(1)
لم أجد صعوبة في الكتابة عن رحيل كاتب من أبناء جيلي، عرفته عن كثب، على الرغم من كثرة الذين رحلوا منهم من يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل، إلى غالب هلسا وعبدالحكيم قاسم، وصولا إلى محمد عفيفي مطر وإبراهيم أصلان، كتلك التي أجدها في الكتابة عن رحيل محمد البساطي. وبالرغم من انقضاء أكثر من شهر على رحيله، فإنني لازلت أتألم وأنا أمسك القلم للكتابة عنه. خاصة وأنني أكتب عنه من القاهرة التي أعود إليها لأول مرة دون أن يكون محمد البساطي هو أول من اتصل به فيها. وأسمع منه ما دار وما يدور في مصر. فأين أنت الآن يا بساطي؟! سؤال لا يريد الاعتراف بقسوة الموت الباترة، ويرفض قبول حقيقته الموجعة. وقد رفعت سماعة التليفون بالفعل في اليوم الأول لي في القاهرة، وطلبت رقمه أريد أن أعزي زوجته، وأن أحكي لها أني لا أريد أن أجيء إلى القاهرة ولا يكون أول من أتصل به هو محمد البساطي، برغم معرفتي أنه لم يعد هناك، على الطرف الآخر من التليفون. وبرغم أنني تحدثت إليها قبل اسبوع من رحيله وأخبرتني بأنه لم يعد يرد على التليفون. رفعت السماعة وطلبت رقمه ولكن لم يرد أحد، وكأن المقادير التي جعلت البيت خاليا من سكانه لحظة طلبي له، تريد أن تصفعني بالحقيقة الصادمة، وأن تؤكد لي ما انكره! أن البساطي لم يعد معنا. وأنه تركنا، وجعل غيابه العالم أكثر وحشة وأقل جمالا. فهو من البشر القليلين الذين يضفي وجودهم على العالم الجمال والألفة.
وكان محمد البساطي حتى قبل أن يتركنا قد كف عن الإجابة على تليفونه، بعدما ضعضعه المرض. وكأنه يريد أن يعودنا على غيابه الصعب ذاك وهو لايزال على قيد الحياة. كي نعتاد على غيابه، وعلى عالم لا يطل عليه بنقائه، وبراءته، وضحكته الطفولية الخالصة التي يخفف بها عنا عبء هذا العالم وقبحه. فحينما عاد عزت القمحاوي إلى الدوحة من زيارته الأخيرة للقاهرة قبل رحيل البساطي بشهور واخبرني بتدهور حالته الصحية، وكتب مقالته/ صرخته الملتاعة «لا تتركنا يا بساطي» وأنا أعلل النفس بأنه سوف يتعافى، وسوف يسترد صحته. خاصة وأنني حينما اتصلت به تليفونيا بعدها، وكان لايزال يرد على تليفونه، أكد لي أنه على ما يرام، وأن عزت يبالغ ولا تصدقه، وأن الكي قد نجح في السيطرة على الورم الخبيث. ومع أنني كنت أتمزق داخليا وأنا اسمع حديث عزت عنه، وأقرأ كلماته، إلا أنني أردت ألا أصدق عزت كما نصحني البساطي، بالرغم من أن شيئا في داخلي كان يصدقه، ويزيدني خوفا على محمد. وعللت النفس بأنه لم يبق لي إلا شهر أو بعض شهر وسأعود للقاهرة، وسيكون أول ما أفعله كالعادة هو الاتصال بمحمد والالتقاء به، وساعتها سوف أعرف بنفسي حقيقة الأمر.
