يقول الممثّل المصريّ "محمّد سعد/ اللمبي" في أحدث أفلامه "تك تك بوم" والذي يدور موضوعه في فلك الثّورة المصريّة: "إنما ثورة تقوم في البلد.. دا ولا حكايات ألف ليله وليله بتاعت شعريار وزنبهار".
ولكنّ الجنّيّ خرج من المصباح ولم يعد باستطاعة أيّة قوّةٍ في العالم إرجاعه مرّةً أخرى، على حدّ تعبير الشّابّ المصريّ "محمّد فاروق" والذي يضيف أن هذا الجنّيّ قد بدأ يسأل: "عن عدد السنين التي قضاها في غياهب القمقم الذى احتبس فيه، لكنه لا يلبث أن يشعر بالحرية التي يحياها بعدما أصبح طليقاً في العالم، له أن يفعل ما يشاء"(1).
إنّ مقاربةً كهذه للثّورات العربيّة وتوصيفها بالاستعارة من ليالي شهرزاد ليس بالأمر النادر عند أجيال الثورة التي بدأت تؤسّس لمرجعيّةٍ جديدةٍ تستلهم دلالتها من سرديّات الفعل الثّوريّ وتجلّياته، دون أن تقطع إلا مع من صادر صوتها لسنين خلت. وهكذا فإنّ صدى هذه المقاربة يترّدد في أكثر من فضاءٍ عربيٍّ وكثيرًا ما يتجاوز حدود التّوصيف ليبلغ حدّ الحامل الإيديولوجي، وهذا ما سنستعرضه بإيجازٍ في السطور القليلة القادمة.
في البدء كانت تونس، وقبل أن يسرق "بروميثوس" سيدي بوزيد النار كان الجمر يتعتّق تحت الرّماد على نحو ما تطالعنا "مدوّنة تونس" وغيرها من مواقع وقد أفردت أكثر من صفحةٍ لـ "ألف ليلى وليلى"(2). وغنيٌّ عن البيان ما في هذه اللعبة اللفظيّة من غمزٍ من قناة "حاكمة قرطاج"، وقريبٌ منها "بن علي بابا والأربعين طرابلسي"(3) في تماهٍ غير مبطّنٍ مع حكاية الليالي المعروفة؛ فالشّعب المريد للحياة لم يعد يرى في من يتولّى عليه وبطانته إلا "حكومة علي بابا.. علي بابا والأربعين حرامي"، وما الحال في مصر والمغرب واليمن وعدّةٍ من بلادٍ أخر عن هذا بمختلفٍ(4).
ومثيل هذا التّدبّر نلمسه عند الأديب الجزائريّ "واسيني الأعرج"، في روايته قبل الأخيرة " جُمْلُكِيَةُ آرَابيَا: "أسْرار الحاكم بأمره، ملك ملوك العرب والعجم والبربر، ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر"، الصادرة عن منشورات الجمل/ 2011؛ ففيها شهرزداد ستمنح أختها دنيازاد "فسحة حكي القصة أمام شهريار من نوع آخر هو الحاكم بأمره وهو رجل مجنون يشبه إلى حد بعيد القذافي والكثير من الحكام العرب من حيث العزلة في الحكم واليقين في القوة المطلقة، وهذه المرة دنيازاد ستحكي للحاكم بأمره أي لشهريار عصرنا ما لم يكن يريد سماعه وينتهي كما ينتهي كل الطغاة حتى الابن الذي أنجبته له كان ابناً لقيطاً إمعاناً في هزمه داخليا لأنها كانت تعرف مسبقا ان زمانه توقف وانه لا يستطيع أن ينجب أبداً فالعجز من هذه الناحية هو وصول هذه الأنظمة إلى سقفها النهائي"(5).
