تقدم (الكلمة) في هذا العدد أحدث روايات الروائي العربي الكبير، وهي رواية يعود فيها إلى منابع الحكي الأولى في القرية المصرية ليستقطر فيها شعر المعاناة الإنسانية وشظف الحياة بكبرياء رغم الفقر والمسغبة.

جوع

رواية

محمد البساطي

 

ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ

واجهة البيت من الطوب الأحمر. انتفخ أسفلها بسبب الرطوبة، وتساقطت بعض حِجَارتها. فجوات كبيرة جرى ترقيعها بالأسمنت. الباب من الخشب السميك، كتب على الحائط فوقه بفرشاة فى لون أبيض:

"أدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ"

اللون مازال زاهياً، والكلمات رغم السنين مكتملة الأطراف. الولد الصغير فى البيت كان يرعاها، هو لا يفك الخط إنما أعجبه شكلها. منذ تفتحت عيناه على الدنيا يراها كلما هم بدخول البيت. كان يتسلق الباب لينظفها من الغبار ويغسلها بخرقة.

جدران البيت الجانبية والداخلية من الطين. الحجرة الوحيدة مسقوفة بعروق الخشب، والحوش نصفه بدون سقف مما يسمح لضوء النهار والليل بالدخول. النصف الآخر معرش بخليط من فروع الأشجار والجريد وقطع صفيح وخرق تتدلى أطرافها لا تختلف فى شكلها كثيراً عن الثعابين التى تتلوى جنبها.

المصطبة تأخذ تجويفاً عريضاً أشبه بكهف أمام الباب، تكفى العائلة حين تشتد الحرارة وينامون فوقها خِلفْ خِلاف.

*  *  *

الزوج ..

كعادتها حين ينفد العيش من البيت تصحو سكينة فى البكور وتقعد على المصطبة، والطرحة ملمومة فى حِجرها، وتكون غسلت وجهها ولبست الجلباب الوحيد لديها، عاش معها سنوات، نحل كثيراً واختفى لون وروده. هى لا تنام به، تكتفى بالقميص الداخلى بما فيه من رقع.

يلحق بها زوجها والولدان والنعاس لم يفارقهما، كانا فى الثانية عشر والتاسعة، الصغير "رجب" يرمى بنفسه ورأسه على فخذها ويروح فى النوم. الكبير "زاهر" يقرفص جنب حلق الباب، وزوجها بالطرف الآخر من المصطبة يُسلك أسنانه بعود قش.

تغمغم بهمس لا يسمع:

ـ آه. يسلكها. أكل الزَفر ويسلكها.

غير أنها تدرك ما يرمى إليه بتسليك أسنانه. هو جائع ويُذكّرها بأن تسرع للبحث عما يسكت جوعه، الأربعة ناموا ببطون فارغة، كان نومهم متقطعاً، أحست بالولدين يقعدان أثناء نومها، ويتلفتان هنا وهنا ثم يعودان للرقاد. وما بيدها أن تفعل؟ آخر ما كان مع زوجها صرفه من يومين. اشترى به سيجارة. هو لا يدخن.

ـ انما آهو. اللى حصل.

رجع ليلاً والسيجارة مشتعلة فى فمه.

حين رآها والولدين مكومين على المصطبة ضغط طرف السيجارة المشتعل بين إصبعيه ودسها فى جيبه. هى فى قعدتها على المصطبة مثل كل مرة تنتظر طلعة النهار لتمر على بيوت من تعرفهن تستلف رغيفين، أحيانا تجد، وأحيانا لا تجد، ترد دائماً ما تستلفه. قد تتأخر غير أنها ترده. لا تنتظر أن يطلبن منها. أوقات تلتقي بواحدة منهن. الواحدة لا تقول. غير أن وجهها يقول. وترد عليها سكينة:

-        هانت. كلها يومين وأخبز.

ويظل وجه الواحدة على ما هو عليه، وكأن سكينة لم تقل شيئاً.

ويوم الخبيز لا تلوح له بشائر. زوجها لا يتزحزح من سكونه، يعمل يومين ويبطل عشرة، ما تريد أن تقوله له تغمغم به لنفسها. وآخرتها. كل الرجال فى الحارة يعملون، ولا ولد فى البيت جعان أو عريان، وهو ولا على باله. ليل نهار إما راقد فى المندرة أو قاعد على المصطبة أو يتسكع فى السوق. يتسكع الليل بطوله، يقعد مع القاعدين على المصاطب وفى الزوايا، ويقف مع الواقفين، لا يهش ولا ينش، يضحك مع من يضحكون، ويوافق بهزة من رأسه حين يراهم يوافقون على ما يقال، يختار الأكثر عدداً ويتبعهم حتى يتفرقوا فيعود باحثاً عن آخرين.

-        وإيه عاجبك فى ده كله يا زغلول؟

تسأل نفسها.

حفظت طبعه. ما أن تراه يفرد طوله على المصطبة ويداه داخل فتحتي السيالة يتحسس بطنه وينظر يميناً وشمالاً حتى تعرف أنه زهق من القعدة ونوى رؤية الدنيا وما يجرى فيها، ولن يعود إلا على وش الفجر بعد أن تخلو المقاهي وشارع السوق الذى يفضله عن كل الشوارع حيث يزدحم بكل من هب ودب، وتكثر الدكاكين والأنوار.

-        واللى زاد. مزاجه الجديد. المْعزىَ.

تكلم نفسها.

ما من مَعْزى فى البلدة إلا وقصده، يمشى إليه ما يمشى، ويظل بالسرادق حتى يختم المقرىء، ويساعد فى جمع الكراسي، حين يراه عمال الفِرَاشة متحمساً يتركون له جمعها ورصها على العربتين الكارو، ويتفرغون لفك قماش السرادق، ولا يتعب، رغم ما يبدو عليه من نحول وهزال إنما عظامه ناشفة وشديدة، رأته مرة يحمل على ظهره دولاباً بأربعة أبواب، وسار به من عربة "زفة الفرش" إلى بيت عروس من الجيران.

-        آه. كان يوم. والناس مابتنساش.

قبلها بسنتين. نفس الشارع وأيضاً زفة فرش عروس.

-        سامية بنت خليل. ومن ينساها؟

الدولاب منصوب على عربة كارو، يمسك به رجلان من كل جانب، ومرآته الكبيرة تبرق، ويظهر بها كل شيء، حتى النسوان على السطوح، أكثر من واحدة تقرفص فى قعدتها وتنسى نفسها، وتظهر سيقانهن من الداخل خطفاً فى المرآة، ولا تظهر رؤوسهن. وتعلو صيحة:

-        غطى نفسك انت وهية على السطح.

والأولاد تعلقوا بالعربة ومدوا وجوههم، وانفجرت صيحاتهم حين رأوها فى المرآة.

-        آه. كان يوم.

الحارة ضيقة حيث بيت العريس، لا تدخلها العربة. أوقفوها على رأس الحارة. أنزل الرجال الأربعة الدولاب من فوق العربة، وساروا به إلى داخل الحارة. كانوا محنيين تلامس وجوههم الدولاب وقد شمر كل منهم جلبابه وعقده حول وسطه، ينقلون أقدامهم فى حذر والعروق نافرة بجباههم.

-        وسبحان الله لماّ يريد.

واحد منهم انفكت عقدة جلبابه. تعثر فى ذيله وسقط على ظهره. اختل توازن الثلاثة الآخرين، هوى كبيت يقع. تناثر. ثماني حتت هنا وهنـاك. والمرآة ولا شبر واحد سليم بها. وصلت شظاياها لعمق الحارة، وتحولت الزغاريد إلى صراخ وعـويل ولطم على الخدود.

-        آه. وفى ليلة دخلتها. فال وحش.

وكان اللى كان.

العريس لم يقل كلمة. جاء جرياً وألقى نظرة على الدولاب المبعثر وعاد إلى بيته، وتبعوه بباقي الفرش. والفرح وتم. زغاريد والعيون تدمع. الكل يتوقع مصيبة ولا يعرف من أين تأتى.

ودخل العريس بعروسته. واستحمت وضفرت شعرها.

وفى اليوم الثاني بعد الزواج أعادها إلى بيت أبيها.

خليل أبو العروس كان اشترى نصف فرش ابنته بالدين.

قال لصاحب محل الموبيليات:

-        على القطن بإذن الله.

والقطن أمامه سبعة شهور. وصاحب المحل وافق، وأخذ "إيصالات أمانة" على خليل، والقطن فى أرضه لن يكفي. قال يومها:

-        لما ييجى يوم السداد يحلها ربنا. المهم نستر البنت.

