن الخضيرة وشعور الغربة يلازمني، وحينما أصل إلى مفرق اللجون الذي صار يُسمّى مفرق مَجِدّو، أشعر أنّ الهواء تغيّر وصار عليلاً، والشمس تبدّلت وصارت أكثر دفئًا، والنباتات زادت اخضرارًا، والأرض تبسّمت أزهارًا، والطيور تغرّد بفرح، والفراشات الملوّنة تطير وتُحلّق، والنحلات النشطة تطنّ وتزنّ فأقول: ما أجملك أيّها الوطن.

أحبّ يافا وأحزن وأنا أسير في شوارعها. كلّما زرت تل أبيب قادتني قدماي أو سيارتي إلى الشاطئ، ومن هناك إلى مسجد حسن بيك. هذا المسجد الصغير الجميل الذي تحيطه إلى درجة الاختناق بنايات الفنادق الضخمة، فأتذكّر عندئذ المسجد الصغير في حيفا في قرية رابين المتمسك بالبقاء بين الأبراج العالية، بين عمارة تسيم وعمارة المحاكم التي تُسمّى قصر العدل. هذه هي حالتنا. أحبّ النقب والمثلث ومرج ابن عامر والكرمل، ولكنّني ولدت في الجليل وعشت فيه وأحببته، وأعتقد أنّ سيّدنا آدم حينما طرده الله من الجنة ملأ راحته من تراب الجنة، ونثر التراب على الكرة الأرضيّة فكان الجليل. هكذا كتبت في سيرة بني بلوط.

  أدركت منذ طفولتي أنّ المكان مرتبط ارتباطًا عضويًّا بالزمان. الزمان غيّر بلدتي ميعار وغيّر ملاعب طفولتي وغيّر البئر والتينة وغيّر حيفا وغيّر يافا. أدركت ذلك بالفطرة، عفويًّا، قبل أن أقرأ ما تيسّر لي من مقالات المنظّر باختين. كما أدركت أنّ المكان مرتبط بالانتماء وبالعلاقة وبالألفة، قبل أن أقرأ ما كتبه باشلار.

ذات مرة دُعيت إلى لقاء مع طلاب مستوطنات مسجاف في قاعة في مستوطنة ياعد المقامة على ميعار، فحدّثت الطلاب عن علاقتي بالمكان وزياراتي المتكرّرة له. حدّثتهم عن البيت والجيران والأتراب والتينة والرمانة وبئر الماء وملاعب الطفولة. وقف رئيس المجلس الإقليميّ وسألني: أأنت ميعاري؟ أجبته: نعم. فقال: وأنا ميعاري أيضًا. قلت: أنا ميعاري وهذا مؤكّد وواضح، وأمّا أنت فلا. فقال: أنا أصرّ أنني ميعاري. قلت له: أسألك ثلاثة أسئلة، فإن أجبت إجابة صحيحة واحدة فأنت ميعاري. قال: هات. قلت: السؤال الأوّل ما الفرق بين طعم الماء في بير الصفا وطعمه في البير الشرقي؟ والسؤال الثاني ما الفرق بين طعم الزعتر في دبّ الربيع وطعمه في برّاد؟ والسؤال الثالث ما الفرق بين الهواء في موقع التركيب وبين الهواء في خلة بلان؟

أعتقد أنّ الناقد الباحث باشلار لا يعرف ذلك، وباختين لا يعرف ذلك أيضًا، وأمّا أنا الذي كنت أغافل أمّي وأخرج من البيت حافيًا لأعدو على الهضاب والتلال، وأركض وراء طيور السمّان واللامي والحلاج ووراء الفراشات، وأجمع النرجس والأقحوان وشقائق النعمان، وآكل الخسّ البرّيّ والقرصعنة والشومر والعلت والسنّارية والخردلة والمقرة، وأشرب من رأس النبع وأغسل قدميّ بماء الغدير، وأقطف اللوز الأخضر وأسرق الحصرم من الكروم، فأنا أعرف ذلك. أنا أعيش ذلك. أعرف المكان وعلاقته مع الفجر ومع الضحى ومع الظهيرة، ومع الأصيل ومع المساء ومع الليل، ومع الصيف ومع الشتاء. أعرف صوت بنات آوى وصوت الثعالب. أعرف آثار الضبع وآثار الذئب على التراب. أعرف آثار الطيور في المقاثي والكروم. أعرف صوت القطا وصوت العندليب وصوت الشحرور. أعرف رائحة البيدر ورائحة الطاحونة ورائحة المعصرة. أعرف رائحة حظيرة الأغنام ورائحة زريبة البقر. أعرف التراب البنّيّ والتراب الأغبر والتراب الأبيض. أعرف الحجارة من الصوّان إلى البازلت إلى الركّاخ. أعرف الأشجار شجرة شجرة أعرف الشوك وأعرف الأزهار. وكلّ هؤلاء يعرفون قدميّ وراحتيّ وعينيّ وجلدي وأنفي وفمي.

هذه الأرض لي. هذه البئر لي. هذه الأشجار لي. هذه النباتات لي. هذه الأزهار وهذه الأشواك لي. هذا وطني وأنا باقٍ فيه. هذا ترابي، إمّا عليه وإمّا فيه.