أمّا تشبيه القذّافي بشهريار فهو ما ردّدته كثيرٌ من الأقلام العربيّة والأجنبيّة خلال حكمه "العجيب الغريب" ثمّ كرّرته الأقلام الليبيّة بعد الإطاحة به. من ذلك ما أوردته بعض التقارير حين" قدرت حسناوات معمر القذافي بعدد 400 من الحسناوات الجميلات، وكانت الحسناوات بمثابة شهرزاد اما معمر القذافي بمثابة شهريار الذي يستمع لحكايتهم طوال 6 آلاف ليلة وليلة أي مجموع ليالي 20 عاماً. ومن المعروف أن ظهور الزعيم الليبي مع حارساته الحسناوات بدأ في تسعينات القرن الماضي ولقبهن باسم "الحارسات الثوريات" لكنهن اشتهرن بلقب "الأمازونيات". ومن الشروط التي وضعها معمر القذافي لاختيار الحارسة أن تتمتع بالولاء والتضحية بروحها في سبيل حياته (...). وهناك شرط يتعلق بالعذرية"(6).
وفي محطة مصر سلك قطار الثّورة السّكّة ذاتها، بيد أنّ الوجه الثّقافي فيه كان أكثر حضورًا، وكذلك كان شأن الليالي إرهاصـًا ومواكبةً حتّى لنكاد نقرأ دفاتر الثّورة من قبل أن تكتبها جموع ميدان التّحرير. ففي العام 2010، نشر المهندس الشاب "محمّد حسن" كتابه الأوّل "ألف نيلة ونيلة" راصدًا فيه عبر أربعين نيلة أحوال المصرييّن اليوميّة، وفي مستهلّه نقرأ: "بلغنى أيها المواطن المطحون/ فى يوم مطلعلوش شمس ولا لون/ إنك بتاخد على قفاك/ والدنيا ملطشه معاك/ وإنك .. لا مؤاخذه .. مجنون/ وطايش وسلبى وهفأ/ حقك سيبته اتسرق/ وعايش كحيان مديون/ غلبان ندهاك نداهه/ متوهاك فى متاهه/ تفاهه .. وفيها مسجون/ وبتبنى لنفسك سور/ علشان متشوفش النور/ ساقيه وفيها بتدور/ زى الطور مرهون".
ولئن كانت نيلات "محمّد حسن" تستعرض يوميّات شعبٍ مسحوقٍ بكلّ ما تنطوي عليه من مفجّرات الثورة الكامنة، فإنّ مسلسل "مش ألف ليلة وليلة" (2010)، الذي ألّفه "وليد يوسف" وأخرجه "أحمد فوزي" وأدى أدوار البطولة فيه "أشرف عبد الباقي" و"ريهام عبد الغفور"، قد كشف ثورة يناير قبل حدوثها، أو بعبارةٍ أخرى جسّد الثّورة الممكنة من خلال مشهديّةٍ تسحب سلطان الحاضر على الماضي(7)، الأمر الذي لم يغفل عنه مقصّ الرّقيب. وهكذا رصدت الكلمة والصّورة مباشرةً أومناورةً أحوال البلاد والعباد عشيّة الثّورة وقدّمتها بلسان شهرزاد التي أنطقها قبل ذلك أيضـًا المخرج "يسري نصر الله" في فيلمه "احكي يا شهرزاد" (2009). وكذلك كان موضوع كتاب "شفاء الموجوع في أحوال دولة المخلوع" الصّادر مؤخّرًا عن دار الرواق للشّاعر والصّحفيّ جمال فتحي، والذي يصوّر حال مصر في عهد "حسني مبارك" وما قد تحمله لها الليالي القابلة، وهو ما عالجته أيضـًا العديد من الخواطر والمقالات الناظرات إلى الأوضاع بعيونٍ شهرزاديّة(8).
وللحقيقة، فثمّة أصواتٌ أخرى لا تبدي الكثير من التفاؤل بالغد وقد بدأت تحكمه فتاوى من الماضي، بل إنّ بعضها يرى أنّ هذا "الرّبيع العربيّ" لم ينبت إلا اللحى، كما عبرّ عن ذلك أحد السّاسة اللبنانيّين، وإن هو إلا "خريف إسلاميّ"، وما كاريكاتور "هالة منير بدير" المعنون بــ"ثورة ألف ليلة وليلة" عن ذلك ببعيد. وقريبٌ منه قصّة "يناير في ألف ليلة وليلة" التي تداولها شباب الثّورة على مواقع التّواصل الاجتماعي (الفيس بوك)(9).
