يطرح سمير الفيل في دراسته تلك القاص محمد عبدالله الهادي باعتباره استمرارا لمسيرة يوسف إدريس وعبدالحكيم قاسم في التعامل مع القرية المصرية وتجسيد إنسانها وعوالمها التحتية.

الذات والآخر في سرديات ريفية

سمير الفيل

 

يمثل الاحتفاء بالريف ومفرداته مركز ثقل النص السردي عند كاتب مهم، اعتبره ومنذ قرأت مجموعاته الأولى حلقة من حلقات السلسلة الذهبية للواقعية في القصة المصرية المعاصرة، وأقصد به محمد عبد الله الهادي. فبقدر ما جسد يوسف إدريس عنفوان الحكي في ديوان السرد المعاصر، وبعمق إضافات عبد الحكيم قاسم بنفسه الصوفي وتجديده في اللغة، بقدر ما وجدنا تشكيلات طازجة تعالج الريف وتغوص في عمقه بعقلية الأزهري المستنير كما فعل عبد الفتاح الجمل في "محب" بثيماته الشعبية المكتنزة بالبهجة، أو لدى سليمان فياض بقدرته على التجريب في أقانيم اللغة، أو مثلما نجد عند محمد روميش في حدسه القوي وتشكيلاته الجمالية المفعمة بالرغبة "الليل الرحم" على سبيل المثال، وحتما ترددت أصداء الواقع بمنحنياته، وتعريجاته، وسككه البعيدة على يد أجيال جديدة قدمت كشوفات جمالية باهرة، وعمقت من مفهوم الحكي ودرجة بروز الخطاب أو إضماره على حد سواء.

 في تجربة محمد عبد الله الهادي ـ حيث نقدم هنا قراءة لمجموعته الجديدة "امرأة وألف وجه" ـ نستشعر بالوجود العياني للريف المصري بلا تحريف أو تزييف، بلا غموض أو مباشرة، كذلك نلمس مكابدات الذات في حوارها المرتبك مع الآخر. إنه القلم الذي يمكنه أن يعيد تشكيل هذا الريف تشكيلا معماريا من داخله فلا تستشعر بأية غربة أو معاظلة ذلك أن الكاتب يتوحد مع تجربته كل التوحد، فهو يكتب ما يعرف، ويعيش يوميا في نفس الأجواء التي يعالجها في نصوصه. ليس معنى هذا أنه يستسلم لرتابة الحياة التي يعرفها بل أنه يقدم على مغامرات أسلوبية بليغة تعلن عن روح متحررة من الجمود، والتقليد، والتكرار. إنه الريف الذي يبدو في مادته الخام الأولى، حيث المنابع الأصيلة للحكي، وحيث الشخصيات تتحرك بنفس ثقلها المادي فلا تبدو كأشباح خرجت من بطون الكتب، بل هي شخصيات من لحم ودم تعكف على أعمالها بروح المسرة والاتكال على المولى، كما كان يفعل جدنا العظيم يحيى حقي في حكيه المشرق اللذيذ. شخصيات القصص رغم واقعيتها فيها مسحة تخييلية، وامتدادات أسطورية برغم كل ما سنجده في تفصيلات الحكايات من قهر وعسف وقلة حيلة، وما سيصادفنا داخل تلك النصوص من خوف ورهبة وانعدام عافية، بل من تزعزع المفاهيم القديمة جزئيا، والحرص المبالغ فيه على أن تظل تراتبية الطبقات كما هي لا تمس. فالمياه لا تطلع إلى العالي، والدم لا يمكن أن يتحول إلى ماء. مثل هذه المقولات القديمة تتجدد عبر الأحداث، وتشي بنوع من الاتفاق الضمني على العلاقات المتجذرة منذ زمن بعيد في أرض الواقع، فهي بتلك الصفة تمثل قانونا عمليا ونفعيا وعرفا اجتماعيا سائدا داخل القرية أكثر منه نزوع أخلاقي.

والآن أراني ميالا إلى الولوج إلى ساحة النصوص التي بين يدي لأتلمس العناصر الفنية الحاكمة، والسمات التشكيلية البارزة التي تتميز بها عوالم الكاتب، وقبل أن أتناول تلك العناصر ينبغي أن أتوقف أمام بعض السمات العامة التي تطرحها تلك النصوص، والتي تجعلنا نؤكد أن هذا الكاتب يمتلك أدواته، ويستطيع أن يحرك تلك الأدوات ببراعة وحسن تدبير كي يقدم لنا صورة حقيقية لا تخلو من بهجة ومرح ونفاذية لشخصية الرجل البسيط الذي لا تشغله متاعب الحياة عن تلمس حكمة الكون، والوقوف بعمق إيماني عميق الغور أمام المكابدات اليومية مهما كانت موجعة وتمس الذات أو تطوق أقرب الناس لأبطال النصوص. إن الفقر والعوز المادي لا يؤدي إلى انحطاط روحي ملموس، بل أن العكس هو الصحيح، ففضيلة هؤلاء الناس تكمن في قدرتهم الفائقة على أن يتناغموا مع " القسمة والنصيب"، ولذلك ستدهشنا مفارقات عديدة لأفراد يصلون إلى حد الرفعة والسمو بالرغم من كافة القيود المحبطة التي تحيط بهم.

تغلب على نصوص الكاتب ثيمة الثنائيات بين الخير والشر، وهي تتكرر بشكل ملموس لكنها لا تمنع القاص من الانفلات من القواعد الرصينة للفن في رسوخه، توجها نحو مغامرة التجريب بكل آفاقها الرحبة الممكنة. إن لديه نزق الفنان في محاولة اقتناص الدهشة، والتشكيل المغاير، وتلمس نطاقات تخييلية أمكنها أن تثري فضاءات النص دون أن تعرقل انسياب الأحداث. الحياة الموارة بالفعل والحركة، وأنفاس الناس هي عقيدة الكاتب الفنية، وسنكتشف مع كل نص أن الكاتب شديد الإخلاص لناسه، بالطبع هو متورط حياتيا معهم، لكنه قادر على أن يكون عينا ناقدة للأحوال، دون أن يمنع ذلك من تعاطفه الحميم مع شخصيات لها وجودها العياني، لكنها تأتي هنا مسربلة بروح الفن.

ليس من شك في أن المتعة الفنية متحققة في أغلب القصص التي سنتطرق إليها حالا، وهذه مسألة ضرورية لكل كاتب مجيد، فلو أننا أهملنا ما تمنحه إيانا القصة من رهافة وجمال وعذوبة فسنخسر كثيرا ،وسنكون أمام أحداث خبرية حيادية أو تقارير جامدة، وهو ما نجح الكاتب بدربة ويقظة في تلافيه، فكل نص يمنحنا معرفة حقيقية بأحوال أهل الجزيرة، ولكنه يقدم في ذات الوقت كشوفا جمالية تشحن أرواحنا بالبهجة. تتجلى هذه القيمة العظيمة حين نلامس السرد الحي الموار بالحياة الذي يشعرنا بقوة الدفقة، وبانسياب الأحداث في مرونة وحركة مستمرة لا تعرف الثبات. هنا يناقض الكاتب قانون القرية المتعرف عليه، والذي يعتقد البعض أنها ساكنة تماما فيكشف عن كم التحولات التي مسَّت البلاد والعباد من خلال أحداث واقعية لكنها لا تخلو من مسحة تخييلية خلاقة.

