يستبين الكاتب تاريخ جائزة نوبل، ويشير إلى أنها تظل أهم جائزة قد يبلغها شخص، لقيمتها المالية والاعتبارية، ولما لها من رأسمال رمزي في مجال الأدب، غير أن انزياحها عن سياق طموح المؤسِّس، حوّلها إلى قضية ملتبسة بكل المقاييس، فلم يعد الأدب نصاً جمالياً يحتفي بأسمى المثل، ولا جدارة فوز الأديب خالصة من الشك.

جائزة نوبل: من مثالية المؤسِّس إلى التباس المسار

سعيد بوخليط

ليس المهم فوزك بجائزة ما، لكن الأسمى أن ترسم للتاريخ وجهة معينة. لذا لم يكن، هاجس أي واحد من الكبار الذين صنعوا للبشرية مصيراً جميلاً، كل واحد في مجاله، الظفر خلال يوم من الأيام بتقدير مادي أو معنوي. يقولون كلمتهم ثم يرحلون في صمت. لكنهم طبعاً، يظلون بوفاتهم، يرسمون كل آن ذاكرة جديدة لممكنات الإنسانية.

جلّ العظماء، صنعوا لنا سعادة بشقائهم ومكابدتهم، ونكرانهم لذواتهم. مادامت القيم لا تنبت بجرة رغبة بين عشية وضحاها، مثلما أن حكاية الموت والخلود أسمى بكثير من مجرد طي رتيب ليوميات تافهة.

لم يكن غاندي، يملك غير عصاه وجسده النحيف، تطويهما إرادة أسطورية أخرجت دولة من باطن البدائية كي ترتقي بها إلى صف أعرق الأمم ديمقراطية، فهل بوسع اليوم العالم المعاصر أن يحبو خطوة واحدة دون بلد اسمه الهند؟

النموذج النادر الذي جسده، الطبيب الأرجنتيني إرنستو تشي غيفارا، لن يتكرر مرة أخرى على الاطلاق. فكيف بهذا الشاب الأربعيني أن يتخلى بصوفية فوق إنسانية، عن السلطة والجاه ورغد العيش والكوبيات الجميلات...، ويرحل صوب أدغال افريقيا وأمريكا اللاتينية، معرضاً صدره لأي رصاصة طائشة.في سبيل فكرة؟

نيلسون مانديلا، هذا الافريقي الشامخ قضى مايقارب الثلاثين سنة وحيداً داخل زنزانة، استماتة في الدفاع عن جلد عشيرته وحق جميع الناس في حياة كريمة كيفما كانت أجناسهم.

سلفادور أليندي، الاشتراكي النبيل دفع دمه ثمناً، بغية تكريس اشتراكية طوباوية، بحيت لو نجح تعميمها، لتغير حتما مستقبل جحافل فقراء العالم؟

لحظات نوعيّة، فقط أوردتها على سبيل التمثيل لا الحصر. لكن مع قلتها وندرتها، تدوم ساطعة ومعبرة جداً، قصصها مغرية وشجية، تضفي على نفسها كل لحظة مزيداً من التخصيب والتحيين،لأنها ببساطة كانت وستبقى ضمير البشرية الأمثل.

هؤلاء ومن على منوالهم، لم يهرولوا وراء تقدير معنوي أو إثراء مادي، بل صنعوا مافعلوه، إيماناً بقناعاتهم الذاتية وانسجاماً مع آرائهم في الوجود والناس والأشياء. ولاشك، أن حالات كهاته، تحاكم بكل الأشكال والمفاهيم واللغات، مجتمعات لوثت وأصابت بالخلل، ما يمكن تسميته بالعطاء الإنساني الخالص والنقي المترفع عن كل النزوعات المشينة، أي الفعل قصد الفعل. إنه المنطق، الذي اجتهد زعماء البشرية في أفق تهذيبه.

صاحب فكرة نوبل نفسه، مناسبة حديث هذه الورقة، توخت قناعته الصميمية هذا المنحى. فحينما تبين للعالم الكيميائي سوء اختراعه سارع متداركاً زلته، محاولاً التكفير عنها بأن أوصى بتركته الضخمة قصد تكريم المجتهدين الذين سيقدمون خدمات جليلة للإنسانية في جميع المجالات، دون اعتبارات شخصية وإيديولوجية وعرقية أو جغرافية.