لكن الأمور كانت أسرع من أمنياتي، وأخذت الأخبار تتابع عن تدهور صحته، وكنت من شدة رغبتي في عدم تصديق تلك الأخبار، لا أتصل به كثيرا، مخافة أن أجد في صوته ما يؤكدها! ولكني لما عرفت، من خالد عاشور، أنه يسأل لماذا لا أتصل؟ مع أنني كنت كلما وجد خالد عاشور على الفيس بوك أسأله عن محمد، اتصلت، وردت على زوجته، وأخبرتني بأنه لم يعد يرد على التليفون، وأنهم قد اتصلوا بها للتو وأبلغوها بنبأ فوزه بجائزة الدولة التقديرية، وأنه سيفرح حينما تقول له أنني أول من أخبرته بالنبأ. وكان فوزه بالجائزة في هذه الظروف قد زادني غما، لأنه نوع من غسل سمعة الجائزة السيئة، أكثر منه تكريما حقيقيا لمحمد البساطي، الذي كان يستحق هذه الجائزة بجدارة من سنين. فازددت غما وحزنا. وظللت قبل أسبوعين من وفاته، وبعدها بأسبوعين آخرين، غير قادر على استيعاب حقيقة أن البساطي قد مات. وأن العالم أصبح بحق أكثر قبحا ووحشة بغيابه. وكانت كل الأمور التي تحيط بي وقتها، وبمصادفات غريبة، قد جعلت العالم أكثر قبحا وحزنا بالفعل بالنسبة لي شخصيا، وليس فقط بالنسبة لعلاقتي به، فقد كانت هذه الفترة أيضا مثقلة بأخبار سيئة عن صحتي أنا، وعن حالة كبدي خاصة، وهو نفس الداء الذي أودى بحياة محمد البساطي، فشعرت وكأن المقادير تضعني في قلب محنته. واستمر الأمر على هذه الحال حتى عدت للقاهرة، ولم يرد تليفون البساطي!
(2)
كان البساطي مع مر الزمن، وسقوط الكثيرين على قارعة طريق الحياة الصعب، قد أصبح في السنوات الأخيرة أقرب أبناء جيلي إلى نفسي برغم بعد المسافة الجغرافية بيننا. فقد كنت ومازلت أعيش خارج مصر، وأزورها لماما. وكان هو يبادلني نفس الشعور، ويحرص على أن يبعث لي كل جديد له. وكنت في الماضي، أي قبل أكثر من عقدين من الزمان، وحينما اضطرتني المقادير لقبول وظيفة دائمة في جامعة لندن، حينما أعود إلى القاهرة أجد حولي عددا كبيرا من الأصدقاء الذين يناضلون للحفاظ على شرف الكلمة، وعلى جذوة الحياة متقدة في أعمالهم وفي حيواتهم معا. ولكن هذا العدد أخذ يتناقص بالتدريج، وبسرعة متنامية في العقدين الأخيرين، فقد اختطف الموت البعض، بينما سقط البعض الآخر في اختبار الحياة الصعب في الزمن الرديء. وبقي محمد البساطي، مع عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، محافظا على بهائه الشخصي والأدبي معا. لذلك أصبح أحد الرواسي القليلة التي أعود إليها في القاهرة، والتي يمتزج شوق العودة للمدينة بالشوق للقائه والسهر معه على طاولته الأثيرة في مطعم «الجريون» في وسط القاهرة، حيث كنا نلتقي في الزيارة الواحدة عدة مرات. ومع تنامي معدلات التردي والهوان، وتسارع دخول المثقفين إلى حظيرة فاروق حسني وتابعه الهمام جابر عصفور الذي أفسد الكثير من المثقفين الجيدين وأدخلهم حظيرة وزيره، كان محمد البساطي يزداد قرفا من الواقع الثقافي من حوله، وعزلة عنه.
فقد كان يتمتع مع نقائه وبراءته بقدر كبير من الصرامة الأخلاقية التي لا تقبل المساومة في الحق، ولا تغفر التلاعب بشرف الكلمة. وكانت لديه قدرة كبيرة على أن يسقط من حسابه من يسقطون، وأن يحتفي بمن لا يماري في الحق، مهما كان تواضع إسهامه. فقد حرص محمد البساطي طوال حياته الأدبية على أن يتحقق من خلال عمله الإبداعي وحده. يخلص له، ويعكف عليه بحدب وأناة كما يعكف الجواهرجي على مجوهراته حتى تتألق وتزدهي، فيقدمها للنشر، ثم ينصرف عنها إلى غيرها. فلم يكن حريصا ككثيرين من الذين يتمتعون بالغلظة واللجاجة على أن يفرض نفسه، أو يروج لأعماله. ولا حتى على أن يتكسب من ورائها الشهرة أو المال. لذلك ظل يعمل في صمت لسنوات طويلة، بعيدا عن صخب الحياة الثقافية وحراكها الذي يتسم كثيرا بالزيف والتخليط. فقد كان موظفا محترما، وصل في سلم الوظيفة الحكومي إلى درجة وكيل وزارة ثم خرج إلى المعاش الوظيفي والازدهار الأدبي معا. فقد تفرغ بعد المعاش للكتابة كلية وتدفقت أعماله بانتظام. جوهرة تلو الأخرى. تنتح من معين الذاكرة المخزونة للريف المصري، وعالم قرى الصيادين المتاخم لبحيرة المنزلة، ومن خبرة عميقة بالأدب والحياة. وقدرة رائعة على التقاط ما هو جوهري وكاشف وتسليط الضوء الشحيح عليه، والذي يبدو حسب أحد عناوينه وكأنه لايكشف شيئا إلا للعين الخبيرة المرهفة التي تتلقى كنوزه الباذخة.
