تكمن أهمية التعرية في كونها تمد الباحث بمفاهيم واستبصارات تيسر له التعامل مع (ما تحت الجلد) فتمكّنه من الوصول إلى فهم أعمق حول طبيعة هذا الجسد التي عن طريقها يتحدد أسلوب التعايش ذاته.
رأيي أنه لظروف يطول شرحها وليس مجال ذكرها هنا الآن لم يتح لنا بعد الاستفادة من معطيات مبدأ التعرية بما يتناسب مع ما فيها من نطاق خصب غني بالاحتمالات، وبهذا فإنه على الفنانين والنقاد أن يهلوا على تعميق الاستفادة من فكرة التعرية بكيفية تمكن المتلقي من التجارب معها، ومن ناحية أخرى يمكن ترسيخ هذه المفاهيم والاستفادة منها في القراءة والتحليل والتعامل مع المنتج الفني ومع النصوص الأدبية. وفي هذا الصدد تأتي هذه المقالة واضحة في خلفيتها هذه الحيثيات التي من خلالها أحاول العمل على شرح المفهوم العام لفكرة التعرية؛ ليس من خلال الشرح فحسب؛ بل سنحاول أن نتطرق إلى أمثلة تطبيقية من الفن والأدب.
لقد ابتكر الشكلاني الروسي فيكتور شكلوفسكي مفهوم (التعريف) (Ostranenie) ويقصد به نزع الألفة الاعتيادية التي خلقناها مع الوقت بأيدينا بيننا وبين الأشياء، فنحن قد جعلنا كل ما حولنا معتاداً مع مرور الوقت، الثياب، الحذاء، القبعة، الثوب الذي نرتديه فيعتاده الناس، وثوب تحت الثوب نعتاده نحن، وثوب نقاوم به الطبيعة، معطف ثقيل ومظلة فوق المطر، جلباب فضفاض في عز القيظ، عوينات للإضاءة الشديدة وللإضاءة الخافتة، ونعتاد الثوب ونعتاد مقاومة الطبيعة، نخلق الألفة والألفة تخلق العادة ونعتاد الزوج والعمل والبيت، نعتاد الكلمات فلا مرحباً بجديد، كما نعتاد الخشية من الحرب، ونعتاد الخوف من المواجهة ليصبح ذلك ثابتاً مرسخاً في اللاوعي لذا هو يحدث بطريقة تلقائية تماماً. ونحن نعتاد كل شيء تلقائياً كذلك، حتى أن البير كامو قال في رائعته "الغريب": "لو حكم على الإنسان بالسجن داخل برميل، لراح يتسلى بتأمل السحب فوق رأسه".
مفهوم التغريب يعيد الأشياء إلى سيرتها الأولى بعد أن ينزع عنها ما ألبسناها نحن به في منجز نقدي وفلسفي جمالي وتحليلي يتعلق بظاهرة التداخل والالتباس حتى تتسع الرؤية الفنية النفسية لفهم آليات عملية الخلق ذاتها وكيفية ابتداع الطبقات الساترة، ومن جهة أخرى كشف العلاقات المتفاعلة داخل السياق النصي بعد أن ننضو عنه حجابه وفي أركان الصورة الفنية إذ تتعرى. التعرية من شأنها أن توقف الإنسان – الفنان على أبعاد نصه ووجوده وخلفياته الثقافية التي تتراكم بداخله فأخفاها بحكم الأعراف وربما بضغط من الدين والمجتمع، وكيف يخلق نفسه خلقاً جديداً ويضع في كل مرة جماليات متجددة تضيف حيوات فريدة ومتجذرة في كيانه.
العين تعري الجسد مهما كان سمك نسيج الثوب، وكذا العقل يأخذ وقتاً للتعامل مع حجب الصورة أو النص لا لسبر الأغوار بشكل لا نهائي أو طلباً لأعجوبة اليقين المطلق وإنما لتبسيط المعطيات ونزع الثوب الثقيل ثم لا تعرية أخرى بعد الوصول للجسد الجميل الأوليّ وهو معقد بما فيه الكفاية. وهنا تبرز الوظيفة الاسترجاعية وهي التي تستعين البناء الأول، والنص السابق. والنشأة الأولى لتعيد إنتاج كل ذلك داخل تكوين حديد، ونص لاحق، وجيل أشد قوة وأكثر جمالاً وقناعة هذه العملية التي تهدف أساساً إلى استثمار الرصيد العاطفي والتاريخي الخلاّق للجسد العاري وللنص الأول والصورة المختزلة إلى عواملها الرئيسية قبل ابتكار قيود الدين وتابوهات الأعراف.
