أكتب للقراء هذا العدد عن الكاتب الصيني البديع الذي فاز هذا العام بجائزة نوبل لللآداب، لأن جل قراء العربية لا يعرفون عنه شيئا. ولم يسمع معظمهم باسمه، ولم تترجم أي من رواياته البديعة لها. بالرغم من أن له، قبل فوزه بالجائزة، عشر روايات مترجمة للإنجليزية، وأكثر من عشرة لكل من الفرنسية والألمانية. فقد أثّرت سنوات التردي والتخلف والهوان، التي ثار عليها الواقع العربي، على ثقافته. فتراجعت فيها الترجمة وساد الجهل، واستنام الواقع لدعة الكسل العقلي والتخلّف. ثم جاء الربيع العربي، لينتشلنا من هذا التردي والهوان، وليفتح أمام الواقع العربي طاقة للأمل والتغيير، ولكن ركبت موجته التيارات المتأسلمة والمتأسلفة والتي تريد أن تغرقه في دياجير جهلها، وأن تضع على عينيه غمامة كي لا ينظر منهما إلا إلى الماضي البعيد، ولا يقرأ بهما إلا كتب الأدعياء، الذين يسمون أنفسهم دعاة، المترعة بضيق الأفق والجهل والخرافة. وبدلا من أن ينشغل عالمنا العربي، بعد أن قام في مصر خاصة بثورة نبيلة نالت احترام العالم وتقديره، وساهمت في رفع أعلام مصر في وول ستريت بأميركا وفي إسبانيا واليونان، باللحاق بالعالم المتحضر الذي سبقنا في كل شيء: من الشفافية وسلامة نظم الحكم، وضمان الحريات، والتداول السلمي للسلطة، حتى التقدم العلمي، ووسائل الاتصال، والثورة الإلكترونية، وعلوم الذرة والفضاء، ها نحن نغرق في تفاهات مرضية من مفاخذة الصغيرة Paedophilia، ومضاجعة الوداع/ أقرأ الموتىNecrophilia / وفتوى شرب بول الرسول، وتحريم الوقوف لتحية العلم، والتشهير بالممثلات على الفضائيات، وحرق كتب الآخرين المقدسة. وها هو العالم يصفعنا كل يوم بحقائق جهلنا فلا نفيق. وآخر تلك الصفعات هي منح الأكاديمية السويدية جائزة نوبل لكاتب لم نسمع عنه، ولم نترجم له كتابا واحدا أو حتى قصة قصيرة واحدة قبل فوزه بها. مع أن العالم المتحضر والذي يعيش العصر ولا يريد النكوص إلى الماضي السحيق، وإنما يستخدم ماضية في إرهاف قدرته على فهم الحاضر والفاعلية فيه، ترجم أعماله لكل لغاته.
تردي الثقافة والخروج من العصر:
وهو أمر تكرر أكثر من مرة في العقدين الأخيرين. تكرر مع توماس ترانسترومر عام 2011، ومع هيرتا ميلر عام 2009، ومع جان ماري ليكلوزيو عام 2008، ومع ألفريدا يلينيك عام 2004، ومع جون كوتسيا عام 2003، وإمرا كيرتسي عام 2002، وجاو زيانجيان عام 2000، وخوزيه ساراماجو عام 1998، وداريو فو عام 1997، وفاسلافا شيمبوريسكا عام 1996، وكونزابورو أوي عام 1994، وديريك والكوت عام 1992، والقائمة تطول. وأذكر أن الصديق العزيز الذي رحل عن عالمنا قبل الأوان، محمود درويش، اتصل بي عام 1996 وطلب مني البحث عن أعمال شيمبوريسكا وترجمة بعض قصائدها وتقديمها للكرمل، حيث لم تكن لها قصيدة واحدة مترجمة للعربية عند فوزها بالجائزة. وقد عبرت باحة جامعة لندن، حيث تقع (كلية الدراسات السلافية وأوروبا الشرقية) على الجانب الآخر من الباحة التي تقع فيها (كلية الدراسات الشرقية والأفريقية) التي أعمل بها في نفس الجامعة. وذهبت لمكتبتها أفتش عن اسم شيمبوريسكا وأعمالها، فوجدت بها رفا كاملا حافلا بأعمالها الشعرية المترجمة للإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وبعديد من الدراسات النقدية الضافية عنها. بينما لم تكن لها قصيدة واحدة قد ترجمت بعد للعربية. وقد أثرت وقتها في (الكرمل) هذه الظاهرة.
كانت الثقافة العربية قد بدأت في التراجع مع مطلع السبعينيات، منذ قرر أنور السادات الارتماء في أحضان العدو، والإجهاز على العقل المصري، وكلف أحد عتاة الإخوان المسلمين، محمد عثمان اسماعيل، باستئصال شأفة كل مفكر أو يساري من الثقافة والجامعة والإعلام. وفتح الباب للتيارات المتأسلمة كي تمكنه من تنفيذ مخططه، وكي تتمكن هي من الساحة التي لم يكن لها أي وجود مذكور فيها حتى ذلك الوقت. ثم تتابعت بعد ذلك الأحداث التي نعرفها جميعا، منذ خلق السادات «فرانكشتاين» الذي انقلب عليه، واستدار بعدها لتدمير مصر. وساخت أقدام الثقافة المصرية، والعربية من ورائها في وهاد التردي والتبعية والهون على مد عقود أربعة. لأن من يعود إلى قائمة أسماء الفائزين بنوبل قبل تلك الفترة، من بابلو نيرودا 1971، وألسكندر سولجينيتسن 1970، وصامويل بيكيت 1969، وياسوناري كواباتا 1968، وميجيل أستورياس 1967، وميخائيل شولوخوف 1965، وجان بول سارتر 1964، وجورج سيفيريس 1963، وجون شتاينبك 1962، وإيفو أندريتش 1961، وسان جون بيرس 1960 والقائمة تطول، يجد أن جل هؤلاء الكتاب، باستثناء كواباتا، كان معروفا وله أكثر من عمل مترجم للعربية قبل فوزه بالجائزة. فقد كانت أعمال نيرودا وسارتر وبيكيت وسولجنيتسن وشولوخوف مترجمة للعربية ومقروءة فيها بل ومكتوب عنها بها قبل فوز كل منهم بسنوات وسنوات بالجائزة.
