لكل مادة علمية مصطلحاتها يعرفها من يتعامل معها ويعايشها وتعصى على الفهم لدى عامة الناس، وربما عرفها البعض عرضياً من باب الثقافة العامة دون أن يتعرف على كامل مضامينها، والأدب لا يختلف عن غيره من مواد المعرفة فيه من المصطلحات والمفردات يستدل عليها العارف بها والمشتغل بها يقف على مضامينها، بعضها أو كلها.
وتتوفر في الأدب المنظوم مجموعة من المصطلحات دالةٌ عليه من قبيل القافية والوزن والروي والعروض، ولكل مصطلح مفهوم ومصاديقه، وهي محل ابتلاء الشاعر ونظمه والحاكمة عليه لا يجد عنها فكاكاً، ومن المفارقات الظريفة أن عدداً غير قليل من شعراء القريض تتوفر قصائدهم على كامل الموازين لكنهم يعجزون عن معرفة الأوزان الشعرية والبحور، لأنَّ البديهة ديدنهم في النظم والإنشاء وقوافيهم تنساب على بعضها دون قياسات مسبقة أو حدود ثابتة فهي كامنة في ضميرهم الشعري، وهذا ما كان عليه الشعراء في عصر ما قبل الإسلام وبعده حتى جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي (100- 173هـ) ووضع الأوزان الشعرية وبحورها بالنظر إلى إيقاع كل بيت، واستمر الأمر بعده، ولهذا فإن معرفة المصطلحات والثبت من جزئياتها لها أصحابها وعلماؤها، فربما كانوا من طبقة الشعراء أو عموم الأدباء، فالشعر العربي قائم على عمودي الوزن والقافية، فإذا كانت الثانية معروفة من خلال الحرف الهجائي لخاتمة البيت فإنَّ مربط الفرس في الأولى كون الوزن الشعري وهو ما يعبر عنه بالعَروض أو ميزان الشعر أو الإيقاع الشعري له خبراؤه وهم في نادي الشعراء عملة صعبة.
ولأن العروض أو الوزن له قياساته التي لا ينبغي الخروج عن سياجه وبه يقوم البناء الشعري، فيصح حينئذ وصفه بهندسة العروض، لأن الهندسة دالة على حسن الأسس التي يقوم عليها البناء، والبيت الشعري في حقيقته أشبه بالبيت المسكون، فما كانت هندسته مضبوطة والمواد المستعملة فيه وفق قياسات موزونة كان بناؤه حسنا رصيناً يعجب الساكنين والناظرين ومهوى القلوب على تنوع آمالها وأحلامها وتفجعاتها.
وإذا كان إبن الجنوب العراقي في البصرة الفيحاء الخليل الفراهيدي قد حصر الأوزان الشعرية الخمسة عشر: الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتث، الطويل، المديد، البسيط، والمتقارب، في ثمان تفعيلات وهي: (فعولن، فاعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفاعيلن، مستفعلن، فاعلاتُنْ، مفعولات)، فإن إبن وسطها في كربلاء المقدسة والمولود فيها سنة 1947م العروضي الدكتور محمد صادق الكرباسي تمكن من التوسع في التفاعيل والبحور والأوزان ليصل بالتفعيلات إلى 43 دائرة بحرية تولدت عنها 210 بحراً، وكما يقول الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبِّين وهو يقدم ويعلق على كتاب "هندسة العروض من جديد" الصادر عام 1432هـ (2011م) عن بيت العلم للنابهين ببيروت (لبنان) ومكتبة علوم القرآن بكربلاء المقدسة (العراق) في 391 صفحة من القطع الوزيري: (أخذ كل وزن منها شكلاً ايقاعيا خاصاً، عُرف ببحر مستقل، اشتق له المؤلف اسماً مُستخلصاً من نعت البحر أو الوزن ذاته، وقبل أسماء البحور اشتق للدوائر المستحدثة أسماءها المستوحاة من نعوت فنية وشكلية تربط بين كوكبة من البحور بعلائق متعددة في دائرة واحدة).
ويمثل كتاب "هندسة العروض قراءة جديدة" أحد أضلاع مثلث في قواعد الشعر العربي وفنونه صاغها يراع الكرباسي، ضلعاه الآخران هما كتابا "الأوزان الشعرية العروض والقافية" في 719 صفحة و"بحور العروض" في 157 صفحة، وكلاهما من القطع الوزيري، والثلاثة صدرت في آن واحد، مع التأكيد أن الكرباسي انطلق في اكتشافاته العروضية الجديدة من عروض الخليل الفراهيدي وتفعيلاته الثمان لكن لم يقع تحت تأثير سحرها المانع عن الجديد لإيمانه الكامل: (إن التفعيلات هذه ليست مقدسة، فبالإمكان استحداث ما يمكن شرط أن تتقبله الآذان الحرة وصفاء القلوب)، وقد ترجم هذا الفتح العَروضي في بيت من الشعر كان شاهداً على (بحر المهزّج) وهو مما ابتكره:
هل أتى حديثٌ في القوافي مستنهضاً *** أم أتاكَ نهيٌ عن عروضي مُسترفضا
وهذا ما جرى عليه قلمه فاستشهد لكل بحر جديد ببيت شعر، ولأن البحور مستحدثة فإن الشاهد كان من نظمه مع شروحات للأديب شبّين، وفي حقيقة الأمر أن الكرباسي تعامل مع التفعيلات كما يتعامل الإنسان مع العجينة لها أن يشكلها كيفما يشاء بما يعجب الناظر دون أن ينقص من وزنها أو حجمها وهو بذلك يفتح الآفاق أمام الأدباء والشعراء وبخاصة الراغبين في معرفة هندسة العروض بعامة وقواعد الشعر العربي بعامة، ولذلك لا يرى الأديب الجزائري شبّين بُدّاً من الإقرار أن الكرباسي بما جاء به في هندسة العروض من جديد لم تستوعبه ذاكرة التاريخ في شعرنا العربي: (فحق أن يُلقَّب بالخليل الثاني اعترافاً بعبقريته في تحديث هذا العلم، والخروج به من دائرة الإنغلاق، والسمو به إلى أفق الإنفتاح، شارحاً للناشئة معالمه وفصوله، باسطاً بين أيديهم مفاتيح فهمه، وأشرعة الغوص في بحار معانيه).