والبنت ورجعت لبيت أبيها.

-        واللى على لسانه كلمتين قالهم.

وكثر الكلام. عروس وتعود لبيت أبيها بعد يوم من زواجها؟

-        لأ. فيه حاجة.

خليل – وربما لم يبلغه ما يتهامسون به وإلا كان له تصرف آخر لا يعلم به إلا الله – قال:

-        أشترى دولاب تانى والسلام.

والقطن لن يكفي أبداً.

خطف رجله لبيت "خليفة" العريس. قال:

-        آخده معايا. يختار اللى يعجبه.

خليفة استقبله واجماً مطرق الرأس. قال:

-        ولا عايز دولاب ولا غيره.

خليفة رجل يعرف الله، وختم القرآن، ويفتى أحياناً فى أمور الدين، ويسمح للبعض بتقبيل يده مغمغماً:

-        أستغفر الله.

وحين يمر بمصلى وقت الصلاة يقوم بالأذان ويؤم المصلين بها، غير أنه لم يحاول أن يؤمهم فى الجامع، فيه مشايخ قادرون على صده.

خليل غير فاهم، نظر إلى خليفة حائراً ويداه منقبضتان فى حجره:

-        وغضبك ده كله؟ حصل اللى حصل. قضاء وقدر.

انفعل خليفة بشدة.

-        آه. قلتها. قضاء وقدر. كل ما حاجة تحصل تقولوها.

خليل زادت حيرته، يتلفت حوله وينظر لباب الحجرة المفتوح:

-        والله ما فاهم حاجة. دولاب وانكسر. وحانجيب غيره.

خليفة مازال فى انفعاله:

-        موش فاهم؟

-        والله يا ابنى ما فاهم.

ثم فجأة خطر له ما أثار الشك فى نفسه، تجمدت حركته، واستطال وجهه وغمغم:

-        قل لى يا خليفة. انت دخلت بالبنت؟

-        طبعاً دخلت.

-        والبنت سليمة؟

-        أستغفر الله. دماغك شطحت.

-        الحمد لله.

وسكت مزيلاً بإصبعه ما انبثق من قطرات عرق على وجهه، وتساءل:

-        هو فيه إيه؟

-        يا عم خليل. يا عم خليل. اللى حصل ده رسالة. لو كان الدولاب وقع بعيد عن هنا كنا قلنا آه، إنما قرب البيت بخطوتين. وفى يوم الدخلة. تفهم إيه يا عم خليل؟ تفهم إيه؟ دى إشارة، بتقول حاسب عندك.

-        حاسب من إيه؟

-        حاسب من الجوازة دى. موش تمام. موش مضبوطة. فيها حاجة غلط. تبان النهاردة. بكرة. بعد سنة. إنما موجودة.

-        وإذا كان ده اللى فى دماغك دخلت بالبنت ليه؟

-        عايز أعرف يا عم خليل. عايز أعرف إن كان الغلط فيها. القصد. زى ما دخلنا بالمعروف نخرج بالمعروف. وأنا تحت أمرك فى أى حاجة.

وخرجوا بالمعروف.

أسبوع والثاني والهمس لا يتوقف. الناس لا تصدق أن ذلك ما جرى. يعرفون أن خليفة صحيح متطير. إنما هو أيضاً رجل صالح، وربما أراد أن يستر على البنت بعد أن اكتشف عطبها فقال ما قاله وأخلاها. البنت حائرة من نظرات الناس. ولا تخرج هنا أو هنا. وحتى من يدخلن بيتهم يتجنبن النظر أو الكلام معها. وعندما تقف بباب البيت تحس بعين الواحدة منهن ـ التي تمر صدفة ـ تحتويها من فوق لتحت وفمها يلتوي جانباً.

أم البنت من كثرة ما بلغها من كلام شكّت فى الأمر، البنت بنتها، وتعـرف كل خطوة مشتها. إنما.. قالت:

-        يا مصيبتى. ليكون اللى بيقولوه ..

اختلت بالبنت فى حجرة أغلقتها بنفسها واستدارت إليها. وجهها المتجهم، وعيناها المشتعلتـان:

-        قولى لى بقى. الكلام ده اللى باسمعه من أسبوع.

البنت ولا على بالها. وكانت صدقت ما قاله خليفة لأبيها. ردت على أمها:

-        كلام إيه؟

وفتحت الأم فى الكلام. قالت وقالت. والبنت تسمع وتسمع. وجهها راح منه الدم، وارتعشت ساقاها، لم تتحملاها فسقطت من طولها.

لم تقم بعدها. يوم بليلة وراحت لحالها.

وتدور الأيام. وزفة فرش أخرى. نفس الشارع. والحارة أيضاً ضيقة على بعد حارتين من بيت خليفة. والأربعة الذين يمسكون بالدولاب على الكارو رفضوا أن يحملوه إلى بيت العريس، تذكروا ما فات. الكل من لحظة ما دخلوا الحارة افتكر. والبعض همس:

-        رحمة عليها. راحت فى شربة ميه.

زحمة فى الشارع وعلى نواصي الأزقة، ينتظرون، والكارو وقف على رأس الحارة التى بها بيت العريس، وكان واقفاً أمام بابه المفتوح فى انتظارهم، والأربعة على الكـارو مترددين، وأهل العروس يكلمونهم، وآخرون دخلوا فى الكلام، والأربعة يرمقونهم من فوق العربة صامتين ولا يتحركون.

زغلول كان قادماً من حيث لا يدرى أحد. سمع وشاف. خلع جلبابه ورمى به إلى أحدهم، سكينة لمحته، واندفعت تشق طريقها إليه، تريد أن تنبهه إلى المزق بسرواله من الخلف والذى بين جانب من إليته العجفاء، والبعض من الواقفين يدارى ابتسامته، وسكينة ابتعدت مكسوفة.

تقدم زغلول من الكارو، وتكلم مع الأربعة، التفتوا إليه ووزنوه بنظراتهم، ربما كانوا وحدهم من بين الجميع الذين عرفوا قدره.

استداروا بالدولاب ومالوا به فى حذر حتى استقر على ظهر زغلول، ومشوا على جانبي الدولاب وأيديهم متأهبة لتمسك به.

الكل ساروا وراءهم حتى غصت بهم الحارة، يتوقعون حدوث ما حدث من قبل.

الدولاب وكأنما يتحرك وحده، زغلول كان مختفياً تحته لا يظهر شيء منه، وفى لحظة لمحت سكينة قدميه تدبان فى بطء، ثم رأت ساقيه، عروقهما النافرة تكاد تخرج من جلده، توقف مرة واحدة، والكل حبسوا أنفاسهم، ظنوا أن اللحظة جاءت. الأربعة عدلوا من وضع الدولاب وكان قد مال خفيفاً جانباً.

وصل أخيراً، ودخل الدولاب البيت، وضجت الحارة بالزغاريد، ولا أثر لزغلول، تلفتت هنا وهناك ولم تلمحه، ثم رأته بجوارها ينفض جلبابه. سألها:

-        بتعملى إيه هنا؟

-        شُفتك.

هى على المصطبة ترمقه بطرف عينها، وكان يُسلك أسنانه بعود القش.

-        إيه يا سكينة. حاتفتكرى إيه ولا إيه.

لا يظهر عليه التعب إلا حين يعود إلى البيت، ظهري، جنبي، طيب. الحمد لله على كل حال. تسأله وهى تدعك ظهره:

-        والمعْزى وشيل الكراسي؟

-        أيوه الحته دى.

منتصف ظهره، ويتأوه:

-        بالراحة.

يدها على عموده الفقرى تروح وتأتى. تسأله مرة أخرى. ويقول:

-        أيوه المعْزى وشيل الكراسى. ماله؟

-        وعلى كده قبضت حاجة؟

-        أستغفر الله. ثواب يا ولية. ثواب.

-        ثواب؟ يعنى مافيش حاجة؟

-        حاجة إيه يا ولية. بقول لك ثواب.

-        وأولادك برضه ثواب.

-        ولادى؟ مالهم ولادى يا بنت الكلب.

نتر يدها عن ظهره وقعد. هو لم يضربها أبداً. إنما يخيفها غضبه. تبدو عيناه وكأنما لا تريان ما أمامه، سرعان ما يتعكر مزاجه إن كلمته عن حالهم الذى يصعب على الكافر.