إذن وحده الأثر يرفع صاحبه مقاماً، دون شيئ آخر. بالتالي يفرض على مستوى الترتيب الزماني، أن المتوج يهفو قلباً وقالباً بكل جوارحه، نحو إضافة نوعية لمسار التاريخ دون لبس ولا مواربة ولا ميولات أنانية. بعد ذلك، هذا التاريخ بقضه وقضيضه سينصفه تأكيداً، بتحويله من ذات فيزيائية إلى روح سرمدية.

لا أحد يجادل، في كون استحقاق نوبل قد صار أكثر التقييمات إثارة للغط والسجالات والمهاترات، يبدو أغلبها عقيماً وسوفسطائياً. لسبب وحيد، أنها أولاً وأخيراً تبقى جائزة لا أقل ولا أكثر، بمعنى حكماً مختزلاً ووجهة نظر جماعة من الناس. بينما الجوهري، ينبغي أن يتركز أساساً على التأسيس السابق لها، المحيل على طبيعة المنجز الذي انتهى بصاحبه إلى التتويج المذكور، سواء كان علمياً وأدبياً أو سياسياً.

صحيح أن نوبل، تظل أهم جائزة قد يبلغها شخص، نظراً لقيمتها المالية والاعتبارية، غير أن نوعية السياقات التي انزاحت بها عن طموح المؤسِّس، حولها إلى قضية ملتبسة بكل المقاييس، فأضحت تماماً حقلاً ملغوماً. صارت معها الأسئلة غير الأسئلة: لم يعد الأدب نصاً جمالياً بأسمى المثل، وإنما تضميناً شعاراتياً ديماغوجياً؟؟ كما أن المناضل السياسي، قد تنكر للقيم الرفيعة وشرع ينقب يميناً وشمالاً، بحس ومكر الانتهازيين، عن ما يجعل خطابه سلعة رائجة؟؟

هكذا يستطرد منتقدو نوبل، بالتالي فأغلب المتوجين لم ترشحهم فعلاً عطاءاتهم، وإنما أساساً "سجلاتهم المدنيّة" لدى دوائر الحكم العالمي؟؟ المتحكمة في تنميط مستوى القيم، وفق تصورات تنسجم مع مصالحها السياسية والاقتصادية. حكم يشي بكثير من القسوة والجاهزية، لكنه مع ذلك قد لا يخلو من جدة، لاسيما إذا استقرأنا بتمهل وتؤدة البنية الطوبوغرافيّة لإعلانات نوبل.

يدرك الجميع المناصر قبل المناوئ، أن الجائزة لا تصنع أبداً مبدعاً أريباً ولا عالماً عبقرياً ولا سياسياً كاريزمياً. كما أن المطلع على كتابات وسير فلاسفة وأدباء القرون السابقة، الذين غيروا حقاً مجرى المعطى البشري، لن يعثر بين فقرات أطروحاتهم على إشارة من قريب أو من بعيد، تضمر همساً أو صراحة، توقاً إلى ذكر ما. بل مات جلهم، وليس في جعبته مخبأ لمسوداته ضماناً لحمايتها من ملاحقات الغوغاء والدهماء.

لاشك، أن مثل هذا النقاش يطرح ثانية بحدة، خلال شهر أكتوبر من كل سنة، بمناسبة انطلاق الإعلان عن لائحة الفائزين بالجائزة بخصوص فروعها الخمسة: الأدب، السلام، الفيزياء والكيمياء، الاقتصاد، الطب. لكن أكثرها، إثارة للنقاش المحتدم وربما ما يمثل منبع كل أدبيات نوبل، تحيل على ما يصنف باعتباره ماهية للسلام في تصور أعضاء برلمان ستوكهولم؟ وأيضاً كيف تتحدد المعاير والفواصل، التي تجعل من كاتب دون غيره أفضل إبداعية؟ حسب طبعاً فهم الأكاديمية السويدية.

1- حكاية نوبل وحيثياتها:
ألفرد نوبل (1833-1896)، عالم الكيمياء السويدي المختص في المتفجرات، انتهت أبحاثه عند اختراع الديناميت، فاعتبر المآل إساءة للبشرية. لهذا وسعياً منه للتكفير عن خطيئته، خصص ثروته لخمس جوائز، عكست بشكل من الأشكال ميولاته العلمية والفنية. فإلى جانب انشغالاته العلمية، كان نوبل محباً للشعر والأدب والمسرح واللغات. بعد وفاته، تأسست هيئة نوبل، وقررت توزيع جوائز سنوية في مجالات الفيزياء والكيمياء والطب والأدب والسلام، تمنحها على التوالي: الأكاديمية الملكية للعلوم ومعهد كارولين للطب والجراحة والأكاديمية السويدية ثم لجنة نوبل البرلمانية. وتبلغ القيمة المالية، لكل واحدة منها مليون دولار.