فإذا كانت الحرية لا تتجزأ، فإن التخلف والتردي لا يتجزآن كذلك. فمع الاستبداد وفقدان المشروع الوطني تتراجع كل الحريات، ومع التخلف تذوي الثقافة ويضمحل معها الخيال والعقل، ويتدهور التعليم، وتسود فيه المذكرات الغثة والغش والدروس الخصوصية، ويقتصر على التلقين والترديد الببغائي لمحفوظات بالية، ويموت الشغف بالمعرفة، وحب استطلاع الآفاق الجديدة، ويختفي التمحيص النقدي للوقائع والخطابات السائدة فيه. فيسود الجهل ويعم الظلام، ويسهل تزييف ما كان يبدو في الماضي وكأنه من أسس الثقافة والجدل العقلي، والتمويه عليه بمهرجانات واحتفاليات فاسدة، ومشاريع كبيرة طنانة كالطبل الأجوف، كالمشروع القومي للترجمة مثلا. ففي عز ازدهار هذا المشروع تكررت تلك اللطمات التي عددت بعضها لثقافتنا من جائزة نوبل للآداب في العقدين الأخيرين، فبينما كان المشروع يتباهى بازدياد عدد الكتب التي يصدرها، كانت الأكاديمية السويدية تقول لنا المرة تلو الأخرى إن ثقافتنا تتردى في وهاد تكرار ما أنجزته، ولا تفتح نوافذها ناهيك عن أبوابها للعالم الذي يواصل التقدم دون أن يعبأ بانشغالنا عنه بسفاسف الأمور. أو في أحسن الأحوال، وهذا أفضل ما في المشروع القومي للترجمة، استعادة واجترار ما سبق أن عرفناه، بإعادة طبع بعض الترجمات القديمة، وليست دائما الجيدة.
وأجمل ما في الأكاديمية السويدية التي تمنح الجائزة هو يقظتها الدائمة، ووعيها بأنها تعيش في عصرها بل ترود خطاه، وشغفها بارتياد الآفاق الجديدة والبحث المستمر عن الجديد في الأماكن غير المأهولة، والجري وراء المعرفة في مصادرها. ولا يعني هذا أنها مؤسسة منزهة عن الغرض، والغرض مرض، أو أن ليس لها أجنداتها السياسية المضمرة، فقد كتبت منذ سنوات عن تحيزاتها وما تنطوي عليه سيرتها من تناقضات، ومسيرتها من خلل مثير للتساؤلات. لكن هذا لا يمنعها، بل ربما يحثها أكثر على أن تكون شديدة الوعي بزمنها وواعية بأحدث منجزاته. حيث تكلف باستمرار أبرز الخبراء في مختلف آداب العالم بكتابة تقارير عن أهم الهامات الأدبية في مجال تخصصهم، وتطلب منهم ترشيح بعض العناوين لها لقراءتها. أقول هذا عن خبرة، إذ حدث هذا معي، ومع أكثر من زميل من زملائي، في الكلية التي عملت بها لربع قرن في جامعة لندن، كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، وهي من أبرز قلاع المعرفة بشؤون قارتي آسيا وأفريقيا وآدابها. لذلك كثيرا ما تثبت لنا الأكاديمية أنها تلعب دورا في تشكيل اهتمامات الواقع الثقافي الإنساني وتحديث خريطة القراءات فيه. لأنها لا تلتفت للأسماء المكررة التي يتداولها المتكهنون ببورصة التوقعات، والتي يحبس أصحابها أنفاسهم في شهر أكتوبر من كل عام، يتمنون أن تختارهم اللجنة بعد كل ما كرروه عن أنفسهم من دعايات، بأنهم جديرون بها وسيحصلون عليها. وتطرح علينا اسما جديدا، يوسع أفق معرفة العالم الأدبية، ويعزز مصداقية الجائزة ومكانتها، ويضيف الكثير إلى رأسمالها الرمزي، فبالجدية والمعرفة والبحث النزيه ونبذ التحيز والغرض ينمو الرأسمال الرمزي للجائزة، أي جائزة.
تناظرات الأدبين: الصيني والعربي
لذلك فأن خبر حصول الكاتب الصيني مو يان Mo Yan، حسب الطريقة الصينية، ويان مو حسب الطريقة العربية (لأن مو هو اسم العائلة، ويان اسمه الأول)، على جائزة نوبل للآداب هذا العام، من الأخبار السعيدة التي تزفها لنا الأكاديمية السويدية بين الحين والآخر. وتساهم بذلك في توسيع أفق معرفة العالم الأدبية، وفي تسليط الضوء على كاتب جدير بأن يعرفه القراء على نطاق واسع، وعلى أدب يستحق الاهتمام. فلن يقل تأثير هذا الخبر على وضع الأدب الصيني الحديث في المشهد الثقافي العالمي، عن تأثير خبر حصول كاتبنا الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 1988 على مكانة الأدب العربي على الخريطة العالمية، وعلى اهتمام القراء والمترجمين به. أقول هذا لمتابعتي عن كثب لما جرى للأدب العربي في الغرب في ربع القرن الذي انصرم منذ حصول محفوظ على الجائزة من ناحية، ولمعرفتي الوثيقة بوضع الأدب الصيني الحديث حيث عملت لربع قرن جنبا إلى جنب مع متخصصين في آداب الصين واليابان وغيرها من آداب آسيا وأفريقيا.
