قدم المسرح العراقي في العصر الحديث أسماء مسرحية، مؤلفين ومخرجين، كانت لها أدوار أساسية في مسار هذا المسرح خصوصا والمسرح العربي عموما. منهم، على سبيل المثال ، حقي الشبلي، وقاسم محمد، ويوسف العاني، وابراهيم جلال، وسامي عبد الحميد، وعوني كرومي، وجواد الأسدي.....و كان يوسف العاني في كتابه " التجربة المسرحية معايشة وانعكاسات " قد أقر بأن " أصول المسرح العراقي تعود إلى 7000 سنة قبل الميلاد ومنذ عصر انتاج القوت كملحمة طرحت فيها قضية الخليقة حيث كانت تمثل في اليوم الثامن وتستمر إلى اليوم الحادي عشر من احتفالات أعياد رأس السنة البابلية.. وأن أقدم نص كامل للملحمة كان قبل 2000 سنة قبل الميلاد، ويحتفظ بجزء منه متحف اللوفر، وتحتفظ جامعة فلاديلفيا بجزء آخر. أما كنص مؤلف فيعود إلى عام 1880 حيث كتب القس حنا حبشي ثلاث مسرحيات هي " آدم وحواء، طوبيا، ويوسف الحسن"1.
منذ هذا العام المذكور أي 1880 إلى اليوم لا بد أن يكون المسرح العراقي قد عرف تطورات مهمة إن على مستوى الكتابة النصية الدرامية أو على مستوى العرض المسرحي. يمكن الوقوف عند هذه التطورات من خلال كتاب يوسف العاني المشار إليه سابقا، وكذلك من خلال الكتب التي أرخت للمسرح العربي عموما ومنه المسرح العراقي. وفي هذا الصدد، تستحسن الإشارة إلى كتابين مهمين في مجال التأريخ للمسرح العربي عموما. هذان الكتابان هما " المسرح في الوطن العربي " لعلي الراعي الذي أفرد للمسرح العراقي فصلا خاصا به عنوانه " المسرح في العراق ". وقد اعتمد علي الراعي في كتابة هذا الفصل، وقد أشار إلى ذلك، على كتابين هما " المسرحية العربية في العراق " لعلي الزبيدي، و " المسرحية العربية في العراق " لعلي طالب. وهما كتابان يحملان " العنوان ذاته "2. أما الكتاب الثاني فهو للباحثة تمارا ألكسندروفانا بوتينتسيفا " ألف عام وعام على المسرح العربي "3. هذا علاوة على كتب ومقالات أرخت لهذا المسرح المتعدد والمتنوع.
يتبين من خلال المراجع التاريخية أن المسرح العراقي انفتح على تجارب مسرحية عالمية ومنها المسرح البرشتي ومسرح العبث أو اللامعقول. وقد تأتى له ذلك بفضل التكوين المسرحي والثقافة المسرحية المنفتحة التي اضطلعت بنشرها مؤسسات جامعية وعلى رأسها جامعة بغداد. في هذا الإطار يذكر عدنان رشيد مؤلف كتاب " مسرح برشت " دور جامعة بغداد في تأليفه لهذا الكتاب الأخير قائلا: " وقد ساعدتني الأحاديث الممتعة التي عشتها مع زملائي الطيبين في قسم اللغات الأوروبية في كلية الآداب بجامعة بغداد في الفترة من 1973 وحتى 1978 على تأليف هذا الكتاب، كما أن الأسئلة الفكرية التي كان يطرحها علي طلاب الأدب الألماني والأدب العربي في كلية الآداب بجامعة بغداد كانت خير حافز لي على معالجة أغلب ما كان يدور في أذهانهم من استفسارات عن ماهية برشت، وكيفية استخدامه للديالكتيك في المسرح "4. وكذلك معهد الفنون الجميلة ببغداد الذي درس فيه قاسم مطرود الفن المسرحي، الذي درس أيضا في أكاديمية الفنون بجامعة القاهرة. وقد كان العراق من البلدان العربية الأولى التي تم فيها تدريس المسرح ، ففي" عام 1940 تأسس أول قسم للمسرح بالعراق. وهو تابع لمعهد الفنون الجميلة ببغداد"5.. هذا إضافة إلى احتكاك مسرحيين عراقيين مباشرة بمسارح أجنبية على غرار ما قام به يوسف العاني الذي احتك مباشرة بفرقة برشت المسرحية كما ذكر في كتابه السابق الذكر. إضافة إلى التكوين المسرحي خارج العراق.
