لعلي لست مغالياً إذا اعتبرت أعمال الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو مفصلاً هاماً في الدراسات النقدية الحديثة، التي اهتمت بمجال نقد الموروث السردي استناداً إلى المنهجيات الحديثة، فقد بذل كيليطو جهداً في هذا المجال خصيباً منذ أعماله الأولى التي كتبها بالفرنسية، ثم ما لبثت أن ظهرت بالعربية تباعاً في وقت متقارب خلال العقود الأربعة الأخيرة مثل "الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية" و"المقامات–دراسة في السرد والأنساق" و"العين والإبرة، دراسة في ألف ليلة وليلة". بعد ذلك توجه كيليطو إلى الكتابة بالعربية، فظهرت له جملة أعمال أكب فيها على فحص ودراسة بعض الجوانب الجزئية المتصلة بقضايا السرديات، التي تفرغ لها كيليطو فشكلت مشروع عمره الذي خصه بكل وقته وجهده. ويمكن التمثيل لدراسات كيليطو التي انشغلت بجوانب جزئية من الموروث السردي بـ"الأدب والغرابة". وإلى جانب ذلك اختص كيليطو السرد العربي بمعالجات على نحو كلي كما هي الحال في كتابيه: "الغائب: دراسة في مقامة للحريري" و"الحكاية والتأويل: دراسة في السرد العربي".
وفي جميع هذه الدراسات كانت المسألة الأجناسية حاضرة، إذ غالباً ما كان كيليطو يعمد إلى بحث الضوابط الأجناسية للأعمال التي عني بدرسها. غير أن تتبع هذه الدراسات للوقوف على تصور كيليطو لقضية الأجناس أمر يطول لتوزعها في مواضع من مؤلفاته متفرقة، لكل ذلك رأينا أن نقتصر على الدراسة الموجزة التي ضمنها فصلاً من كتابه "الأدب والغرابة"، وهو الفصل الذي وسمه كيليطو بـ"تصنيف الأنواع"(ص14).
في سياق دراسته لغرابة النص الأدبي وعلاقته بالجنس الذي يندرج ضمنه رأى كيليطو أن تحديد مفهوم النص قد يكون مفيداً لتحقيق هذا المقصد، ومن هنا قدم تصوره لـ"النص" باعتباره "تنظيماً لغوياً فريداً"(ص14)، يتميز من "اللانص" بكونه ذا "مدلول ثقافي"(ص14)، حيث الكلام، من منظور كيليطو، "لا يصير نصاً إلا داخل ثقافة معينة"(ص13)؛ أي أنه لا يمنح صفة "نص" إلا من منظور "ثقافة معينة"، بما يفيد أن الكلام الذي توافرت له خصائص "النصيّة" فاعتبر "نصاً"، من منظور ثقافة معينة، قد لا يعتبر كذلك في ثقافة أخرى تنظر إليه بوصفه "لا نصاً".
وبذلك يكون "النص" عند كيليطو إنما يتحدد في مقابل "اللانص"، فإذا كان النص يتميز بكونه "ليس له تنظيم ولا مدلول ثقافي"، ومن ثم "لا يفسر ولا يعلم ولا يحظى بأي اهتمام"(ص15)، فإن "النص" يتميز بأنه تنظيم له مدلول ثقافي وأدبي، وهو ما يمكنه من أن يدخل في علاقة مع "الخطاب الأدبي" ليحقق من خلال هذه العلاقة "نمطاً" داخل ذلك الخطاب، حيث النص الذي يطغى عليه المنحى التعليمي مثلاً، تهيمن فيه صيغة "الأمر والنهي". وهو ما ينقل هذه النصوص إلى أجناس تمثل "الموعظة" و"الحكمة" و"خطبة الجمعة"(ص17). إن هذه الصيغ المتميزة هي التي وسمت الحكم والأمثال، فيما يرى كيليطو، بسمات خاصة فرقتها عما "ليس نصاً"، ومن ثم سميت "نصوصاً"(ص14). وبالرغم من هذه الفروق الموجودة بين هذه الأنواع، فقد لحظ كيليطو أن نفس القاعدة تعمل فيها جميعاً(ص17).
