يسر (الكلمة) مع هذه القصة الجميلة للكاتب العراقي المرموق إعلان انضمام كاتبها لأسرة التحرير مسؤولا من هذا العدد عن باب قص. فهو كاتب تنضح كتابته من خبرة عميقة بالتجارب التي يكتب عنها، وحساسية بالغة للغة السردية التي يكتب بها، وتجريب يتجلى في هذه القصة التي تتحول فيها القصتان إلى مرايا لجروح الروح وأوجاع الزمن الصعب.

قالت لي

سلام إبراهيم

عند الفجر وقع بصري عليها مقبلةً من عمق الوادي حيث قرية "دولكان". سمراء ناعمة التقاطيع، تبتسم لكل مار من رفاقها، وتتمازح معهم بلهجة الفرات التي عرفتها فورا، وكأنني في مدينتي. لما رأتني قدمت نحوي عرفت نفسها:

ـ أسمي رجاء!

 وسألتني عن أسمي.

عندما أخبرتها أني قادم من الداخل توا أبدت اهتماما غير عادي، أرادت الخوض في التفاصيل، لكنّي اعتذرت، كنت متعباً لا أبغي سوى النوم والنوم إذ قطعت مسافةً طويلةً لا يتصورها إلا من عاش ثائرا في الجبل .. سرنا بمصاحبة دليل من حافة كفري، عبر تلال كرميان، وسلسلة جبال قرة داغ، لنهبط إلى سهل شهرزور قاصدين شارباجير، ثم عبرنا جبل سورين في صعود أستمر طوال الليل لننزل إلى منطقة الأمان التي كانت وقتها "الأراضي الإيرانية" ثم سرنا يومين إلى قرية دولكان ومنها تسلقنا مرتفعاً إلى بيت مزارع حيث مقر القاعدة المؤقت كان ذلك في شهر أيلول 1982.

للتجربة الأولى طعم مختلف، من جبهة الحرب والخوف من الكلام .. من عيون رجال الأمن المسعورين ونقاط التفتيش عند مداخل المدن وفي داخلها إلى فضاء حرّ وثوار مسلحين يحلمون بتطور حركتهم إلى حركة شعبية تزحف لتحرر المدن الواحدة بعد الأخرى بما يشبه زحف كاسترو وجيفارا في كوبا. من قاع الخوف المعتم إلى سماء زرقاء وطيران في الأعالي. وقتها كنت مخدرا بالخلاص من كابوس الموت في الجبهة، من الاعتقال والموت في الأقبية حتى أنني نسيت في الفترة الأولى بأن لي زوجة وابناً لم يبلغ شهره السابع تركتهما خلفي في مدينتي. لم أصحُ من الخدر ذاك إلا بعد أشهر طوال، وخلال هذه الفترة توطدت علاقتي بـ "رجاء" كنا نذهب معاً كل صباح عقب وجبة الفطور إلى منطقة تبعد أكثر من كيلومترين لتقطيع الحطب. كنا نخوض بشؤون العراق والناس في الداخل إلى أن بلغنا الغور بالشؤون الحميمة. ورويدا .. رويدا بدأت تفتح قلبها المثقل بالهموم، هموم صغيرة غير مفهومة أبدا للثوري المؤدلج. تلك الهموم كانت لا تستطيع البوح بها إلى أحدٍ من رفاقها، لكنها بعد أيام من الحوارات استشفت بفطنة المسافة القائمة بيني وبين الأيديولوجيا فسألتني بغتة:

ـ أنت مو بالحزب!.

رددت ببساطة:

ـ لا لست بالتنظيم!.

انفجرت بضحكة عاصفة وقالت:

ـ وملتحق وتتحمل كل هذا العذاب!.

وقتها لم أشعر بكلامها العميق بل وجدت فيه سذاجة، لكن سوف أتذكره لاحقا عندما حكَّتني التجربة حكا وأرتني الويل، لا بمصاعبها الخارجية فحسب بل بمعاناة العيش مع مجموعة من البشر وكأنك مسجون رغم حريتك الظاهرية. كان ذلك في مرحلة لاحقة كانت فيها "رجاء" في عالم أخر.

أجبتها:

ـ أفضل ما أموت بالجبهة لو بالسجن!.

صمتت هنيهة وحدقت بعيدا عبر الوادي إلى قمة عالية منحوت في أعلاها ما يشبه ثدي امرأة كبير كان يثير لدى المقاتلين أخيلة وأماني بين دفء صدر الأم وصدر الحبيبة والزوجة المتروكة في المدن البعيدة. التفتت إلي وقالت:

ـ يعني لو ما هذا الوضع ما التحقت!.

ـ نعم .. لو تركوني وشأني!.

حمل كلٍ منا قطعة من ساق شجرة بلوط ذبحتها بمنشاري، وخطونا نحو القاعدة .. صمتت مسافة طويلة، لم تفتح فمها المرح كعادتها كل يوم أثناء المسير. قطعنا نصف كيلومتر وتوقفنا لنسترح قليلاً. جلسنا متقابلين على حافة سفح صغير نعبُّ أنفاسا عميقة فأمامنا مرتفع حاد. توقعت أنها ستقول شيئا إذ بدت ممعنة في التفكير، فتشاغلت بالنظر نحو غيوم السماء الدانية السريعة المارقة جوارنا في الوادي، إلى أن قالت:

ـ يعني أنت التحقت لسبب أخلاقي!.

وكأنها وقعت على ما عجزتُ التعبير عنه، هتفت:

ـ بالضبط من أجل كرامتي!.