وقد أعادني تصفحي لتغطية الصحف الصينية المنشورة بالإنجليزية للخبر، لتغطية الصحف المصرية والعربية لخبر حصول نجيب محفوظ على نوبل للآداب. حيث نشر الخبر في صدر الصفحات الأولى لكل الصحف الصينية، وتصدر نشرات الأخبار التليفزيونية، وسجل فرحة الصين الغامرة كلها بالحدث، وأكد في نوع من الاعتزاز القومي المعهود جدارة ثقافتها به. حيث تذكر كيف تأخرت الجائزة في الاعتراف بالأدب الصيني، وكيف أن هناك أكثر من كاتب صيني حديث كان جديرا بها، على مد القرن الذي مضى من عمر الجائزة، دون الحصول عليها، وتعدد أسماءهم من: لو صين وباو جين، حتى يانج مو، وماو دون وغيرهم (وهي كلها أسماء لم يترجم لها شيء بالعربية باستثناء لو صن). وأنه آن الأوان لأن يحظى الأدب الصيني بالمكانة الجديرة به على خريطة الأدب الإنساني المعاصر، وأن تترجم روائعه إلى لغات العالم المختلفة. وهو الأمر الذي فعلناه حينما فاز بها نجيب محفوظ، واعتبرناه اعتذارا عن عدم منحها لطه حسين أو توفيق الحكيم أو يحيى حقي، أو يوسف إدريس. بل اعتبر عدد قليل من المعلقين الصينيين الفرحين بفوز كاتبهم، أن الجائزة هي حكم قيمة على الكاتب، وعلى الأدب الذي ينتمي إليه معا، وأن هذا الأدب أدب يستحق العالمية، وهو نفس ما حدث بالنسبة لنا في الثقافة العربية. فعلاقة الصين بالغرب لا تقل تعقيدا وإشكالية عن علاقتنا به. نفس علاقة الحب/ الكراهية الملتبسة التي تشتهي اعتراف الغرب، وتريد أن تبدو وكأنها معرضة عنه ولا تعبأ به، لأنها واعية بمعاييره المزدوجة، وأجنداته المضمرة، وتناقضاته الأخلاقية، ولأنها عانت من هذا كله.
وكان هناك في التغطية الصينية للخبر، فضلا عن الاعتزاز الوطني بثقافتها وإنجازاتها، جانب سياسي صيني بامتياز، فلا ثقافة دون أبعاد سياسية مضمرة أو بادية. وهو سعادة الصين بفوز كاتبها بدلا من الكاتب الياباني هاروكي موراكامي الذي تداولت التكهنات اسمه بقوة باعتباره المرشح الأوفر حظا للفوز بها هذا العام. فقد كان فوز كاتبهم الذي لم يفكر في الجائزة، ولم يسع إليها أو يغازلها كما يفعل موركامي على الدوام، نوعا من الفوز المعنوي على اليابان في صراع الصين معها بشأن جزر دياويو Diaoyu islands المتنازع عليها بينهما. وكان موراكامي، غزلا منه للجائزة، قد أدان الجانبين: الصين واليابان معا لصراعهما على هذه الجزر، وكأنه يتبنى الموقف الغربي، وإن كان الغرب لا يحترم كثيرا من يتخلى عن قضايا وطنه، أو يرقص على الحبال بشأنها، خاصة وأن أميركا تقف بوضوح مع اليابان وضد الصين في موضوع الجزر ذاك لوعيها بأهمية الجزر الاستراتيجية. المهم أن من التزم بقضايا وطنه، ولم يستعرض رقصاته أمام الغرب هو الذي فاز بالجائزة. وكأن هذا الانتصار الأدبي هو المقدمة لانتصار وشيك في موضوع الجزر، لايزال الصراع بشأنه جاريا بين الجارين الآسيويين الكبيرين. صحيح أنه لا علاقة من قريب أو بعيد بين الموضوعين، ولكن السياسة ما تلبث أن تلون كل شيء بألوانها. كما أن كل إنجاز تحققه أمة ما، سرعان ما يفتح شهيتها لإنجازات أخرى، وفي مجالات ليس من الضروري ترابطها.
كما أعادتني قراءة تغطيات الصحف الصينية لنفس القضايا التي طرحت عربيا حول سياسات الترجمة، وحول الصعوبات التي يطرحها الأدب الصيني على المترجم الغربي لاختلاف الإحالات الثقافية من ناحية، ولضياع الكثير من جماليات الكتابة الصينية الحديثة وتناصّاتها المضمرة في الترجمة من ناحية أخرى. لأن الأدب الصيني كنظيره العربي، له تاريخ أدبي طويل وعريق، وتاريخ سياسي إشكالي ومعقد، يحاوره الأدب المعاصر، ويقيم علاقاته النصية معه وإحالاته التاريخية والسياسية عليه. ناهيك عن أهمية معرفة تاريخ الصين من ثورة 1911 حتى الاحتلال الياباني 1937، وصولا إلى الزحف الطويل وثورة 1949، ثم الثورة الثقافية عام 1966، وحتى انتفاضة ميدان تينانمين الموؤدة عام 1989. وهي كلها من المرتكزات الأساسية والضرورية لفهم أعمال الكاتب الصيني مو يان القصصية والروائية. وهو أمر يناظر ما نقوله عن ضرورة معرفة ثورة 1919 ومرحلة الاستعمار البريطاني لمصر، وثورة 1952 وما دار بعدها لفهم أدب نجيب محفوظ، وقراءة المستويات المتعددة للمعنى في رواياته.