تأسيس جماليات جديدة للأمكنة:

يعتمد بناء النص في أعمال الكاتب على استحضار المكان، ففيه تدور الأحداث وتتحرك الشخصيات، وحين يضيق المكان عن الذات تتسع اللغة لأشيائه. المكان عنصر حاكم، وله حضوره المادي ومرتكزاته الصارمة، إنه الإطار الذي يجمع الشخصيات، لكنه يضفي ظلاله على الشخصيات فيلونها بريشته الرمادية أو الزاهية. ديار طينية، أو ساحات واسعة، أو دوار العمدة نفسه، وربما شارع قديم في المركز المهم أنها أمكنة تضيء الفعل الإنساني وتؤطره بوعي وحساسية :

( كانت تنتظره مع كل غروب أمام الدار، أمامها الراكية مرصوص عليها هرم صغير من قوالح الذرة أو أخشاب التوت، تذكي النار فتهلل ألسنتها عاليا، تنير الدرب المعتم المار بجوار الجبانة حتى باب داره، ما أن يراه الطفلان حتى يندفعا نحوه، يقذفان بدنيهما الغضين عليه، يحملهما حملا بقوة ساعديه تحت إبطيه، يتمايل بهما كجمل حقيقي أصيل ) " جمل حمدان، ص 88".

للمكان سطوته، وخيوطه التي يمدها فنرى الوقائع أفضل. وهذه القصة تتحدث عن "متولي الجمل" الذي تهجره زوجته "شلبية" لضيق ذات اليد، فتذهب لأبيها عيسى، وفي كل مرة يتدخل الشيخ تهامي (الضلالي) ويعيد له زوجته لكن هذا يتم بعد أن يستنزف قواه الجسدية في تطهير المصفى أو عزق الأرض، أو غيرها من أعمال مرهقة. يقرر الجمل أن يستعيد المرأة بنفسه، وفي لمحة ساخرة لا تخلو من ظرف يصور مشهد المواجهة، فحين يحتدم الحوار بينهما تختلس النظر لزوجها فإذا بحيوانه المكشوف يفضح سره، فتلوح على شفتيها ابتسامة ماكرة، ويتضرج وجهها بحمرة الخجل، أما هو فيفهم سبب ضحكاتها التي تصاعدت، وهنا تحل المسألة باتفاق غير معلن بينهما على الرجوع. لقد تحركت لديها مشاعر الأنثى، لذا عادت قريرة العين إلى بيتها، وهنا يتمرد الفلاح الأجير على الشيخ، ويؤكد له في حوار عاصف أن من صالحه على زوجته هو ذكره. يضج الخلق في فراندة دكان مشرف بالضحك، ويستعيد الرجل المقهور بفقره بعضا من كرامته المهدرة.  تتحرك عدسة القاص في الأسواق، والمصرف، والجامع، ودكان مشرف، وبيت عيسى أبو غريب بحيوية، مما يجعلنا نتفاعل مع الأحداث ونشارك في رؤية المأساة وهي تتشكل بوجودنا ونحن ننتقل بوعي عبر الأمكنة فلا نكتفي بالمشهد الثابت بل يتحقق لدينا عنصر الصورة في تشكلاتها المختلفة، وهذا إنجاز جمالي حقيقي حين يخرج النص من سكونه المفرط إلى دينامية الفعل الإنساني الخلاقز

حكايات مشحونة بالحيوية:

 من أجمل ما تضمُّه المجموعة قصة مؤثرة لطفل كان يسكن في حي شعبي، يرتبط سكانه بعلاقات حميمة فيما بينهم وقد كبر الطفل وصار ضابطا مرموقا. إنه يحاول أن يستعيد تلك الذكريات الحميمة بالذهاب إلى شارع الشاكوشي، وهناك يعثر على حلاقه القديم، بالطبع لا يعرفه الرجل العجوز الذي حول صالون "العروبة" العتيق إلى صالون "جولدن فينجرز" وتكون رحلة التذكر هي استعادة كاملة لحياة قديمة، مرَّت عليها سنوات. على أن الكاتب لا يكتفي بتلك المسحة الرومانسية التي تظلل الزيارة بل يدفعنا دفعا إلى أجواء مشكلة حدثت حين أتى "وليد" ابن المأمور فجلس على مقعد فخم كي يزين الحلاَّق شعره، وكان "ميمو" أو "أيمن" بين يدي الرجل مع أمه فتركه المزين نفاقا وراح يقص شعر الطفل المدلل ويمنحه بعض الحلوى. موقف قديم وعابر لكنه يمثل علامة فارقة في حياة الطفل الذي صار ضابطا، وقد تمكنت الأم بحدسها من أن تنقذ ابنها من أزمة نفسية خانقة حين رفضت هذا التصرف المعيب، وهو ما أجاد الكاتب رسمه فكأننا في قلب الحدث لم يغادرنا لحظة، وفي مناطق كثيرة سنجد الحكاية مشحونة بطاقة هائلة من التعبير، وهذا معناه امتلاك الكاتب القدرة على تحريك الشخصيات بمقدرة وفهم عميق لمكنوناتها السيكولوجية:

( جاءني صوتها الحنون من جوف قلبها يخترق ظهري، ويستقر بصميم فؤادي، عندما ضربت صدرها بكفها، وهتفت ملهوفة: "يا حبيب قلبي يا بني" وهبت واقفة كنمرة ثائرة أوشكت على فقد وليدها بغتة، أمسكت بمعصمي بقوة تستعيدني وتضمني إليها، انتزعت المشط من شعري، وألقته أرضا، ونظرت للأسطى أنيس ـ بعينين لامعتين ـ بنظرة لن أنساها ما حييت، وكان وجهها يتضرج بحمرة الغضب، عندما قالت له بعتاب لا يقبل الصفح: " كدا يا أسطى أنيس. ده يصح يعني؟" جولدن فينجرز، ص 42".

 ليس من شك أن الكاتب استطاع أن يستحضر الموقف بكل دقائقه، فردنا للماضي لا بقصد إعادة الساعة إلى الوراء، ولكن كنوع من الحنين لذكريات مضت، فيها كان الارتماء في أحضان الأم ممكنا، وهي التي مثلت في هذا الموقف بالذات كل معاني العطف والحماية، ناهيك عن فهم مغزى النظرة المنكسرة التي أطلت من وجه الصغير. اللغة شاعرية في بداياتها، لكنها تتحول شيئا فشيئا إلى لغة مقتصدة حادة توائم الموقف الصادم الذي تم. لا يتوقف "أيمن" عند تلك اللحظة الدراماتيكية الصعبة ولا ينتظر اعتذارا مؤجلا من عم أنيس. إن وجوده في هذا المكان يمثل ترديدا لبكارة المشاعر التي غادرته مع تقدم الزمن، ويأتي صوت فايزة أحمد ليخترق الأزمنة ويلون المشهد كله بدفق إنساني رهيف، وهي تغني بعذوبة أغنيتها الشهيرة "ست الحبايب يا حبيبة". هي اللحظة التي يتأمل فيها وجه عم أنيس في المرآة فيكتشف اختفاء وتلاشي تجاعيد وجهه، وعودة نضارته وحمرة شبابه، وهنا يستنشق أنفه رائحة الكولونيا الزكية التي تتضوع من ثنايا ثوبه. إنه يعيش في زمن ماض لدقائق ربما يسعد ذلك قلبه المرهق.

رياح الخرافة تهب على استحياء:

في المجتمعات البدائية تميز الإنسان بعمله مع الطبيعة، وما لبث أن انفصل عنها وظل يعمل ضدها، وبتقدم المجتمع تحرر الإنسان كثيرا من هذا الارتباط القسري، وإن ظلت المجتمعات الزراعية تحمل حنينا غامضا وهواجس غير مسورة باتجاه ما تملكه قوى الطبيعة من سطوة قوية وسحر متجدد تجاه بني الإنسان.

هذا ما كان يحدث في الحياة بصورتها الأولى، وهو ما يحدث في الحياة حاليا مع خفوت هذا السحر أو تحوله لمناحي أخرى، وبالتالي ينعكس في الفنون جميعا بما فيها السرد، "فإذا كان هذا قد تحقق في المجتمع حيث تميز الفن ـ تعبيرا وتصويرا وتشكيلا وتمثيلا ـ عن العمل، لكنه لم ينفصل عنه. ولقد حقق هذا الفن نوعيته الخاصة باعتباره صورة من صور الوعي الاجتماعي وشكلا من أشكال الثقافة ودرجة عليا لإدراك الواقع جماليا، وفي ذلك المجتمع نظر البشر إلى عالمهم نظرة سحرية أسطورية ناسبت خبرتهم التكنيكية وبناءهم الاجتماعي، وجعلت ـ سحريا ـ أحلامهم في السيطرة على عالمهم وأهدافهم العملية التي تقصر خبرتهم وأدواتهم عن تحقيقها واقعا"(1) كان حضور الخرافة مغذيا لتلك الخبرة المشوشة التي لم يستطع الفنان أن يستوعب أسرارها بعد كل الاستيعاب ؛ لذلك انعكست على فنونه وآدابه.

