هذه مقالة تجمع إلى دقة ملاحظة الروائي بصيرة الناقد والمثقف يسعى فيها الروائي العراقي الموهوب إلى كشف حركية التناقض بين تفشي القهر والاستبداد في الواقع العربي وانغماس المثقف في أحدث منجزات العصر.

الحداثة المتسلطة وعالم النيت

على بدر

 

لقد عشنا في بغداد كل تجاوزات السلطة الاستبدادية والتي تشتمل على الحروب والتدمير الروحي والفقر المؤسف للمضامين الثقافية، وهدم التجارب المتفردة، وعشنا من جهة أخرى عولمة التدفق الثقافي للسلع الثقافية القادمة من المتربولات الغربية، وهي أكبر بكثير من تداول السلع الثقافية المحلية، أو الانتقال البيني للثقافات المتجاورة. إن توصيف بعض المثقفين لحالة مثقفي الأطراف، ب"التلقي السلبي" أزاء الوسائل الثقافية التي يبثها المصدر، فيها الكثير من التجني، ذلك أن كوننة الثقافة تعزل المنتجات الثقافية عن مساقاتها وتضمها إلى الثقافة المتلقية، فيعاد إنتاج الثقافة القادمة، ويعاد توزيعها على الصعيد الداخلي بعد أن يتم فك شفرتها الأصلية، ومن ثم تشفيرها وتدجينها وحيازتها. إذن، أين يقع مفهوم الهوية الثقافية، ومفهوم التعميم الكوني للثقافة، وخلل العلاقات الثقافية بين المتربولات أو المراكز الحواضرية المصدرة والأطراف المتلقية؟ إن الخلل من وجهة نظري يكمن في تصدير السلع الثقافية، اذا استخدمنا مفهوم "المصنع الثقافي" و"السلع الثقافية" و"المنتوج الثقافي" الذي طرحه أدورنو وهاركايمر في العام 1974 ، والذي يحدث خللا في التجانس الثقافي الموروث وفي المعايير والثوابت والترسبات، فهذه المسألة –من وجهة نظري-مرهونة بشكل كاسح، لا في التباين بين عملية انتاج السلع الثقافية بين الغرب والاطراف حسب، إنما بسبب هذا التفاوت الذي يستعصي على البتر داخل مجتمعات الأطراف ذاتها، أي بين التخلف المتعدد والحداثة المتسلطة.

التقليد التعددي والحداثة التسلطية

في واحد من أهم الكتب التي تعالج الشروط السياسية المنتجة للسلطة في العالم الإسلامي وهو كتاب:"السياسة في الإسلام: النبي/ الملك/العالم" الصادر عن دار آرماتان في باريس العام 1996 ، قدم حمادي الرديسي تأريخا مفارقا وهو يصف الانتقال من التقليد التعددي في العالم العربي، إلى الحداثة التسلطية، وتنتمي الإثارة في هذا الكتاب إلى ديناميكة تحولات السلطة من الاحتواء الإمبراطوري إلى نشوء الدولة القومية. وما هو مهم هنا استقلالية نظرة حمادي الرديسي في النظر إلى هذا الموضوع الشائك والمعقد والسجالي بين المثقفين العرب، والذي يعمم غالبا بشكل فج وسطحي، فبين إيلي خدوري، وكنعان مكية، وفؤاد عجمي ـ بانحيازهم الفج ـ فوارق ظلية، إذ تبقى الديمقراطية ثقبا أسود في مجتمعاتنا التي دمرها الاستبداد والهوية الجذرية والفكر الاستئصالي عند الأخيرين، وهي قدر محتوم عند الأول، ما لم يفرضها العنف العسكري، وتجار السلاح، والشركات العابرة للقارات، وهذا يعني أننا مقدمون على نوع خطير من كوننة العنف العسكري، وسيادة البورصة المالية، وتسليع القيم والمنتوجات السياسية. وبالرغم من أن محمد أركون طرح في "نقد العقل الإسلامي" أداء تجريبيا ممتازا وذلك بالفصل المميز بين القيم المؤسسة للحداثة والتراث الفلسفي المرتبط بالعلوم والذي يمكنه تقديم شكل نافذ للتشكل التاريخي للعقلانية الإسلامية، إلا أننا لا ننكر تسلل خصائص المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعاتنا الحديثة والمبنية على الطراز الكولنيالي، فقد ورثنا الجوهر الثيوقراطي، والأثنية والطائفية والقبلية والتي تعوق تشكل الطبقة الاجتماعية، وقد تسلل ما هو أسوأ: السلطة التوريثية، والحكم الذي يقوم على تعسف الجهاز العسكري، وتوزيع الأعطيات والامتيازات على البطانة والحرس..والخ