إن إسهام الثوريين العرب قد توقف عند حدود الجزئيات في مفهوم التعرية كما فعلوا في جزئيات النص الأدبي (الكلمة/ الجملة/ الجمل) فكانت الإشكاليات المتضادة كلها مع وضد الثوب من حيث قصره وطوله بالسنتيمتر، وكان رصد العرب في وقت من الأوقات لظاهرة التضمين وصفياً وأيضاً ليس حراً تماماً لكنه اعتبر إنجازاً بعد المفاوضات والمساومات والمقاربات التي خاضها التشكيليين والمحدثين والليبراليين مع الرؤية الإيديولوجية الجامدة للأصوليات الماركسية والدينية وحتى مع الاشتراكية العلمية، والقطاع غير الرسمي (the informal sector) الذي يغطي على واقع نشاطات عدد كبير من الناس، وفي رأيي لم تكن فكرة التعرية هي الهدف وإنما المخالفة في زمن غافل، أو كما قال رولان بارت: "الجديد وحده يرج الوعي" وهو يؤكد على إحدى جماليات الكتابة الجديدة التي تتخلى عن معايير الشكل لتبحث عن جماليات اللحظة، فليس الجديد موضة، بل هو قيمة وأساس كل نقد، لكنهم توقفوا فقط عند هذا المنحنى الفكري، دعك من تابوهاتهم الخفية ذاتها التي لم يتغلبوا عليها فانشغلوا عن قضية الكشف وتعرية التقليد الزائف بالسقوط في داء فصامي رغم أنه كان من الممكن أن ينظروا إليه على أنه مجرد تناقض ظاهري، وهناك مواقف فلسفية تعرف مثل هذا التناقض بين اليأس الكوني وبين حرية الإنسان في تخطيط مصيره، بين القلق الوجودي وحرية الاختيار. ومهما يكن من الأمر، فقد اتخذت المشكلة أوضح قوالبها وأكثرها عرياً معهم هم أنفسهم فأنكشف جبنهم، وهي المشكلة التي ستصبح فيما بعد من أول بؤرات اهتمامهم وسوف تتصل عندهم أوثق اتصال بستر عوراتهم المرتجفة فيصبح الجهد والوقت اللازمين لتحقيق الهدف الأصلي: خلع الثوب السميك الحاجب وتعرية الجسد لتحليله.
تعريف الجسد هو عملية ردّة إلى الفطرة الخلقية وإلى المتعة الحقيقية للحياة أو كالتي يصفها ميلان كونديرا في كتابة الممتع (خفة الكائن التي لا تحتمل) بأنها تشبه التمرير الأول، والخطوط الأولى في عمل فني، المسوّدة، هي خطوط للاشيء، وإنه رسم من دون لوحة، فأفضل مسوّدة بلا أخطاء لحياتنا، هو ألا نعيشها! فلا توجد أية وسيلة لدى مصمموا وحيّاكوا الثوب الثقيل للتحقق من أي قرار هو الصحيح، لأنه لا سبيل لأية مقارنة. كل شيء نعيشه دفعة واحدة، مرة أولى، ودون تحضير. مثل ممثل يظهر على خشبة المسرح دون أي تمرين سابق، والقول أن التجربة وجرأتها عبث وأن الجسد العاري عار يفقد الأصل ويتعلق ببدائل زائفة. ماذا سيكون معنى الحياة لو كنا نمتلك القدرة على تصحيحها؟ هل يمكنك إضافة عضو أو إخفاء آخر؟ ومن سيؤكد لنا أن هذا التصحيح الذي أنجز سيكون التصحيح النهائي، وأن حياتنا ستمضي بلا أخطاء.
السؤال الغائب الحاضر الذي يمثل هاجساً لدى المفكّر الجزيء هو سؤال الحرية في التعبير، ليس بأحكام اللحظة الزمنية التي نحياها كفرد مكوّن لمجتمع وليس في سياق النسبية التي نظن دوماً أنه قد تم الاتفاق عليها ثم نكتشف – دون أن نفاجأ – أننا على الدوم مختلفون لدرجة العناد ولدرجة الحرب ولدرجة الكفر، في ظل قوانين الرقابة وسيف الدين وسطوة العادة وحجج التقاليد وتهديدات سوط الأسلاف. وفي رأيي أننا نظن كل مرة أننا في مرحلة تحول وانتقال ثقافي وحضاري كبيرة وأن التغييرات الحادة ستسوي الأرض وتمهدها لورود يانعة لعشرات الأفكار الحرة والكشوف الجديدة وتعرية وجه أسقمه الحجاب الحاجب لنور الشمس وعزل الثوب السميك الممض، لكننا ننسى أننا نخوض المواجهات الخطأ في الظروف الخطأ. نحن نتحدث عن تحوّل في عقلية أجيال والنقد الحالي في قيود الدين والفكر لا يواكب درجة السرعة التي تنمو معها التجارب المختلفة والنسق المتغيّر لعملية طرح أسئلة ذات أبعاد سوسيولوجية، في أوقات كثيرة أجدني أسلم لأنها مسألة صدفة وتاريخ.