ويعد اليوم قاسم مطرود واحدا من المسرحيين العرب الأكثر نشاطا في مجال المسرح. فقد أسس موقعا إلكترونيا خاصا بالمسرح، أصبح هذا الموقع اليوم مشهورا جدا. ويمكن القول بأن هذا الموقع يحتوي على جزء هام من ذاكرة المسرح العربي، لهذا يعتبر وثيقة إلكترونية مهمة. إضافة إلى ذلك هناك إبداعه المسرحي. فقد نشر لحد الآن عددا لا يستهان به من النصوص الدرامية يبلغ عددها إلى حد الآن خمسة وثلاثين نصا دراميا. ولم تبق هذه النصوص حبيسة الأوراق فقد عرضت على خشبات المسارح. وترجم العديد منها إلى اللغات الفرنسية والهولندية والإنجليزية. وقد حظيت نصوصه الدرامية بمتابعة نقدية، كما كانت موضوعا لأبحاث جامعية وأكاديمية. يمكن القول بأن النصوص الدرامية عموما التي أبدعها قاسم مطرود تتسم بسمتين أساسيتين. أولاهما تتمثل في التطرق إلى قضايا العراق الأساسية وقضايا الإنسان العراقي البسيط ضحية السياسات المفروضة عليه. وثانيتهما التمرد على البنية الدرامية النمطية التقليدية.
يتجلى هذا التمرد من خلال عدم انصياع قاسم مطرود إلى كيفية نمو الأحداث الدرامية وترابطها ودور القدر والضرورة في تسلسلها التي تتكون منها بنية الحكاية، وبناء الشخصية الدرامية وفق النمط الأرسطي التقليدي. وقد أشار هو نفسه في بداية النص الدرامي " مراسيم الأزمنة " إلى أنه يسعى دائما إلى " كسر المألوف " من أجل " كتابة جديدة ". وبعد قراءتي للنص الدرامي المذكور، ونصوص درامية أخرى له قمت بتحليلها6، تبين لي فعلا أن الأمر كذلك، حيث تم تهشيم التقليد، وبتعبيره هو " تهشيم الثوابت ". فقد تم تكسير الترابط المنطقي للأحداث الدرامية في هذا النص من خلال عدم التركيز على شخصية واحدة، وكذلك من خلال تقنيتي الحوار الدرامي والسرد. وكل منهما يحيل على زمن معين قد تفصل بينهما عقود. وقد مكنت تقنية السرد من دفع الشخصية الدرامية إلى البوح، وهو بوح مسرود دراميا. كما تم استغلال فضاء التاكسي لاستبطان عوالم بعض الشخصيات أي الركاب باعتبار عالم التاكسي عالما اجتماعيا وسياسيا. زد على تينك التقنيتين تقنية الإرسال السينمائي. وهنا تجدر الإشارة إلى التفاصيل التقنية المتعلقة بالإرشادات المسرحية التي اهتم بها قاسم مطرود بغية إنجاز عرض مسرحي حسب تصوره. هذا العرض وصف من قبله بكونها غرائبيا. هذه الغرائبية تتجلى في كيفية تركيب الأحداث الدرامية في النص الدرامي، لذا تم اختيار مراحل زمنية سابقة تندرج في هذا الإطار. وعلى مستوى الضمائر يلاحظ استعمال ضمير المتكلم المفرد؛ هذا فضلا عن ضمير المخاطب الدال على الجماعة، والخطاب موجه هنا إلى الجمهور مباشرة؛ وضمير الغائب المفرد وهو يتعلق بالشخصية الغائبة/ الحاضرة التي أثرت في الشخصيات الأخرى؛ وضمير الغائب الدال على الجماعة صاحبة السلطة، وفي هذا السياق تندرج شخصية المحقق وكذلك شخصية ضابط أمن المطار.
وقد حرص المؤلف في الإرشادات المسرحية Les Didascalies على مكونات " سينوغرافيا العرض " انطلاقا من تموقع الشخصيات على خشبة المسرح إلى الملابس واختلاف الكراسي، وعدم تشابه الطاولات، وكيفية استغلال الإضاءة، والحقائب الغرائبية التي تنتمي إلى أزمنة مختلفة. هذا الحرص، الذي له دلالته في هذا النص الدرامي، دليل على اكتساب ثقافة مسرحية حقيقية من لدن المؤلف الدرامي. لهذا شغلت هذه التفاصيل التقنية حيزا مهما في بداية النص الدرامي. وقد كانت بداية الحدث الدرامي عمليا مع بداية الحوار الدرامي، أما ما قبله فكان بمثار إطار له. وهناك تعدد الأدوار للشخصية الواحدة، كما أن هناك تحولا طرأ على بعض الشخصيات مثل الشخصية التي انتقلت من الدجل إلى سياقة التاكسي فكتابة قصص مستوحاة من الركاب أي من الواقع.