ما أن يأخذ كفايته من الكسل والتسكع حتى يبحث عن عمل. هو يجيد أى شيء. قهوجي، مبيض نحاس، شيال. أعمال بناء، سمكرة. لا يبحث طويلاً. يقبل بأول ما يقابله، يشتغل بثلاثة رجال. فى المقهى يعمل ورديتين متواصلتين، وينظفها فى الفجر بعد السهرة، وينام داخلها، ساعتان كل ما ينامه، يوقظه المعلم صاحب المقهى قبل طلعة الشمس:

-        إيه يا زغلول. لسه نايم؟

لا تراه فى أيام عمله، يرسل لها غلاماً يعمل فى المقهى، يعطيها النقود ويطلب غياراً نظيفاً له. من يسمع الولد يظن أن غياراته خمسة أو أكثر، وهو غيار واحد لا تذكر إن كانت غسلته. لم يدخل الصابون بيتها من آخر مرة اشتغل فيها، ربما كعادتهـا اكتفت بشطفه بالماء، تزيل ما به من تراب وطين.

تطبق يدها على النقود والبهجة تغمرها. زمن طويل لم تدخل جيبها ولا لمستها. تعطى ظهرها للولد، وقبل أن تعدّها تلتفت برأسها وترى الولد لا يزال واقفاً. ترمقه متعجبة:

-        يعنى واقف؟

-        الغيار.

-        غيار إيه؟

غيار زوجها. نسيت. ترددت. لم تصبر على عد النقود، وعدتها. تحسبها وهى تدخل البيت لتأتى بالغيار:

-        الخبيز. النهارده. ودلوقتى. يتبقى قرشين. شوية سكر وشاي. وقرص جبنة، كفاية نص قرص. وطبق عسل أسود. ويمكن شوية رز وعدس. طب لو الرز وبلاش العدس.

ترمق الولد يبتعد حتى يختفي عن نظرها.

الطحين لم يأخذ منها وقتاً. خطفت رجلها لتاجر الحبوب، اشترت. وقصدت وابـور الطحين، طحنت وعادت. هى قصيرة مربعة، ممتلئة، ثدياها الكبيران متهدلان، يلامسان بطنها، هرولت باتجاه فرن "أم سيد"، أعلنت هناك أنها ستخبز الآن. ومن تريد أن تشوى سمكاً، أو تحمر صواني أكل عليها أن تنتظر إلى ما بعد الخبيز، ولا تسمع اعتراضاً، وتنفض طرحتها وترمى بها إلى كتفها. عادة ما يكون الفرن خالياً فى هذا الوقت من الصبـاح. امرأة أو اثنتان تقعدان مع "أم السيد" التى ترمق سكينة دون كلام. وتعود بعد أن قالت ما قالت، فى عودتها وقد انتشت بالزهو، تشمر الجلباب من جانب فتكشف عن ساقها السمينة، وتثبتّ طية الجلباب بكوعها إلى وسطها، تبدو فى مشيتها بحركة ذراعيها وقدميها مثل بطة بلدي تقترب من الترعة.

نصف الخبيز تلتهمه الديون، تعد ما تبقى من أرغفة.

-        مستورة والحمد لله.

يكفى أنها ستسدد ديونها التى طال زمنها، تستطيع أن تستلف حين يضيق بها الحال. تحفظ عدد أرغفة كل منهن، ما أن تعود من الفرن حتى تبدأ السداد. تذهب بنفسها، كما أخذته ترده، عيب أن ترسل الولد به، ماذا يقلن عنها؟ تلف أرغفة الواحدة فى طرحتها وتمضى إليها، هى لا تخفيها عن العيون، وما يخيفها منها؟ مجرد أن تحميه من التراب والذباب.

-        وبرضه العين وحشة.

وربما استاءت الواحدة منهن عندما ترى أرغفتها مكشوفة على زراعها. تحفظ ما تبقى فى قفص جريد تعلقه بواسطة حبل فى السقف، وتعقد طرف الحبل فى مسمار بجوار الحوش. تبعده عن الفئران وعيون زوجها والولدين. يكون الواحد منهم شبعان وحين يرى العيش فى متناوله يأكل ما يأكل. زوجها فى قعدة واحدة ينهى عليه.

لا تطول أيام عمله، تراه قادماً والجلباب ملقى على كتفه، ينقبض قلبها لمجيئه، وكانت تفكر فى الخبيز بعد أن كاد العيش فى القفص أن ينفد، يبدو من وجهه المرهق أنه يسعى للنوم، تلحق به فى المندرة، يحب أن تدعك ظهره قبل أن يروح فى النعاس، تسأله مترددة:

-        وعاجبك إيه فى قعدة البيت؟

لا يرد.

تميل عليه ويلامس صدرها كتفه. تسأله مرة أخرى. يغمغم:

-        ما حبش حد يشتم أمى.

-        ومين شتمها؟

-        الزباين مرة. والمعلم صاحب القهوة مرة. آهو.

-        ويشتموها ليه؟

-        اسأليهم. شتيمة الأم مزاج عندهم.

يومان بليلتين يظل نائماً. أخفت له رغيفين فى هدمة بجوار الفرشة. تسمع قرقشة العيش حين يصحو ليأكل ثم يعاود النوم.

أحياناً يسألها إن كان هناك غموس؟

وتقول: منين؟

-        طيب بصلة؟

-        منين؟

-        ولا حبتين ملح؟

تعطيه الملح، ويتجرع الماء وينام.

راحت الفورة. كل مرة يكون عنده سبب يقوله. وماذا لو شتموا أمه أو أباه؟ انهدت الدنيا؟

-        الواحد بيسمع شتمته ويسكت.

أسبوع. كل ما اشتغله. يكفى الخبيز مرة. لم يبق غير ثلاثة أرغفة فى قفص الجـريد للولدين، وتعود للسلف والمرور على البيوت. لو أسعفها بأسبوع آخر، أو حتى أربعة أيام، كانت خبزت مرة أخرى.

-        القصد. اللى حصل.

رجع فى ليلة من تسكعه، وأخذ قعدته على المصطبة فى الطرف الآخر محدقاً فى ظلمة الحارة، قال:

-        يا سلام لو سيجارة.

نظر إلى رجب الراقد جنب ساقها يغالب النعاس، فهمت ما خطر له، يريد أن يرسله إلى البقال ليأتيه بسيجارة على الحساب. قالت:

-        انت من دون الناس موش حايبيع لك شكك.

-        عارف.

الليل هادىء. والقمر طالع. ولا صوت. الكل نائم. ومن فى الحارة غيرهم يسهر إلى هذا الوقت. مغص الجوع يطرد النوم. كلها ساعة زمن وتهدأ بطونهم. المغص لا يدوم، قرصة والثانية ويسكت.

زوجها مد ساقيه مسترخياً، هو فى مزاج رائق لا تعرف سببه، ولا تريد أن تعرف. يكفيها ما بها. ولا واحدة من الجارات إلا واستلفت العيش منها ولم ترد ما أخذته بعد، لو ذهبت إليهن مرة أخرى؟ اثنتان منهن ربما لا يردانها. الجميع يعرفن أنها تسدد ما تستلفه، أول ما تفعله يوم الخبيز.

طال بقاؤه فى البيت هذه المرة.

-        ولا على باله أى حاجة.

جاءها صوته خافتاً:

-        آه يا سكينة.

وتنهد وسكت.

التفتت إليه متعجبة. قال:

-        التعليم حلو.

ازداد عجبها: تعليم إيه؟

-        التعليم يا ولية. المدارس.

-        مدارس؟ طيب.

-        مدارس وجامعات. الليلة. تلاميذ من البلد فى الجامعة جايين فى أجازة. سهرانين فى القهوة بالبر التانى. القهوة الكبيرة. حواليها سور خشب.

-        عارفاها. وشفتها.

-        وأنا قاعـد على مصطبتها جنب السور. وأسمعهم بيتكلموا. آه. كلام إيه. أفهم شوية. وما أفهمش شوية. ويبقى نفسى أسألهم.

-        وإيه اللى ما فهمتوش؟

-        يعنى حاتفهمى يا سكينة. اسكتى.

-        سكت.

-        بيقولوا الواحد المفروض ما يشتغلش كل يوم زى الجاموسة فى الساقية. لابد يكون عنده وقت يفكر. طب يا جماعة يفكر فى إيه؟ ما قالوش. وعايز أسألهم، وأبص عليهم، وأسكت.

-        وطبعاً عجبك الكلام ده وفهمته؟

-        قالوا كلام كتير. آه. الواحد عايش ليه؟. وأقول فى نفسى إلا عايش ليه؟ عايش وخلاص. ويقولوا يجوز ويخلف أولاد؟ طب وبعدين؟ وأسأل نفسى عايزين الواحد منا يعمل إيه أكتر من كده؟ كلام كتير. وبعد ما مشوا أنا مشيت. ودماغى فيها زيت بيغلى ويطرطش. وأقول ناس راضية، وناس موش راضية، آه. دنيـا غريبة.