يمتلك الكاتب خبرة لا بأس بها في التعامل مع الخرافة كعنصر متواجد بالريف، لكن داخل الفنان مقدرة على امتلاك القدرة على اقتناص التاريخي ودمجه في اليومي من خلال عملية سرد محكمة، وهو على مستوى التقنيات السردية يتمكن من التعامل مع عناصر الخرافة التي أشرنا إليها بقدر كبير من الاستبصار والتفهم. الخرافة مبنية في الأساس على عدم معرفة كاملة بجوهر الأشياء، ولكنها تقوم بدور رئيسي في تحريك الأحداث ونقلها من الهامش إلى المتن. في قصة ( البلغة مرة أخرى ) يرتكب العمدة إدريس أبو جريدة خطيئة عمره حين يصفع الشيخ الدرويش على وجهه أمام رواد "الغرزة"، فيدعو عليه الشيخ باسمه المجرد، ويفوض أمره إلى الله، ثم يمضي ذائبا في سوق الاثنين. يظن العمدة أن الشيخ قد انتقم منه حينما يمرض مرضا عضالا لوى وجهه ببشاعته المخيفة. ينتبه العمدة لخطورة ما حدث وتشاطره زوجته "الجازية" مخاوفه، ولم يكن هناك بد من استدعاء الدرويش في محاولة مستميتة لإرضائه. يرسل العمدة بسطويسي كي يأتي ببلغة قديمة ليلطم بها وجهه عله يشفى. بلغة  "وصيفي" الذي لم يعرف النفاق في تعامله مع العمدة ورجاله تكون هي المطلب، وينجح بسطويسي فعلا في الحصول على البلغة حيث يذهب بها إلى العمدة فيقوم الأخير بصفع وجهه المشوه حتى يسيل الدم مدرارا. يستخدم محمد عبد الله الهادي تقنية الحكاية داخل الحكاية، وتحتشد قصته بكم هائل من الخرافات، لكنها ـ أي تلك الخرافات ـ تبدو مفردات أصيلة في حياة القرية، منها مثلا أن والد العمدة عبد العظيم حين تأخر في الإنجاب ذهب هو وزوجته إلى دراويش الشيخ القطب الصوفي "أبو مطاوع"، ويهوي واحد من الدراويش على ظهر المرأة بسعف نخيل "جريدة" قرب الضريح وهو يبشرها أن في بطنها جنينا "أبو جريدة" ويأتي الوليد بالفعل ويسمى إدريس، ولكن الناس تسميه "أبو جريدة" ولا نملك أمام هذه الحكاية وغيرها سوى أن نستعيد ما لدى العامة في الريف المصري من معتقدات شعبية تمسك بزمام توجهاتهم خاصة في شئون الإنجاب والزواج والميلاد والموت. الرجل الصوفي، والشيخ الدرويش لهما وجود كثيف ومؤكد في تصاريف الأقدار، وثمة تفصيلات متنوعة تؤكد هذا المنحى، فمعجزة الحمل الإلهية يكمن خلفها سر ما تخفيه جريدة النخل الخضراء، وكأنها هبطت من السماء عبر الرجل الطيب الذي ستكون الصفعة من نصيبه، فيزوره في منامه ويطلب منه أن يطهر روحه من الدنس، وتتصاعد الأزمة التي تنتهي بحادثة البلغة.

" البلغة " مفردة محورية في الكثير من نصوص الكاتب، وهو يستخدمها ببراعة في تحريك الأحداث، ولا يقتصر دورها على أن تشفي مريضا أو تجعل شخصا فقيرا يتخطى طبقته الاجتماعية، بل هي وبالقدر نفسه تشير إلى وضاعة الإنسان ومصيره الذي سيكون إلى التراب، وهي نظرة فلسفية يكمن خلفها تأمل عميق لمصائر العمد وشيوخ الغفر وكل من أراد سوءا بالفلاح الفقير المعوز. لكننا سنعود ثانية إلى الخرافة التي لا يوظفها الكاتب كحلية في النص بل يتم تضفيرها بحرفية داخل البناء السردي بمدى ما لها في الواقع من أثر، وهي تجمع بين صبوات الناس وأحلامهم، وبين الإمكانية والقدرة على إحداث الفعل المراد. هذا هو نطاق عمل الخرافة مع ما فيها من شطحات وخوارق وسحر أسود كامن في جذرها الحي. يشكل الكاتب بنيته السردية دون أن يسقطها من حسابه لكنه في المقابل لا ينتصر لها بل يعريها أو يفرغها من مضمونها. وتكاد الأحداث في هذا النص تتدافع وتتولد الحكاية من داخل الحكاية في سرد قوي، حي، وخلاق. لا تفلت الخيوط من يد القاص الماكر الذي يعرف كيف يبدأ ومتى ينتهي وإلى أين تتجه الأسهم الدرامية في نصه لتصيب هدفها بحذق:

(في الغرفة المغلقة، كان العمدة وحيدا، جالسا أمام المرآة، كاتما مشاعره المتناقضة بجهد هائل، ينوء به ويفوق طاقة تحمله، مؤملا بصبر في الانعتاق من أسر "أبوالوجوه" الرهيب الذي شوه خلقته بيده بلغة "وصيفي" القديمة، رفعها فوق وجهه مترددا. كم من الوقت مضى حتى واتته الشجاعة وضرب الضربة الأولى؟ كانت ضربة خفيفة وسريعة، تكاد تلمس وجهه لمسا، رغم اهتزاز يده، أحس بقليل من الدماء تناوش وجهه المعوج. تشجع أكثر وضرب الضربة الثانية بقوة أشد قليلا على صفحة الوجه المشوه. تدفقت الدماء أكثر، شملته نشوة غامرة كنشوة حشيش " شندي" عندما تتسلل في تلافيف وخلايا رأسه، وتسبح به في سماوات الجزيرة، ضحك ضحكة جانبية معوجة بركن فمه، سمع لها رنينا غريبا في أذنيه) " البلغة مرة أخرى، ص 28". هي ضربات الخرافة على وجه ظالم معتم، وفيها يتصاعد إيقاع السرد الذي يعلن عن مأساة العمدة في تلك الجزيرة التي يتعايش فيها الطيب والشرير، المؤمن والعاصي، والتي لها عرفها الخاص الذي يعصف بكل قانون وضعي. يكبّر الكاتب اللقطة ويضعها في مواجهة المتلقي دون أن يطلب منه إدانة أو موقف مبدئي، كل ما يهتم به أن يكون أمينا في رصد ما رآه وعايشه، وتكتمل وظيفة الفن في خطوة تالية بعد قراءة النص

ثنائيات في الحياة ... أضداد في الفن:

تمثل الثنائيات الضدية عنصرا أساسيا من عناصر السرد لدى محمد عبد الله الهادي ؛ فالوجود كله يقام على حركة الأضداد، ومن خلال ما يمثله الصراع القائم بينها تزدهر الدراما، وقد نتوقف قليلا أمام ما يمثله وجودنا من حضور ينازعه غياب قسري قائم ومحتمل، لاشك أن وعينا الشخصي يتفتح على تلك البديهية، ولا يمكننا الفكاك منها في الحياة حيث توجد الكثير من الأسئلة الحرجة والغامضة التي تعترض مسيرة الإنسان، وتجيب عليها أفعالنا وقدرتنا على الحركة وضرب السكون.  في قصة "ابنان من رحم الليل" نعثر على تلك الثنائيات سواء في تكوين الشخصيات أو الفعل الإنساني، وللثنائيات القدرة على إبراز الأضداد، وتوليد الدلالات بما تقدمه لنا من عملية مساءلة للوقائع في عمقها واتساعها، وهي أسئلة قلقة وحائرة لكنها ليست عصية على الإجابة. في عمق الليل تشق صرخة مستغيثة سكون القرية، فاللصوص قد تمكنوا من سرقة جاموسة "أبو إسماعيل" ويندفع الخفير (وهو يحمل هنا قناع الراوي) فيطلق نيران بندقيته على الأشباح التي يلمحها فتفر تاركة الغنيمة، وهنا تقع عينه على شخص اسمه "عصفور" مجروحا فيعتقد أنه قد قاد محاولة السرقة، ويعتريه الغيظ لأنه عاد للإجرام بعد توبته. يسوق الخفير الجاموسة نحو دار الفلاح ويتجمع أهل القرية يباركونه، وحين يعود للص القديم الذي كان في يوم من الأيام رفيق طفولته، يكتشف أنه هو البطل الحقيقي فقد تصدى للسارقين الفعليين وهو ابن الليل الذي يعرف مسالكهم، لذا حاولوا الإجهاز عليه. "عصفور" المجرم القديم في موقف فيه ارتباك وتبادل الاتهامات، ويبدو أن خبرة الكاتب جعلته يتخلص من الحكاية ببعدها الأحادي فيقدم للمتلقي لمحة من حياة الطفولة المشتركة فتتوحد الثنائيات قبل أن تتفكك بفعل الزمن الذي يدور دورته. نلمحه هنا يحدث نفسه قبل أن يكتشف الحقيقة :

( سمعت نهنهته، بكاء ندم أم خيبة أمل؟ هل رثيت لحاله الصعبة، والدماء تسيل على وجهه، إذا ما عرفوا أنه اللص، وضربه أحدهم ضربة، سيروح فيها للموت. تركته بجوار الشجرة، وأنا أعلق بندقيتي بكتفي، مشيت على أطراف أصابعي حتى لا تجفل البهيمة الخرساء، أو تتخبط في عمى الليل بالأشجار، وأفلحتُ في الإمساك بمقودها، سحبتها بهدوء بين مسالك الأشجار، وأنا أفكر في هذا العصفور اللعين. " عيش وملح وزمالة عمر ؟! " ) " ابنان من رحم الليل، ص 77".

 إنه اتهام لا سند له من الحقيقة، لكن "عصفورا" يمثل طرف الثنائية حيث نجد الراوي يلقي بالخبر المحمل بشكه، ثم يتقصى الوقائع، وسرعان ما يكتشف خطأه فيدرك أن الحقيقة صعبة، وليس من السهل الاهتداء إليها بكل خبرته السابقة. تشكل غواية الاتهام وعجزه عن زحزحة الصورة السابقة لابن الليل حاجزاً أمام التواصل الإنساني مع لص تاب وأناب إلى الله غير أن أصابع الاتهام تشير إليه في كل حادثة بالقرية، لتتحقق المقولة الشعبية " ياما في الحبس مظاليم "، وأحب أن أؤكد على رسوخ الموعظة، وذيوع الحكمة، وأثر الحكايات الشفاهي في أدبيات الجماعة الشعبية، ذلك أنها مبنية على خبرة الجماعة في محكَّات حياتية وتشمل كل فنون الحذف والإضافة، والتحوير والتدوير.

نصاعة الخطاب السردي:

يحمل كل نص قصصي خطابه السردي، ويشمل المقولة الأساسية للسرد، وقدرتنا على اكتشاف البعد الكامن وراء الصراع بأوجهه المختلفة. الخطاب السردي عند محمد عبد الله الهادي ينهض على نظام ترتيب الأحداث، و إبرازالخط الذي تسير عليه الوقائع، مع التركيز على البعد الزمني الذي يجعلنا قادرين على رصد مفهوم الحكاية مع ما تبثه من شحنات تعبيرية خلال عملية السرد ذاتها ويمكن الاستدلال على هذا الخطاب من خلال هذه القرينة المباشرة أو تلك، و " من البدهي أن إعادة التشكيل في الحكاية الكلاسيكية ليست على العكس من ذلك ممكنة في أغلب الأحيان فحسب بل هي ضرورية أيضا، وذلك للسبب نفسه بالضبط، وهو أنه عندما يستهل مقطع سردي بإشارة ما، فعلينا أن نعرف في الوقت نفسه : هل جاء هذا المشهد بعد في الحكاية، وهل كان مفترضا أن يكون قد جاء قبل القصة فالصلة ـ صلة التقابل أو التنافر ـ بين هذا وذاك أساسية للنص السردي ؛ وإلغاء هذه الصلة بإقصاء أحد طرفيها، ليس اقتصارا على النص، بل هو ـ بكل بساطة ـ قتل له " (2) 

كل قصة تحمل خطابها الإبداعي ومرجعيتها الفكرية، وقد يندمجان في أحوال محددة، وقد ينفصلان أمام المتلقي في أحوال أخرى حسب السياق، والحقيقة أن الخطاب السردي لدى الكاتب يتسم بنصوعه، وذلك لأسباب موضوعية منها أن محمد عبد الله الهادي يمتلك رؤية فكرية يعمل على تسريبها خلال هيكلة النص، كما أنه متفهم لعنصر مهم وبناء،وهو إمكانياته في الكشف عن المفارقات الزمنية السردية حيث يعمل عليها على مهل، محاولا أن يحقق نوعا من التوافق الزمني التام بين القصة والحكاية ولاشك أن هذه الحالة ـ وكما يقول جينيت ـ افتراضية أكثر مما هي حقيقية، ويبدو" أن الحكاية الشعبية أن تتقيد في تمفصلاتها الكبرى على الأقل، بالترتيب الزمني، لكن تقاليدنا الأدبية " الغربية " بدئت ـ على العكس من ذلك ـ بأثر مفارقة زمنية متميزة " (3) 

 يعكف الهادي على إبراز الخطاب القصصي اعتمادا على تحقيقه لمفهوم السرد في الزمن، والسرد عبر المكان، والشخصيات في صيرورتها، وسنكتفي بإبراز الخطاب السردي في نص واحد حتى يمكن أن نقيس عليه بقية النصوص. هناك قصة " خارج الخدمة "، وهي تحكي حكاية يحيى عبد الواحد مدير قلم بإحدى الهيئات الحكومية حيث يجد نفسه الرجل الوحيد في الغرفة مع مجموعة نساء لا يلتفتن إليه ربما بحكم السن والتكرار والعادة، فيستمع من أفواه النسوة ـ طبعا دون قصد منهن ـ إلى مغامرات ليلية مشحونة بالعواطف، الشيء الذي يدفعه لاصطناع علاقة " كلامية " مع فتحية عاملة البوفيه العانس، وهنا تستشعر النسوة الخطر الداهم فيتوقفن عن تحرشاتهن الكلامية، ويفوز هو بالسكينة والهدوء. هذه فكرة بسيطة عن القصة لكن بترتيباتها الزمنية للأحداث وبإعادة رصف المشاهد يمكننا أن نقدم الخطاب السردي التالي : " كل رجل مهما بلغ من العمر عتيا يمكنه أن يمثل خطرا على جنس النساء "، ومن المستحسن أن نعود للعبارة التي ضمنها الكاتب مقدمة نصه فهي تقدم الخطاب السردي بشكل آخر. يقول جابرييل جارثيا ماركيز : " خطر لي أن أحد مفاتن الشيخوخة هي الاستفزازات التي تسمح لأنفسهن بها الصديقات الشابات اللواتي يعتقدن أننا خارج الخدمة " ومثل هذا الخطاب يلخصه المثل الشعبي العتيد " الدهن في العتاقي " لكن بين مقولة ماركيز ومثلنا الشعبي مساحة شاسعة لتقديم أنخاب خطابات متقاطعة، متشابكة، على شريطة أن تتضمن عصارة التجربة السردية وخطها البياني المتنامي.