لكن الفرق بالطبع، وهو فرق كبير، هو أن مو يان يحصل على الجائزة بعد 24 عاما من حصول نجيب محفوظ عليها، جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسر. كما أنه حصل عليها وهو في السابعة والخمسين من عمره، بينما حصل نجيب محفوظ على جائزته وهو في السابعة والسبعين. أي أن نجيب محفوظ حصل على الجائزة في شيخوخته، حيث وهن الجسد وبدأ في التضعضع، وكان الأفق العربي ينسد تدريجيا أمامه، ليس فقط بمقاطعة العرب لأعماله عقب زيارة السادات للقدس واتفاقية كامب دافيد المشؤومة، ولكن أيضا بانسداده أمام قراءه المحتملين من الشباب الذين عانى معظمهم من البطالة من ناحية ومن هجمات الظلام عليهم من ناحية أخرى. فلم يكتب بعدها إلا عملا واحدا لامعا هو (اصداء السيرة الذاتية) ارتبك نشره وترتيب فصوله بسبب العدوان الأثيم على حياته، مع عدد قليل من أعمال يعاني بعضها من الشيخوخة ومن أعقاب الحادث الأثيم على حياته، والذي لا يمكن التغاضي عن أنه من عواقب منحه نوبل من ناحية وسيطرة ظلمات التأسلم على العقل المصري من ناحية أخرى. ولم تضف الكثير لما انجزه.
بينما يحصل عليها الكاتب الصيني وهو في شرخ كهولته ونضجه، حيث تتتابع أعماله بوتيرة أحسب أنها ستستمر لسنوات طويلة، وسيستفيد من أصداء تلقيها في عالم أدبي أرحب. فقد قال تعليقا على سماعه بنبأ فوزه بها «سأركز الآن على كتابة أعمال جديدة، أريد الانخراط أكثر في الكتابة كي أشكر العالم على هذه الهدية.» ناهيك عن اختلاف جوهري آخر، وهو أن نجيب محفوظ حصل عليها في مرحلة كانت بلاده فيها تتخبط في مهاوي التردي والتبعية والهوان، وكان الأفق فيها ينسد أمام الكاتب بالشيخوخة، وأمام مجتمعة بالتردي والفساد وإدخال المثقفين إلى حظيرة التدجين والتدجيل والاحتواء. وكانت الثقافة العربية تنحدر إلى مهاوي التخلف وتصبح صورتها في العالم هي ما يجسده هذا التخلف من إرهاب وإسلاموفوبيا. أما مو يان، فإنه أسعد حظا، حيث يحصل عليها في مرحلة ترتقي فيها الصين مدارج القوة والتقدم بخطوات متسارعة، وينفتح فيها الأفق أمامها، وأمام مواطنيها وثقافتها بالتالي في أربعة أرجاء الأرض بتقدير واحترام. وتتحول صورتها بالتالي إلى صورة العملاق الجديد الذي يبني معجزته على مهل، ويتوقع منه العالم الكثير.
وقد أثار خبر حصوله على الجائزة بالفعل الاهتمام بأعماله فقفزت مبيعاتها، عن طريق شركة «أمازون»، به من المكانة 560 إلى المكانة 14 بعد يوم واحد من حصوله على الجائزة. كما أن الألف وخمسمائة نسخة التي كانت لديها من كتابه الأخير (الضفادع) نفدت في الساعات الست التالية لإعلان الخبر. ولا يقل ما جرى لأعماله في الصين نفسها عما حدث لترجماته الانجليزية. إذ قررت دار النشر التي تصدر أعماله (دار شنغهاي لنشر الآداب والفنون) إعادة طبع أعماله الستة عشر على الفور كي تلاحق الطلب المتزايد عليها. فقد عمت الصين فرحة لا تقل عن تلك التي عمّت مصر عقب فوز نجيب محفوظ بالجائزة. ونشرت الصحف الرسمية الخبر في صدر صفحاتها الأولى. باعتباره أول كاتب صيني يفوز بجائزة نوبل للآداب. وقد اهتمت في تغطيتها للخبر بالتركيز على أنه أول مواطن صيني يفوز بجائزة نوبل للآداب طوال تاريخها الذي تجاوز القرن، وأن هذا الفوز يشكل اعترافا غربيا بأهمية الأدب الصيني، وبالثقافة الصينية الأصلية، وبمكانة الصين الدولية كقوة صاعدة، كما تقول (جلوبال تايمز) الصحيفة الصينية الرسمية الناطقة بالإنجليزية.