وهكذا جرى انزلاق غير ملحوظ من السياسات في الإسلام إلى سياسات الإسلام، وبدلا من الإنتقال من اللاهوتي السياسي إلى التعددية المدنية، واجه المسلمون الحداثة بإنوذج واحد، وهو الخلط بين الروحي والزمني، فتحولت مجتمعاتنا مباشرة من الاستبداد المتعدد إلى الحداثة التسلطية والتي أفقرت بعنفها واستهتارها كل شيء. ومع ذلك فإن الكوننة في مجتمعاتنا أمر واقع ولا يمكن إنكارها، وهو ما جعل سمير أمين يصر بأنه لا يمكن تحليل أية قرية أو مدينة أو قبيلة أو أسرة إلا  في ضوء منظومة عالمية النسق الرأسمالي، وهو ما طرحه بروديل ذاته من زمن الحوليات والذي نعته بالاقتصاد-العالم. إننا نعيش عالما مكولنا بحق بدءا من شكل الدولة إلى التنظيم الاجتماعي الصغير، وهو شكل غير متجانس بالضرورة، شكل يتكون من امبراطورية الفوضى والتقليد من جهة، والحداثة المترجمة بشكل رديء من جهة أخرى. إننا نعيش في ظل السلطة التي تستمد شرعيتها من التعسف والسرية والتقشف في المعلومة من جهة، ومن جهة أخرى نعيش كوننة الحداثة عن طريق الصحافة والانترنيت والستلايت أو ما يطلق عليها أنتوني جيدنس في تابع الحداثة/ستانفورد 1990/ "الفصل بين الزمان والمكان"، إذن من أين يستمد المثقف مرجعيته التلقائية بالوعي بالذات..هل من الحداثة المترجمة أم من التقليد المتروك؟

أولا علينا أن نعترف: بأنه وبالرغم من هذه الكوننة التي عززت آليات التحكم السياسي والاجتماعي العالمي إلا أن الثقافة الكونية فشلت في صنع عالم متجانس ومتسق ولو بشكل عرضي، وذلك بسبب تيار الثقافة الإقليمية والقومية والدعوة الكاسحة إلى تكريس الاختلاف، فقد ذهبت كل ثقافة من الثقافات في العالم لبحث موضوع الاختلاف بشكل جدي وعلانية، وهنالك مشاريع كثيرة في الثقافة العربية لا للدعوة فقط لتكريس الاختلاف كما ورد في مشروع حسن حنفي والطيب تيزيني وغيرهم، إنما الدعوة لتأسيس مشروع فلسفي عربي كما دعا إلى ذلك المفكر المغربي طه عبد الرحمن، وهو أبعد بكثير من اللجوء إلى التيار السلفي لتكريس الخصوصية على نمط تشوه أوربي التمركز، كما يصفه سمير أمين في كتابه "نحو نظرية للثقافة-معهد الانماء 89" بالتمركز المعكوس، إنما هو مرجعية تلقائية للوعي بالذات عن طريق احتواء الآخر لا لرفضه حسب.

فآلية التحول الكوني القائمة على التدفق الإثني والتقني والمعلوماتي والإيديولوجي، وما يرتبط بتدفق الأفكار حول الديمقراطية والتنوير، ستقوم بتفكيك النظم الثقافية المحلية وتحاول إعادة صياغتها وتكييفها، فهي تنزع نحو الكونية بشكل لاواع وتتداخل مع ثقافة كونية حتى وإن كانت تحاول الإنفلات منها، كما أن الثقافات المتروبولية والمراكز الحواضرية ستتعرض هي الأخرى إلى الكوننة والتفكيك، بل إنها تعيش هي الأخرى عبر شبكات الاتصال الأحداث الغنية بالصور الاجتماعية الغائبة والقادمة من الثقافات البعيدة، لتصبح حاضرة عبر مسافات طويلة، ومنذ زمن بعيد.  إن صورة الميتا-ثقافة هي الآلية التي تجاوزت الحدود القومية للثقافات، وأصبحت الصور والرموز والممارسات هي التي تضفي شرعية الكوننة والتي تأتي تلقائيا عبر الشبكة، فهذا البناء العقلي يقوم على تغيير الموقع، وعلى تأكيد الانخلاع الجغرافي الذي يؤدي الى انخلاع ثقافي، وبالتالي فإن الثقافة التي ترتبط بتاريخ وهوية تتعرض إلى الاهتزاز أمام ثقافة ميتاقومية لا تاريخ لها ولا هوية.