غير أنني، وقبل أن أغادر هذا النص أود أن أشير إلى أن الأحداث جميعها تجري داخل مكتب حكومي بإحدى الإدارات التعليمية، لكن خفايا الريف وسلوكياته، وأدبياته، بل مسحة الخرافة التي أشرنا إليها في قصة " البلغةز. مرة أخرى "، والاحتفاء برسم معالم الشخصية النفسية نجدها هنا حاضرة ومكتنزة بالمعاني الثرة التي كشفنا عنها، وهي تكمن في كل منعطف بالنص، ولنأخذ هذا المقطع على سبيل المثال:

( لكنهن يرينه كخيال حقل فقد وظيفته بانكشاف سره، خيال مهلهل له شكل الذكر الحقيقي لكن كل ما فيه مزيف، وصارت الطيور تحط على رأسه وتتبول عليه قبل أن تغزو الحقل، أو لأنهن بتن يعتقدن بصورة أخرى أنه في هذا العمر رجل خارح الخدمة. رجل مدجن كخصيان القصور المملوكية الذين لا يملكون أية حبال تخيف بين أرجلهم ) " خارج الخدمة، ص 67 "

حضور كثيف للمرأة:

تمثل المرأة الريفية سندا قويا للرجل، فهي تساعده وتشد من أزره، وقد تعاونه في أعمال الحقل، وإذا حدث أن غاب فهي ترعى الأسرة وتقوم بكل أدوار الرجل الأساسية من إنفاق على الصغار وإضفاء الحماية عليهم. ولما كان المجتمع وسيط لنقل الخبرة من الأم لصغارها فهو يشكل في ذات الوقت مرجعيته خاصة مع تخليها عن نطاق العلنية في تلك الرعاية كي تكون ظلا أو ترديدا للرجل : الأب، أو الزوج، أو الأخ الكبير أو الابن اليافع.  المرأة هي رمز الخصوبة، فهي تحمل سمات العطاء والتوالد و" الرحم " لكن الكاتب قد يجنح أحيانا ليتوغل في مساحات مسكوت عنها في الريف المصري حين تكون جلسات النسوة للثرثرة وقتل الوقت، والرغبة في التخلص من سطوة الرجل بالفعل أو القول أو حتى بالإيماءة. في مشهد بالغ الدلالة تخرج " أم عبده " من باب الدار وهي تلعن حظها الذي أوقعها بزوج غليظ القلب جعل ليلتها سوداء عندما حضر قبل أن تطهو الطعام وكان جائعا، فتراها زوجة سند الجمال التي يضربها زوجها مع تقتيره وبخله، أما نبيهة فقلبها يوجعها على ابنها الغائب، وتأتي أم فوزي إلى ثلاثتهن فتخبرهن بموت جارة لهم سكنت بعيدا عن القرية بصحبة زوجها عامل المعمار (وكأن الخروج من القرية نذير شئوم ويعني الموت) فيتحسرن عليها، وتستمر الثرثرة، حتى يوشك الرجال على العودة ساعة الغروب إلى منازلهم، عندها فقط تتسلل كل امرأة لبيتها لتفكر في حجة تقيها غضب الرجل حيث كان الكلام بديلا عن الطهو.  خطة الكاتب في استحضار عوالم المرأة تتسم بالقوة والنفاذية، وهو يعتمد على السخرية في الحوار الذي ينهض على مفارقات جمة، ويقوده حدسه كي يمكن للمتلقي أن يرسم صورة كاملة لنفوذ المرأة في الريف رغم انكسارها الظاهري، ودموعها المدرارة في كل انعطافة سردية:

(كن يبكين بصوت عال، وينشجن وينهنهن، ويمسحن عيونهن بظهور أكفهن، ويبصقن على التراب، واختلط بكاؤهن بالكلمات المتطايرة من شفاههن.

" ـ أم اسماعيل. الطيبة. السكرة. ألف رحمة ونور". كانت سيمفونية البكاء مازالت مستمرة، عندما اختفت شمس المغيب عند حافة الكون). " سيمفونية الغروب، ص 130".

مثل هذه اللمسة الإنسانية التي تدمج غروب الشمس بموت الجارة وارتباط مفردات الريف من نهر وشجر وطير وحيوان وساحات ومصارف بالجو النفسي لأبطال النصوص سمة تتردد مع توظيفات مختلفة غير مكرورة في نصوص المجموعة، ولكن هناك امرأة أخرى استرعت انتباهي بشكل غير مسبوق حيث يغيب ابنها أو يستشهد على أيدي غزاة قريتها، فتعطف على الطائر الأبيض الصغير، الذي خشي من تصويب الجندي بندقيته نحوه فهبط في ساحة لتلك المرأة التي وجدت في هذا الطائر بديلا لابنها الغائب، وكم كان الكاتب موفقا حين عبر عن فكرة الاحتلال والعدوان المدجج بالأسلحة على النسوة والأطفال بشكل غير مباشر، وعبر طائر أبيض صغير يطير ويحلق هنا وهناك فيكشف الأمكنة، ويجعلنا جميعا نرفض مثل هذا الاعتداء الصارخ على حقوق البشر الآمنين المسالمين. يحدث هذا التجاوب العميق بين المرأة الوحيدة التي تبكي ولدها فيشاركها الطائر مشاعرهازلاحظوا اللغة المستخدمة في هذا المقطع بشفافيتها وبساطة مفرداتها، ووقعها الحزين والمؤلم، وهو ما يميز كتابات محمد عبد الله الهادي الذي تقترب لغته أحيانا من تخوم الشعر :

(كان الطائر الأبيض يستمع للعجوز التي تخاطب الكتاكيت بحزن، ورغم الجوع الذي كان يعصف به، فإنه بكى، وتساقطت دموعه حزنا من أجلها، وخطا بساقيه الرفيعتين عدة خطوات صوب الكتاكيت، ورأته العجوز، اكتست ملامحها بالدهشة وهي تحدق فيه، والتقت عيناها الصغيرتان الدامعتان بعينيه الصغيرتين الدامعتين، اتسع ركنا فمها المشدود بابتسامة، وهتفت بفرح : ـ " إبراهيمز. تعال يا بني") " صباح جديد على طائر أبيض صغير، ص 161" .

في مواجهة كل الأخطار تقف تلك العجوز صابرة منتظرة عودة ابنها، ولكن الجنود الغرباء يجيئون ليلا ويدفعون الباب المتداعي، فتسمع صرخات العجوز وهم يسألونها بلهجة عربية مكسرة عن المطلوبين لديهم، ويسيل الدم من جناح الطائر، ويتألم لما حدث لتلك المرأة التي وجد معها أنسا وعطفا وحنانا مفتقدا.

 وهكذا تتشكل صورة المرأة فتكون ثرثارة مرة، وتكون حكيمة مرة ثانية، وتصبح قوية رابطة الجأش أمام الغرباء مرة ثالثة، وفي كل الأحوال تنطق بالكلمة الفصل حتى وإن كان حديثها يأتي خافتا، أو مترددا، أو منكسرا.