هذا الانقسام في رؤية الثّورة التي باتت مهدّدةً بالمصادرة من قبل جماعاتٍ تأخّرت حتّى في ركوب موجتها يزداد حدّةً ويتمظهر أحيانـًا دونما مواربة، وخير مثالٍ على ذلك هو الفرز الآلي الذي يكاد يتأصّل في أدبيّات الثّورات العربيّة كما تترجمه ظاهرة القوائم السّوداء (مع/ضدّ العار/ الغار). وقد امتدّ هذا الفرز من الفضاء الالكتروني ليلقي بظلاله على علائق أبناء الوسط الواحد، ولا سيّما الفنّيّ. وها هو الممثّل المصريّ "عمرو واكد" يكتب على صفحته الشخصيّة على (تويتر): "أعلن أنني لن أشارك في عمل «ألف ليلة وليلة» وذلك لأسباب شخصية تكمن في انتمائي للثورة المستمرة ورفضي للتعاون مع من يقف ضدها". والمعروف أنّ فيلم "ألف ليلة وليلة" كان مقدّرًا له أن يجمع عددًا من الفنّانين الذين اتخذوا موقفـًا سلبيـًّا من الثورة، مثل: غادة عبد الرازق وعمرو سعد وأحمد بدير، وهو من تأليف محمد أمين راضي، وكان من المنتظر عرضه خلال عام 2013 كأوّل فيلم مصريّ ثلاثيّ الأبعاد(10)، قبل أن تتوالى عليه فصول الانسحابات والتأجيلات إخراجـًا وتمثيلاً، ويقرّر القائمون عليه تصويره كمسلسلٍ رمضانيّ مع الاحتفاظ بفكرة ثلاثيّة الأبعاد.
وما أن يصل قطار الثّورة إلى محطته السّوريّة حتى يتبلور الانقسام ويتجذّر بين من لا يرى في هذا "الرّبيع" إلا "فورةً" بل "مؤامرةً كونيّةّ" تريد استئصال شأفة نظامٍ مقاومٍ عصيٍّ على التّدجين، وبين من يرى في هذا الحراك "ثورةً طهرانيّةً خالصةً" يجب غفران تجاوزاتها التي لا يمكن بأيّ حال أن ترقى إلى ارتكابات النّظام وقمعه الوحشيّ.
وهكذا تتحوّل جلسة مجلس الأمن التي شهدت الفيتو الرّوسي-الصّيني المزدوج إلى ليلة الليالي عند أنصار المعسكر الأوّل كما يكتب نارام سرجون: "لو كانت شهرزاد وشهريار في هذا الزمن لسهرا معاً بالامس على جلسة مجلس الأمن بدلاً من حكايا العفاريت والجان .. ولأشار شهريار على شهرزاد بأن تلزم الصمت كلما أرادت أن تنبس ببنت شفة .. فمجلس الأمن بالأمس كان ليلة من ليالي الحكايات الخرافية ومشهداً من مشاهد الصراع بين الجن والإنس وبين الأشرار والأخيار .. وما سمعناه من أهوال تشيب لها الولدان تجعل حكايا شهرزاد تنتمي الى حكايا الواقع .. فلا خيال يعلو فوق خيال رجال مجلس الأمن .. إلا خيال الثوار السوريين"(11).