بدأنا نقضي ردحاً من النهار نتجاذب أطراف الحديث مقلبين شؤون الدنيا. وكنت أخوض بما يعني النفس والتجربة دون مكاشفةٍ فلا هي عرفت عني شيئا يخص وضعي الاجتماعي ولا أنا. لكنها شَكَتْ من ضيق الدنيا، وأفضت لي بعذاب الأنثى حينما تضطرُ إلى العيش وسط حشد من الرجال حتى لو كانوا رفاقاً. لم تشكُ بشكلٍ مباشر بالكلام عمن كان يضايقها مثلا، بل هي أعمق من ذلك بكثير. كانت شجاعة تتصرف دون أن تدير بالاً لما كان يهمس حولها .. تتصرف وكأنها في بيتها كابتة تلك الآلام الصغيرة التي تأتي من نظرات مقاتلٍ محروم .. نظرات تغتصب، تفترس، من همهمة، من كلام يضايق، من القيل والقال المستشري في بيئة الثوار المعزولة. حكت عن رفاق أرادوا الزواج منها .. لكنها لم تكن تميل لأحدٍ ممن تقدم لها .. قالت غاضبة بصوت قوي:

ـ لا أحد يريد فهم ماذا يعني أن المرأة لا تريد.

وسردت ضاحكة تكرار المحاولات ..علقت أخيراً:

ـ خليها سكته .. تره عدنه رفاق حمير!.

هدرنا بالضحك العاصف الذي جعل الرفاق المتجمعين قرب تنور الخبز وقاعة المنام يشخصون صوبنا بعيونٍ متسائلة.

كانت مثل تلك العلاقات الحميمة تثير غيرة وحسد الرفاق الذي لا يستطيعون نسج علاقة مع امرأة، فكانوا يسمعونني بين الحين والحين كلاما ملغزا أعرف القصد منه، كنت لا أرد ولا أبالي منتظرا شجاعة المتكلم كي يفصح بوضوح.

وتطورت علاقتنا الشفافة فصرت أريها ما أكتب من قصص .. وفي نفس الموقع كتبت قصة "جرح الحمامة"* عن بنت المزارع الكردي صاحب البيت "سورين" الفاتنة. قرأتها وماتت من الضحك وسألتني:

ـ أحقا تفكرون بهذه الصبية الصغيرة وتحكون عنها فيما بينكم بهذه الطريقة؟!

ـ الحوار ليس خلقاً مني!

فسألت بلهفة:

ـ زين مِنْ هذا المسؤول الذي رصدته يقلد صوتها وخطب فيكم كي تبتعدوا عن المكان؟!

 ـ بهاء الدين نوري ـ*

وقتها كان مسؤول الموقع .. وعبر الستين من عمره. هوت في ضحكة جديدة طويلة هذه المرة فعلقت:

ـ رجاء أسمعي .. الجمال مصيبة!

وقتها نمَّ لي أحدهم نميمة جميلة عميقة تخصها .. فالكثير من النم مفيد. نمَّ عما جهرت به ليلة رأس السنة الفائت في الحفل الذي أقاموه في مقر "نوزنكـ" وكيف قام كل رفيق وتمنى أمنية .. والكل طبعا تمنى الانتصار ونجاح الثورة المسلحة والزحف إلى المدن إلا هي، وصَمَتَ وعلى شفتيه ظل بسمة.

 قلت أستحثه الكلام:

ـ ماذا تمنت؟!.

رمقني وتلفظ جملته بإعجاب:

ـ قالت أتمنى أن أتزوج!

كبرت بعيني. لزمت الصمت متخيلا مشهدها وهي تقف وخلفها جدار من الحجر والطين .. وعيون المقاتلين تشخص نحو قوامها الناحل وظلها المتشبح على أجسادهم بفعل ضوء الفوانيس المرتجفة .. رأيتها تشمل الجميع بعينيها السوداوين .. تأخذ نفساً عميقا. تجّمعْ نفسها وتعلن أمنيتها الصغيرة المستحيلة التي لم تستطع نيلها في عمرها الخاطف. واصلتُ صمتي متأملا وجه المقاتل الذي كان ينتظر تعليقا مني، ولما يأس أردف:

ـ شُجاعة .. نطقتها في قاعة فيها أكثر من سبعين رفيق!

شجاعة ومقدامة حقا إذ كانت لما تلاحظ ارتباكي وضيقي من عيون المقاتلين الملاحقة خطواتنا ونحن نبتعد قليلا عن الجمع منهمكين بأحاديث عميقة صريحة تجد أن من المستحيل البوح بها لغيري، كما أخبرتني مرات عدة .. إذ ستفهم بالمقلوب كما أمنيتها بالزواج في عيد رأس السنة الفائتة .. ففي اليوم التالي وجدت نفسها محاصرة بالعشرات من الرفاق الذين يبغون الزواج منها .. كانت تقول بوضوح:

ـ لا تشغل بالك بهم!. أعرف كيف يفكرون لكن المهم أنا وأنت كيف نفكر! بعضٌ ممن حاصرني ولحّ كي أتزوجه معنا هنا .. أقول ذلك كي تكون الصورة واضحة أمامك!

أحاديثنا تشعبت .. من الطفولة إلى الحب والمرأة والأدب، أما المشترك بيننا فهو ذلك الحنين الجارف للأمكنة التي تركناها خلفنا في مدننا الحميمة المنتهكة. كانت تبات مع عائلة كردية في قرية "دولكان" تنزل إليها بعد وجبة العشاء، لتبكر في الصباح صاعدة إلى مقر القاعدة.

