لا بد من أن نسأل أنفسنا من أين انطلقت الأسس التي وضعت على أساسها اتفاقية وبنود حقوق الإنسان وما هي الفلسفة التي يقوم عليها؟ ليس رغبة في النقض والمعارضة ولكن لبيان الحقيقة التي يماري فيها بعض الناس والذين قد يقفون موقف المتشكك في تلك الاتفاقيات وتلك الأعراف الدولية المستقرة عرفا في السياسة الدولية المعاصرة.
لا شك بأن الإجابة عن هذين السؤالين لا تعجز أي واحد له خبرة ولو قليلة في هذا الموضوع، بل إنني أزعم أن هذا الموضوع وغيره يشكل ركنا من أركان الثقافة السياسة السائدة في المجتمعات، والتي قد يدلي برأيه فيها، وكأنها أضحت من المعلوم من السياسة بالضرورة، فقد كانت مشكلة لوعي جماهير المثقفين والمتعلمين ناهيك عن المفكرين والسياسيين.
ولعله من نافلة القول المعاد والمكرور أن نذكر بأن هذه الحقوق قد استندت إلى مجموعة من الأعراف والقيم الأخلاقية العامة الإنسانية التي يشترك فيها الناس جميعا، وهدفت فلسفتها إلى تحقيق المساواة والعدالة في التعامل بين الناس، تاركة وراء ظهرها كل تمييز عنصري أو ظلم أو محاباة لأي كان قويا أو ضعيفا. ولكن لو بحثنا في حقيقة هذه المسألة، سيكون واضحاً أن تلك الحقوق لها جانبان؛ نظري جميل برّاق يستهويك ويمنيك الأماني في الحرية والعدالة وعدم التمييز، وتمنحك الحقوق الإنسانية كاملة بغض النظر عن دينك وموطنك وعرقك ولونك أسودَ كنت أم أبيض، عربيا أم أمريكيا، مواطنا أم لاجئا سياسيا أو زائرا غير مقيم، ولا شك بأن هذه الصورة البراقة موجودة ومطبقة في بلدان كثيرة، وخاصة في تلك الدول التي نجحت في تذويب العرقيات والاختلافات الثقافية في بوتقة المواطنة الواحدة، وتواضع الناس بعقدهم الاجتماعي الضمني أو المكتوب أن يلتزموا بالقانون العام ليطبق عليهم النظام بالتساوي وبالعدالة البشرية الممكنة.
ولكنه، ومن جانب آخر، فإن معايير حقوق الإنسان استخدمت كذريعة للتدخل في الشؤون السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية للدول الضعيفة، وقد جرّت على العالم وليس العربي والإسلامي وحسب مصاعب وعراقيل جمة، فتركيا على سبيل المثال اشترط عليها جملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومنها بطبيعة الحال ما يتعلق بحقوق الإنسان من أجل الموافقة على دخولها في الاتحاد الأوروبي، وما زالت تناضل من أجل ذلك، مع غلبة ظني أن المسألة لم تكن أكثر من ذريعة؛ ففي المسألة أمور أكثر تعقيدا وأبعد تأويلا من إصلاحات مهشمة هنا وهناك!!
فالدول الاستعمارية الكبرى وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا، ما زالتا تستخدمان هذه الحقوق من أجل السيطرة والتدخل، فالعيب ليس بتلك المعايير والحقوق بصفة عامة، ولكن العيب كل العيب فيمن نصّب نفسه راعيا لها، وهو أول من ينتهكها، وشبيه بذلك ما تدعيه الدول الكبرى من رعايتها لحقوق المدنيين وقت الحرب ضمن ما عُرف بالقانون الدولي الإنساني (القانون الدولي الخاص)، فإننا ما زلنا نرى ونسمع ازدواجية المعايير عند سياسيي تلك الدول، وانتهاكاتها في هذا المجال لا تعد ولا تحصى، بل على العكس من ذلك فإن تلك بعض الدول تعربد من أجل أن تنفذ سياساتها وتحمي مصالحها الاقتصادية والسيادية السياسية، ولتبتلع الحرب الناس جميعا، وما سوريا عنا ببعيدة، ونحن ننظر كيف اختلفت الدول الكبرى حيال مسألة إنسانية لا يختلف عليها عاقلان، فلولا المصالح المرتجاة من ذلك التصرف لما رأيت هذا الشرخ في الموقف الدولي حيال قضية إنسانية كبرى يعاني فيها الناس أشد أنواع التنكيل والبطش.
فما الذي يمنع الدول الكبرى راعية تلك الحقوق أن تحمي المدنيين وحقوقهم والفقراء ومتطلباتهم في شرق العالم وغربه، إنها أشبه بمقولة الحق التي أرادوا بها باطلا، فكم من مظلوم ظهرت براءته وظل حبيسا في سجنه، وكم من مجرم جرمه كعين الشمس في رابعة النهار ظل طليقا حرا يسبح في نعماء تلك الدول لا يمسه مكروه، ويلغ في الدماء صباح مساء والعالم يغض عنه الطرف، ولا أستبعد أنه يشجعه في الخفاء!!
أي عالم مجرم هذا العالم!! وأخير ا نقول "حقوق الإنسان"، فأين حقوق الإنسان التي لم تفلح كل البنود بحماية امرأة أو مواطن من القتل أمام عدسات الكاميرا، ولم تساهم برسم بسمة على وجه طفل مات أبوه ظلماً في سجون الطغاة أو سحلاً على غير ما جريمة سوى أنه قال: لا للظلم والاستعباد والديكتاتورية، وأي حقوق إنسان وما زالت شعوب بكاملها خاضعة لإرادة الغير لا يحق لها تقرير مصيرها في فلسطين وكشمير وغيرها الكثير؟
فلا يخدعنكم بهرج القول وزينته، ولكن انظروا ماذا فعل أصحاب تلك المواثيق، تأملوا كل ذلك أيها الكرام، جعلت فداءكم!!