لأن الكاتب الصيني جاو زينجيانGao Xingjian صاحب الرواية الجميلة (جبل الروح) الذي سبقه إليها وفاز بها عام 2000 فاز بها كمواطن فرنسي، تخلى عن جنسيته الصينية عام 1996 بعد لجوئه السياسي لفرنسا. وهو أمر أدانته الصين وقتها، واعتبرت منحه جائزة نوبل للآداب فعلا عدائيا لا ينطوي على أي تقدير للأدب الصيني، وإنما يدخل ضمن ألاعيب جائزة نوبل السياسية والمغرضة. كما أن حصول الناقد الأدبي والناشط السياسي، والرئيس السابق لنادي القلم الصيني (وهو مؤسسة ممولة بالكامل من NED الوقف القومي للديموقراطيةNational Endowment for Democracy ، وهو أحد أذرع المخابرات المركزية الأمريكية) ليو زياوبو Liu Xiaobo على جائزة نوبل للسلام عام 2010 بعدما منعت كتبه، وحكم عليه بالسجن بتهم تحريضه على هدم الدولة الصينية، ودعوته لإنشاء أحزاب أخرى غير الحزب الشيوعي، الحزب الوحيد والحاكم في الصين، لم تره الصين إلا في سياق مخططات الغرب السياسية العدائية ضدها. بل إن جائزة مو يان لم تسلم هي الأخرى من مجموعة من ردود الفعل الإشكالية كتلك التي واجهتها جائزة محفوظ.
ردود أفعال تمزج الأدب بالسياسة:
وبدلا من ردود فعل المتأسلمين المتخلفة على فوزه بالجائزة، وتنديد بعضهم من جديد بروايته البديعة (أولاد حارتنا)، وإصدار عمر عبدالرحمن فتوى تهدر دمه، وزعم بعض العرب بأن سر فوزه بها هو مهادنته للعدو الصهيوني أو مغازلته للتطبيع معه، ها نحن نقرأ مجموعة أخرى من الإشكاليات الصينية الخالصة. وهي إشكاليات تكشف لنا عن أن الجائزة، برغم أدبيتها تلعب دورا سياسيا بامتياز، وتؤثر في لعبة علاقات القوى الثقافية منها والسياسية على السواء. فقد انتقدت عدة منابر في الصحافة الغربية، والأمريكية منها خاصة، قرار منحه الجائزة لأنه عضو في الحزب الشيوعي الصيني، ولم يعرف عنه انتقاد سياسات الحزب، أو تأييد الحركات الصينية الداعية للديموقراطية. وأنه التزم في كثير من سفراته التي مثل فيها الأدب الصيني في الغرب بخط الحزب في هذا المجال وتعليماته بألا يُستدرَج إلى إدانة نظام بلاده لصالح أعدائها. ولم يستجب لكثير من استفزازات الصحافة المعادية للصين في هذا المجال. أما الكتاب الصينيون في المنفى بمختلف المنافي الأوروبية والأمريكية، فلم يقل هجومهم على منحه الجائزة عن نظرائهم الغربيين. لكن برندان أوكين Brendan O’Kane وهو مترجم أيرلندي/ أمريكي للأدب الصيني رد على هذا الهجوم مؤكدا أن «أعمال مو يان في جوهرها، وبطريقتها السيريالية البارعة في السرد تقوض الكثير من المسلمات وتزعزعها. صحيح أنه ليس معارضا على طريقة ليو زياوبو، ولكن قدرة أعماله على فضح الرشوة والقسوة وغباء السلطة، تجعلها أقوى تأثيرا من معارضات زياوبو. ففي الصين كثير من الكتاب الذين يفضلون أن يمارسوا دورهم المعارض في مجتمعهم ضمن سياق المسموح، الذي يوسعون رقعته باستمرار، على أن تمنع أعمالهم، أو يسجنوا أو أن يمنحهم الغرب وظيفة شرفية في إحدى جامعاته».
أما في الصين نفسها، فإن الفرحة القومية الكبيرة بحصوله على جائزة نوبل باعتبارها اعترافا بأهمية الأدب الصيني ومكانة الصين الدولية، وهي التي وسمت تغطية الصحافة الرسمية للخبر، سرعان ما أفسحت المجال لعدد من الاستجابات المختلفة، بل والمتناقضة، في الإنترنت خاصة. فبينما أثنى البعض على عمق بصيرته، ورهافة رؤيته الأدبية، وتجريبيته الجسورة في الشكل والموضوع معا، واعترف الكثيرون بموهبته وإنجازه وقيمته الأدبية المهمة، بل حتى شجاعته في التعبير عن آراء مستهجنة لخط الحزب في رواياته. انتقده الآخرون لأنه يؤثر الصمت حينما يتعلق الأمر بقضايا الحرية وحقوق الإنسان. ألا يذكرنا هذا بشيء مما قيل عن نجيب محفوظ؟! فقد انتقد الكاتب لياو ييوو Liao Yiwu الخارج قبل عامين من المعتقل، قرار لجنة نوبل باعتباره «دليلا واضحا على معايير الغرب الملتبسة وما دعاه بغمغماتة الأخلاقية». بينما ذهب ناشط صيني معروف هو آي ويوي Ai Weiwei إلى أن منحه الجائزة «وصمة في جبين الأدب وجبين الإنسانية» كما يقول، وهو يسرد سجله الطويل في الالتزام بتعليمات الحزب والصمت عن انتهاكاته.