في ظهيرة خريفية مشمسة، كنا نجلس ثلاثا .. ثلاثا حول صحون الغداء .. كنا في ذلك اليوم ثلاثة رجاء، والقاص يوسف أبو الفوز صديقها وزميلها في الجامعة كما عرفت لاحقا وأنا نضج بالكلام والضحك والتعليق حينما ناداني بصوت عالٍ رفيق يدعى "أبو بشرى" ذو وجه أسمر قاحل يميل إلى لون الحديد الصدئ قائلا بصوت جهوري أسمع الجميع:

ـ مبروك رفيق وصلت رسالة حلوة من زوجتك!

هببت من جوارهما فرحا لا تسعني الدنيا ونهبت من كفه الورقة المفتوحة. كان خطها. خبأتها في جيب سروالي وعدت إلى حلقة الأكل مسرورا، بيّ غبطةٌ لا مثيل لها، فلم أنتبه مثلا لخبث الإعلان، ولا لقراءة المسؤول لرسالة شخصية، ولا لردّ فعل رجاء أو يوسف أبو الفوز .. كنت مستعجلا الخلوة مع حروف رسالتها الحميمة.

قبيل نزولها إلى القرية تمشينا بممر مذهب بورق الخريف، وعلى حافة الوادي الصغير المحاذي لذلك الممر الهابط المعزول .. كانت صامتةً على غير عادتها، حاضرة غائبة، ممعنة في نفسها على وقع تكّسر أوراق الخريف اليابسة تحت أقدامنا المتباطئة الخطو.

 ثمة ما يثقل المشهد .. والعلاقة

وقتها لم أفهم شيئاً!.

كنت أنتظر مفتتح الكلام .. الذي سرعان ما أتى. توقفت بغتة فتوقفت مثل جندي تلقى أمراً. رفعت رأسها ورمقتني بعينين يختلط فيهما العتاب بالمحبة وقالت:

ـ أبو الطيب أنت متزوج!

أكون كاذباً إذا قلت أن السؤال لم يربكني .. لا، ارتبكت جداً .. لا أدري لم ارتبكت؟!

هل خفت وقتها من ضياع تلك العلاقة الشفافة في ذلك الواقع الصلب الصعب؟!

هل كان ثمة شعور دفين بداخلي يقول إذا عرفت سيصيبها الحزن!

هل .. .. ... وهل؟!.

دون تردد أخبرتها بقصتي كلها .. قصة حبي المجنون، وكفاحنا من أجل الزواج. كيف واجهنا عائلتينا؟! وكل موروث القيم العراقية التي تعيب الحب وتعتبره سبة وجريمة .. حتى فرضنا الزواج فرضا ثم حدثتها عن أبننا الصغير ـ كفاح ـ كان وقتها عمره ستة أشهر فقط ـ وليلة القصف الرهيبة التي قضيتها داخل ملجأ شقي ضيق في هجوم شرق البصرة الشهير تموز 1982 .. هروبي في أول إجازة ثم فلاحي بالوصول إلى الجبل .. كانت تنصت محدقة بعيني وفي عينيها تعاطف وشجن، قلت لها ظانا أن قولي يخفف عليها:

ـ رجاء لا أستطيع أن أخبرك بكل شيء عن حياتي كما لم أطلب منك البوح بتفاصيل قصتك لي .. أليس كذلك؟!. لكن هذا "أبو بشرى" وضعني بهذا الموقف الذي وحدك يا رجاء من له الحق بمعرفة قصتي الحقيقية!

توقفت واستدارت. صارت بمواجهتي. خلفها يستقيم السفح المقابل مغطىً بالأشجار المذهبة:

ـ ألا تشتاق لها .. لأبنك؟!

وقتها كنت لم أزل سكران بالخلاص من الحرب والأقبية، ولم تمض بيّ الأشواق بعد، لكن بعد أشهر من الدوران بين القرى واشتداد المشاق وَتَمكنْ الوحشة مني، سأتأرجح على حافة الجنون فأسعى للتسلل إلى مدينتي .. إليها لأذوق الجحيم مفصلاً .. ثم أنجح في جلبها معي إلى الجبل:

أجبت وقتها:

ـ معي هما في كل لحظة!

لم تفعل تلك المكاشفة إلا تعميق صداقتنا. فخابَ ظنّ صاحبنا، الذي عرفت منها لاحقا أنه كان هو الرفيق الذي ألح عليها بالزواج.

وقتها لم أخبر خبايا نفوس المقاتلين وما يدور من صراعات خفية سوف أتلظى بجحيمها لاحقا لما عشت تجربة الالتحاق الثاني مع حبيبة عمري وسري حتى الأنفال.

تلك الأيام تبدو الآن بعد أكثر من ثلاثة وعشرين عاما مثل حلم جميل مكتظ بروائح الجبل، الليالي المقمرة المثلجة البيضاء، نقطة الحراسة فوق سطح جامع أو في زاوية بيت، الصمت وإرهاف السمع مخافة هجوم مباغت. كنت أسوأ مقاتل في الدنيا، أقضي نوبة حراستي في أحلام يقظة ليس لها أول ولا أخر، حتى أنني كنت أنسى فأظل بالنقطة ساعتين بدل ساعة نوبتي. كنت أشم عبق أرواح المقاتلين الحالمين بفجر عراق جديد لا ظلم فيه .. أشم روائح الوادي، بقايا دخان نار رعاة، نار مفرزة أخرى، كنت أعيش أحلامي محدقا بشرود في الضوء الخافت المتسلل من كوى نوافذ بيوت فلاحي القرى الكردية الفقيرة المنسية في تلك الأصقاع البعيدة التي لم تصلها الكهرباء ولا الطرق .. أحدقُ حالماً بكتابة المزيد من القصص عن عذابهم الدفين وشدة تحملهم لعناء الأشواق والمخاطر.