إن هذه التحديدات التي يسوق كيليطو بغية تمييز "النص" من "اللانص" لتدفعنا إلى التساؤل عن علاقة النص بالجنس الذي يرتقي إليه.
إن الجنس الأدبي عبارة عن محددات سابقة على النص؛ أي بنيات نصية مجردة. أما النص فهو بنيات نصيّة منجزة تتحقق فيها ومن خلالها البنيات المجردة، وبذلك تكون العلاقة بين النص والجنس أن الأول تحقيق للأخير وتكوين له، ويتم ذلك عندما تشترك مجموعة من النصوص في نفس السمات الجوهرية، التي تؤشر على ارتقائها إلى جنس أدبي بعينه، سواء كان هذا الجنس موجوداً أو محتملاً أو مفترضاً. يقول كيليطو:
"النوع يتكون عندما تشترك مجموعة من النصوص في إبراز نفس العناصر"(ص21). مما يعني أن ظهور مفهوم النوع الأدبي يقتضي تعدداً في النصوص، شريطة أن يقوم هذا التعدد النصي على التواتر والتكرار؛ أي أن مكونات نصية بعينها تظهر في جميع النصوص المندرجة تحت نفس الجنس، وهو ما يتضح معه أن مفهوم النوع عند كيليطو مؤسس على مفهوم "تقاليد القراءة" أو "أفق الانتظار" الذي قال به ياوس مستلهما جادمير، حيث إن قراءة نصوص تشترك في نفس المكونات تخلق لدى القارئ "توقعات" يقرأ في ضوئها جميع النصوص التي تنتمي لنفس النوع، فإذا صادف القارئ نصاً لا يخضع لنفس التحديدات، فإن أفق انتظاره يخيب وينكسر، فيدرك أنه أمام نوع جديد مباين لما تعود عليه، وهو ما يقتضيه اعتماد إستراتيجية في التلقي جديدة توائم النوع الجديد.
إن القارئ لا يشعر أنه قد خرج من نوع إلى آخر إلا في اللحظة التي يواجه بعناصر جديدة تلقي به خارج حدود "التقاليد" التي كرستها سلسلة التلقيات التي خضع لها النوع. وكذا الآفاق المتعاقبة عليه تاريخياً. ولكن ما هي هذه العناصر التي تستطيع، بتوافرها في النص، أن تجعله مندرجاً في نوع محدد، فإذا غابت أدرج في غيره؟
لقد جعل كيليطو هذه العناصر صنفين: عناصر أساس وعناصر ثانوية، ويقوم التمييز بينهما، عنده، على أساس أن العناصر الثانوية يمكن للنص أن يتجاوزها من دون أن يتضرر انتماؤه النوعي. أما العناصر الأساس فإن النص لا يمكن أن يتجاوزها من دون أن تتأثر نسبته إلى النوع، لأن عدم احترامه للعناصر الأساس في النوع يخرجه من دائرة النوع ليدرجه في دائرة نوع آخر، وفي حال انتهاك النص لعناصر الجنس الأساس بشكل مطلق، فإن ذلك يؤدي إلى ظهور نوع جديد.
تقودنا هذه المراجعات، التي يقدم كيليطو لقضية الأنواع الأدبية، إلى تقرير مبدأين أساسين تقوم عليهما الأنواع: يتمثل المبدأ الأول في الاستناد إلى تكرار عناصر بعينها (العناصر الأساس باصطلاح كيليطو) في مجموعة من النصوص لترتيبها في أجناس وأنواع. أما المبدأ الثاني فيتمثل في تحول الأنواع عند انتهاك العناصر المعتبرة جوهرية في النوع، حيث إن خرقها أو تعديلها يفضي إلى ظهور أنواع جديدة.