ولأن محمد البساطي كان مولعا بقراءة الإبداعات الجيدة، بل كان يعاود قراءة الأعمال الكبرى منها عدة مرات، فهو شديد الاهتمام بالتجارب الحسية وبالصور الواقعية الكاشفة. وكان في الوقت نفسه من أكثر من عرفت من الكتاب الموهبين ضيقا بالدراسات الرصينة أو التنظيرات الأدبية المعقدة. لذلك كانت له ذائقة فريدة قادرة على التقاط الكتابة الجيدة والاستمتاع بها، وإن لم يكن مغرما بتعليل سبب هذه المتعة أو تحليلها. وكانت لديه قدرة توشك أن تكون رديفا لقدرة عبدالفتاح الجمل على اكتشاف المواهب الأدبية الجديدة وتسليط الضوء عليها. وقد كانت السنوات القليلة التي رأس فيها تحرير سلسلة (أصوات أدبية) أخصب سنوات هذه السلسلة، لا من حيث الانتظام ووفرة ما صدر فيها، ولكن أيضا من حيث قدرتها على اكتشاف المواهب الجديدة ووضعها باقتدار على خريطة الاهتمام الأدبي في مصر. وقد ظل يقوم بهذا الدور حتى انهالت عليه جحافل الظلام، مع ما سمي بأزمة الروايات الثلاث. فقدم استقالته وعاد إلى معتزله يكتب لنا فيه رواياته وقصصه التي تلاحقت في سنواته الأخيرة.
(3)
عرفته في شرخ الصبا، صباي وصباه قبل نصف قرن، ياه نصف قرن، من الزمان حينما فاز بالجائزة الأولى في مسابقة نادي القصة عام 1962. وكان من يفوز بهذه الجائزة المرموقة يحفر اسمه في لوحة الشرف المعلقة في مدخل شقة نادي القصة بعمارة سيف الدين بشارع القصر العيني، وهي من عمارات الزمن القديم العريقة، بشققها الكبيرة ذات الغرف الواسعة والحيطان العالية. وكان نادي القصة في هذا الزمن البعيد، في الستينيات، وما أدراك ما الستينيات، مكانا حافلا بالنشاط، تعقد فيه كل أربعاء ندوة لمناقشة رواية أو مجموعة قصصية، ويتردد عليه عدد كبير من شباب مثقفي هذا الزمان. بل كانت القاهرة كلها تعج بتلك الندوات. ندوة يوم الأحد لجمعية الأمناء، وأخرى يوم الاثنين في رابطة الأدب الحديث، وثالثة يوم الثلاثاء في الجمعية الأدبية المصرية، ناهيك عن ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية يوم الجمعة في كازينو أوبرا وقتها، وقبل أن تنتقل بعد مضايقات الشرطة، وتدخل يوسف السباعي، قوميسار الثقافة في زمن عبدالناصر، إلى مقهى ريش، الذي أصبح مع مقهى آخر، اختفى الآن كان يطل على ميدان التحرير مباشرة، هو مقهى إيزافيتش، منتدى يوميا للثقافة والمثقفين في هذا الزمن البعيد.
أقول عرفت محمد البساطي في هذه المنتديات، مع أنه لم يكن يتردد كثيرا عليها، فقد كان عزوفا عن تلك الندوات، وإنما كان حفيا بجلسات المقاهي المفتوحة. لكن أكثر الأماكن التي التقيت به فيها قبل سفري وسفره هو الآخر بعد ذلك، كان مكتب الراحل المبدع الكبير عبدالفتاح الجمل، والذي كان له فضل اكشاف معظم المواهب الحقيقية في هذا الجيل وهي لاتزال براعم تتفتح. ففي الصفحة الأدبية لجريدة (المساء) والتي كان يحررها عبدالفتاح الجمل، ولدت أعمال أغلب كتاب هذا الجيل الموهوبين، ثم تعمّد حضورهم بالنشر في مجلة (المجلة) التي كان يرأس تحريرها الكاتب العظيم يحيى حقي. وكنت أكتب وقتها في (المساء) وأعمل مع يحيى حقي في (المجلة). وكان البساطي أول من حصل من أبناء هذا الجيل على جائزة، جائزة نادي القصة، وكان لها رأسمال رمزي كبير، وكان أيضا من أوائل من نشر مجموعة قصصية (الكبار والصغار). واستمرت معرفتي به ومتابعتي لأعماله. وأذكر أنني كتبت عنه قسما ضافيا في الدراسة الطويلة التي نشرتها عام 1966 على ثلاث حلقات بعنوان «مستقبل الأقصوصة المصرية» باعتباره أحد القلائل الذين بلورا أسلوبا سرديا خاصا، والذين سيكون لهم مستقبل كبير في هذا الفن.