في الطريق الطويل من مقر "دولكان" إلى قرية "حاج مامند" في "شارباجير" كانت رجاء معنا. أيام من السير بين الجبال في برد تشرين الثاني القارص. كنا نمشي أثنين .. أثنين بمسافة فاصلة قدرها عشرين متراً لتقليل الخسائر في حالة هجوم مباغت. وكنت ورجاء نسير معاً بين قرية وأخرى ويوم وأخر. حكت لي الكثير عن أحلامها الصغيرة. وكانت تشعر حقاً أن الزمن يسرقها .. فهي بلغت الثلاثين ذلك العام ولديها رغبة في العيش بحضن أسرة. لم تقل ذلك مباشرة بل أدركت كلامها ولمست عذابها الدفين في تفاصيل الأحاديث المتشعبة ونحن نسير على طرق جبلية وعرة حيث نصبح أحيانا فوق قمة أعلى من الغيم.

كنت أفكر في الله الشاهق في السماء، هل يرى عذاب أرواحنا من الأعالي ونحن نؤوب عند المساء إلى بناية جامع قديم رطب الجدران نبحث عن حطب ندفئ فيه ليلنا الثلجي ونرتب الحراسات كي نضمن سلامتنا على أمل السير في الصباح الباكر نحو عمق العراق!

هل كان يرثى لحالنا؟

يرثى أحلامنا العريضة المستحيلة؟

بت واثقا من ذلك بعد كل تلك الأعوام .. وذلك النظام الذي قاتلناه بقي وصرنا متناثرين بعضنا دفناهم بأيدينا تحت ظلال شجرة .. تحت صخرة .. في حفرة على عجل، وبعضنا ضاع بلا قبر مثل صديقتي رجاء وأخي كفاح وأولاد عمتي صلاح وعلي، ومعهم الآلاف من أبناء تربتي، وبعضنا في المنفى يعاني من خريف العمر والوحدة مثل حالي.

.. .. .. .. ولم يسقط إلا بالاحتلال!.

كان الله في سمائه البعيدة لا يرثى لذواتنا التي أسجل الآن نتفاً مما كانت تحلم به وتفعله في تلك الأيام فحسب بل يبكي على مصائرنا نادماً على طردنا من جنته .. على تركنا في الحيرة بين الخير والشر في هذه الأرض.

في تلك المفرزة الطويلة الكثيرة العدد أتذكر قرية عجيبة، ففي العادة تشاد القرى على السفح لكن تلك القرية أقيمت على مرتفع في قعر وادٍ عميق .. وحولها تشهق أربعة قمم لجبال مفردة توزعت على جهات الأرض. وعلى قمة ذلك المرتفع المسكين شيّد جامعها الفقير. في حراسات تلك الليلة كانت رجاء قبلي في النوبة. وكنت كعادتي أنام مثل ميت أينما كنت ولا أبالي بالقادم وكان ذلك يغيظ رفاقي الجنود في الجبهات، وأغاظ رفاقي الثوار في الجبل أيضاً. استيقظت على ربت أصابعها على كتفي. فتحت عيني. طالعني وجهها الباسم وهمست بعذوبة:

ـ قم وقت نوبتك!.

كنت أحلم بعالمٍ أخر غير الذي أنا فيه. كنت في بيت أهلي في الحي العصري أمارس حياتي بسلام، وأمي توشك أن توقظني كي أجلب الخبز كل فجر من فرن الحاج جاسم ذي الوجه النوراني، وكأنه وليّ من أولياء الله. ظللت أرى سلام ملامحه وعينيه في رسومات المسيح في كل الكنائس التي زرتها هنا في أوربا. كنت أغور في تلك المعاني البريئة عندما أزحت البطانية القديمة، وأنهضت جذعي الأعلى. فركت عينيَّ وتابعت قامتها المدبرة وهو تنسل إلى عتمة باب الجامع. تلفتُ فرأيت يوسف أبو الفوز القاص ساهرا يقرفص جوار المدفأة الصفيحية يلقمها بالحطب متلفعاً بقمصلته العسكرية الثقيلة ويخطُ شيئاً بدفتر صغير بين يديه.

رغبت بالعودة للنوم وسلام الحلم، لكنني زجرت تلك الرغبة وأنهضت جسدي بعناء، شددت صف الرصاص. حملت البندقية، ونقلت خطوي الحذر مخترقا حشد المقاتلين الغارقين في النوم والأحلام والأماني والعذاب. قبل أن أتجاوز العتبة إلى رواق الجامع التفت صوب الكتل الغافية، صوب يوسف أبو الفوز المنهمك في محاولته مسك تفاصيل اليوم الذي سنجده في كتاب سيصدره بعد أكثر من عشرين عاماً عن يوميات الأنصار:

ـ ربي أرفق بحال صحبتي!

هتفتُ بصمتٍ في اللحظةِ التي دلفتُ فيها خارجاً إلى عتمةِ الجبلِ و"رجاء". وجدتها ترتجف رغم المعطف العسكري الثقيل .. همستْ بخفوت شديد وهي تناولني البندقية:

ـ أكاد أتجمد من البرد!

أمسكت جسد البندقية فلامستُ أصابعها السمراء النحيفة الصغيرة كأنها أصابع طفلة. كانت قطعة من الثلج. تنكبتُ البندقية وقلت لها ضاحكاً:

ـ سأدفئكِ بثوانٍ!.

 وحضنت أصابعها بين كفيَّ وفركتهما بشدة حتى كادت أن تحترق أيدينا كما كنا نفعل في المدرسة لما كنا أطفالاً وقت الشتاء والصف لا مدفأة فيه. أنسلت ضاحكة بمرح صوب باب الجامع. وذاك أخر يوم جعلنا نقترب من بعضِ إلى حدود تحرزها النفس في أعماقها وتبقى حتى فنائها.