-        وإيه الغريب فيها؟

-        آهو.

سكت. طوى ساقيه ورقد على جنبه، بعدها تمدد على ظهره، وراح يهرش بين فخذيه.

-        طول اليوم وأنا بهرش.

وسألها إن كانت نظفت سرواله مما به قبل غسيله؟

-        نظفته يا زغلول. كوم براغيث وقمل. شوف بتقعد فين ولا بترميه فين.

-        ما بقعدش مع غيرك. ولا بيخلعه عنى غيرك.

-        مين يسمع؟ امتى؟ من شهر؟

-        يا ولية؟ والخميس اللى فات؟

-        ودى تحسبها؟ غيرك يكّسف يقولها.

-        ما كانتش مرة خابت.

-        مرة واحدة؟ طول الليل يمشى هنا وهنا لغاية ما ينهد حيله. أقول له إيه؟

رفسها. وجاءت الرفسة فى فخذها. المرة الأولى التى يرفسها، انطوت وسكتت، وهو قام وسار مبتعداً.

كان يوم أسود يوم عرف التلاميذ. يخرج كل يوم وقت الغروب ويعود على وش الفجر، يبحث عنهم بطول البلد وعرضها حتى يعثر عليهم، ويقعد غير بعيد بحيث تصله أصواتهم، لا يريد أن يلفت نظرهم إليه فيضايقهم وجوده، ومرات ينتبه إلى أنه كان يضحك عندما يضحكون، أو يهز رأسه موافقاً حين يسمع شيئاً فهمه وأعجبه، أحياناً لا يجدهم، ويظل فى تجواله حتى يفقد الأمل، فيكتفي بأي تجمع يلقاه، ويستكين بجواره ويستمع. لم يعد يعجبه ما يقولونه، نفس الكلام الذى قالوه من قبل، فلان ذهب، فلان عاد، فلان ضرب امرأته، أو غضبت وراحت بيت أهلها، وفلان سُرقت بهيمته، وأسعار الحاجة التى تزداد يوم بعد يوم، وبقال التموين وما يسرقه كل شهر. لا يتحمس لما يسمعه، وأكثر من مرة يأخذه النعاس، ويصحو حين يهزه واحد منهم ليوقف شخيره. أين هم من أصحابه التلاميذ، صحيح أنه لا يفهم الكثير مما يقولونه غير أن بعض الذى يفهمه يشغل دماغه وقتاً طويلاً، وحتى ما لا يفهمه يجد نفسه منجذباً إليه، مستمتعاً بحيرته وهو يقلبه فى ذهنه. آه. وحماسهم أيضاً وهم يتحدثون، تختلط أصواتهم ويعلوا صياحهم، ويهز رأسه وهو يسمعهم مغتبطاً، أعجبته كلمة "أصحابه"، فراح يرددها مع نفسه، عددهم خمسه، ومرات يزيد أو ينقص واحد. قعدتهم دائماً فى المقهى الكبير، نفس الركن المطل على الشارع، حين لا يجدهم يبحث عنهم هنا وهناك، أحياناً يلمحهم يمشون على الطريق الزراعي، تصله أصوات ضحكاتهم المرتفعة، هو على بعد، لا يقترب، ولا يسمع ما يقولون، ويضيق بذلك، غير أنه يستريح لوجوده بالقرب منهم.

أحياناً لا يعثر عليهم فى أى مكان، فيمر على بيوتهم بعد أن بحث وعرفها، ويجدهم مجتمعين فى واحدٍ منها، يستطيع أن يميز أصواتهم من مئات الأصوات. ينصت قليلاً، ويعرف من كلامهم أنهم لن يخرجوا الليلة، ويمضى باحثاً عن آخرين.

وكان قاعداً فى مرة على مصطبة المقهى الكبير بجوار السور، وهم فى الداخل. كانوا ساكتين، وانتظر، يدخنون الشيشة ويسعلون، سعالهم شديد. وقال لنفسه "صغار على التدخين، لو انتظروا خمس سنوات كان أفضل لصدورهم ".

تكلموا فى صوت خافت، لم يستطع سماع ما يقولون، ثم ارتفعت أصواتهم قليلاً قليلاً، يحكون عن بنات ونساء عرفوهن هناك حيث جامعاتهم. القاهرة. الإسكندرية. حلوان. واحد منهم يؤجر حجرة فى شقة بدون باب من حجرتين بالدور الأرضي، الحجرة الأخرى تسكنها امرأة فى الأربعين تقريباً، تقيم وحدها، تخرج أول الليل وتعود فى ضحى اليوم التالي. وتأتى أيام تبقى فى حجرتها، لا يسمع لها صوت، ولا ضجة تأتى من ناحيتها. ملابسها محتشمة، ولا تضع ألواناً بوجهها، وشال أخضر بأسود دائماً على كتفها. يتبادلان تحية عابرة، ولا كلام. كل منهما يغلق باب حجرته على نفسه، هو خجول منها، ولا يعرف عنها شيئاً. دورة المياه مشتركة، اعتادا دون اتفاق أن يسعل الواحد منهما فى صوت مرتفع لينبه الآخر إلى أنه فى طريقه لدورة المياه، وبعد الانتهاء يغلق باب حجرته فى صوت مسموع معلناً عودته. ويعلق قائلاً:

-        عيشة كرب.

ويسألونه إن كان نام معها؟

-        أنام مع مين؟ دى فى عمر أمى.

-        النسوان الكبيرة حلوة.

-        إلا حلوة. وطيبة كمان.

-        اسمعوا الباقى.

ويعود ليحكى.

خرج فى ليلة لسبب ما بعد خروجها مباشرة، رآها على بعد خطوات أمامه، تمهل حتى سبقته بما يكفى، ووصلا إلى الشارع الرئيسي، وعبرته إلى الجانب الآخر، لمحها تدخل مقهى بالميدان هناك. دفعه الفضول فذهب وراءها ودخل المقهى، فوجىء بها تجلس إلى منضدة فى مواجهة الباب، وجاءت عيناه فى عينيها، نظرتها الصارمة، اضطرب وجلس على أول مقعد قابله، هى تجاهلته بعد ذلك، لم تنظر ناحيته أبداً، وهو أختلس النظر نحوهـا. معها رجل فى الخمسين أو أكبر قليلاً، يده تسقط مرات على يدها فوق المنضدة، يتحرك اصبع منها خفيفاً بين أصابع يدها ثم يبعدها، والجرسون حين جاءهما بالطلبات مال قليلاً ليضع الصينية على المنضدة واستند بيده الخالية إلى كتفها، بعدها خرجت والرجل وركبا تاكسي.

صاحوا من حوله:

-        واحدة من اياهم.

-        أول ما قلت شال أخضر فى أسود عرفت. ولا واحدة جت عندى إلا ونفس الشال على كتفها.

-        وبعدين؟

وعاد يحكى.

قال أنه فى ضحى اليوم التالي كان خارجاً للكلية ويغلق باب حجرته، ورآها قادمة من مدخل الشقة، وقفت فى الطرقة بين الحجرتين، كانت مشدودة من الغضب، وقالت دون زعيق:

-        لو سمحت تقول لى كنت ماشى ورايا امبارح ليه؟

هو اضطرب.

قال انه لم يمش وراءها، وأنه دخل المقهى صدفة، وما كان يعرف أنها بالداخل.

ظلت فى غضبها وعيناها على وجهه، وقالت فى حسم:

-        أيوه أنا كده. عايز تعرف إيه تانى؟

هو حائر ومبلل بالعرق، اندفع دون كلمة خارجاً.

صاحوا حين سكت: وبعدين؟

-        آه وبعدين.

-        ولا حاجة.

وضحك.

قال أنهما عادا كما كانا، يتبادلان التحية بلا كلام، وكلُ فى حاله.

-        وما دخلِتش عندك؟

-        لا دخلتْ ولا كان فى نيتها تدخل.

-        ولا أنت حاولت؟

-        أحاول مين يا صاحبى.

وقال إن كل ما كان يخشاه أن يأتي واحد من البلد لزيارته ويراه فى هذا الوضع وتكون فضيحة، لذلك أخذ يبحث عن مسكن آخر. ويوم نقل العفش فوجىء بها تفتح باب حجرتها وتتقدم إليه، تلبس الروب فوق جلباب البيت. وجهها هادىء وحزين.

سألته فى صوت مبحوح إن كانت فعلت شيئاً ضايقه؟

-        أبداً.

-        وماشى ليه؟

وصارحها.