وبقدر النقاشات التي تصاحب حصول هذا المترشح أو ذاك، والشكوك التي تحوم حول السلام والأدب، فإن أغلبية الرأي العام لا تعرف بشكل دقيق الخطوات التي يمر منها السباق قبل حلول شهر أكتوبر. أي، من يختفي وراء نوبل أكثر الاستحقاقات أهمية في الوقت الحالي؟ ثم المعايير التي يستحضرها أعضاء لجنة التحكيم؟ عموماً، يظل عنصر التشويق والترقب، منصباً أساساً على نوبل للأدب التي تميزت دوماً عن باقي زميلاتها بشيئين اثنين:

1- السرية التامة والمطلقة، التي تحيط بنتيجتها حتى لحظة إعلان الأكاديمية السويدية عن الاسم الفائز،على الساعة الواحدة زوالاً من أحد أيام خميس شهر أكتوبر، بخلاف نوبل للسلام التي غالباً ما تتحقق معها إمكانية التكهن.

2- إن عنصر التداول الإعلامي لروائي ما أو شاعر لا يعتبر أمراً حاسماً، فغالباً ما تأتي النتيجة بخلاف جلّ التوقعات، تحضرني هنا أسماء: أدونيس، إيف بونيفو، آسيا جبار ثم جان ماري غوستاف لوكليزيو الذي ورد اسمه مراراً على رأس قائمة المرشحين بقوة دون جدوى، إلى أن حظي بها أخيراً سنة 2009.

إذن الأكاديمية السويدية، المتواجدة على بعد خطوتين من القصر الملكي، والتي تأسست سنة 1786 من قبل الملك غوستاف، هي من يتكفل بمهمة الإشراف على نوبل، بحيث يحول أعضاؤها الثمان عشرة، الملتصقة بهم صفة الحذر والتكتم الشديد، بلداً كالسويد المعروف بحياديته السياسية رغم نموذجه الإجتماعي المتطور، إلى القوة الأولى عالمياً. في هذا الإطار، مافتئ بعض أعضاء تلك اللجنة يعبرون عن ثقل المهمة وجسامتها، لأنها تتسبب للأكاديمية سيلاً من الانتقادات تأتيها من أنحاء العالم. كما ينعرج بها ذلك عن مهمتها الأولى والأصيلة، المتمثلة في السهر على اللغة والأدب السويديين، وكذا الاشتغال على معجم وتخصيص جوائز وطنية. لذا وتجنباً لمختلف التهم الممكنة، يتوخى فريق نوبل المتكون من لغويين ونقاد للأدب وكتاب، تبني خطوات عمل صارم أساسه المشاورات السرية، وتأكيدهم المتكرر عن استقلالهم المطلق حيال أي تأثير للأكاديمية.

بين شهري نوفمبر وفبراير، تبدأ خطوات تقديم المرشحين إلى نوبل. بحيث، ترد أولى الوصايا والاقتراحات من العالم قاطبة: أكاديميات وطنية، جامعات، فائزين قدامى بالجائزة ثم جمعيات للكتاب. طبعاً تمثل شهرة المبدع في الخارج عن طريق الترجمات وحضوره الملتقيات والندوات، عاملاً مفصلياً للتوفر على حظ الترشيح من طرف جمعيات تناط بها مهمة القيام باقتراحات. ثم تحصر، قائمة المترشحين في ثلاثمائة اسم، ستختار منها لجنة نوبل ما بين خمس عشرة إلى عشرين إسماً، يؤثتون اللائحة الطويلة، التي ستقلص بدورها إلى خمسة أسماء فقط، صوتت عليهم الأكاديمية بالإجماع يوم الخميس الأخير من شهر ماي.

خلال الصيف، ينكب الأعضاء على قراءة مؤلفات متنافسي المرحلة الأخيرة. بعد ذلك، يلزم الأعضاء كتابة تقرير توضيحي يضم خمس إلى ست صفحات، تتطرق إلى نصوص كل مترشح ثم العمل على عرضها خلال شهر شتنبر، ويجري التصويت النهائي يوم الخميس الذي يسبق الإعلان عن الجائزة.