ما تبقى من القصة أكثر مرارة ووحشةً. وزعنا على سرايا تدور في قسمي منطقة "شارباجير" المحيطة بمدينة السليمانية من الشمال. وصرت أدور مع سرية يتسلل قسم منها بين الحين والحين إلى المدينة لنصب كمائن وجلب أسرى من رجال الأمن الأكراد طبعا. كنت أتأمل في ذلك الشتاء الثلجي الطويل الشأن البشري .. وضعي .. وضع رفاقي بحالاتهم، وكانت أشواقي تستعر يوما بعد يوم لحبيبتي وأبني .. صرت أحلم كل ليلة بها حتى أني وجدت نفسي في بعض الليالي أزحف معانقاً الرفيق النائم جواري .. يوقظني فأشعر بالخجل ولا أعرف كيف أفسر الأمر لحظتها .. ومن حسن حظي أن من كان ينام إلى جانبي ممن كان يعرفني بعمق، ولو كان من فتية الأكراد المقاتلين لوقعت بمأزقٍ من الجائز أن يغير مسار تجربتي. صار حلم رؤيتها خلاصة عمري .. وصار خيالها يعاشرني من لحظة نهوضي في الصباح .. من صورتها في الحلم طول مشاق السير بين القرى في النهار إلى النوم في جامع فقير ما في المساء. إذ تأتلق لحظة سقوطي في النوم، فتطعمني من لذة عطرها وصوتها وجسدها ما يجعلني في الصباح شبه ممسوس، أسرح شاردا عما يجري حولي، فبدأ الوجد يظهر عليَّ جلياً بنسيان بندقيتي حينا وصف الرصاص حينا وحقيبتي حينا. كنت قد عزمت مع نفسي التسلل إلى مدينتي وليكن ما يكون .. فدونها الجحيم. من أجل ذلك كتبت العديد من الرسائل كي يسمحوا لي بالنزول. فبعثوا في طلبي .. وفيما كانت السرية على مقربة من "حاج مامند" أشار لي آمر السرية بالبقاء في المقر أياماً معدودة. فحللت بذلك البيت العالي المطل على بيوت القرية المغطاة بالثلج المتناثرة حتى حافة الوادي. كان مكتظاً بغرفه الخمس المفتوحة على رواق يطل على الوادي. رواق طويل يعج بالمقاتلين والقادة الذين يجوبون مساحته رواحا ومجيئاً طوال الوقت.

كنت أحضن المدفأة في غرفة تخص رفاقِ تنظيمات الداخل.

عبر النافذة المفتوحة يظهر الوادي عميقا ضيقا في - حاج مامند - معتما والثلج ينهمر نتفاً مدورة في مهرجان من البياض صار مكروها للمقاتلين إذ يعني ذلك مشاق في السير وتجفيف الملابس وسهولة كشف الطائرات المروحية حيث يصير المقاتل مثل نقطة سوداء بصحن أبيض.

التفت صوب الباب المفتوح بجلبة. وجدت نفسي أقفز رغم تعبي. كانت رجاء تبتسم وتصرخ باسمي مفتوحة الذراعين. تعانقنا وأخذتني إلى ذلك الرواق المكتظ بالمقاتلين.

شوق غامض يشدنا

عذاب غير مفهوم

نحس به وحدنا!.

هل كنا نشترك بمصيرٍ؟!

هذا ما بت واثقا منه، إذ نجوت بمحض صدفٍ منه!

قالت لي وفي وجهها ذلك الوميض الخاص بفرح من وجد كوة مضيئة في عالمٍ دامس:

ـ ستنزل أليس كذلك؟!

أجبت فورا:

ـ لم أعد أطيق أشواقي ..

تبسمت ولم تعلق منتظرة، أردفت:

ـ صار خيالها يوجعني في كل لحظة!. لست أقول شعراً بل حالي هكذا يا رجاء!

تلفّتُ حولنا. كان الثلج يتساقط بغزارة، وعيون المقاتلين تحملق بنا بفضول راصدة ما يطفو على وجهينا. قالت:

ـ لندخل الغرفة!

الغرفة التي أشارت إليها صغيرة تنام فيها مع زوجة من كان يقود تنظيم الفرات الأوسط يدعى ـ (أبو تانيا) عدنان عباس ـ تلكأتُ متسمراً جوار الباب .. ليس من شيء بل كنت أفكر بما يجول في نفوس المقاتلين المحرومين، في أخيلتهم وهم يتابعون جسدي العملاق وهو يختفي في غرفة صغيرة فيها امرأتان. سحبتني بقوة وقالت بصوت سمعه الجميع:

ـ تعال خرب إبليسك!

أنقدت مثل طفل. أحنيتُ رأسي كي ألج الباب الواطئ. وجدنا "أم تانيا" تجلس جوار المدفأة والفانوس معلق على رف يرتفع مقدار متر على الجدار البعيد. لا أتذكر الآن ما خضنا فيه من أحاديث. لكن لا أستطيع نسيان ردها على سؤالي حينما أدركت أنها عازمة على التسلل إلى مدن الداخل .. سؤالي المرتبك العارف بما قد تلاقي من مصير .. كنت أخاف أن يقبض عليها وتضيع .. كنت أحرز في ذاكرتي أصوات تلك النسوة اللواتي يعذبونهن في عمق الليالي .. صراخهن الموجع .. توسلهن بالجلاد .. التي كنت أسمعها وأتمزق وأنا معصوب العينين مقيد اليدين في الأمن العامة ببغداد في صيف 1980 . سألتها سؤالاً كنت أظن أنه سيثنيها عن عزمها على التسلل إلى حيث الموت الأكيد:

ـ رجاء أسمعي

رنت نحوي بعينيها اللامعتين منتظرة:

ـ تعرفين لمن حنيني!