قال إنها لابد سمعت عن عادات أهل الريف، أبوه أو واحد من اخوته لابد سيأتي يوماً لزيارته، أو قضاء مصلحة، والمبيت عنده يومين لحين انتهائها، ولن يخلو الأمر من معرفتهم بوجودها، ويكون وضعها حرجاً، سواء نظراتهم إليها، أو محاولاتهم الكلام معها وتقديم النصائح، وهو موقف لا يرضاه لها. غمغمت دون أن تنظر إليه:

-        فهمت.

واستدارت إلى حجرتها وأغلقت الباب.

حكى كل منهم بعد ذلك حكايته مع النساء، كيف يتعرفون بهن، ويضاجعونهن بمقابل أو بدون، وعدد مرات المضاجعة فى الليلة الواحدة، وأوضاعها.

-        أكبر كدبة اللى بتسمعه عن إن النسوان شبه بعض فى العتمة.

-        دا صحيح. الواحدة غير التانية فى كل حاجة.

-        أحلى لحظة عندى وأنا بخلع هدومها حتة حتة.

-        آه. شغل سينما.

-        سينما. سينما. إنما مفعوله أكيد.

-        أقطع ذراعى انك ما لمست واحدة لغاية دلوقتى.

-        شوفوا. بعد تجربة طويلة لا يوجد ما هو أفضل من العادة السرية. وحدك مع نفسك، متعانقان فى لحظة توهج.

-        بتقول فيها. أعرف واحدة كانت تحكى لى أن زوجها يتركها فى السرير ويدخل الحمام يمارس العادة السرية.

-        كلام عبيط. وامرأة مستوى منحط. مفيش راجل فى الدنيا يعمل كده.

كل منهم يقول كلاماً، ويعلو صياحهم. شباب. هو كان مثلهم. عرف التدخين مبكراً، فى العاشرة من عمره، ثم تركه، وعرف النسوان بدري عنهم، وهو فى الخامسة عشر، وقبلها كان يتلصص عليهن ساعة الفجر على ضفة النهر، حين تقرفص الواحدة منهن بين أشجار الشاطىء وتتعرى إلا من قميص داخلي على اللحم، وترمى بنفسها فى المياه، وينتفخ القميص أثناء عومها وينزاح إلى كتفها، ويرى جسدها عارياً يتلوى تحت سطح الماء، وتخرج لتقعد على بلاطة، والقميص ملتصق لا يخفى شيئاً، وتدعك نفسها بعودين قش، كان مثلهم يلهث، ما أسهل الحصول عليهن هنا فى البلدة، ولا يأخذن فلوساً مثل من عرفوهن من نساء المدن، يستطيع أن يحكى لهم الكثير من الحكايات مما رآه وسمعه، أحواض الذرة فى الليل، الخرابات على أطراف البلد، والساقية المهجورة، وبين الشجر خلف وابور الطحين، وإلا وابور الطحين، تترك الواحدة طحينها مع واحدة لتحتفظ بدورها، وتمضى إلى كومة الشجر، ويكون هناك من سبقها، تأخذ وقتها وتعود وهى تلم الطرحة حول رأسها. كل الأماكن التى لا يقربها أحد فى الليل لكثرة ما يشاع عن العفاريت التى تظهر بها ولهوها المزعج.

هو فى قعدته بجوار المقهى ورأسه فوق ركبتيه المثنيتين يغالب النعاس، لم يكن راضياً ولا مندهشاً كل ما قالوه يقوله أى واحد، كان يود أن يسمع ما لا يعرفه، وسهرتهم توشك أن تنتهي. بعد قليل يُغلق المقهى وينصرف الجميع، لم يقولوا كلاماً يحيره مثل كل مرة، ويفكر فيه طول غيابهم عنه، فى المرة السابقة أيضاً تكلموا فيما سموها السياسة، طول السهرة ولا كلام لهم إلا عنها. أحوال البلاد وما تعانيه وما عانته مئات السنين، يحس أنهم يتكلمون عن بلاد أخرى لا شأن له بها، ويتساءلون:

لِمَ بلادنا دون بلاد العالم التى رأت سنوات طويلة من الاستعمار، وأسوأ أنواع الاستعمار، تركي، فرنسي، انجليزى، وما سيأتي بعد ذلك. لابد أن العيب فينا نحن أهل البلاد، نرضى بأي وضع وبأي حكم، أين الثورات الكبرى التى قرأنا عنها فى بلاد أخرى التى طردت المستعمر وأطاحت بنظم الحكم الفاسدة، انظر ماذا لدينا. بعض المظاهرات فى الشوارع، وتكشر السلطة وتدفع بعساكرها المـدرعين، تتفرق المظاهرة فى الشوارع وتنفض، ثورة عرابي، ثورة 1919، هذا كل ما لدينا، بتاريخنا الطويل وحضارتنا كما يقال، وتأتى ثورة 1952، ثورة العسكر. وأين كان الناس وقتها؟ مـوجودون والحمد لله فى بيوتهم، استيقظوا فى الصباح على من يقول لهم "انتهى الحكم الفاسد إلى غير رجعة، وجئنا لنرعاكم". على خيرة الله. وهو فى السماء شاهد على كل شيء. اذكروا لي بلداً واحداً حكمه العسكر لما يقرب من ستين عاماً. هذا ما أقوله. العيب فينا نحن أهل البلد.

ويغضبون، وينتظر حتى يذهب غضبهم. صمت طويل لا يسمع فيه غير صوت رشفات من مشروباتهم، ثم فتحوا فى الكلام عن الأغاني التى يفضلونها. أم كلثوم. عبد الوهاب. فيروز. هو يحب من ذكروهم من مطربين، غير أنه لم يتوقف مرة ليسمع أغنية حتى نهـايتها.

ومضت السهرة دون كلام آخر.

وجاءوا بعد ليلتين إلى المقهى، شربوا ودخنوا الشيشة، تكلموا قليلاً. فهم من كلامهم أن واحداً منهم مريض. أرهف أذنه مائلاً برأسه إلى جوار المقهى، هم ينتظرون عودته من عند الدكتور لزيارته. قالوا انها غالباً متاعب فى كبده. البلهارسيا. أيهم؟. لا يعرف. سمع أسماءهم من قبل وحفظها ولم يعرف أصحابها.

خرجوا من المقهى وتبعهم، ساروا من شارع لآخر، ودخلوا بيت صاحبهم وكان مُضاءً بالكلوب، انتظر فى الخارج، شجرتان على جانب الطريق، قعد تحت واحدة منهما وأسند ظهره لساقها، يقذف بما تلتقطه يده من حصى إلى جوف الطريق المعتم.

قال أنه سينظر فى وجوههم لدى انصرافهم ويعرف، ثم سمع صوت ضحكاتهم تترامى إليه، وسمع أيضاً قهقهة صاحبهم العالية. نهض ونفض جلبابه وسار مبتعداً.

ثم سافروا.

وعاد إلى تسكعه فى شارع السوق حتى كان لقاؤه مع الشيخ رضوان.

كان أستاذاً للفقه والشريعة بالجامعة، ويأتي فى الأجازات إلى البلدة، يرى أطيانه ومصالحة الأخرى التى لا يفصح عنها، الأهالي يكتشفونها بالصدفة، من كان يصدق أنه صاحب محل قماش "النهضة" بالسوق، ويقوم بإدارته واحد من أقارب أمه وكانت من بلدة أخرى، أو أنه يشارك فى تربية العجول، يشتريها صغيرة ويتركها للصيادين لتربيتها، وتكبر فيبيعها ويشترى أخرى صغيرة، ما يزيـد عن ثمنها فى صغرها يقتسمه مع الصياد الذى يتكفل بأكلها، عرف الأهالي بالأمر حين لمحوا ثلاثة من الصيادين قاعدين لصق الجدار الأمامي لبيته ينتظرون قيامه من النوم، وكان هناك من استبد به الفضول فذهب وقعد معهم، الصيادون ليسوا بمهارة أهل البلدة فى الكلام، خلال الدردشة معه لم يخفوا شيئاً، ولم يكن بالأمر ما يسيء إلى أحد. كانوا قد جاءوا من عزبهم غير البعيدة لشراء عجول من سوق الماشية، وما تركه الأستاذ معهم من نقود لا يغطى ثمن العدد الذى اختاروه، دفعوا عربوناً وقالوا نقصد الأستاذ نأتي منه بباقي الثمن، ومنها أيضاً يبصمون على أوراق ملكيته لها ويريحونه من مشوار للعزب.

وسألهم من ذهب وقعد معهم عما يكلفه أكل العجل الواحد فى اليوم؟

-        قليل.