معرفياً، تحاول لجنة نوبل ما أمكنها الأمر، تجسيد فكرة غوته عن "الأدب الكوني"، فتضم بين جنباتها المهتم بالأدب الإفريقي والعالم بالحضارة الصينية وكذا المنكب على نتاجات اللغة الألمانية. هذا ما يفسر حضور عشرات اللغات. مع ذلك، لا يقرأون كل شيئ مما يحتم عليهم القيام بنشاط مكثف في الترجمة، اعتماداً على أحكام أهل الاختصاص الذين يهيئون تقارير وترجمات.

2-أدباء أثاروا زوبعة:
جاو كسينجيان
سنة 2000 حصل الصيني كسينجيان على نوبل للأدب. تتويج أغضب بشدة الصين، فهاجمت بحنق اختياره من طرف الأكاديمية السويدية، معتبرة الموقف تدخلاً سياسياً في شؤونها الداخلية، لا يمكن استساغته. لماذا؟ كسينجيان مناهض لنظام بلده الشيوعي. عاش في الصين مراقباً من قبل أجهزة المخابرات إلى أن استطاع الهرب إلى فرنسا سنة 1989 وطلبه من حكومتها حق اللجوء السياسي، وحصوله على الجنسية الفرنسية سنة 1997. هكذا، السفير الفرنسي من رافقه يوم 10 دجنبر 2000 إلى حفل عشاء ظفره بنوبل. فتحت له الجائزة آفاقا واسعة ورحبة بحيث ترجم إلى ست وثلاثين لغة مختلفة، وتوسعت قاعدة قرائه إلى أبعد حد. لكن، رغم الإعتراف العالمي، لازال كسينجيان مرفوضاً في الصين، ولا تدرجه ضمن الحاصلين على نوبل. كما أنها، حينما كانت ضيف شرف صالون باريس للكتاب، لم تستدعيه للمشاركة.

نجيب محفوظ
يعتبر محفوظ، أول مبدع مصري وعربي، حصل على الجائزة الثمينة سنة 1987. هذا الاختيار اللامتوقع، أسال مداد الكثيرين في محاولة لفهم خلفيات التفات السويديين إلى روائي محلي لم يغادر حارته أبداً نحو الخارج، ولا يعرف لغة ثانية غير العربية، كما أنه لم يكن قطعاً متموقعاً بأي صيغة ضمن شبكة العلاقات الثقافية، التي بوسعها الدفع به نحو مراتب لوائح الترشيحات. لذا، لم يتردد كاتب كبير آخر من جيل محفوظ اسمه يوسف ادريس، بعد أن وضع يده على "السر" إلى اخبار الجميع، أن دعوة محفوظ للتطبيع مع الكيان الصهيوني، شكلت سبباً كافياً لمنحه الجائزة. تأويل، استثمره خاصة أصحاب المرجعية الاسلامية، كي يضيفوا إليه أن محفوظ لم يشجب قط إسرائيل، بل ورفض حرب الاستنزاف معتبراً أن المواجهة العسكرية الطويلة لا تجدي ومجرد تبذير لثروة الشعب، فلماذا لانجرب الصلح مع إسرائيل؟ أيضاً، مشروعه النصي في رأيهم ينطوي على نزعة فرعونية، يعيد من خلالها إنتاج مواقف سلامة موسى، من خلال دعوته إلى الشعوبيّة والتغريب داخل المجتمع المصري، فهو يرفض أي شكل للقيود الأخلاقية على الإنسان.واستدلوا أساساً بروايته "أولاد حارتنا"، ملوحين دائماً بتهمة أنها تسيئ إلى الاله والأنبياء.

أورهان باموك
فاز التركي بنوبل للأدب سنة 2006. المنتقدون، أشاروا إلى أن الأمر لايخلو من خلفية سياسية قبلية، وليس النص الأدبي وحده من أجاز أساساً التتويج. فإلى جانب أن باموك يوجه إلى بلده تركيا، تهمة قيامها بمذابح ضد الأرمن فترة الحرب العالمية الأولى، أودت بحياة مليون أرميني، ثم إبان عقد الثمانينات من القرن الماضي، عندما تحولت آلة القتل صوب الأكراد بحيث وصل العدد إلى 30 ألف كردي. فقد تضامن باموك، مع سلمان رشدي الذي منحته الملكة البريطانية لقب "سير"، نكاية بالمسلمين كما تقول دائما نفس المؤاخذات!!!