كتبت عنه وقتها أي عام 1966 «بعد أن تجاوز محمد البساطي في أعماله الاخيرة، مرحلة التعبير التقليدي عن التجربة التقليدية فى أقاصيصه الأولى مثل «نزوه» و«المولد والبحيرة» و«البحث عن دجاج» و«الهروب» و«كوكو» و«طريق المحطة» و«الرجل والحمار» والتى بلغت أنضج صورها على صعيدى الأسلوب والرؤية معا فى «أبو جبل» و«الزفة» و«حفاجة» و« العم وأنا» و«لقاء» .. بعد أن تجاوز البساطي هذه المرحلة، قدمت أعماله الأخيرة وجها من وجوه هذا التيار الجديد الذي يستخدم الرمز والأسطورة وينطلق أحيانا من الفانتازيا لإرهاف وعينا بالواقع، يحاول عبره الاستفادة من كل طاقات الأقصوصة عند كافكا ومن أسلوبه التعبيري. لذلك نجده في هذه المرحلة الأخيرة يقدم الفنتازيا الحلمية عبر اطار من التفاصيل والجزئيات الواقعية، ودون تحطيم السياق المنطقي للحدث أو التسلسل السببي له، كما في «مشوار قصير» و«أحزان فتى طيب القلب» بل أننا اذا استثنينا، في بعض أقاصيص هذه المرحلة «الجنازة»، والمنطلق المرتوي من الحلم فإننا نعثر على تتبع دقيق للجزئيات الواقعية مقدما بأسلوب السرد العادي الذى سيطر على أقاصيصه الأولى والذى بلغ ذروة نضجه واحكامه في الأقاصيص الأخيرة منها، لذلك نجد أنه كلما قل اعتماده على الفنتازيا بالصورة التي يقدمها بها حافظ رجب، ازداد توفيقه في القصة ونجح في بلورتها. لأن اعتماده على تكنيك الحلم بالدرجة الأولى في هذا النوع من الأقاصيص يفرض عليه الافلات من جموح المبالغات الخيالية التي يكتظ بها عالم محمد حافظ رجب، ويتطلب منه أسلوبا خاصا في المعالجة.
وفى «مشوار قصير» نلمس هذ الحقيقة بوضوح عندما نعايش أحداث القصة التي تدور في اطار الحلم العادي. عندما تنطلق فيها مع السلاموني في رحلته القصيرة التي أجبر عليها في الليل إلى هذا المكان البعيد الخرب، حيث ينتظره قدر غامض. فقد كان السلاموني عائدا الى منزله يجتر مع الهدوء الليلى ذكرياته السعيدة البسيطة المليئة بالاشياء العادية. ويحلم بجلسة هادئة يصطاد فيها السمك على شاطئ الترعة، وهو يجتر هذه اللحظات الماضية. وفجأة وضعت يد غليظة قاسية على كتفه، ومعها هذه الكلمات الحادة المقتضبة «عاوزينك في مشوار قصير».. مشوار لايعرف ماغايته ولا إلى أين يقوده، ولكنه يؤخذ إليه قسرا ويجبر على المضي فيه وسط الخوف والقسوة وتهديد السلاح والزجرات النابية.. لينتظره في نهايته هذا القدر الغامض الذى لا يبين عن نفسه أبدا وأن أطلت بعض ملامحه عبر مشوار الخوف القصير ذاك .. المشوار الذى تم كله في إطار حلمي كامل نلمسه في انسياب الكلمات في ليونة، وفى اتشاح أبسط الأحداث بجو من الغموض، وفى تعارض بعضها مع الأشياء المألوفة. وقد استطاع نضوج هذه الأقصوصة النسبي أن يمنح هذا المشوار القصير دلالات متنوعة، يحس القارئ معها بترديدات عديدة لمخاوفه الغامضة، ولافتقاده الدائم للأمان، تحت وطأة هذا الليل الرازح الذى يجهض كل الأحلام العادلة البسيطة.