-        كام؟

-        قليل.

-        يعنى كام بالتقريب؟

لحظتها تملك الصيادين الثلاثة الحذر، ورد من كان بكلمة:

-        ولا حاجة.

-        مفيش خالص؟

-        قليل.

حين بلغ الأستاذ ما دار من كلام، ضحك كثيراً، وقال لو أنه جاء وسألني لأخبرته وقلت له إن أراد أسماء الصيادين الذين أتعامل معهم.

بيته من دورين بمدخل البلدة، حوله حديقة صغيرة بها أشجار ورد وبرتقال وليمون، لا يقربها أحد حين تثمر حتى فى غيابه، يسقط الثمر تحت الشجر ويتعطن وينشف وتذروه الرياح بعد أن يخف وزنه. العربة التى يؤجرها فى مجيئه تقف على رأس الطرقة الممهدة المؤدية لباب البيت، هو فى المقدمة تتبعه امرأة طويلة وثلاث بنات أقصر منها، ثم السائق الذى يحمل الحقائب، المرأة والبنات منقبات، ثقوب صغيرة بغطاء الوجه تظهر منها لمعة عيونهن، وطوال وجودهن فى البلدة لا يخرجن، لا يزرن أحداً، ولا يزورهن أحد. نوافذ البيت مغلقة دائماً فى النهار، وتفتح على سعتها فى الليل والأنوار مطفأة، كان المارة يلمحون بها خيالات داكنة لرؤوس وأكتاف، وما أن تسطع أنوار سيارة قادمة حتى تختفي.

البيت ساكن، حتى صوت الراديو لا يسمع، وقد فوجىء القريبون منه وفزعوا حين انفجرت ذات ليلة صرختان متتاليتان من داخله، أعقبها نهنهة، ثم ساد الصمت، وظلوا وقتاً حائرين يترقبون، لا يجرؤون على الاقتراب والسؤال، وقالوا انه صوت المرأة، كان ممتلئاً مشحوناً بالألم، وبه بحة ثقيلة، صراخ البنات عادة ما تصاحبه سرسعة.

قال القريبون منه فى ذكر محاسنه ومن باب الشفقة عليه أنه يتمنى الصبي، والله لا يعطيه، وهو صابر.

باح لهم فى قعدة انه يفكر دائماً فيمن يرثه ويحمل اسمه.

وقالوا له إن الأيام قادمة.

قال عن قناعة إن البطن التى تمتلىء بثلاث إناث متتاليات لا يأتيها الصبي أبداً. وأصبح قوله حكمة يتم تداولها وإن جهل الكثيرون مصدرها، وأحياناً كانوا ينسبونها إلى بعض الأئمة. أحس الذين باح لهم بشكواه أنه ينتظر منهم أن يقولوا كلاماً فقالوه:

-        تزوج يا شيخ رضوان ولا أحد يلومك. طلبك مشروع.

حدق فى وجوههم لحظة ثم أطرق ساكتاً.

همس واحد منهم أثناء انصرافهم:

-        إما أنه فعلها سراً، أو سيفعلها، الشيخ رضوان وأعرفه من سنين.

وعاد ليهمس بعد أشهر قليلة حين أنكشف المستور:

-        قلتها لكم. متزوج من ثلاث.

-        حقه المشروع.

-        وسبحان الله. لم يأت الصبي. والرابعة أكيد عن قريب.

ما كانوا فى حاجة إلى البحث أو السؤال، جاءت وحدها، لاحظوا أنه فى كل أجازة يأتي كانت المرأة التى تتبعه يختلف حجمها عن المرتين السابقتين، ومرة يرافقها بنتان صغيرتان، ومرة بنت واحدة أصغر منهما، والجميع منقبات. ما أن يستقر به المقام حتى يهرول إليه شيخ الجامع ليعرض عليه أن يباركهم بخطبة الجمعة ويؤم الصلاة.

-        طبعاً. طبعاً. هذا الجامع له مكانة كبيرة عندى. أول صلاة لى كانت به. وعمرى ست سنوات.

يزدحم الجامع على آخره، وتفرش الحُصر خارجه لتستوعب المصلين الذين جاءوا من بعيد وتركوا الجوامع القريبة منهم، ويكون أعيان البلد تبرعوا لشراء حُصر جديدة وحنفيات، والسباكون قاموا بتسليك مواسير الصرف التى تطفح دائماً وتنساب بروائحها إلى الشارع.

ويأتي الشيخ رضوان بصحبة اثنين من معارفه، مصقولاً، لامعاً، يتهادى فى مشيته، يلبس الجبة والقفطان، وشال العمامة ناصع البياض، ما أن يعتلى المنبر حتى يصبح رجلاً آخر غير الذى عرفوه، تفارق البشاشة وجهه، ويتخذ طابعاً منذراً، خطبته عنيفة، يهاجم فيها أعداء الإسلام، والذين يسيئون إليه بقصد أو بدون، ويتوعدهم بعذاب الآخرة، ويفيض فى الحديث عن جهنم ونيرانها التى لا تنطفىء، ويتطرق إلى من يجهلون دينهم ويكتفون بفروضه، يؤدونها وهم يتثاءبون أو فى عجلة فلا يشعرون بما فيها من جلال وسمو.

يتزاحم المصلون حوله عقب الصلاة، يسألون وهو يرد مبتسماً ويشق طريقه فى نفس الوقت خارجاً، زغلول بينهم يحاول الاقتراب منه، ويمد عنقه ليسمع فى وضوح، ويكتشف انها أسئلة لمجرد الكلام، كان يستطيع هو نفسه أن يجيبهم عنها، أخطاء فى الصوم والوضوء، والشيخ يغمغم بسعة صدر:

-        الخطأ غير مقصود، والله غفور رحيم.

واقترب واحد منه مرة وهمس فى أذنه بكلام، توقف الشيخ مطرقاً، وارتفع صوته قليلاً:

-        وزنيت بها؟

-        حصل يا أستاذنا.

-        تصوم ثلاثة أيام عسى أن يغفر الله لك.

-        وبعد الصيام أقدر أزنى بها تانى؟

التفت الشيخ فى حدة، ورأى وجهاً يكتم الضحك، انفجر الشيخ صائحاً:

-        بسيونى؟ خدعتنى يا رجل.

وأخذه بين ذراعيه ثم أفلته:

-        اشتقت لقعدتك كثيراً. الليلة بعد صلاة العشاء. المقهى الكبير. نتذكر ما فات ونضحك قليلاً.

وقف زغلول أمام الجامع ينظر هنا وهناك، يتزاحمون ويسألون، وليس هنـاك ما يسألون عنه، وهو بدلاً من أن يتجاهلهم يجيب على أسألتهم، وتذكر أصحابه من التلاميذ. لو كانوا هنا، أو واحد منهم، لأستطاع أن ينكش الأستاذ بأسئلة من نوع آخر. معرفته كما يبدو واسعة. استشهد فى خطبته بأقوال كثيرين، ما أثار عجبه هزاره مع بسيونى وعلى مسمع من الجميع، لم يتوقع أبداً أن يكون صاحباً لواحد مثله. الكل يعرف من هو بسيونى، ولا أحد فى البلدة يأخذه مأخذ الجد. نفس الحكاية مع التلاميذ، أكثر من قعدة لهم يقولون كلاماً يتركه مبلبلاً حائراً، وفكره يروح هنا وهناك، ثم يجدهم فى قعداتهم الأخيرة يتكلمون عن النسوان، وكلام يقوله أى واحد، ويتحمسون أيضاً، ويصيحون.

انحنى والتقط حجراً قذف به إلى النهر،  واكتشف أنه يتبع الشيخ رضوان، كان على بعد خطوات برفقة أثنين، ثم سار بعد ذلك وحده فى شارع السوق، توقف أمام محل أقمشة "النهضة"، صعد العتبة وتربع على دكة بالطرقة أمام المحل، الدكة تسع اثنين، غير أنه تربع بفخذيه السمينتين ولم يترك فراغاً بجانبه.