إن خصائص النوع، فيما يرى كيليطو، لا تتحدد إلا من خلال تعارضها مع الخصائص المعتمدة في أنواع أخرى، ويشبه كيليطو مبدأ التعارض الذي تقوم عليه الأنواع بالعلامة اللغوية عند سوسير، ليستخلص أن "النوع يتحدد قبل كل شيء بما ليس وارداً في الأنواع الأخرى"(ص22). وهو ما يقتضي الدارس، الذي يروم دراسة نوع مفرد، أن يأخذ بعين الاعتبار المقومات الأنواعية في الأجناس الأخرى، لأن "دراسة نوع تكون في نفس الوقت دراسة للأنواع المجاورة"(ص22).
وبعد أن أشار كيليطو إلى تقسيم الكلام عند القدامى إلى نظم ونثر قدم مقترحه الخاص لتصنيف الأنواع استناداً إلى "تحليل علاقة المتكلم بالخطاب"، حيث رأى أن الأنماط الخطابية لا تتعدى أربعة هي"(ص25):
1/ المتكلم يتحدث باسمه: الرسائل، والخطب، والعديد من الأنواع الشعرية التقليدية.
2/ المتكلم يروي لغيره: الحديث، وكتب الأخبار.
3/ المتكلم ينسب خطاباً لغيره.
4/ المتكلم ينسب لغيره خطاباً يكون هو منشئه.
لعل ما يثير انتباهنا في هذا التصنيف استناده إلى مرتكز أساس هو "علاقة المتكلم بالمخاطب" أكثر من استناده إلى علاقة المتكلم بالخطاب، أما فيما يخص الصيغة التي يعتمدها كل نمط خطابي فإننا نلحظ أن الصيغ الأربع التي قررها كيليطو ليست خالصة تماماً، وهو ما أشار إليه كيليطو نفسه عندما لحظ تداخل الصيغ في قول امرئ القيس مثلاً:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة* * *فقالت لك الويلات إنك مرجلي
فقد سجل كيليطو أن "هذا البيت يتضمن نمطين من الخطاب: كلام الشاعر من الصنف الأول، أما كلام حبيبته فإنه من الصنف الثاني (إن كان الأمر يتعلق برواية) أو من الصنف الرابع (إن كان الأمر يتعلق بنسبة)"(ص25). كما يمكننا أن نضيف ملحظاً على هذا التصنيف آخر مؤداه أن الصيغة لا تكون دائماً ملائمة للجنس، ويمكن التمثيل لذلك بالرسالة، فالصيغة التي يفترض اعتمادها في هذا الجنس، حسب كيليطو، هي الأولى لأن المتكلم يتحدث، في هذا الجنس، باسمه وهو ما لا يتحقق دائماً، فلسنا نعدم بعض الرسائل الذي يتوارى فيه منشئه تماماً، كما هي الحال في الرسائل التي يتولى المنشئ كتابتها نيابة عن السلطان مثلاً.
إن كيليطو لا يقدم، في هذا المقترح، تصنيفاً للنصوص. ويبدو أن هذا الأمر لم يكن من مشاغله في هذه الدراسة، التي سعى من خلالها إلى تقديم مبادئ عامة من شأنها أن تسعف من يتصدى لتصنيف النصوص في تحقيق مسعاه.
ومما يؤكد انشغال كيليطو أساساً بالسعي إلى استخلاص المبادئ العامة ما وجدناه عنده من محاولة لاختزال الأنماط الخطابية الأربعة بعد تحليلها إلى نمطين رئيسيين هما:
I/ الخطاب الشخصي.
II/ الخطاب المروي.
وهذا النمط من الخطاب يتفرع عنده إلى:
1- بدون نسبة.
2- بنسبة:
أ/ صحيحة.
ب/ زائفة.
ج/ خيالية.
وقد اتخذ كيليطو من مقامات الهمذاني حقلاً تطبيقياً لاختبار هذه العلائق، ليخلص في النهاية إلى اعتبار المقامات مندرجة في "الخطاب المروي بنسبة خيالية"(ص28).