ولعلّنا نجد تعبيرًا عن المعسكر الآخر في قصيدة الشاعر إبراهيم طيار التي عنونها بــ"ألفُ ليلةٍ عربيةٍ...وليلة"، والتي ما تزال محافظةً على راهنيّتها: "أبكي على وطنٍ يُباعُ ويُشترى../ وعلى مذلّةِ أُمّتي بين الأممْ/ أبكي على قومٍ نيامٍ../ في سراديبِ العدمْ/ وعلى عيونٍ أُطبقتْ أجفانها../ وعلى عقولٍ أُطبقتْ أكفانها../ وعلى العمى../ والبُكمِ فيها والصّممْ/ أبكي../ ويسحقني الألمْ/ زعموا بأنّ قصائدي ابيضّتْ من الأحزانِ../ والأوراقُ شابتْ../ قلتُ: ما من عادتي أن أنهزمْ/ من هذهِ الأوراقِ يوماً../ سوفَ ترتفعُ القِممْ/ وقصائدي يوماً../ ستحترفُ الصّهيلَ../ وعندها../ لا بدَّ أن أضعَ النقاطَ على الحروفِ../ وأنتقِمْ"(12).
ومن الجدير ذكره أنّ المخرج سمير ذكرى هو الآن في صدد التحضير لفيلمه الجديد "ألف ويلة وويلة" والذي ربما لن يخلو من قراءةٍ بصريّة لما عاشته وتعيشه سوريا من أحداثٍ باتت تهدّد جغرافيّتها وسلمها الأهليّ.
أمّا ثورة البحرين المسكوت عنها فيبدو أنّ شهريارها ما يزال قادرًا على إعادة جنّيّ المصباح إلى قمقمه وتكميم شهرزادها من جديد.
وفي الختام فقد أشارت القناة السابعة الإسرائيليّة في تقريرٍ لها إلى كتابٍ جديدٍ من تأليف جاكي حوجي مراسل ومحلل الشؤون العربيّة بالإذاعة العسكريّة الإسرائيليّة جالي تساهال موضّحةً أنّ الكتاب والذي جاء تحت عنوان "الف ليلة وليلة دوت كوم .. العالم العربي اليوم": عبارة عن نافذة على العالم العربي في الوقت الذي يتشكّل فيها أمام أعين الإسرائيليين بثوراته الشعبيّة المختلفة والمستمرة.
وهكذا...
أحرق البوعزيزي نفسه فتطاير الشّرر شرقـًا وغربـًا ليأتي منه كلّ شعبٍ عربيٍّ بقبسٍ، فانكسرت قيودٌ وزلزلت عروشٌ ومنهم من ينتظر، وكان ذلك أمرًا عجبـًا.. لم تدركه خيالات المنجّمين ولا بشّرت به أنبياء ما بعد الحداثة، وإن هرب الجميع بأحلامهم إليه.
الهوامش:
1-http://www.revolution25january.com/january25revolution-youth.asp?c=2&id=41559
2- http://www.youtube.com/watch?v=yRzAKRDqXuQ
3- http://www.youtube.com/watch?v=Gjzg-yzc1AM
4- http://www.dailymotion.com/video/xcyqsa_mov01540-yyyyy-yyy-yyyy-yyy-yyyy-yy_news
http://www.agapress.com/art--645.htmlhttp://www.youtube.com/watch?v=0NiRxGWsrSM
http://www.el-balad.com/147516/shahd-karykatyr-hkomh-al.aspx
http://www.youtube.com/watch?v=YaafqOQ0Ij8
5- http://www.assabah.com.tn/article-63600.html
www.zohramaldji.fr/wordpress/?p=25144
6- http://www.asrare.com/opinion/238.html
7- http://www.youtube.com/watch?v=DWvHyazmMng
8- http://elbanafsegelhazen.blogspot.fr/2011/03/blog-post.html
http://www.masrawy.com/ketabat/ArticlesDetails.aspx?AID=104511
9- http://www.alarab.qa/mobile/details.php?issueId=1554&artid=179546
http://www.alanba.com.kw/AbsoluteNMNEW/templates/art2010.aspx?articleid=260425&zoneid=15
http://www.youtube.com/watch?v=nVPAqXrj3Ms10-
11- http://www.arabtimes.com/portal/article_display.cfm?Action=&Preview=No&ArticleID=25691
12- http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=81055&r=&rc=6