ويشير ثالث إلى أنه حينما رأس وفد الصين لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب عام 2009، عندما كانت الصين ضيف شرف المعرض، قاطع أنشطة كتاب المنفى الصينيين المعارضين في الغرب، استجابة بالطبع لتعليمات الحزب. كما حثّه عدد من منتقديه على أن يقوم الآن، وقد حصنته نوبل، بدور بارز في الدفاع عن نجوم الدعوة للحرية والأجندات الغربية في الصين، مثل ليو زياوبو. لكن ردود فعل مو يان على تلك الهجمات تفاوتت، بين كشف نفاق مهاجميه، حينما رد عليهم: «إن كثيرا من الذين انتقدوني في الإنترنت، هم أنفسهم أعضاء في الحزب الشيوعي، ويعملون ضمن النظام القائم، ومنهم من استفاد منه كثيرا. ولو قرأوا أعمالي لأدركوا أنني أعبر عن ضمير شعبي، وأنني انتهكت فيها الكثير من المحرمات التي تعرض منتهكيها للخطر.» وبين اللجوء إلى مهادنة أكثر جرأة قليلا من تلك التي اتخذها محفوظ عقب هجوم منتقدي نوبل عليه، إذ سارع بعد يومين من نبأ حصوله على الجائزة إلى مطالبة السلطات الصينية بالإفراج عن ليو زياوبو. إلى الحد الذي دفع معارض صيني للتعليق على الأمر، بأنه إذا كان حصول الكاتب على جائزة نوبل سيمكنه من التخلي عن الصمت ونقد النظام الصيني الراهن، فمرحبا بنوبل.
مو يان حياته وسياقات ظهور مشروعه الأدبي:
فمن هو مو يان؟ وكيف صعد من أحد أفقر مناطق الصين إلى ساحة الاهتمام الدولي والثقافي؟ ولد جوان موييه Guan Moye المعروف باسم مو يان Mo Yan وهو اسمه الأدبي الذي استقاه من نصه الأول من ناحية، ومن مفارقة دالة على وضع الكاتب في الصين من ناحية أخرى، لأنه يعني باللغة الصينية، «لا تتكلم»، ولد في 17 فبراير عام 1955 في قرية صغيرة هي جاومي التي تقع في محافظة شاندونج (التي يعني اسمها شرق الجبل)، والمطلة على البحر الأصفر في الشمال الشرقي من الصين، في مواجهة شبه الجزيرة الكورية. ولد في أسرة فلاحية فقيرة تعاني من شظف العيش وقلة الإمكانيات، وتوفر لها فلاحة الأرض بالكاد قوت يومها وعيالها. وساعد أسرته في الفلاحة، كغيره من أبناء جيله حتى بلغ السابعة عشرة من عمره، فزرع الذرة الصينية الرفيعة والثوم (وسوف يكون لكل من هذين المحصولين رواية من رواياته في المستقبل) واضطر كأغلب أبناء جيله إلى ترك المدرسة صبيا للالتحاق بالثورة الثقافية عام 1966، وخبر بنفسه تأثيرها المدمر على المناطق الفلاحية الفقيرة، وما انطوت عليه من تدمير وعصف بالحريات. فقد كان أبوه الفلاح، الذي عانى هو وأبناؤه من شظف العيش طويلا، ينصحه دائما بألا يتكلم؟! يول له دوما «مو يان: لا تتكلم» حتى لا تورطه الكلمات في مشاكل، هو حقيقة في غنى عنها!
ثم اضطر للعمل لما بلغ السابعة عشرة من عمره في مصنع للمنتجات النفطية إلى جانب عمله في الحقل لمساعدة أسرته الفلاحية. وعاني طوال سنوات طفولته وصباه من الفقر، إلى الحد الذي يوشك فيه حديثه عن الفقر الذي خبره بحق أن يكون طالعا من صفحات رواية (جوع) للكاتب النرويجي الكبير كنوت هامسون، حيث اضطر إلى أكل لحاء الأشجار كما فعل بطل هامسون. كما أن إجابته على سؤال لماذا أصبحت كاتبا، ذكرتني بمشهد طالع من رواية (جوع) لمحمد البساطي، حينما يسأل الابن أباه مندهشا، وقد جلب لهم بقايا مائدة الرجل الثري الذي يعمل عنده بما فيها من لحوم: «وبتاكل من ده كل يوم!» لأن مو يان قال: إن أحد ابناء قريته الذي تعلم في بكين، قال له مرة بعد أن عاد للقرية، إنه عرف كاتبا في بيكين يأكل «جياوزي» ثلاث مرات في اليوم، وهي المعادل المصري لأكل اللحم كل يوم! فقرر أن يكون كاتبا، إذا كانت الكتابة تنتشل الإنسان من براثن الفقر والجوع.
وبعد أن حطت الثورة الثقافية أوزارها عام 1976 التحق بجيش التحرير الشعبي، باعتباره الوسيلة الوحيدة للتحرر من الفقر والمسغبة، إلى درجة أن أسرته زورت في تاريخ ميلاده، وجعلته أصغر من عمره الحقيقي بسنه (زعموا أنه ولد عام 1956 وليس 1955، فلم يكن لديه شهادة ميلاد على كل حال) كي يلتحق بالجيش. وأكمل تعليمه فيه، حيث أن الجيش الصيني، مثله في ذلك مثل الجيش الأمريكي، يوفر لمن يتطوعون للالتحاق به سبل التعليم المجاني، حتى وصل إلى رتبة ضابط. وبدأ الكتابة أثناء ذلك، ونشر عددا من قصصه القصيرة اللافتة. ولكن بعض رؤسائه في الجيش كانوا ينتقدونه لأنه يكتب بدلا من القيام بمهامه العسكرية الأخرى، فقرر عام 1980 الالتحاق بقسم الأدب في أكاديمية جيش التحرير الشعبي للفنون والآداب. كي تصبح الكتابة جزءا من مهامه العسكرية. ثم كتب روايته الأولى (مطر في ليلة ربيعية) عام 1981. وفي عام 1983 عين مدرسا في نفس القسم الذي تخرج منه. وفي العام التالي نشر روايته القصيرة الأولى (فجل شفاف)، التي جاءت ضمن سياق فورة مرحلة الانفتاح والإصلاح الكبيرة التي بدأت مع بداية الثمانينيات، وعقب القضاء على عصابة الأربعة. وفي عام 1991 حصل على درجة الماجستير في الآداب من جامعة بكين. وهو عضو في الحزب الشيوعي الصيني، ونائب رئيس اتحاد كتاب الصين.