ومن دون شك إن من يعيش في باريس وتورنتو ولندن هو غير من يعيش في بغداد أو طهران أو القاهرة أو كنشاسا، إننا نعيش الإشكالية مزدوجة، فيقف التعسف الادماجي والسياسي لهوية محلية طرفية مهمشة ذات ذاكرة مأساوية، أمام ثقافة هوائية لا ذاكرة لها، إننا نعيش ضربا من الامبريالية الثقافية، وأمام التعسف المفرط للسلطة الاستبدادية تتحول الامبريالية بعقلانيتها المفرطة وفكرها التنويري إلى فردوس للخلاص من أدوات القهر والسيطرة. لذلك هنالك خداع ووهم في كلا الحالتين، هنالك قبول للتوسع الاستعماري عبر الزمان والرضوخ إلى ثقافة السلطة الدكتاتورية في المكان. ومن هنا ينبع عجز الثقافة القومية من الصمود أمام نظام الصور المعممة من قبل الثقافة الميتاقومية والتي يمكنها أن توحد  فئات كبيرة من الناس عبر العالم بطرائق وأساليب حياة موحدة:  بنطلون الجينز، أكلة الماكدونالد، قصة الشعر، الأتكيت، والماكدونالدية، وأقصد به مفهوم جورج رتزر وهو المشروع التجاري القائم على العقلانية، والتنبؤ، والضبط، والذي صنع طبقا إلى الوجبة السريعة في الماكدونالدز "إنظر الماكدونالدية والمجتمع/سيج/93".

موت المعنى

إن موت المعنى في ظل نظام الدولة الاستبدادية يبرز بقوة بسبب هذا الفصل الكاسح والمروع بين سيادة العالم الافتراضي والمتخيل والذي نراه في شبكة النيت، وعالم التمثيلات الواقعية في الدولة الاستبدادية، كما أن عالم التمثلات الواقعية في الدولة الاستبدادية يخضع هو الآخر للفصل، وهذا الفصل هو ما أسميه بموت المعنى، ذلك لأن سلسلة التمثلات الوهمية التي يبثها إعلام الدولة الاستبدادية غير مقتع بالمرة، وهو عالم من الصور والاختلاقات الوهمية والزائفة أمام واقع يتهدم ويتلاشى، في حين أن عالم التمثيلات الوهمية للامبريالية الثقافية والمنقول عبر النيت لا يحيل إلى واقع، إنه يخلو من المعاني التكوينية، ويزخر بالصور والعلامات، لذلك فهو يخلصنا من الواقع الامبريالي..  فنحن لا نعيش هذا الواقع حقيقة إنما نعيشه عبر صورة منقولة عنه، نعيشه عبر القارة السابعة – أو إننا نعيش في القارة السابعة ذاتها كما يصف جاك أتالي شبكة النيت في مقالته الشهيرة التي تحمل الإسم ذاته والتي نشرها في مجلة اللوموند في العام 1977.

إن القارة السابعة عند أتالي هي التي لا يمكن التخلي عنها، هي القارة الخالية من السكان الحقيقيين، القارة التي تغذي تجارة هائلة بين وكلاء افتراضيين، هي قارة تدفق السلع الثقافية والمعلوماتية دون وسيط، دون ضريبة، دون تكلفة، دون دولة، دون نقفقات اجتماعية، دون نقابات، دون اضرابات سياسية، وتتحول هذه القارة عند جاك أتالي إلى فردوس التبادل الحر، والقدرة على بناء إنسان حر ونزيه ومجرد مما يمكن أن يوسخه، ويحده.  ولكن أين الواقع الممسوخ والمشوه في هذه اليوتوبيا الافتراضية الكاسحة، والتي يراهن جاك أتالي على البقاء فيها؟ ولأننا نخضع على الدوام إلى الوفرة الإعلامية والمعلوماتية المتواصلة، فإننا نتوحد -دون أن ندرك- مع السلطة والديكتاتورية للإمبريالية في العالم كله.