مشى زغلول أمام المحل ورجع، ثم مشى ورجع، رأى الشيخ ينتهي من كوب الشاي ويضعه تحت الدكة، زبائن قليلون أكثرهم من النساء يصعدون إلى المحل، بعضهم يبقى داخله. الخاطر يلح عليه، لو تكلم معه؟. مجرد أن يسأل ويسمع ما يقوله، وبحث فى ذهنه عن الأسئلة التى حيرته ووجدها راحت، ربما حين يبدأ الكلام معه تأتى من نفسها، قد يفلت سؤال أو اثنان غير أن الكثير يلبد فى رأسه. مرت به امرأة وصعدت عتبة المحل، وكان يقف على بعد خطوة متردداً. المرأة ممتلئة، وجسمها الطويل ينساب متناسقاً، الملاءة انزلقت عن رأسها، وكشفت عن شعر ناعم فاحم السواد وجانب من منديل رأس زاهي اللون وبطرفه ترتر يتألق فى ضوء الشمس، ثنت زراعها اليسرى واستقر ساعدها تحت ثديها الأيسر فنهد ممتلئاً مشدوداً، وبانت رجرجته، دخلت المحل وكأنها تغزوه، زغلول رمقها سريعاً ثم عادت نظراته إلى الشيخ الذى انحنى خفيفاً للأمام محدقاً فى ظهر المرأة. قرفص زغلول غير بعيد عنه، تقلص خفيف برقبته، كان يحركها من جانب لآخر. لمحه الشيخ وتمتم متعجلاً:

-        مين دى؟ الست اللى دخلت؟

التفت زغلول ولم ير أحداً. عاد ينظر إلى الشيخ الذى استقر فى قعدته وعيناه على باب المحل. قال زغلول وكان ينبش الأرض بين قدميه:

-        أول ما شفتك يا أستاذنا. قلت أنت اللى يفتينى.

رمقه الشيخ فى ضيق وتمتم:

-        هش. بعدين.

زغلول كان مستغرقاً مع نفسه لم يسمعه. قال:

-        أسئلة كتيرة. تروح وتيجى فى دماغى. وقلت انك تشرح لى.

أغمض الشيخ عينيه لحظة، ثم نظر فى حدة إلى زغلول الذى استمر ينبش بين قدميه ويقـول:

-        الله سبحانه خلق الدنيا، والناس، وكل حاجة، وأمرهم أن يعبدوه، أقول لنفسى إذا كان خلق ده كله عايز عبادتهم فى إيه؟ وإذا لم يعبدوه يغضب ويتوعدهم بالعذاب.

الشيخ على الدكة أفاق تماماً، واتسعت عيناه، نظر حوله مأخوذاً.

قال زغلول وهو يلم الجلباب حول ركبته:

-        آه. خذنى على قد عقلى وفهمنى. إن كان سبحانه عايزهم يعبدوه. طيب، يبان بالشكل اللى عايزه ويقول أنا خلقتكم اعبدونى. وساعتها ما حدش حايقول لأ.

سكت، ومسح فمه بظهر يده، نظر للشارع والناس تذهب وتأتى ثم أحنى رأسه وعاد ينبش الأرض، والشيخ على الدكة مشدود الظهر ووجهه يتلون بالغضب، مد قدميه يبحث بهما عن حذائه وكان منزوياً فى جانب تحت الدكة. وقال زغلول:

-        طب أنا فهمى شوية، إنما برضه بفكر. أقول لنفسى هو سبحانه أرسل أنبياء كتير، كل كام سنة واحد. أعرف منهم ثلاثة. موسى وعيسى ومحمد. عليهم الصلاة والسلام. الثلاثة بيدعوا لعبادة الله. وكل دعوة ولها طريقتها، واللى معاها يقولوا إنهم الأفضل عند ربنا، ويكدبوا غيرهم. وييجى الزمن ونشوف الثلاث دعوات فى وقت واحد ونازلين فى بعض ضرب وقتل، وأقول لنفسى طب ليه؟ إذا كان ولابد، نبى واحد كفاية.

يتكلم ساهياً عما حوله، وأدهشته الرفسة قبل أن توجعه، أطاحت به خطوات للوراء، وقلبته على ظهره، ثنى ركبتيه ورفعهما كساتر لحمايته، صيحة الشيخ أوقفت الحركة فى الشارع، ودفعت الزبائن بما فيهم النسوان إلى خارج المحل.

-        بتعدّل على ربنا يا ابن الكلب.

تفادى زغلول ضربة قدمه وكانت مصوبة إلى بطنه، ووقف، احتوته قبضة الشيخ، يجره متراجعاً للأريكة، يمشى والشراب فى قدميه وعيناه تبحثان عن الحذاء، وربما أراد أن يستخدمه فى ضربه بعد أن أوجعته يداه. غمغم:

-        هو راح فين؟

لمح زغلول الحذاء، وأشار إليه بيده متردداً، والشيخ لمح إشارته ورأى الحذاء، وانفجر فى الصياح ويده تهوى على زغلول:

-        يا كافر يا ابن الجزمة.

جاء البعض جرياً من الشارع، وصاحوا:

-        سيبه لنا يا أستاذنا.

ونزلت ضرباتهم عنيفة على زغلول الذى كاد يختفي بينهم، واحدة من الزبائن خلعت شبشبها وصاحت:

-        هو فين؟ كان بيسرقك يا سيدنا الشيخ؟

كان بكعب فردة الشبشب مسمار، طرفه المدبب خارج من الكعب، انغرز فى رأس زغلول، شده الشيخ من صدر جلبابه:

-        يا كافر يا ابن الكفرة.

صوت زغلول ضائع وسط الصياح:

-        الجلابية. حاتقطع الجلابية.

جذبه الشيخ وكفه الممتلئة مرفوعة تتأهب لصفعه، بإصبعها الوسطى خاتم بفص كبير، سطع لحظة فى ضوء الشمس، وهمست المرأة المليحة وكانت تقف بباب المحل:

-        ذهب عيار 24. لمعته. أعرفه ولو على بعد مترين.

فوجىء الشيخ بالجلباب ينشق بسهولة فى يده، بدن زغلول العاري شديد الشحوب، وعظام صدره بارزة، وسرواله بلون الطين، دفعه الشيخ بعيداً عنه، وقعد لاهثاً على الدكة:

-        الكافر. أنا. أنا اللى يتقال له الكلام ده.

كف الآخرون عن ضربه. أنفه ينزف، ورأسه به ورم فى حجم البلحة، وشفتاه منتفختان، وحول عينه كدمة حمراء:

-        قطعتّ الجلابية.

ضم جانبي الشق الطويل حول جسده.

صاح الشيخ بقريبه الذى يدير المحل:

-        اقطع خمسة متر وارميها فى وشه.

استدار زغلول ومشى من بين الواقفين.

صاح به قريب الشيخ أن ينتظر حتى يقطع له القماش.

استمر زغلول فى مشيه. عَبر الشارع واختفى فى الحارة المواجهة.

*  *  *

سكينة فى قعدتها على المصطبة تنتظر طلعة النهار، ابنها الصغير "رجب" راح فى النوم ورأسه على ساقها، شدت الجلباب لتغطى فخذيه، ولمحت الدمل فى مكانه، وكانت تظنه اختفى، تحسسته بطرف إصبعها.

-        لسه جامد.

تأوه الولد فى نومه.

زوجها بالطرف الآخر من المصطبة يسلك أسنانه بعود قش جديد، ابنها الآخر زاهر مبتعداً عنهم يسند ظهره لحلق باب البيت، ربما كان أكثرهم جوعاً، لا يكف عن الجري هنا وهنـاك. الحارة من أولها لآخرها خالية، لا صوت، الكل نائم، ورطوبة الليل ما تزال تبلل كل شيء.

ظهر كلبان متجاوران يعدوان خفيفاً، يتوقفان ليتشمما حول عتبات البيوت ثم يواصلان جريهما، واحد منهما – الذكر على ما يبدو – نط على ظهر الآخر، يريد أن يحتويه بين سيقانه، أحنت الأنثى رأسها لحظة، وكادت تترك نفسها له، ثم فجأة نترته عنها، وعادا يعدوان متجاورين. صرفت سكينة نظرتها عنهما، قالت إن قفزته كانت من غير نفس. لمت الجلباب حول ساقيها:

-        هانت. ساعة زمن بالكتير.

يصحون، يغسلون وجوههم، والفطور، والشاي إن وجد، مثل كل خلق الله، ويخرج الرجال، ساعتها تطل عليهن. حين يتوفر عندها لا تقصر مع واحدة أبداً، جئن لها من قبل ويعرفن، أخرتها المرة التى اشتغل فيها زغلول شهرين بالكامل، وكل حاجة كانت بالبيت، تأتى الواحدة وتطلب سكر وشاي يكفى البراد اللى على النار والضيف قاعد ولا أحد موجود يذهب إلى الدكان، والسكر والشاي للبراد لا يرده أحد، والبن أيضاً للكنكة، والملح، وفصين الثوم، والبصلة، أكثر من حاجة تعطى ولا ترد، والزيت:

-        لأ. الزيت كده وكده.