بالرغم من الجهد الخصيب الذي بذله الباحث لتدقيق مفهوم النوع، فقد بقي هذا المفهوم ملتبساً وغير دقيق. وهو أمر يمكن أن يرتد إلى توسيع كيليطو مفهوم النوع بحيث شمل، في تشغيله، الخطب والرسائل والقصة والمقامة والمثل والموعظة والحكمة والسير والتراجم والأخبار والشرح والحديث والحكايات والروايات البوليسية، فكل هذه المخاطبات عنده أنواع. وهو ما يتعذر معه تحديد الأسس الخاصة بكل نوع على حدة، كما يؤدي إلى تداخل الأنواع بشكل يصعب معه التمييز بينها بدقة. فالحكمة مثلاً عند كيليطو نوع مستقل وقائم بذاته، وذلك أمر يحتاج تقريره إلى مراجعة وتمحيص لترسيم الحدود بين الحكمة في شعر زهير والحكمة في كليلة ودمنة مثلاً، وقل الشيء نفسه عن الموعظة التي يعتبرها كيليطو نوعاً، في حين نجدها تتحول إلى صفة موضوعية في العديد من الأنواع الأدبية الأخرى مثل الخطبة والخبر وكتب الحديث والمقامة والمقام.
إن فحص تصور كيليطو لمفهوم الجنس الأدبي ليكشف عن موقف متشدد، حيث جميع النصوص، فيما يقرر كيليطو، مندرج بالضرورة ضمن جنس محدد، وليس هناك من نص يمكنه الإفلات من قبضة الجنس. وليس يخفى ما ينطوي عليه هذا التصور من شطط، إذ يتجاهل حقيقة بدهية لا نخالها تخفى على الباحث، وهي أنه ليس جميع النصوص خاضع لسلطة الجنس، فقد بقي العديد منها متعالياً لا يقبل الانصياع لضوابط التجنيس والتصنيف، كما هي الحال بالنسبة للقرآن الكريم، الذي مثل في السياق العربي نصاً لغوياً يتجاوز، بلاغياً، سائر التجليات اللفظية التي أنتجتها "العربي"، وقد شكل بذلك حالة متميزة ومفردة في تاريخ الأجناس الأدبية، فلا هو بالشعر ولا هو بالنثر ولكنه "قرآن" باصطلاح العميد (طه حسين: من حديث الشعر والنثر، دار المعارف بمصر ط10، د.ت، ص25).
وقد ذهب كيليطو بعيداً في تكريس سلطة الجنس الأدبي، إذ يرى أن المبدع يفقد حريته تماماً أمام قواعد النوع التي يخضع لها خضوعاً مطلقاً من دون أن تكون لديه إمكانية التعديل في مقتضياته أو تغييرها. وهو صريح قوله:
"إن أنواع الحكاية كثيرة وهناك أنواع تفرض تسلسلاً معيناً يكون على القائم بالسرد أن يحترمه (...) فالمعروف أن منشئي المقامات احترموا بصفة عامة التسلسل الثابت للأفعال السردية كما وضعه الهمذاني، وهنا لابد من الإشارة إلى أن تحقيق الإمكانية النهائية الذي قلنا بأنه المجال الوحيد، الذي تظهر فيه حرية القائم بالسرد، يكون بدوره مقيداً بالنوع، بحيث تنعدم تماماً حرية الاختيار"(ص35).
إذا كان المبدع يخضع لمقتضيات النوع ويتقيد بعناصره الأساس، فإن خضوعه ليس مطلقاً ولكنه امتثال جزئي لقواعد النوع الجوهرية. فالمبدع دائماً يصارع القيود التي يفرضها النوع، في مسعى لتعديلها بما يوائم نصه من جهة، ويساير التطور الأدبي من جهة مقابلة. وكيليطو نفسه يقرر، كما سبقت الإشارة، أن النوع لا يتضرر إذا اقتصر التعديل على العناصر الثانوية فيه.
(باحث من المغرب)