ويختلف عدد البحور من دائرة إلى أخرى، وتراوحت بين الإثنين والإثني عشر، فعلى سبيل المثال فإن الدائرة الأولى المسماة (المتفق) ضمت بحرين، و(المجتلب) ثلاثة أبحر، و(المترابط) أربعة أبحر، و(المختلف) خمسة أبحر، و(الملتبس) ستة أبحر، و(المتجافي) ثمانية أبحر، و(المتناثر) تسعة أبحر، و(المتناسق) عشرة أبحر، و(المشتبه) اثني عشر بحراً.
ومن إبداع الكرباسي في شواهده، أنه تفنن فيها كأن يكون البيت خال من حرف أو مجموعة حروف، من قبيل شاهد (بحر التابع):
رستْ سفنُ النجاة على آل الرسول الأمجد *** فشعَّ على الملا بسنا نور الإله الأوحد
حيث خلا البيت من حرف الياء، وقد خلا شاهد (بحر السليم) من حرف الباء كالتالي:
قضَّني مضجعي شغفاً وفي ودادي لمن عزَفا *** والهوى لا يتوق إلى مَنْ يروقُ الذي عزفا
ونجد الفن في البحر الواحد وتفريعاته، فعلى سبيل المثال وفي (بحر الشذب) والتام منه خلا الشاهد من حرف الثاء:
همساتي باتت سبباً لمعاداتي في فكري *** وبها قد زادت خلواتُ رفاقي رغم الخطر
ولكن مجزوء الشذب لم تخلو كلمة من كلمات الشاهد من حرف الثاء على النحو التالي:
لبث الليث الثائر حيث ثغوري *** وثغى ثرثارٌ ثولاً بثبور
وهكذا في بقية شواهد البحور الخليلية القديمة والكرباسية المستحدثة.
وفي الواقع أن الأبيات التي قاربت الستمائة في الاستشهاد على البحور الجديدة وتفريعاتها ضمَّت فكرة أو حكمة أو لطيفة إبتغى الشيخ الكرباسي عامداً نقلها من الأدب المنثور المبثوث في مؤلفاته المختلفة إلى الأدب المنظوم، فبقدر اهتمامه بما ابتكره من بحور اهتمامه بأن تكون الشواهد الشعرية ذات رسالة، فعلى سبيل المثال تأكيده على منظومة العلاقات الست التي تحكم الإنسان كما في (الحسين والتشريع الإسلامي: 1/31) وهي: علاقة الفرد بخالقه، وبنفسه، وبفرد آخر، وبالمجتمع، وبالبيئة، وبالدولة، وفي هذا المقام ينظم الأديب الكرباسي في شاهد (بحر المقبول) التام:
ست علاقات ُالخلائق في الحياة كما بدا *** بالنفس وبالرحمان والبشر الذين لهم غدا
فردٌ وجمعٌ ثم يعقبه النظام لدولةٍ *** والبيئة الكبرى لها أثرُ على نمط الأدا
فهذه العلاقات كما يراها المؤلف هي مؤشر على حاضر الفرد ومستقبله، وبالتبع على المجتمع، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً.
وإذا قايسنا بحور الفراهيدي الخمسة عشر ببحور الكرباسي المائتين وعشرة أبحر، فان الفارق كبيرٌ جداً مما يعطي الإنطباع العام أن الثاني لم يترك في قوس البحور من منزع وبلغ مداها، لكن الكرباسي يرى في خاتمة كتابه أن البحور ليست متوقفة على ما ابتكره في إطار تفعيلات الخليل الثمان، لأن تجاوزها إلى العشرة مثلاً يفتح الأبواب على بحور أخرى، من قبيل مخمس المتقارب المتضمن لعشر (فعولن) في الصدر والعجز وشاهده:
قديمٌ جديدٌ دلال الغواني حبيبي *** ألا سحرهنَّ الذي يُبهرني وربِّي
وهذا الإبتكار في الدوائر العروضية وما يتفرع عنه من بحور شعرية ضمن التفاعيل الثمان والإقرار بأن الأبواب مفتّحة على بحور أخرى ومولداتها، يفسر قوله الشاعر والعروضي الجزائري الدكتور عبد العزيز شبّين أن: (الكرباسي من الأعلام القلائل الذين اشتغلوا بهذا العلم وأدركوا أسراره، وأتقنوا قواعده، بما امتلكه من حسٍّ مرهف، ونظر بعيد، ورؤيا استبصرت بلطائف الإلهام، وتغرَّست بفنون المعارف، ذلك أن منطلق هذا الفن هو الطبعُ، والموهبة وحدها كفيلة بوضع الفواصل، ورسم الإنفراد، غير أن الثقافة تزيدها وهجاً في التألق، وإبحاراً في الخيال، وبلاغة في المعنى، كلُّ هذا استخلصته مما قرأته من كتاب هندسة العَروض من جديد).
ولذا لا غرو أن ينعت الأديب الجزائري الدكتور شبِّين وهو الضليع بالبحور الخليلية، الكرباسي وهو الضليع بعلوم شتّى أنه الخليل الثاني.
(الرأي الآخر للدراسات – لندن)