فكرة الزمن الدائري:

هناك زمن خطي للسرد يعتمد على الترتيب الحقيقي للأحداث، وثمة زمن دائري آخر يراهن على عملية التواصل بين الوحدات السردية في توالد دلالي مركزي يحقق عنصري التواصل والتكرار بناء على معطيات معرفية محددة. وعلى المستوى المنهجي تشكل الفرضيات التي اتبعها الكاتب في سوق سردياته اشتباكا مع ذلك الزمن الذي يعاود إنتاج نفس الحلقات السردية بتماثل شبه يقيني، ومع تطور أدوات القص أصبح من الطبيعي أن يركز الكتاب على الزمن الحاضر، " بحيث يبدو الزمن الماضي فيها غير منظم، وغير مرتب، وبذلك أصبح زمن الرواية الجيدة يتذبذب ويتأرجح بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهو ما يسميه ميشيل بوتور بتتابع الوحدات الزمنية " (4) يكتشف محمد عبدالله الهادي أهمية الأخذ بهذا الزمن الدائري في نصوصه فيغامر بالدخول في أنساق سردية تشحذ المخيلة لإعادة إنتاج الوقائع بتلقائية داخل مناخ القص الذي يعتمد على لغة شفيفة وطرائق آداء تتسم بالطزاجة، والعفوية، وعندما يتصل الأمر برواية واقعية فسيكون الراوي محملا بتلك الفكرة التي لا ترى انقطاعا بين المادة الآنية للواقع وإرهاصات المستقبل، صحيح أن صورة الفتاة المحبوبة تبدو مستغرقة في الرومانسية لكنها تحدث من الأفعال البسيطة دوائر متداخلة من المشاعر الغضة البريئة، فكوثر التي تلهب خيال الصغار بجمالها تجعلهم يكورون طواقيهم ويدعكون بها جباههم ليرسموا شجيرات حب وحين يخرطها خراط البنات تتزوج وتبتعد تماما، لكن ناس السوق يتابعون كوثر أخرى تأتي من عزبة بعيدة فقيرة لتشغل الأولاد من جديد، وتجعلهم يقدمون على إنشاء تلك الشجيرات كي تتنقل خلفها بين جنبات السوق. هي إذن استمرارية فكرة الحب، وتداول المشاعر البريئة الغضة ؛ فلا شيء ينبعث من عدم، ولا تستنفد طاقة رائعة كالحب. وربما كان علي أن أثبت هنا صورة الفتاة وهي تتنقل بين جنبات السوق حيث تمكن الكاتب من رصد هذه المشاعر اللطيفة التي تبلغ حد الولع والنشوة:

(كان البائعون يتغاضون عن الأسعار الحقيقية لبضائعهم دون فصال مع الأم، بل ويهدون البنت الجميلة بأريحية بعض ما يبيعون، ويتفاءلون بالرزق الوفير إذا ما زارت أو مرَّت بمكان تجارتهم، وكانوا ـ بتسامح حقيقي ـ يبتسمون ويتغامزون ويعلقون بكلمات التورية المقتضبة، حول مشهد الحب الجماعي المتنقل بين جنبات السوق، ويخمنون بفرح : لأي هذه الشجيرات الصغيرة سوف تأوي الجميلة في قوادم الأعوام؟) " شجيرات حب صغيرة، ص 125 "

هو الزمن يستدير، وتمضي الأحداث ليعاد الحدث المركزي في تعرجاته وتموجاته وصولا إلى حكمة الحياة التي تعلي من قيم نبيلة كالتناغم بين البشر وبين الطبيعة، وكشيوع روح الألفة والحب والتسامح،والقاص الحديث بالرغم من أنه يبدو أكثر تسامحا من سلفه تجاه الأخطاء التي يقع فيها أبطاله إلا أنه يمتلك الاعتراف الضمني بوجود إشكاليات أصيلة في صميم مادة الحياة. نجد ذلك في قصة موجعة تصل على حدود المرثية حيث أن الأخرس الوحيد في القرية يتمكن من الزواج من فتاة خرساء من قرية أخرى بعيدة، وعند كوبري الميزانية يدهس جرار آل مرزوق الزراعي صبيا صغيرا ويرديه قتيلا. كان الصبي هو الابن الوحيد للأخرس، فيغطيه الناس بأعواد القش ويمضي الأخرس ليلته مع زوجته في رفقة الجثة انتظارا للشرطة لكنها لا تأتي، وفي الصباح تنهض القرية من نومها فلا تجد أحدا هناك. لقد رسم الكاتب هذا المشهد المأساوي برقة وعذوبة لا حد لها، وتمكن من نقل رسالة مؤداها أن الفقراء حتى في موتهم لا ينالون اهتماما ولا رعاية، لكن أبناء القرية أنفسهم كانوا في غاية التعاطف والإنسانية مع الأخرس في مصيبته :

(نهض الأخرس وحمل المصباح، وداري شعلته بكفه، ووضعه بجوار جثة الطفل، كأن الطفل نائم هناك تحت كومة القش المبتلة، وكأنه أراد أن يؤنسه في وحشة الليل الطويل وظلمته الحالكة، ثم عاد لموضعه بجوار زوجته يقرفص ململما أعضاءه، ضاما ساعديه فوق ساقيه، مريحا ذقنه عليهما، وراح يرقب الهواء البارد، وهو يأخذ بخناق المصباح) " الأخرس، ص 121 ".

إنه فعل الموت المحدق بالبشرية، يقول " دافيد لوبروتون" : " إننا من خلال جسدنا نعرض أنفسنا لعمل الزمن والموت "(5) وبمجرد الارتطام القدري للجرار بالصبي الأخرس كأبيه تدور المأساة دورتها، ويبلغ التأثير مداه مع موجات التعاطف التي يستشعرها كل من يقرأ النص. لكأن الفقر والعوز ومجالدة الأيام الصعبة في الريف تستكمل في محطة الموت ذاتها، وهي رؤية ناصعة للكاتب يعمقها شيئا فشيئا بوعيه الشديد، وبتضفيره الخاص بالعام.

العودة للتراث:

يهتم الكاتب في بعض نصوصه بالاتكاء على التراث السردي الشعبي، وهو في مزاجه هذا يتجه للاغتراف من هذا الحقل الثري والمؤثر في تاريخ آدابنا العربية، " والمؤكد في هذا الاتجاه أن الثقافة العربية التراثية عرفت أشكالا متعددة من السرد، و كانت ذروة السرود التراثية بلا منازع هي " ألف ليلة وليلة " التي اقتحمت عصر القص عالميا على مصراعيه، وخاصة عبر العلاقة الاشتراطية بين الحفاظ على الحياة والقص. فالموت المحتم سينال شهرذاد بمجرد عجزها عن رواية حكاية، وكل حكاية يمكن أن تكون لغما يتفجر وينهي حياتها إذا لم تستطع الحكاية شد الملك وإبقائه ظامئا لمعرفة النهاية التي لا تجيء "(6)، ومحمد عبد الله الهادي مولع كما سنرى بطريقة الآداء الشفاهية التي نراها مع "صندوق الدنيا" وهو يعتمد على حيلة فنية ذكية بتوليد الحكاية من جوف حكاية أساسية أخري، وهو يستخدم الخوارق، ويهتم بإنشاء وحدات سردية صغرى تصب في النهر الرئيسي للقص، وربما كان من أهم ما يتميز به الكاتب محافظته على فكرة " الحدوتة " لذا نجحت ألف ليلة في أن تشد القاريء الغربي والقاريء الشرقي على حد سواء. النص الذي تتوفر فيه هذه الخصائص هو آخر نصوص المجموعة، تظهر فيه المرأة العجوز لتحكي حكاية الشاطر حسن وست الحسن والجمال، والجديد في الحكي أن هناك إزاحة للسرد القديم، وتعديل في الأحداث، أو لنقل أنها صياغة عصرية للقصة التراثية ؛ حيث يحب ابن الملك ابنة الوزير، وتحدث مكيدة يترتب عليها أن يأتي جنود الملك بخوذاتهم النحاسية ويلقون القبض على الوزير، فتستيقظ الفتاة مذعورة وكانت هذه آخر مرة تنعم فيها ست الحسن والجمال بحياة القصور ورفاهيتها ؛ فحين أفاقت وجدت نفسها سجينة. يستخدم الكاتب الحيل التراثية، حين يخلصها الغول من محبسها، بعد أن علمت بإعدام الأب، ويرف العصفور فوق رأسها مشاركا إياها همومها، وهي منطقة غنية بالأحلام وبتداخل الممكن بالمستحيل، يسوق الكاتب هذه الأحداث برشاقة وبسلاسة مخليا المساحة لخطابه السردي الذي يلخص مأساة تلك الفتاة التي لم تدرك إلا متأخرا أن الشاطر حسن لم يعد حبيبها المنتظر، ولم يقف معها في محنتها إلا الغول الذي أعطاها هذا الصندوق لتجوب به بلاد الله. هنا تتوحد المرأة مع شخصية ست الحسن ويعاد صياغة الحدوتة لتأخذ ملامح معاصرة:

 (سمع الناس المتجمعون حول الصندوق ضجة عالية، ورأوا جنود الملك مقبلين على جيادهم بخوذاتهم النحاسية وملابسهم الفضفاضة الملونة، في أيديهم السيوف والخناجر اللامعة، يشقون الصفوف بعنف وغلظة قاصدين بتصميم العجوز وصندوقها العجيب، وقبل أ يصلوا إليها، لوحت العجوز للناس وقالت وداعاز. واختفت هي وصندوقها في لحظة، استحالت لعصفورة جميلة، رآها الناس تزقزق وتحلق فوق رؤوسهم)" صندوق الدنيا، ص 180"

هي محاولة للتعامل مع التراث الشعبي بشقه الحي الفعال، فلا يكتفي الكاتب بتوظيف الشكل بل يتجه للمضمون فيجري عليه تعديلا جوهريا، ويرفض كل محاولة لتأميم الصراع، وهذا هو جوهر الفكرة الأساسية التي ينهض عليها النص فيكتسب مشروعيته الفكرية ومرجعيته الجمالية كما لا يفوتنا أن نشير لامتلاك الكاتب لوعي مرهف عبر التنقل بين جماليات المكان، وتداخل الأزمنة، فيصبح ما تراه الحواس في صيرورتها تفجيرا لما في الأنثربولوجيا من طاقات تمس الذات الإنسانية، وهنا تصبح الحكاية محاولة لإعادة كتابة الواقع بعد هضم التاريخ وفهم تعرجاته، وانكساراته، وما يعتوره من خلل مقصود ونقصان فادح.

الإرادة الإنسانية ـ مفهوم وتشكيل:

قبل أن نطوي صفحات المجموعة القصصية لابد أن نتوقف أمام مفهوم يتردد بقوة في نصوص المجموعة، وهو قوة الإرادة البشرية، وقدرة الناس على النهوض من كبواتهم، وإعادة شحن النفس بطاقات تمنحها القدرة على العطاء، والبذل والتضحية. ذلك أن كل خطاب سردي يكشف عن فكرة محورية تتضمنها الأحداث، ومثل هذا الخطاب الذي أشرنا إليه في السابق يتم تخصيصه لحمل قضية أساسية ظاهرة أو مضمرة داخل أنساق الكتابة. محمد عبد الله الهادي، إذا جاز لي القول، مهموم بوطنه، منشغل بناسه، تؤرقه مشكلات العدل الاجتماعي، ومظاهر الطبقية، واتساع الفوارق بين الناس، ويشغله أكثر أن يداس تراب وطنه بأقدام غزاة غلاظ القلب. ولاشك أن محاولة العثور على الخطاب الثقافي للأمة من خلال تحليل النصوص الأدبية سيضع يدنا على بعض السمات التي تميز تلك الكتابات المنحازة لقضايا قومية أو إنسانية فالإبداع بأشكاله المختلفة ولاسيما الأدب له حضور واضح حيث الاتكاء على آليات ورؤى متباينة، والمتابع لهذه الأشكال من الكتابة " يجد الخطاب الأدبي الذي يقوم بالوظيفة الحفظية للتراث الحياتي اليومي، الذي لم يدون، وسيجد التعبير عن الكيانات الاجتماعية حتى تلك التي تقع على أطراف الخريطة الاجتماعية والسياسية والجغرافية للمجتمع العربي. " (7). فبالطبع يمكن إدراك أهمية أن يكون النص الأدبي قادرا على استيعاب القضايا المعاصرة ذات الخصوصية، وهو ما نجده متجسدا في النصوص التي نتعرص لها في هذه الدراسة فـ" دراسة الإبداع كنص للبحث عن الخطاب الثقافي، لا يعني تجاهل النصوص الفكرية، لكنه يبين مدى محدوديتها بالمقارنة بالإبداع الذي يضم مفاهيم وصور شتى عن الحياة، التراث، السياسة، الدين، طقوس الحياة اليومية، الأسطورة بالمعنى الإيجابي "(8) 

 مجموعة من النصوص القصيرة احتشدت بصور شتى من صور قوة الإرادة الإنسانية، وفيها تجسيد حي وديناميكي لرغبة شخصيات النصوص في الانفلات من مناخات القهر والانكفاء والهزيمة. سأبدأها بأهم لوحة قصصية في رأيي وهي التي تحمل عنوان " كفا قناص" التي يؤكد فيها الكاتب للخصم أن النزال ما زال قائما رغم المرور بهزيمة يونيو 1967،. وبالرغم من أن القاص لم يذكر تواريخ دقيقة للحكاية إلا أن الإهداء الموجه للفنان احمد نوار يشير إلى حرب الاستنزاف التي كان قناصتنا يكبدون فيها العدو الصهيوني خسائر فادحة، وربما تشير إلى ما تلاها من أحداث كحرب أكتوبر 1973، والتي حقق فيها المقاتل المصري انتصارا تاريخيا على خصمه اللدود. يميل الكاتب نحو التفصيلات الدقيقة التي تنقل الحدث من مداره العام إلى خصوصية فريدة تهتم بأدق المشاغل وأكثرها رهافة:

(وظهر الهدف أخيرا في محيط عينيه، هدف تحرر قليلا من وطأة الاختباء، لابد أنه يعرف أن الصائمين مشغولون الآن بتناول طعامهم، ضبط الهدف في بؤرة عينه، حرك كفه وضغط بإصبعه الزناد، دوى الطلق الناري في أقل من ثانية، ورأى على الشاطيء الآخر كفا معادية عاجزة ارتفعت لا إراديا تصد ـ دون جدوى ـ الموت، ثم سقطت على الرمال) "كفا قنَّاص، ص 106".

هي تحية حارة وصادقة ومنتظرة للمقاتل المصري الجسور، لكن بقية النصوص تقدم أوجها أخرى للكفوف "الإنسانية" فهناك "كفا الأم" وهي تتخبط في شباك خوفها حيث تدعو للابنة نادية بالعريس، و"كفا نبوية" التي تمسح سلالم العمائر في البندر بعد أن اقعد زوجها المرض العضال، وقد تابعت بحب جارف " كفا آل طعمة "، حينما تحتل الجدة صدر المشهد فتوصي لحفيديها الصغيرين بأشيائها البسيطة وصناديقها العتيقة بعد أن تموت. إنها تحاول أن تتغلب على الزمن، وتستميت من أجل أن تعود العائلة متماسكة مترابطة، وإن كان القناص المصري قد ووجه بتحية سردية من الكاتب باعتباره معاصرا لتلك الأحداث أو مشاركا فيها، فقد كان "كفا الحلبي" دليلا قويا على طهر تلك الأيدي التي تدفع السوء مهما كانت الضريبة التي ستدفعها. في حديقة الأزبكية ستمتد يد سليمان الحلبي بالخنجر كي يغمده في صدر كليبر ليخلص الكنانة من قسوته بعد أفعاله العدوانية إثر ثورة القاهرة. في كل التجارب التي يرصدها الهادي تجده متمسكا بعنصر الحكاية، متعاطفا مع الهم الشخصي للبطل، مهتما بإبراز التفصيلات التي تكشف عن الباطن، الخفي، المستتر، وهو مسلك يضفي على النص قيمة متزايدة.

 إن حضور الإرادة عنصر أصيل إذا ما توقعنا من هؤلاء الناس على اختلاف توجهاتهم أن يقدموا شيئا ذا قيمة لأحبائهم، للذات، للوطن، وهو نوع من التوافق الوجداني أن ينصب هم الشخصيات على الوفاء باحتياجات الآخرين سواء كانت مادية أم معنوية. وإن كانت الإرادة هي القوة الخلاقة للتجاوز والتطور فقد جاءت سرديا في نسيج متسق لا يعرف التنافر أو التناقض بتعدد لغوي حيث التناغمات الحوارية، والسرديات تترى لتضفي على النص عمقا جماليا مثلما هو الشأن مع فيض الدلالات التي تنبع من كل عمل جميل، قيم، وخلاق.