نايبول:
لقد أراد الفريد نوبل من جائزته، أن تجسد تقارباً بين الثقافات والشعوب، يتجاوز منحها الحدود الجغرافية والسياسية واللغوية، دون اعتبار للجنس والجنسية واللغة والانتماء العرقي والأيديولوجي، وسواء كان الكاتب مبدعاً ذائع الصيت أو مغموراً، لكنه أنتج أدباً عميقاً يستوفي أعظم المقومات الجمالية. بيد أن الإحساس السائد، يتضمن تقليداً مفاده أن الأسماء المغمورة تدعو لدى الكثيرين إلى الاحتراس وأخذ الحيطة. هذا ما حصل مثلا سنة 2001 حين تأكد فوز أديب مغمور اسمه "نايبول" ينتمي إلى بلد صغير جداً يدعى "ترينيداد". صحيح، أن خلاصات الأكاديمية لاتفهم دائماً جيداً، لكن الأوساط الاسلاميّة، اختزلت الأمر كله في كون هذا الشخص يعرف بعدائه الشديد للإسلام!!! وأنه بدوره، حصل من العائلة الملكية البريطانية على لقب "سير".

3- نوبل للسلام: شعار بلا مضمون
بالانتقال من الاستحقاق الأدبي، إلى آخر ينهل من طبيعة حقوقية وسياسية مثلما يحيل عنه اسم جائزته، فإن المسافة تغدو أكثر فأكثر مليئة بالأفخاخ. لأن نوبل للسلام ابتعدت بما يكفي عن الأصول والمبادئ التي هيمنت على رائدها أي نوبل نفسه.

لذلك حينما، نستعرض أسماء مجموعة الممهورين بصفة دعاة للسلام، فلن نعثر بينهم والأخير غير حوار الطرشان. بل، جلهم لم يرسخ اسمه دولياً إلا بناء على خراب اللاسلم والسلوك الدموي حتى آخر قطرة. بالتالي، مالعلاقة التي يمكن أن توحد على سبيل التنكيت، بين شيمون بيريز وإسحاق رابين وقبلهما مناحيم بيغن ثم مجرد تحسس خيالي لشيئ اسمه السلام؟ -ربما لو بقي شارون فاعلاً في الساحة السياسية لحصل عليها بدوره- فهؤلاء الصقور غرسوا الدولة الإسرائلية بتكسيرهم لعظام الفلسطينيين. وبوسعنا في المقام ذاته، أن نضيف بكل أريحية هنري كيسنجر، عقل السياسة التوسعية الأمريكية المتوج بالسلام سنة 1973، مناصفة مع الفيتنامي دوكتو بدعوى أنه مهندس السلام مع الفيتناميين. غير أن الطفل قبل الشيخ، يدرك أن أمريكا خرجت قسراً من الفيتنام نتيجة المقاومة الشرسة التي صادفتها هناك، وأن إدارة كيسنجر لم تكن أبداً رحيمة قيد أنملة بالشعب الفيتنامي. لذلك، أبان دوكتو عن موقف وطني نادر عندما رفض الجائزة تضامناً مع مقاتلي وقتلى بلده.

لعل من أغرب الطرائف، التي راكمها تاريخ نوبل للسلام، تحيلنا على يوم الجمعة 19 اكتوبر2009، لما أعلنت اللجنة عن فوز أوباما بينما لم تتجاوز فترة دخوله البيت الأبيض عشرة أشهر، قضاها في التفوه بخطابات دون بادرة ملموسة تذكر، وبقيت وعوده مجرد حبر على ورق، لاسيما ما تعلق بأهم القضايا الساخنة: غوانتنامو، العراق، القضية الفلسطينية، أفغانستان، إيران. لهذا لم تتردد وقتها بعض المنابر الإعلامية الدولية عن وصف الأمر بـ"سخرية التاريخ". لأن الرئيس الأمريكي وقبل وصوله خبر الفوز بساعات قليلة، كان يشرف على اجتماع جديد لمجلسه الحربي حول أفغانستان. اتصف أوباما، بالصدق مع حقيقة وضعه حينما صرح في خطابه: "وللحقيقة،لا أشعر بأنني استحق التواجد إلى جوار أشخاص غيروا حقبتهم، فحصلوا بالتالي على الجائزة".

