حرصت (الكلمة) من البداية على فك الحصار الظالم على الثقافة العراقية ووضعها في مكانها اللائق. وقد نجحت أخيرا في أن تضم في هذا القسم نصين من داخل العراق الذي يتعرض لاحتلال بغيض، نرجو له التخلص منه.

محنة المثقف العراقي

سهيل نجم

إرتبطت المعاناة مع المثقف العراقي خصوصاً والعربي عامة، منذ أن سار مثقفو التنوير الأوائل وزملاؤهم على طريق مبدأ الحداثة في أوائل القرن العشرين، إذ كانوا بين رحى هيمنة مغامري السياسة الطامحين إلى تسلم السلطة والجاه وبالتالي السيطرة على خيرات البلاد ووارداته لتسخيره لمنافعهم الشخصية هم وأفراد الفئة أو الطائفة التي تساندهم وبين هيمنة القوى الدينية التقليدية المتخلفة التي تزعم دائما أنها تملك الحقيقة، وما على الرعية ـ مهما كان مستوى تعليمهم ـ إلا أن يرضخوا لأراداتها المقدسة، والمترعة بقيم التزمت البعيدة عن التفكير العلمي، والمستريحة إلى مبدأ تجهيل العامة وتلقينهم الخرافات من أجل أن يبقوا تابعين لهم (كالقطيع). يسيرونهم ذات اليمين وذات الشمال وبين هيمنة سلطة غاشمة أخرى هي سلطة القوى الاستعمارية المحتلة التي تقودها مصالحها إلى إعمال الفوضى وتغليب الفئات والطوائف بعضها على البعض الآخر سعيا إلى تفريق قوة البلاد وتحطيم التماسك الاجتماعي لتكريس بقائها وبسط نفوذها. كانت التهم التي تلفق للمثقف جاهزة على مدى العصور، فهو إما مارق على الدين أو عميل للمستعمر أو مثير للشغب.

ظلت هذه المعاناة وازداد سعيرها مع صعود ما سمي بالقادة العسكريين والأحزاب الوطنية الثائرة على الاستعمار والإمبريالية. لقد تغلبت عند هؤلاء النزعة الدكتاتورية وانفردوا بالسلطة منقلبين على من جاؤوا بهم وساندوهم من جماهير ضحت بأرواحها في سبيل التخلص من نير قوى الاحتلال البغيضة، ليضيقوا الحريات ويكمموا الأفواه التي تعارض سياستهم القمعية، حتى تفننوا في أساليبهم الوحشية في تصفية مناهضيهم التي أصبحت أقسى حتى من أساليب المستعمرين، فأوجدوا المحارق والأفران البشرية والأحماض المذيبة للحم البشري. ناهيك عن أجهزة الفرم وحتى تعريض المعارضين لنهش الكلاب المسعورة والمدربة الجائعة والحيوانات المفترسة. وكان مصير المثقفين أن عمل النظام الاستبدادي إلى شقهم إلى ثلاث فرق. فرقة صار همها ممالئة السلطة وتعبئة الدعاية لها عبر وسائل الإعلام التي أحكمت قبضتها عليها واحتكرتها، وفرقة سهلت لها سبيل النفي والإبعاد الاختياري والإجباري لتكون بعيدة عن مركز الحدث، فلا تأثير مباشر لها على الناس. وفرقة ثالثة وبسبب مطالبتها بحرية التعبير ومناداتها بشعارات الديمقراطية والتعددية والانتخابات الحرة صار نصيبها كما هو نصيب السياسيين المعارضين حيث شيدت لها السجون ذوات الأقبية المظلمة التي لا تحصى فضلاً عن غرف التعذيب التي تفننوا فيها كما أسلفنا.