وتعتبر موضوعة أو تيمة Thème الموت من الموضوعات أو التيمات التي توجد في نصوص درامية لقاسم مطرود ومنها هذا النص الدرامي. لهذا كانت الإشارة إلى الحزن وملابس الحداد منذ بداية الإرسال الأول. والموت هنا يقترن بالحرب التي توجد علامات عديدة تدل عليها ومنها التجنيد الإجباري، والبيان العسكري، والملابس العسكرية، والسيارات العسكرية، وجبهة القتال. لكن مقابل الحرب هناك التوجس من قمع السلطة وجبروتها في وطن " لا يحترم أبناءه " حسب قول الأب وهو يحاور ابنه . نتيجة عدم الاحترام هي الفرار من الوطن. لكن تبين للابن أن هذا الاختيار ليس صائبا، لهذا قرر البقاء وعدم السفر، بل الهرب مرة ثانية، خارج الوطن. وهناك إشارات أخرى منها اكتشاف زيف الشعارات بسبب المفارقة بينها وبين الواقع، والتعبئة الحزبية، والتناقض بين الزوج والزوجة حول من له الأهمية أهي للمال أم للعلم ( الشهادة )؟، والآثار النفسية والاجتماعية للحرب، واستغلال الدين الإسلامي بهدف التفجير، والدعاية الإعلامية الرسمية لمبدع رسمي، واستعمال اللغة بوصفها قناعا من قبل الشخصية العاشقة التي وضعت قبعة أوربية على رأسها بوصفها رمزا للتحضر ولكنه تحضر على مستوى المظهر فقط أما البطن فينطوي على الخداع...
باختصار، إذا كان قاسم محمد قد استلهم التراث في كتابة مسرحية " بغداد الأزل بين الجد والهزل " حيث غاص " في بطون كتب التراث: كتب الجاحظ، ومقامات الحريري، وما رواه الرواة عن أشعب الطفيلي، وما سجله الباحثون عن الشعراء الصعاليك والظرفاء والشحاذين، ليقدم لنا عرضا مسرحيا بطله السوق بكل ما يحوي من مفارقات وملاعب وألاعيب وتناقضات بين فقراء مسحوقين، وأغنياء يكاد الترف أن ينفجر من وراء جسومهم الغضة الإهاب "7 فإن قاسم مطرود يستلهم شخصياته من واقع العراق في العصر الحديث. استلهام يدل على متابعة دقيقة لتاريخ العراق الحديث منذ العقود الأخيرة إلى اليوم. متابعة تخترق سطح الأحداث وتميط اللثام، مسرحيا، عن المسكوت عنه. وهدفه هو البحث عن الوسيلة أو الوسائل التي تؤدي إلى تحقيق " وجود فعلي على الخارطة ". وهنا تكمن الوظيفة الطلائعية للمسرح.
هوامش:
* كان قاسم مطرود الكاتب والناقد المسرحي العراقي قد بعث إلي، قبل وفاته يوم الجمعة 7 شتنبر 2012، نصا مسرحيا من أجل كتابة تقديم له. عنوان هذا النص المسرحي هو: "محاولة في تهشيم الثوابت مراسيم الأزمنة ". كتبت التقديم وبعثته إليه، وهو موثق في بريده الإلكتروني وكذلك في بريدي الإلكتروني. هذا التقديم تقدير مني لدوره في الكتابة المسرحية العربية، وكذلك لدوره في نشر الثقافة المسرحية العربية والعالمية في موقعه المتميز " مسرحيون". وكنت قد حللت نصوصا مسرحية له في كتابي " سيميائيات المسرح ".
1-يوسف العاني، التجربة المسرحية معايشة وانعاكاسات، دار الفارابي،بيروت، لبنان، 1979، ص/39.
2-علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، عالم سلسلة المعرفة 248، الكويت، ط/2، 1999، ص/316.
3-تمارا ألكسندروفانا بوتينتسيفا، ألف عام وعام على المسرح العربي، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط/2، 1990.
4-عدنان رشيد، مسرح برشت، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان،1988 ، ص/9.
5-أحمد بلخيري، المصطلح المسرحي عند العرب، البوكيلي للطباعة، القنيطرة، المغرب، ط/1، 1999، ص/134.
6-انظر كتابي " سيميائيات المسرح "مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ط/1، 2010.
7-علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، ص/342/343.