وتجيء أعماله التي تعاقبت بوتيرة متسارعة، في سياق مجموعة من المتغيرات الدالة في الأدب الصيني الحديث. فبعد فترة من الازدهار النسبي في بداية حكم ماوتسي تونج، نتيجة لدعوته الشهيرة «دع مئة زهرة تتفتح»، تراجعت حرية الكتّاب النقدية، وسادت المشهد الواقعية الاشتراكية بمنتجاتها الأدبية البليدة. وأحكم الحزب سيطرته على الحياة الثقافية عبر اتحاد الكتاب، وتأميم دور النشر. لكن الفترة التي تلت التخلص من عصابة الاربعة بعد موت ماوتسي تونج عام 1976، وبداية التحولات السياسية والاقتصادية في الصين مع انتصار دنج جياوبنج، مهندس التحول الصيني، وشعاره الشهير: «بلد واحد ونظامان» و«ليس مهما أن تكون القطة بيضاء أو سوداء، المهم أن تقتل الفئران»، شهدت مجموعة من التحولات الثقافية المهمة. فقد اندلعت معها انفجارة أدبية كبيرة استعادت زخم حركة «الرابع من مايو» التجريبية في بداية القرن العشرين. وهي الحركة التي ساهمت في إرساء قواعد الأدب الصيني الحديث، وتكوين أشكاله السردية والدرامية الجديدة، ومكنته من تحقيق حالة من الازدهار الكبير طوال الثلث الأول من القرن العشرين، وحتى الاحتلال الياباني الذي أدخل البلاد في دوامة من الصراعات والاضطرابات والحروب لم تنته إلا بهزيمة اليابان وقيام الثورة الصينية. لكن الحزب سرعان ما استشعر الخطر الداهم لتلك الانفجارة المتسارعة التي لم يستطع السيطرة عليها، فشن حملاته الأيديولوجية ضدها. وكان من أبرزها حملتان.
أولاهما ضد النزعة البرجوازية الليبرالية عام 1980/ 1981، وضد الخطاب الذي تحرر من قيود الواقعية الاشتراكية، ورؤية الحزب الثقافية التي كانت قد تزعزعت إبان الثورة الثقافية. وثانيتهما ضد ما عرف باسم «تلويث الروح الصينية» عام 1983 بسبب تدفق الأعمال الأدبية التي تكتب بسرعة كوابيس مرحلة الثورة الثقافية، متشجعة باستمرار الهجوم الأيديولوجي عليها. وتعيد النظر في تاريخ الصين الحديث، بعيدا عن رؤية الحزب التبسيطية له: حيث كل من حارب مع ماو هم الأخيار، وكل ما عداهم أشرار خونة. لكنهما كانتا حملتان قصيرتي العمر والتأثير. لأن زخم الانفجارة الأدبية سرعان ما تغلب على هاتين الحملتين قصيرتي العمر وتنامي. وانطلق الأدب وقد تشجع بنجاح سياسات دنج في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وبرز كتاب مهمين مثل وانج مينجWang Ming ، وجانج زينزن Zhang Xinxin ، وزونج بو Zong Po في مجال الرواية، وجاو زينجيان في مجال المسرح.
وتبلورت خلال هذه الازدهارة مع سنوات الثمانينيات الأولى مدرستان/ جماعتان أدبيتان تجسدان على الصعيد الثقافي شعار دنج: «بلد واحد ونظامان». أولاهما «حركة الأدب الطليعي» التي استعادت روح «الرابع من مايو» في الانفتاح على أحدث أشكال الكتابة الغربية، والاهتمام بالتجريب في اللغة والأشكال الأدبية، وتأسيس عدد من المجلات الطليعية ودور النشر الجديدة خارج سيطرة المؤسسة الرسمية. وبدأت هذه الحركة في كتابة كوابيس مرحلة الثورة الثقافية، وما جرته على الصين من خراب. مستفيدة بذلك من تقنيات الحداثة الغربية، والإيغال في الفانتازيا والمناجيات الداخلية. وبدأ جيل كان يكتب على استحياء، ويحتفظ بكتابته في الأدراج نتيجة للثورة الثقافية، يمكن أن نسميه بجيل الستينيات، ينشر أعماله القديمة ذات الحساسية الأدبية المغايرة، ويفتح الأدب الصيني على الأساليب التجريبية الجديدة، وعلى كثير من تقنيات الحداثة الغربية مثل يو هان Yu Hua، وجي فايGe Fei وسو تونجSu Tong . بصورة جددت اللغة والأدب معا، وأظهرت غياب الإيمان بأي نموذج أو مثال قديم.