إذا كانت ظاهرياً، بعض دوافع اختيار أوباما قد تداولتها الألسن محددة الحوافز فيما يلي: إعلانه التخلي عن مشروع الدرع المضاد للصواريخ في تشيكوسلوفكيا وبولونيا، الذي شكل موضوع تشنج بين أمريكا وروسيا، ثم دعوته للحوار مع العالم الإسلامي والقطع مع سياسة بوش، ومقاربته الجديدة للتغير المناخي. فإن التتويج، في حقيقة كنهه يحمل بصمة للسيد "ثوربيون ياجلاند" رئيس لجنة أوسلو المكلفة بالسلام المنتخب حديثاً آنذاك، والأمين العام للمجلس الأوروبي.هو وزير عمالي سابق، ترأس لأعوام الأممية الاشتراكية وقريب سياسياً من الرئيس أوباما. إذن لم يكن في منجز الأخير شيئاً ملموساً سوى عالم من من الوهم حيث الكلمة تكتفي بذاتها، لكن بالدرجة الأولى انحياز "ياجلاند".

خلال تلك السنة، أكدت بعض التقارير المحايدة، أن مبلغ مليون دولار، أولى به أن يوضع في حساب الهيئة الروسية للدفاع عن حقوق الإنسان بزعامة"أوليغ أورلوف" التي فضحت باستمرار الاعتداءات على حقوق الإنسان بالشيشان. فكان ذلك دافعاً أساسياً لاغتيال نتاليا إيستيميروفا إحدى محققات المنظمة يوم 15 يوليوز2009.

يقفز إلى الذهن أيضاً، مقارنة بأوباما، المعارض الصيني هوجي البالغ من العمر36 سنة، وهو من رموز الدفاع عن قضية البيئة ومقاومة مرض السيدا. يعتبر منسقاً فعالاً لحركة "المحامين الحفاة" المناهضة للظلم. حكم عليه يوم 3أبريل 2009 بثلاث سنوات ونصف سجناً، تحت مبرر "التحريض على زعزعة استقرار الدولة والنظام الإشتراكي". حاز سنة 2008 على جائزة "ساخاروف" لحرية الفكر وقد سلمها له البرلمان الأوروبي.

قبل أسبوع تقريباً، توج الإتحاد الأوروبي بنوبل للسلام. وقد أكد الأعضاء الخمسة على لسان "ياجلاند"، أن في الاختيار رسالة إلى أوروبا: "لتفعل كل ما بوسعها، لتؤمن ماحققته وتمضي قدماً". وأشاد بدور التكتل الأوروبي في إعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية ودوره في نشر الاستقرار بعد سقوط جدار برلين عام1989. جاء فوز الاتحاد، بعد تنافس مع 231 مرشحاً منهم معارضون للنظام الروسي وزعماء دين يسعون إلى المصالحة بين المسلمين والمسيحين.

وإذا كان القرار بالنسبة لنا كشعوب تنتمي لدول الجنوب، يضمر كثيراً من الإهانة لأن الإتحاد الأوروبي، يتحمل قسماً من مسؤولية تعميق أزماتنا الاقتصادية والاجتماعية، بدعمه المستمر سياسياً وعسكرياً لأنظمة سياسية متخلفة عن الركب الحضاري، حفاظاً على مصالحه. كما أن التدخلات المباشرة للإتحاد في مناطق متعددة (العراق، أفغانستان، بلدان افريقية...)، لازالت تعكس بكل المظاهر فكراً استعمارياً بربرياً. فماذا تقول لجنة نوبل،عن ما صنعته أكاذيب بلير باعتباره سياسياً أساسياً داخل منظومة الإتحاد، بجغرافية العراق وشعبه والطوق الجهنمي الذي أدخلهما إليه؟

لكن حتى وبغير الإستناد على هذا المنحى، فالمفارقة السوريالية التي انطوت عليها نسخة نوبل 2012 للسلام، أن بلداً كالنرويج الذي يسلم الجائزة، رفض مرتين (1972-1994) الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، لأن أغلب النرويجيين ينظرون إليه كمصدر تهديد لسيادة الدول، واستطاعت النرويج تحقيق منظومة متطورة جداً خارج إطار أوروبا، معتمدة أساساً على مواردها النفطية والغازية. في هذا السياق،عقب هيمينج أولاوسن زعيم المنظمة النرويجية لمناهضة العضوية في الاتحاد الأوروبي على خبر الفوز قائلاً: "أجد هذا غريباً". لكن ربما، تضمن الأمر بكيفية مستترة وبنوع من اللباقة، تقديم مساعدة لأوروبا كي تخرج من أزمة اليورو الذي يهدد كيانها.

فأين نحن إذن من فلسفة ورغبة رائد الفكرة.

 

boukhlet10@gmail.com

المغرب.