 لقد طرح بودريار في "شفافية الشر/غاليلة 1993" خوفه من هذه الوفرة التي تؤدي إلى تقارب المجتمعات من بعضها البعض بصورة شديدة، كما أنها تقارب الأفراد فيما بينهم، فتظهر السمة الاستلابية والموحدة لهذا التقارب، وقد أوعزه إلى التقليص الكلي للايديولوجيا الواحدة. إن مشكلة الامبريالية الثقافية تكمن في التصدع الاجتماعي والاخلاقي الذي يحدثه الاستهلاك الجماهيري للفرد، والذي يبرز نمطا اجتماعيا وفردنة غير مسبوقين، وهو نوع من تآكل الهويات الاجتماعية والذي يؤدي إلى الانصراف عن الأفكار، وإلى اللامبالاة الجماهيرية، ومجتمع الشعور بالانسحاق، ونرجسية الأفراد الفاقدين لكل قناعة، والمنشغلين بأنفسهم. ولكن هل كنا نحيا في مجتمعات النزعة القيامية بأفضل من هذا؟

كنا نعيش في مجتمعات سياسية قاهرة بشكل خرافي، مجتمعات جعلتنا نفقد إيماننا بأي وجود حقيقي ولأي شيء، لأن الحقيقة السياسية في هذه المجتمعات هي كلمة لا علاقة لها بما هو موجود بالفعل، وحين نعرف السياسي فأننا نعرفه بكلمات، بدوال أخرى، وبمزيد من الدوال، أما الشيء الحقيقي فيظل مراوغا وعصيا على الإمساك به، إن محنتنا كانت تكمن في عيشنا في ظل نظام ومجتمع يقدس هذه الدوال التي تحيط بنا-كلمات- صور-نماذج- من كل نوع، وكنا ندرك بأنها مهجنة وأن الواقع غائب كليا، ومع ذلك كنا نرى أناسا يقتلون باسم هذه الدوال.

كانت محنتنا تكمن في عيشنا بين آلاف الصور السياسية، وكنا ندرك أن تمثيلاتها أكبر من حقيقتها، وكانت الصورة المسجلة أو المطبوعة أو المرسومة تحل محل الحاكم في كل مكان، وهو ينطق بخطابات وأساليب لغوية سبقت وجوده، إنه يغير خطاباته بناء على المكان الموجود فيه، ولكن يصعب أن نعرف أين هو، كنا نعيش في شبكة من الدوال، كنا نعيش في مجتمع الحداثة الاستبدادية والتي تعني الدوران المستمر من انتاج دوال على دوال، وهذا يعني الاقتراب من موت المعنى والتصحر والذي يقودنا بالضرورة إلى البحث عن عالم آخر، إلى البحث عن عالم القارة السابعة على حد تعبير جاك أتالي، أو عالم النيت.

مشهد من بغداد في صيف العام 2002

في صيف العام 2002 كنت أذهب كل يوم تقريبا إلى مقهى للأنترنيت يقع بالقرب من وزارة الدفاع، في بناء مشيد على الطراز الكولنيالي، كان فيما مضى بريدا إنجليزيا من أيام الاحتلال البريطاني للعراق.  أدخل الباب. أقف أول الأمر في المدخل. ثم أقرر الجلوس تحت عيني الرقيب مباشرة (هنالك رقيب دائم يراقب الشاشات ويتحكم بالجالسين وبالمواد المقروءة). ثوان ثم أدخل عالم النيت...فأشعر بأني أصبحت بين عالمين اثنين:

بين عالم التقشف المفروض من واقع شحيح ومتنسك ومأساوي (واقع بغداد والرقيب والسلطة الاستبدادية)، وعالم النزعة القيامية للثقافة الكرنفالية المحررة.  بين عالم التجانس السياسي المفروض وعالم اللاتجانس النصي والتناقضات الصارمة المقبولة بشكل كلي.  أدخل عالم النيت، أدخل إلى عالم تنزع تحليلاته شيئا فشيئا نحو برودة أكثر جليدية من العالم القديم، أما الأدوات التي أتحسسها بأصابعي فهي صلبة ومحددة بصورة واضحة، ولكنها بكبسة زر يمكنها أن تقدم لي ما أريد وما أشتهي: "مقالة قديمة لهومي بابا، كتاب لكارل ماركس..صورة لمارلين مونرو دون بكيني.. شاعر من ساحل العاج، .."  كنت أعيش نوعا من الفوضى الخلاقة عبر التحكم الكامل بكل ما هو عارض وطارئ، ومن دون شك إن هذا العامل ذا الحضور الطاغي يمكنه أن يحدث خلخلة في العلاقات الاجتماعية ذلك لأن الذي يجلس إلى جانبي لا يحدثني ولا أحدثه، كما هو الحال في المقهى القديم.

 إنه المقهى الجديد الذي أجد نفسي فيه عنصرا فاعلا ومتلقيا داخل سلسلة من الاتصالات، دون أن أفتح فمي أو أتكلم، وإذا تكلمت فإنا أتكلم مع شخص آخر، شخص غائب في هذا المكان وهو موجود في مكان ما عبر البحار والقارات، أما ما يضمنا ويجمعنا فهو النيت. إنه الكناية الحقيقية لتقريب المسافات وتمازج الأزمنة، إنه الكناية الحقيقية للعالم الافتراضي الذي يصنعنا، إنه التاريخ الذي يجري للمرة الأولى تحت أعيننا، إنه الانحياز بعيدا عن السلطة، بل أصبح الانحياز بعيدا عن السلطة الاستبدادية -للمرة الأولى- ممكنا، ذلك لأن السلطة الاستبدادية ذاتها تتعرض للنقض الفوري والتآكل، ويدمر وجودها استمرارية المعلومات وسريانها. إن مفهوم الانخراط الذي تصر عليه الدولة يتهاوى، فأنت الذي تحتوي المعلومة وتتصرف بها، أنت تعمل في مؤسسة لا وجود لها، ولا أشخاص فيها، وليس لها أثاث ولا عقارات، أنت هناك في المعلومة، حيث يذوب الحد الفاصل بين المتعة والفضول، ويقترب حيز العمل مباشرة من حيز اللهو.

إن عالم النيت هو لعب حر وطفولي، وخال من أي هدف ذلك لأنك تدخل لعبة المعلومات دون إكراه، ويمكنك أن تصطاد المعلومات دون أن يكون لك حضور اجتماعي أو ثقافي أو سياسي يدعمك ويقويك. يمكنك أن تتصرف بالمعلومة من موقع بارز وحضور سريعين دون ضوابط اجتماعية، دون تشارك مستديم، دون أن تكون على بعد جغرافي مقبول. وأنت تنسى في هذا الانخراط الكلي التناقض الذي يجري على بعد أمتار منك، أنت تنسى في القارة الحرة مجتمع الاكراه والضغط في المقهى القديم، مقهى الجماهير أو مقهى حسن عجمي أو مقهى الشابندر، المقاهي الخالية من الانخراط التلقائي الحر والخالية من التجانس بين فاعلين أحرار، والخالية من أناس طارئين بلا هوية ولا هدف يلتقون على مصادقة تجريبية خالية من معايير الضبط الاجتماعي.

كنت أشعر ذلك الوقت بأن عالم النيت هو عالم أكثر حرية من أكثر النظم الديمقراطية المطبقة في العالم، ولكنها حرية قابلة للتلف والعطب السريع، لأني أغادرها وأمر من وزارة الدفاع بعد أن ينتهي الوقت المحدد وأعود إلى دولة الإكراه والضبط، إلى سلطة الدوال دون مدلولات، إلى المعايير والأشكال الانتظامية المحددة سلفا، إلى الصراع القديم الذي يتحدد اجتماعيا مع الفئة، وعمليا مع الدولة، إلى الدور الادماجي الذي لا يترك أي حيز للفعل الاجتماعي أو الفكري، إلى التصحر الروحي وفقدان الجوهر ومنطق الفراغ .