لزمت الصمت لحظة. كانت تنتظر سؤالي الواضح رغم إحساسي أنها أدركت ما أرمي إليه، فقلت:

ـ إلى أين أنت ذاهبة!

هدرت في ضحكة هزت ضوء الفانوس وأرجفت وجوهنا الملتفة حول المدفأة وغنت أغنية فيروز:

ـ أنا عندي حنين ما بعرف لمين!

 ليليَّ بيخطفني من بين السهرانين

ويصير يبكيني

لبعيد يوديني

وما بعرف لمين!

أنصتنا لصوتها الشجي وهي تضفي على كلمات الأغنية عبقها الخاص .. حنين عميق .. عمق محنة العراقي المتجسد بتلك الأغنية في عتمة غرفة رطبة ببيت جبلي منسي أندثر.

وقتها كنت خائفا عليها فهي لا تعرف ما آلت إليه الأوضاع في غيابها. لكن ذهب كلامي أدراج الريح وكانت ترد على دقة كلامي وخشيتي من عذاب الأقبية التي لا يتمناها الفرد لعدوه زمن صدام .. ترد

ـ أبو الطيب .. أنا عندي حنين!

بكل مرح!.

تردف:

ـ وداعتك أبو الطيب ما بعرف لمين!

خرجت من الغرفة ليلتها وبكرت بالنهوض قبيل الفجر كي ألتحق بسريتي، وأكتم أمر نزولي، إلى حين ترتيب الأمر. في طريقي إلى الدرج النازل صوب الوادي التفت أخر مرة إلى غرفتها الصغيرة وكأنني ألقي عليها نظرة وداع .. وجرى الأمر هذا المجرى بالضبط .. فبعد تلك اللحظة لم أرها قط. لما وافقوا على تسللي عدت إلى ذلك الموقع ـ حاج مامند ـ.

 وصلت لم أجد "رجاء"!

 كانت قد تسللت قبلي إلى من كانت تحن إليه بغموض وبلا سؤال.

لم أجدها .. سألت عنها قالوا كلاماً يموه لكنني كنت أعرف أنها ذهبت لتعانق حنينها .. تمنيت لها السلامة لكن أمنيتي خابت .. لم أدرك أنها خابت إلا بعد عقدٍ ونيفٍ من السنين.

قبل ثلاثة أشهر كنت في حفل عراقي في قاعة ما وسط كوبنهاجن .. .. همس لي أحد الحاضرين أن تلك المرأة الشيباء الشاحبة المسماة "أم غادة" أخت رجاء.

 ذهبت إليها فورا وسألتها، كانت هي الأخرى لا تعرف قصة مقتلها. لكنها أفضت لي بطرفٍ مما كانت الفقيدة تتوق إليه إذ عادت لأهلها حتى قبضوا عليها بصحبة أخيها الصغير وضاعوا في تيه الأقبية ولم يعثر عليهما حتى في مقبرة جماعية من المقابر المكتشفة لحد لحظة كتابتي هذه. .

وحدي من يفهم ترنمها الذي يبقى طلسماً للجميع وكأنها فضت ببوحها عن مأزق بقعة العراق الدامية وهي الحبيبة التي لا أريد حتى تخيل كيف قتلوها ذلك يجنن وضعي الممسوس فعلا في المنفى أفهم الآن وبعد أكثر من ثلاثة وعشرين عاما ترنمها العميق الحنون:

ـ أنا عندي حنين! ..لكن وداعتك ما بعرف لمين؟!

 الدنمارك 2005

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نص القصة

 

جرح الحمامة
لكل منا قصته. رجال كبار السن تركوا دفء البيت ورائحة الزوجة وضجيج الأطفال. شباب لم يرتووا بعد من هذه المسافة الممتعة في عمر الإنسان. أزواج رحلوا باكراً عن زوجاتهم الفتيات اللواتي بقين يتحرقن بسعير الأشواق. أكراد، عرب، صابئة وتركمان هجروا المدن ومباهجها، والتجئوا إلى الجبال الوعرة حاملين بنادقهم وحالمين بعدالة أبدية .. مستحيلة.

ننتشر في خيم حول بيت من الأحجار قائم في أعلى الرابية. بيت وحيد محاط بأشجار البلوط والتفاح، يجري إلى يساره نبع ماء يأخذ مجراه بالانحدار نحو الوادي. كان كل شيء هادئاً في ذلك المكان الحدودي النائي، وكنا نشعر بالغبطة، والبهجة والحرية رغم المشقة وقسوة الجبل، لكن في ذلك اليوم البعيد أحس كل واحد منا بشيء فقده .. كيف حدث لنا ذلك؟ الكل يسأل نفسه هذا السؤال المر، وكلنا يعرف جوابه، لكن لا أحد يريد تصديق ما جرى. الموضوع أعقد بكثير من الأجوبة كل الأجوبة، فعندما تتآلف مع كائن ما إلفة وديعة، تنام وتصحو وأنت موقن تمام اليقين بوجودها .. يعز عليك فقدها، مثلما الإنسان يألف يده ولا يشعر بوحشتها إلا عندما تصاب بعطب، كذلك الروح .. فالفتها أعمق وسماؤها أرحب. وحين تفقد نجمتها المتفردة الباهرة الضياء، تجد نفسها في ليل مظلم بهيم. أحس كل منا بالوحشة ذئباً برياً يحاصره في عاصفة ثلجية وهو عاري اليدين، منهوك القوى.