حديث الذات ـ الكتابة كمهنة:

من اليسير على أي قاريء لنصوص محمد عبد الله الهادي أن ينتهي إلى نتيجة مؤداها أن الدوافع التي وجهت اختياراته في مجال السرد تتبلور في اهتمامه بما لدى الكلمة من تأثير ؛ لذا تبدو الكتابة مهنة عريقة، ولكنها بنفس القدر يمكن أن تكون موقفا محددا ويقينيا من قضايا العالم والوطن والذات. في كل نص هناك اختيار لوجهة البوصلة، وقد كان عليه أن يرسم صورة للصراع مع الذات، مع استقصاء الجوانب المتعددة التي تحدد موضوعاته، وتحقق هذا التواصل الشفاف مع معاناته كأديب وواقع بيئته ودوائرها الصغيرة التي تتقاطع مع مجالات عمله، وربما كان علينا أن ندرس تلك النصوص التي تردنا إلى علاقة الكاتب مع فكرة الإبداع، والغريب بل والمدهش في هذا الجانب أن معالجات الكاتب تميزت بقدر كبير من السخرية، والمرح متضافرة مع ما يشعر به من مرارة، فعلاقة الكاتب مع أهله وأصحابه تتراوح بين مفهوم مغلوط من جهة، وبين إدراك ناقص من جهة أخرى. علاقة الكاتب مع نصه فيها مسألة التوحد، وفيها هذا القدر من التمثل والاندماج الكامل. ينظر الناس للمبدع باعتباره " حالة " مرضية قابلة للشفاء، وتصل العبثية إلى ذروة اكتمالها مع سوء التصرف الناتج عن فهم قاصر لحقيقة وضع الكاتب، ومفهوم الكتابة، وهو ما يتحقق في أكثر من نص بالمجموعة. إن القاص يفصح عن أحلامه، ويدون هواجسه، ويتصالح مع الأوراق التي عليه أن يسودها بكتاباته، ويتحقق المعادل الجمالي متوازيا مع الطرح الفكري عبر الذات الواعية التي عليها مهمة إصلاح العالم.

نحن ندرك حقيقة " أن العمل الأدبي يوجد بدوره عند تقاطع المعنى والتأثير، غير أنه ينبغي التأكيد في هذا الصدد، على أنه من فصيلة القوة التي تولده، وذلك بنفس القيمة التي هو عليها، أي أولية وقائية تنتسب إلى الوازع الذي يحركها، وإذا كان العمل الأدبي يروى فقط عن طريق لغة ذات سنن، وازعا كبيرا وقديما، فإن البلاغة قد تكون كافية لأن تجرده من قناعه. على أن العمل الأدبي ليس قناعا للرغبة وإنما هو مترتب عليها، ومثلها هو مآل للغريزة "(9) 

 نوازع الصعود ومهاوي الإحباط، وطقوس الكتابة، وتحولات الواقع، ومسارات السياسة، وما تفيض به النفس الأسيانة للمبدع من حيرة وتشتت وانكسار كلها عوامل مؤثرة في إنتاج النص. مكابدات وعثرات تمر بالأديب وهو ينسى نفسه في معمل إبداعه، فهل صحيح أنه قد تزوج الكتب؟ هو سؤال حائر يتمدد باتساع نص يحمل قدرا كبيرا من فن الدعابة ورنة السخرية في كل منعطف حياتي يمر بالراوي الذي هو قناع الأديب في نص " عروس للأديب الأدباتي "، خاصة وأن المرض يشتد بوطأته على الأم التي تريد أن تفرح بابنها ونتوقف لمرات أمام مشهد العودة من العمل وصفوف المعزين مع وفـاة الأم، ويدفع الكاتب دفعا لاختيار عروس يتوهم فيها حبها للقراءة، كي تظل أبواب البيت مفتوحة، ونزولا على رغبة الأم الراحلة. تأتي المفارقة من كونه يكتشف بعد أن دخل القفص الذهبي بقدميه أنها ـ أي زوجته ـ لم تكلف نفسها سوى قراءة صفحة الإهداء فيتأكد من جديد أنه سيظل وحيداً، بائسا، يخب في تصوراته الذهنية وأجواء النصوص المحتشدة بأفكاره وأحاسيسه التي دونت على الورق لا أكثر. كل هذه التفصيلات يسوقها الكاتب بسخرية مريرة، وبرشاقة أسلوبية، وعبر سرد مرح، بهيج، يكشف عن جانب أصيل في ذوق الكاتب ومزاجه الذي يميل لحس الدعابة، وهو ما يتحقق في قصة أخرى هي "الجائزة " حين يرن جرس الباب في شقة الراوي ويتقاطر أهل الجزيرة لتهنئته بعد عودته متأخرا من العاصمة، وتجري مناورات لتوظيف المبالغ الطائلة التي توقعوا أنه قد حصل عليها نظير فوزه الميمون، وكان عليه أن يخرج عليهم بالجائزة، فإذا بها شهادة تقدير، أي ورقة مسودة بتوقيعات تحمل عبارات ثناء لا تسمن ولا تغني من جوع. على أنه وسط هذه التقلبات التي يشهدها الكاتب نجد مناطق مضيئة وحس قروي أكيد يظلل الوصف لمقدم أفراد الأسرة فكأن الجائزة المتوهمة كانت سببا رئيسيا في عودة اللمة والتئام الشمل:

(كنت سعيدا لأنني أسعدتهم بحق، لكنني كنت حزينا لأنهم كانوا يعاملونني باحترام زائد الحد، كأنني صرت واحدا آخر من أبناء المدن، ولست أخاهم الذي من دمهم ولحمهم، لم يعودوا ينادونني باسمي المجرد كالعادة، بل يكتفون بالأستاذ)" الجائزة، ص 133".

هذا الانقطاع والانفصال المؤقت يتجذر في توقعاتهم حيث يتصورون أن فعل الكتابة قد رفعه درجات عن عوالمهم المتواضعة بينما الحقيقة تكمن في أن سر نجاحه يتبدى في حقيقة أنه قد أوغل فهما وتعاطفا وتورطاً حميداً في حياة هؤلاء البسطاء ؛ فعبر عن صبواتهم، وأحزانهم، ومباهجهم بصدق وحب واستبصار إنساني عميق، وانه لم يعرف التنازل عن إخلاص للقرية التي حملته طفلا فشابا فكهلا، وقد حق عليه أن يحملها في قلبه مهما أوغلت الأيام في تحولاتها المؤلمة، وتغيراتها الماكرة.

هوامش:

( 1) د. عبدالمنعم تليمة، مقدمة في نظرية الأدب، كتابات نقدية، العدد 67، القاهرة، سبتمبر 1997، ص 63.

(2) جيرار جنيت، خطاب الحكاية، بحث في المنهج، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 1997، ط2، ص 47. وقد قمنا بالتصرف في حدود ضيقة للغايةز

( 3) المصدر السابق، ص 47.

( 4) د. محمود الحسيني، تيار الوعي في الرواية المصرية المعاصرة، كتابات نقدية، يناير 1997، ص 84.

(5) دافيد لوبروتون، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة : محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1993، ص 148.

( 6) د. صلاح صالح، سرديات الرواية العربية المعاصرة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص 17.

( 7) د. رمضان بسطاويسي، الخطاب الثقافي للإبداع، كتابات نقدية، العدد 78، القاهرة، سبتمبر 1998، ص 9.

( 8) المصدر السابق، ص 13

( 9) فرانسوا بيرو، النقد النفسي، ترجمة د. بشير القمري، مجلة "الجسرة الثقافية "، العدد الثالث، الدوحة، خريف 1999، ص 33.