وثانيتهما هي حركة أو جماعة «العودة للجذور»، وتزعمها هان شاجونجHan Shagong وزونج شينجZhong Cheng ، وضمت عددا من الكاتبات البارزات مثل تشين ران Chen Ran، ووي هويWei Hui ، ووانج آنييهWang Anie ، وهونج ينج Hong Ying. وقد سعت إلى إدارة حوار خصب بين تقنيات الحداثة الغربية التي روج لها كتاب جيل الستينيات وجماعة الأدب الطليعي، والتقاليد الراسخة في الأدب الصيني القديم، بنصوصه السردية الشيقة، واستراتيجياته النصية المتجذرة في بنية اللغة والوجدان الشعبي معا. وهذه هي الجماعة التي مال إليها كاتبنا مو يان، الذي تربى على حكايات قريته الشعبية وعوالمها الخيالية الخصيبة التي يمتزج فيها الواقع بالخيال وينساب الخيال في ثنايا الواقع دون أي تعارض بينهما. وإن كان في الوقت نفسه من أكثر كتابها استفادة من انجاز الجماعة الأخرى، وتقنياتها التي تقترب في عالمه من تقنيات الحداثة الأوروبية الأولى بسرياليتها الواضحة، وبما دعاه الواقعية المهلوسة أو الموسوسة Hallucinatory Realism وقد اكتسبت زخما جديدا من تحرر الواقعية السحرية وإنجازاتها التي ولع بها مو يان وخاصة عند جابرييل جارسيا ماركيز.
كيف تفصح عما دار لعشيرتك و«لا تتكلم»:
فقد بدأ الكتابة في مدينته النائية، بعيدا عن مركز هذا الجدل الأدبي الدائر في بكين وشنغهاي. واستفاد بمكر الفلاح الصيني العريق منهما معا، دون أن يفصح عن انخراطه في أي منهما. ألم ينصحه أبوه الفلاح من قبل بألا يتكلم؟! ألم يتعلم من قراءته لوليام فوكنر، وهو الكاتب الآخر الذي يقول أنه تأثر بها كثيرا، أن باستطاعته أن يؤسس عالما خياليا موازيا لعالم الواقع وقادرا على الكشف عن أدق خباياه، مثل يوكناباتوفا Yoknapatawpha، يتناول فيه كل ما يدور في العالم الواقعي بحرية وقدرة أكبر على التأثير؟! وقد فعل ذلك في أكثر من عمل من أعماله الروائية التي يتعمد ألا تدور في جغرافيا واقعية، بل متخيلة وشديدة الالتصاق بالواقع معا، أقرب ما تكون إلى منهج فوكنر في يوكناباتوفا. فقد شب مو يان عن الطوق إبان اندلاع عواصف الثورة الثقافية، وانتشار شراراتها في كل الأقاليم. كان في الحادية عشرة من عمره حينما انطلقت، وكان خوف أبيه عليه هو ما دفعه إلى أن يشدد عليه بألا يتكلم خارج البيت، وأن يتظاهر بأنه أبكم، وألا يعبر عن أرائه الحقيقية، لما قد يجلبه هذا عليه من عواقب وخيمه. لا تتكلم «مو يان»! هكذا كان يقول له الأب طوال الأعوام العشرين الأولى من حياته.
وقد استحسن استخدام هذا الاسم أدبيا، حينما بدأ الكتابة بدلا من الكلام، بدلا من اسمه الحقيقي جوان موييه؛ لما ينطوي عليه من مفارقة دالة وشيقة معا. خاصة وأنه بدأ الكتابة وهو مجند بجيش التحرير الشعبي، فكان في حاجة إلى أن يذكر نفسه بدلالات هذا الاسم باستمرار، حتى لا يتورط فيما لا تحمد عقباه. بل إنه استخدم نصيحة أبيه له، تظاهر بأنكم أبكم، كاستراتيجية أدبية في روايته الأولى التي يرويها طفل عازف عن الكلام. فحق عليه استخدام الاسم الأدبي إذن «مو يان» لكتابة ما رآه هذا لطفل وعاشه دون أي كلام. خاصة وأنه يتناول في كتاباته كثيرا من القضايا السياسية الشائكة، وينتهك فيها في الوقت نفسه بعض المحرمات الجنسية. لذلك حافظ على الاسم، وواصل الكتابة به حتى اليوم، برغم تغير الظروف، وانفراج المناخ.
ومع أن مو يان كاتب خصب وفير الانتاج، مثله في ذلك مثل كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، فإن مدار عالمه على العكس من محفوظ هو الريف الصيني، ومدنه الصغيرة، لا العاصمة أو المدن الصينية الضخمة. فهو كنجيب محفوظ لا يكتب إلا عن خبرة حميمة بما يكتب عنه، عما يعرفه عن كثب. وقد عاش القسم الأكبر من حياته في قريته «جاومي» لذلك يدير أغلب أعماله في عالم قريب من عالمها، فالقرية بالنسبة له هي الحارة بالنسبة لنجيب محفوظ سواء أكانت حقيقية أو متخلية. لأنه يقول أنه بعد أكثر من عشرين عاما من الصمت، والحرمان من الكلام، يريد أن ينقل للعالم كل ما عاشه وشاهده في قريته ومدينته الصغيرة، يريد أن يحكي ولا يستطيع أن يتوقف عن الحكي. خاصة منذ قرر أن يتفرغ للكتابة بعد النجاح النسبي لروايته الثانية (فجل شفاف) عام 1983. وهو كاتب كما تقول حيثيات فوزة بجائزة نوبل «يمزج واقعية الهلاوس التخييلية بالتاريخ والحكايات الشعبية والوقائع المعاصرة». ولو أضفنا إليها ويعتمد على الجدل الخصب بين الخيال والواقع بطريقة تهكمية ساخرة تتسم بمنطق القص العفوي والاستطرادات السلسة، والسرد التوليدي الذي تتناسل في الحكايات، ويذكرك باستراتيجيات القص الشهرزادية في (ألف ليلة)، لتحولت هذه الجملة الأطول إلى مفتاح لأسلوبه السردي المتميز.
وسوف أواصل في العدد القادم تناول أعماله، ومشاركة القارئ في قراءتي لها، فلازلت غارقا في عوالم بعضها الثرية، وفي قراءة بعضها الآخر في آن.