وفي المرحلة الراهنة تعقدت أحوال المثقف العراقي واشتد أوار محنته ربما أكثر من ذي قبل. فبعد أن تكسرت العقب الحديدية التي كانت تكبل عقله وانفتحت أمامه قنوات الإعلام من فضائيات تلفزيونية وصحف وضعته في خضم انفلات يوهمه بحريته في التعبير والنقد والتحليل، صار يواجه مخاطر تهدد وجوده أكثر حتى من قبل. صار يواجه الموت العاجل لمجرد كونه مثقفاً حتى من دون أن يقترف (خطيئة المعارضة). السلطة التي تزعم أنها وفرت له الحرية أقصته من مؤسساتها التي حجزتها لمبدأ المحاصصات الطائفية والقومية، بينما لم تتوفر بعد الفرصة السانحة لنشوء المؤسسات المدنية الثقافية غير الحكومية التي يمكنه أن يمارس نشاطه الثقافي عبرها. فلم يزل إرث سيطرة المؤسسات الثقافية الحكومية البيروقراطية على الواقع الثقافي هو الواضح في احتكاره للانشطة الثقافية، والمعروف عن هذه المؤسسات هشاشة تطلعاتها الثقافية وسطحيته وخلوها من البرامج الاستراتيجية في ترسيخ ثقافة علمية معاصرة ومتحضرة، فضلاً عن البطالة المقنعة والانتفاخ الوظيفي المبالغ فيه التي تنطوي عليها تركيبتها المؤسساتية، فثمة آلالاف من (الموظفين) الفائضين. وثمة الكثير من الطارئين وعديمي الكفاءة ممن تسلموا إدارة مؤسسات حساسة في العمل الثقافي، بينما ركن عدد كبير من المثقفين المخضرمين على الرف، كأنهم قد أحيلوا إلى التقاعد وجمدت خبراتهم.

هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، فإن المثقف العراقي الذي عرف عنه يساريته وتطلعه ونضاله المعهود للتحرر من كل اشكال الاستعمار، ليس في العراق فحسب، بل في كل مكان في الدنيا وخصوصاً في المحيط العربي، ولا يمكن نكران تضحيات المثقفين العراقيين ونضالهم الطويل جنباً إلى جنب مع أخوتهم من المناضلين الفلسطينيين، صار يلاقي التهمة الجاهزة والساذجة بأنه يقف مع المحتل، أو أنه راض بوجوده ويقصى عن اتحاد الكتاب العرب بحجة هيمنة قوى الاحتلال على البلاد، بدل أن يصار إلى إجراء معاكس ويتم التضامن بكل السبل مع المثقف العراقي الذي يعيش في الداخل على الأخص، لتخليصه من الضغوطات الجسيمة التي تثقل كاهله والمشاريع والأجندات الدخيلة التي استغلت تكالب الظروف لتسعى إلى سحق الحضارة العراقية العريقة. وكأن ليس هناك أي مشروع وطني عراقي في الداخل يمكن أن ينقذ البلاد بحكمة مما هي عليه، أو كأن المثقف هنا ينقصه حيف آخر، غير حيف الاحتلال البغيض وتهميش السياسيين له وجهلهم بدوره الأساسي، يزيد أحواله تعقيداً ويزيد المحنة عليه.

فوق هذا وذاك، وهو الأنكى من كل ما سبق، حالة المحو الإنساني البشعة التي تقوم بها قوى التطرف الديني التكفيرية المقفلة على تفسير دوغمائي للدين والحياة بحجج تدعو للسخرية كمقاومة الاحتلال والمتعاونين معه وإقامة الدولة الإسلامية الموعودة بينما يستهدفون بآلاتهم الهمجية العمياء البسطاء والعمال الذين يفترشون الأرصفة والأسواق، وتستهدف المنشآت الحيوية كالجسور ومحطات الكهرباء ودور العبادة وعابري السبيل. ماذا يفعل المثقف وكيف يكون شعوره وهو يرى الناس يقتلون جماعياً ببشاعة ووحشية لم يقرأ لها في الكتب مثيلاً؟ ماذا يفعل المثقف وبماذا يفكر وكيف يفكر وهو كل يوم يفقد أخاً أو زميلاً أو قريباً وتتحطم بنى مجتمعه التحتية أمام عينيه ومن دونما أمل أو بارقة أمل بتوقف النزيف؟ ماذا يفعل المثقف وهو يرى الوجود البشري مهدداً، وهو يرى بوادر للحرب الأهلية والتطهير العرقي ماثلة أمامه؟ ماذا يفعل وهو يرى نفسه مهمشاً ومغبوناً وأنكرت عليه حقوقه المدنية والإنسانية حتى، وليس ثمة من يتضامن معه؟

محنة المثقف العراقي الحر اليوم تتجلى في أنه لا يقف عند مفترق طريقين أو ثلاث عليه اختيار أحدها، بل هي دائرة من الطرق التي تشكل ما هو أشبه بالمتاهة التي يجد نفسه فيها وحيداً وليس ثمة من يسانده لا عالمياً ولا عربياً ولا وطنياً. إنه غارق في محيط من قوى غاشمة محتلة وأخرى غيبية ومتخلفة متسلحة بالخرافة وقوى ثالثة همها الأول مصالحها الرخيصة والآنية وقوى رابعة تتفرج باسترخاء وكسل يثير غيضه ويحمله تبعيات ما أنزل الله بها من سلطان ويكيل له التهم الجزافية فيشترك الجميع في تصفيته مع سبق الإصرار والترصد!!