وبينما تدور هذه الأقصوصة في نطاق الحلم كلية، وهو أكثر الأشكال ملاءمة لأدوات البساطي الفنية التي أنضجتها رحلته الأولى، تنطلق قصته الأخيرة «الجنازة» من الفنتازيا ثم تستمر بعد ذلك بالأسلوب المعروف عند كافكا، والذى يحاول أن يوهم القارئ بحقيقة هذا الحدث الفنتازي من خلال التتبع الميكروسكوبى الدقيق لجزئياته المتناهية الصغر .. تتبعا ذكيا واعيا بالأساليب الفنية المعروفة في أنضج الأعمال الواقعية التقليدية. فالقصة مروية بضمير المتكلم بعكس القصة الأولى. وعلى لسان شخص ميت يشهد تفاصيل جنازته .. بل ويترك تابوته ليستحم مع الأطفال في الترعة. وحاملي التابوت في الانتظار، ثم يعود بعد ذلك ليواصل في التابوت تأملاته عن القرية وذكرياته معها، وينزل منه ليثرثر مع بعض أصدقائه فيها.» (راجع مجلة «المجلة» عدد أكتوبر عام 1966)
(4)
كان هذا بعض ما كتبته عنه عام 1966 في مجلة (المجلة) وحينما أعود إليه الآن أجد أن فيه كشف لمنهج البساطي الفريد الذي تخلقت ملامحه منذ هذا الوقت المبكر في مسيرته الإبداعية. فقد كان محمد البساطي نسيج وحده، كإنسان وككاتب، وكانت كتابته في نقائها وصفائها وتقتيرها توشك أن تكون تعبيرا عن البساطي الإنسان، الذي لم يفقد في مستوى من المستويات براءة الطفولة ودهشتها، ولا شهوة الحياة والتوق إلى معايشتها كاملة وسبر أغوارها حتى الأعماق. وإن اكسبته الحياة خبرة وصلابة نادرتين مكنتاه من النأي بنفسه عن أدرانها. فقد كان محمد البساطي بين القلة النادرة من أبناء جيلي، جيل الستينات، وقد عرفتهم كلهم عن كثب في مطالع الشباب الأول، وتابعت مسيرتهم جميعا عن قرب حينا وعن بعد أحيانا كثيرة. كان من القلة النادرة التي استطاعت الحفاظ على نقائها ونظافتها برغم كثرة المغريات. فقد قدر على هذا الجيل أن يختار بين الحفاظ على شرفه وشرف الكلمة، وهو خيار كان على كل من يختاره، أن يدفع كالقابض على الجمر، ثمنه غاليا من التهميش والحرمان من الجوائز والجمهور الواسع والسفريات، وبين الانخراط في واقع ثقافي فاسد، تخدم فيه المؤسسة الثقافية نظاما والغا في مباءات الفساد والتبعية للاستعمار الصهيوأمريكي لمصر. مقابل أن تفتح أمام من ينخرطون فيها أو يدخلون «حظيرتها» حسب التعبير الأثير لوزير ثقافة العقدين الأخيرين من نظام مبارك الفاسد، أبواب الشهرة والجاه والمناصب والسطوة والجوائز والسفريات.
في هذا الواقع الثقافي الموبوء الذي بدأ يتخلق في مصر منذ بدايات السبعينيات، وافتتحها المناخ الطارد الذي دفع الكثيرين من المثقفين للهجرة أو العمل في المنافي العربية، خرج البساطي بداءة للعمل في الجزيرة العربية لسنوات ضاعت من عمره الإبداعي، ثم عاد واكتفى بوظيفته الحكومية وركز جهده على تجويد أدواته، وإرهاف قدراته التعبيرية، وتوسيع رقعة عالمه الإبداعي. وبينما حظي أنصاف الموهبين والجهلة من نفس هذا الجيل بالمكاسب والمناصب والجوائز والسفريات، وأغدقت عليهم المؤسسة رأسمالها الفعلي والرمزي المغشوش، ظل البساطي كالريفي الذي يلملم ثوبه حرصا على نظافته حينما يمر في مكان قذر، يلملم نفسه بعيدا عن هذا الفساد، برغم أنه عاش المرحلة كلها في مصر، فلم يخرج أبدا بعد سنوات العمل المحدودة. ورصد في إبداعاته أثرها الدامي على مصر وإنسانها.