أول يوم وصلتُ إلى هذه القاعدة، لم أتبين من أمر البيت شيئاً، ظننته يعود للمقاتلين، لكن القدماء أخبروني بأنه يعود لعائلة كردية إيرانية تمتلك كل المساحة التي نشغلها، الأشجار والحقول وقاعة الطين وزريبة الحيوانات. في اليوم التالي نزعتُ غبار السفر الطويل في أحلك حمام في الدنيا، وصعدتُ قبيل وجبة الظهيرة عكس مجرى الماء قاصداً رابية النبع القريبة من البيت. جلستُ على صخرة منحوتة ككرسي، أغرقني التذكر، فرحلتُ إلى عوالم مدينتي الجنوبية البعيدة، أسواقها وناسها، ليلها وصبحها، بردها حرها، مدارسها وصباياها الفاتنات المفتتات قلبي الهش الضعيف أمام السحر. وكطلقة فجّت رخاوة أحلامي بقامتها الرامحة الملفوفة لفاً ووجها الممتلئ بحمرة الرب، تشع تحت وهج الشمس قادمة من البيت، ميممة شطر النبع. زهرت خطاها القافزة في قلبي وعندما حاذتني رمتني بنظرة خاطفة بارقة، فتمايلتُ في جلستي مختلاً من وساعة عينيها الباسمتين. كانت ترتدي ثوباً فضفاضاً بلون الجوري مفروشاً بالنرجس الأبيض. لوت شعرها الأسود الطويل ضفيرة تتدلى مقسمة ظهرها التام الانتصاب، وتتأرجح عند الكفل المدور البارز، تمسه بضربات خفيفة مع كل خطوة تخطوها. أصبحتُ أراها بوضوح وهي تنحني إلى حوض النبع لتملأ تنكة معدنية بالماء. مع كل غرفة تلسع روحي بزرقة عينيها الصافيتين اللتين تمران خطفاً بين ميلة وأخرى. تفحصتها. خصرٌ ناحل بالغ الضيق، وتكور بارز أسفل الظهر لا يخفيه الثوب الفضفاض. أنف مصقول منسجم مع امتلاء الوجنتين الرمانتين. شفتان مكتنزتان حمراوان تؤطران فمها الصغير. يا لها من مصيبة!! كانت نظراتي مرتبكة تتقافز بين وجهها والتنكة التي تكاد تمتلئ. تمنيتُ أن تظل هكذا أحدق فيها وهي تغرف الماء والتنكة لا تمتلئ أبداً. استقامتْ بقامتها المشدودة، وابتعدتْ تتلوى بمشيتها تلوي الحية. منحتني لفتة غزالة غنجة عند حافة جدار البيت قبل أن تغيب خلفه. عدتُ إلى القاعة الطينية شاعراً بالنشوة والغبطة.

مع طول فترة مكوثي في القاعدة، فضحت الأيام فحوى الأشياء نافضة الغبار الذي يحاول كل منا التخفي تحته، ومظهرةً أهواء الأرواح الحبيسة، فانكشفتْ لباصرتي الأمور بسطوع. وكما لكل منا قصته، فلكل منا أحلامه أيضاً، الحائمة حول محورها الشفاف المتمثل في المهرة العذبة المعذبة.

قال حبيب الأجرب:

ـ أريد أن أخطبها!

ضحكنا منه، وحاولنا تسفيه فكرته، فاحتد قائلاً:

ـ إنها تميل لي. بالأمس صبحتها بالخير فصبحتني برقة.

لم يبعث تأكيده سوى المزيد من الضحك المتوجس، وقد مس قلوبنا خيط خوف من أن يكون كلامه صحيحاً قلنا:

ـ ماذا جرى لعقلك؟ أأنت مجنون؟ أين نحن من الزواج؟

في تلك اللحظة كانت المهرة مقبلة وهي تحمل سلة ملابس كي تغسلها بحوض النبع. صرعنا الصمت، وتعلقت أبصارنا بخطوها الناشط، وللتمويه على بعضنا، كل منا تشاغل وكأنه ينظر إلى الغابة الناهضة حتى القمة خلف النبع، بينما أبصارنا لم تبارح ذلك التكوين الهائل المارق الخارق هشاشة الأرواح بألوان الكون.

لاحظتُ كبار السن يخالسون النظر أثناء مرورها وعيونهم تغور بعوالم حالمة قديمة، ثم تبرق بالشهوة، فيديرون وجوههم نحو الأشجار والجبل محررين الحسرة تلو الحسرة.

يعمدون غالباً إلى المزاح معها، وفي قسماتهم المتعبة تومض نشوة طفولية سرعان ما تنطفئ غائرة بين ثنايا أخاديد البشرة المغضنة، حتى إنني وجدت في أحد المرات شيخاً طاعناً يمازحها بتقليد نبرة صوتها الناعمة، وهي تكاد تموع بالضحك المغناج، وتصر على إعادة جملتها التي تستثيره وتجعله يمعن في تنعيم صوته الواهن الخربان، متحولاً إلى صبي.

وبتقادم الأيام ازدادت الأشياء عرياً، ومع بيانها التام أيقنت أن هذه الطيرة ترطب برذاذها الفواح جفاف أيامنا.

قال كريم: ـ لو أراها عارية. والله لما اشتقتُ مرة أخرى لرؤية عري أية امرأة.

كنت أغص بالضحك.

ـ تضحك ها ... ألا ترى أي بياض رائع هو بياض بشرتها.

كانت تشغل لحظات فراغنا الكثيرة، وتلهينا لحين عن أشواقنا المبرحة إلى مدننا الجنوبية البعيدة الحارة الحارة أحبتنا وأهلنا وزوجاتنا وأصدقائنا وأيامنا الماضيات.