في كتاب "الأوبانيشاد" الهندوسي جاء: "أنت الذي في نفسك النور المشع/ انزع غشاء الجهل عني/ عسى أن أرى نورك/ اكشف النقاب لي/ عسى أن يسود الهدوء أعضاء جسدي" والواقع، انه يوجد، مع ذلك، صعيد مشترك يبرز منهجياً المقابلة التي قمنا بها: فجميع أيديولوجيات استخدام الجسد، مهما تكن الطريقة التي فُرِّدت بها، هي وجهات نظر نوعية حول شكل الجسد وتأثيره والتفاعل معه، وإشكاليات لتأويله كماً وكيفاً، ومنظورات غيرية دلالية وأخلاقية. بهذه الصفة، يمكنها جميعاً أن تتجابه، وأن تستعمل بمثابة تكملة متبادلة، وأن تدخل في علائق حوارية. بهذه الكيفية، يعيش الجسد الخالد في وعي الناس، وقبل كل شيء داخل وجدان الفنان. وبهذا الأسلوب أيضاً، تعيش حقيقة، وتُصارع، وتتطور داخل التعدد الفكري الاجتماعي. لأجل ذلك، تستطيع جميع النظريات أن تتخذ موضعاً لها من الجسد على صعيد الواحد الفرد الذي يمكنه أن يكون مركز كل شيء وأن يجمع التجليات السماوية العلوية والدرجات الشهوانية السفلية للغات أجناس متنوعة، ومظاهر مختلفة من أسلبه وتقديم وجهات نظر متحررة ملتزمة أو سلفية جاهلة، مع وجهات نظر اجتماعية وغير اجتماعية (مثلاً ما نجده في النمط الساخر من الجسد العاري)، ولا نستطيع هنا، الدخول في جوهر معضلة تعالقات الجسد والأسطورة. وفي الكتب التي تتحدث عن هذا الموضوع، نجد أن المسألة قد عولجت، إلى أمر قريب، على المستوى السيكولوجي، ومن زاوية نظر تتعلق بالفولكلور، وبدون علاقات مع المعضلات الملموسة لتاريخ الوعي الإنساني عن صراع الطبيعة ضد الثقافة القبلية المتعفنة.
يكتسب الجسد سلطته رغم الأنوف وفوق الصراع الدرامي الذي يعد جوهر الخلاف بين التحرريين والسلفيين، هذا الصراع الذي يتأثر تأثراً مباشراً بالقانون الكيميائي المعروف بقانون فعل الكتلة، وهو القانون الذي ينص على أن اتجاه التفاعل الكيميائي يتأثر بالكتل المشتركة فيه، بمعنى أن الكتلة الفعلية الموروثة في أعماقنا عن الجسد المشتركة في تفاعلنا الأخلاقي والفكري والاجتماعي كلما كانت كبيرة بالنسبة لكتل المواد الأخرى السياسية والدينية والاقتصادية فإن اتجاه التفاعل يأخذ شكلاً مختلفاً عما لو كانت طبيعة الجسد وخلفيته أقل من الكتل الأخرى المشتركة، مع الأخذ في الاعتبار اتحاد إحدى هذه القوى مع الجسد كحليف أو نفورها منه واتخاذ وضعية العدو.
نعود إلى مفهوم التغريب الذي ذكرناه في مفتتح هذه الدراسة، ونقول إن النظرة النمطية للجسد كونه (مجرد جسد) هي التي تعطي نتيجة نمطية أخرى تكون في الغالب هي الرفض وأن كان الرافض يشتهي ويرجو المرفوض، لكن استعمال أدوات التغريب بنزع الألفة والعادة عن الحجاب والثوب اللذان قد استنفدا أغراضهما غير الأخلاقية واستخدام الجسد في موضع آخر يمكننا أن نقدره كونه (جسد مجرد). قلنا نزع الألفة عن الثوب لأن وجهة النظر التي نتبناها هي اعتبار أن نزع الألفة عن فكرة الجسد (المحرم) و(الممنوع) من مسلمات نظرتنا الجديدة، ومن ثم استخدام الجسد العاري بشكل بديهي فيها والتخلص من الحجب والستر باعتبارهما من الزيادات.