قال حامد: ـ والله لو تقع بيدي لالتهمتها مثلما التهم آدم تفاحة الجنة.

وهي الباسمة دوماً لا تبخل على أحد بنظراتها الماكرة العذبة ناثرة مرحها بأرجاء المكان.

قلت في نفسي ـ الملعونة عادلة توزع عبقها المسكر بالتساوي، إذ لا بد أن يحظى الواحد منا باهتمام ما خلال النهار، نظرة، بسمة، ضحكة، غمزة، نفضة رأس، تقطيبة غنجة، انحناءة مقصودة، أو طرف حديث.

في صبيحة مشمسة كنت أسند ظهري إلى ساق شجرة مشمش عارية، فالخريف أصبح فتياً، أشحب الأوراق وذهب بخضرتها ثم هزها بريحه العاصفة فتساقطت مغطية الانحدارات والممرات وأسافل الأشجار. رأيتها تتسلق شجرة بلوط تميل عند حافة الوادي، تغيبها الأغصان الكثيفة تارة وتكشفها الفرجات في أخرى. ومن بين نثار الوريقات المتهاويات والأفرع المرتعشة نوّر قمرها، وانسكب صوتها الرخيم على روحي المستعرة ماء زلالاً.
شيرينه سه وره دانه ى هه ناري
كيره جوانه كه ى ناكودة واري*
وهي تعبئ كيساً مشدوداً إلى وسطها بحزم الأوراق التي تنزعها من الغصون. ضيعني قمرها الباهر رغم ضوء الشمس. كنت أظن أنني الوحيد الذي يراها، لكن يبدو أننا كنا نراقبها كل من زاوية تمكنه من رؤيتها بوضوح. وعندما تنتقل في قلب الشجرة وتحول الأغصان دون رؤيتها، يغير الواحد منا مكانه متصنعاً شاغلاً وهمياً، حتى إن أحدهم دنا مني وكلمني حديثاً مشوشاً لا رابط له، وهو يسرق نظرات خاطفة إلى البلوطة الراقصة حيث يمكن مشاهدتها من موضعي بيسر، ثم رمقني بحسد راداً على تحديقتي الماكرة قبل أن يعود باحثاً عن مرصد جيد.

قال صباح: ـ اللعنة على روحي .. إنها سمكة طرية.

في أحد العصاري وغب العشاء دعونا للتجمع، وخطب فينا نفس الشيخ الذي ضبطته يقلد صوتها، قائلاً: ـ نرجو أن تراعوا الظروف الاجتماعية .. كوننا غرباء، لا تتجمعوا قرب البيت.

لم نأخذ بكلامه طبعاً، فالألفة ساكنت أرواحنا المجروحة، صارت حمامة تعودنا عليها، ولا نملك صبراً على عدم رؤيتها يوماً، تحلق بسماواتنا المجدبة ناثرة في نفوسنا المحرمة عبق المرأة وسحرها .. ذلك التعود وتلك الألفة والاستغراق الحالم كان عزيزاً علينا. كنا نخشى عليه أشد الخشية ونداريه ولا نصدق فقده.

مع خطوط فجر باهتة ليوم خريفي حزين غادرنا القاعدة ثلاثة رجال وبغلين قاصدين قرية بعيدة لشراء التبن. انحدرنا على مسالك جبلية ضيقة أفضت إلى أودية أخذتنا بدورها إلى روابي مشجرة بالبلوط العاري. لم نرجع إلا وعتمة أول المساء تتجمع تحت الأشجار، وفي الأودية مدكنة لون الغسق الكالح. أنزلنا حملتنا في زريبة الحيوانات. ما أثار استغرابي هو برودة استقبالنا، وقسمات الرجال القانطة، المعفرة برمادها. هبط الظلام على الرابية والبيت والقاعة وحزن الرجال. أوحشني الليل والسكون فالتجأت إلى فراشي في غرفة الطين الطويلة التي نستأجرها، أرمق بخشية الوجوه المستغرقة بألمها والكامدة في ضوء فانوس شحيح موضوع على رف في الجدار. شيء ما يدمي قلوبهم، أيقنتُ بذلك والقاعة فقدت ضجيجها المعتاد كل ليلة. شعرت بالاختناق والباب الموصدة على الليل المدلهم الحزين. لم أطق الجو المتلبد، فملت جانباً، وهمستُ بأذن كريم المستلقي جواري والغاط بدوامة سيجارته:

ـ ما الذي جرى؟.

حدجني بدهشة، ثم لمعت عيناه في شحوب الضوء الذابل وقال:

ـ ألا تدري؟

لم أفه بشيء. هززت رأسي مستفهماً. تجمرت عيناه وهو يردف:

ـ زفوها ظهراً إلى فلاح يسكن قرية نائية.

ـ من .. من هي .. من؟

وقبل أن يفوه بكلمة حدست من، فأشرت له الكف عن ذكر التفاصيل ويد هائلة امتدت إلى سماء روحي وأطفأت نجمتي الوحيدة وتركتها سماء خاوية مهجورة. خنقني الألم. خنقتني القاعة والوجوه القاتمة .. خنقتني الأشجان والعبرات، فهرعتُ نحو الباب ناحل الخطو. فتحتها، وألقيت نفسي في الحلكة عاباً من الليل الخريفي هواءه البارد .. ملتاعاً .. محزوناً وطيف بسمة عذبة مصبرة سوف لا أراها بعد اليوم يذيقني شهد العذاب.

ـــــــــــــــــــ

* أغنية شعبية كردية "حلوة شقراء كحبة الرمان بنت جميلة من الكرد"

15/9/1982

قرية دولكان ـ الحدود الإيرانية ـ العراقية