لو جاءت معها بكوب أو كوز فهو سلفة، ولو جاءت بالطاسة فهي تريد ما يكفى الطبخة اللى على النار ولا يرد. كانت تعطيهم كل ما يطلبون، سلفة أو غير سلفة، ومن ترد منهن أهلاً وسهلاً، ومن لا ترد برضه أهلاً وسهلاً.

-        ولا تقول لها كلمة، أو تبص لها البصة إياها.

شهران وبالبيت كل ما تتمناه الواحدة، علبة الحلاوة الطحينية النصف كيلو، تغلق الباب عليها والولدين، زغلول فى الشغل لا يرونه إلا خطفاً، ويأتون على العلبة فى قعدة، واشترت أيامها جلابيتين وغيارين لزغلول والولدين، ولها أيضاً، وشبشب لزغلول. ثاني مرة يلبس شبشب لو حسبنا الأولى مرة، كان يوم زواجه، واستلفه من واحد صاحبه، وأعاده فى الصبحية، وصاحبه يقول له:

-        خليه يومين. انت لسه عريس.

المرة الثانية اشترته له، كان نفسها تراه فى رجله، بعد يومين راح منه، رجع فى الليل حافياً. هى من انتبه. وسألته. غمغم فى دهشة منحنياً:

-        آه صحيح. راح فين؟

نسيه فى مكان، وأماكنه كثيرة، حاول أن يتذكر، وعاد ليبحث عنه، ورجع من غيره.

آه. رحمة عليه الحاج عبد الرحيم. لم تسمع برجل فى طيبته، تمنت أن تراه، ولم تره. اشتغل معه زغلول بالصدفة، كان بالخارج سنوات، وقبل عودته جدد بيته، وبنى سوراً من الخلف مقتطعاً جانباً من شاطىء الترعة ضمه للبيت.

-        واللى شاف شاف. واللى درى درى.

هذا ما سمعته. لم تسمعه من زغلول. لا يقول كلمة واحدة حتى لو سألته عن الحاج أو بيته وما يجرى فيه.

زغلول كان خارجاً يبحث عن شغل بعد أن أخذ قعدة طويلة بالبيت غير سهره فى الشوارع.

الحاج عبد الرحيم كان رجع من بلاد بره، فوجىء من رآه بحجمه الذى زاد خمسة أضعاف، ورقبته التى اختفت، وحشرجة صوته. وقيل أنه المرض. قدماه لم تعد تتحملان كل هذا الثقل. عندما يتطلب الأمر خروجه من البيت يأتي الجيران بالبغل ويوقفونه أمام عتبة البيت، ويخرج مستنداً إلى كتفي اثنين يساعدانه فى الركوب مدلياً ساقيه من جانب واحد.

زغلول كان يعبر شارع السوق، ورأى البغل قادماً على بعد خطوة، توقف حتى يمر، هو لا يعرف الحاج ولا سمع بإسمه، ولاحظ أن قعدته على البغل منحرفة، وربما سقط فى لحظة، أوقف البغل فى هدوء، واستدار إلى الحاج الذى كان فزعاً ويمسك البردعة بيديه الأثنتين، قال زغلول:

-        اسند على كتفي وارجع بفخذك الشمال.

استقر الحاج على ظهر البغل وتنهد مستريحاً. كاد زغلول يمضى حين أوقفه الحاج. سأله عن اسمه وشغله.

-        شغلى؟ هنا وهنا. أى حاجة.

الحاج رمقه من فوق لتحت وقال:

-        تشتغل عندى؟

-        أشتغل إيه؟

-        زى كده.

-        كده إيه؟

-        تساعدنى أركب البغل. أنزل من عليه.

وقال انه كان يبحث عن واحد فى حجمه ويحتمل ثقله، فطوال القـامة يتعبونه حين يستند إليهم، وجيرانه كلهم ما شاء الله، وقد لا يجد أحداً حين يريد، وهو أيضاً يحتاج إلى من يرافقه فى مشاويره.

وقد كان.

فى الصباح الباكر يسحب زغلول البغل إلى الترعة، يحممه ويضع له العلف، وينفض البردعة، ويعده للركوب، ويقعد فى الحوش قرب حجرة الحاج ينتظر.

الحاج لا يخرج كل يوم، غير أنه يحتاج إلى زغلول حين يريد أن ينزل من فوق السرير أو يذهب لدورة المياه، ويصحبه زغلول إلى هناك ثم ينادى على امرأته لتدخل معه الكنيف تساعده فى الشطف.

حجرتها فى آخر الحوش، يصفق زغلول مرات قبل أن ترد عليه، تقيم معها عجوز من قريباتها، لسانها طويل، تقول حين تراه:

-        يا أخويا موش باين من الأرض.

قالت له إن الحاج وامرأته منذ عادا إلى البلدة وكلُ له حجرته، السرير لا يسعهما، ولا يأتيها النوم من شخيره، وقالت لها إذا كان السرير لا يسعكما وأنت جنبه نامى فوقه.

وضحكت وضربت زغلول بكفها على صدره.

هى من تأتيه بما يأكل، والشاي أيضاً، وتقعد معه فى الحوش حتى ينتهي، ولولا فمها الذى لا يتوقف عن الكلام لما ضاق بها، حين تفتحه تظهر منه أسنانها الصفـراء المدعوكة بالنشوق، كان يأكل متجنباً النظر إليها.

بعد يومين سأله الحاج: لم لا يبيت هنا فهو يحتاج فى الليل لمن يأخذه إلى الكنيف.

وقد كان.

أعد لنفسه فرشه فى حجرته. صوت غطيطه مرتفع وشخيره أيضاً، لم يمنعه ذلك من النوم. فى نفس الليلة أيقظه، أعطاه كتفه ليستند إليه وسار به حذراً إلى الكنيف، ثم خرج إلى الحوش وصفق قرب باب امرأته، صفق وصفق ولا أحد يرد. جاءه صوت الحاج من الكنيف:

-        موش حاترد عليك.

استمر زغلول يصفق، ثم أخذ ينادى:

-        يا حاجة. يا حاجة.

صاحت العجوز من الحجرة:

-        وإنت يا عقلة الصباع ما تدخل معاه. رجالة مع بعض فيها إيه؟

ولا مرة رأى امرأته تدخل إليه فى الكنيف، كانت العجوز تأتى على ندائه بدلاً عنها، وبعد هذه الليلة شالت يدها هى الأخرى من دخول الكنيف.

قال الحاج وكان قد مر أسبوع على وجود زغلول عنده:

-        مبسوط يا زغلول؟

-        الحمد لله.

-        أنا كمان مستريح لك.

سكت ثم قال:

-        أسبوع لا تسأل عن أولادك. خد.

أعطاه حفنة نقود سحبها من جيبه دون أن يعدّها:

-        اشتر لهم حاجة، وتعال على المغرب. عندى مشوار.

أشار بيده إلى خارج الحجرة:

-        خد منها اللى بقى من الغدا. أنا قلت لها.

يقصد العجوز، وجدها واقفة فى الحوش ومعها لفة الأكل.

-        بالهنا. وتحكى لى أما ترجع عملت إيه مع العيال.

وابتعدت ضاحكة.

دخول البيت كان فرحة.

تجمعوا حول لفة الأكل، وحين رأت سكينة قطع اللحم صاحت بالولدين:

-        اقفلوا الباب.

أرز، بامية، قطع بقلاوة وضعتها سكينة جانباً حتى ينتهوا من تناول الطبيخ.

نظرت إلى زغلول. قال انه أكل هناك.

وسأله الصغير وفمه ممتلىء:

-        وبتاكل من ده كل يوم؟

نهض زغلول متجهاً إلى المندرة، ورمقته سكينة تحاول أن تفهم من شكله إن كان سيريدها. لم تلمح ما ينبئها، والتفتت إلى الأكل.

أعطاها النقود. كانوا على المصطبة وكوب الشاي بجواره.

سألها من أين أتت بالسكر والشاي وهو لم يرسل لها نقوداً؟

قالت: كان عندي شوية تكفى الكوباية.

عدّت النقود وهمست فى بهجة:

-        كتير يا زغلول. كتير قوى.

-        راجل طيب.

وتذكر أن ولديه سألاه أكثر من مرة عن طعم "الهريسة"، وكانا يريانها عند الحلواني.

قال لامرأته أن تعطيهما ليشتريا هريسة.

قفز الولدان صائحين، وهى أيضاً صاحت:

-        وأنا كمان.

وانطلق الولدان، وهى ظنت أنه أراد ابعادهما، ونظرت إلى كوب الشاي بجواره ورأته ممتلئاً، همست فى صوت أرادت أن يكون ودوداً:

-        ماتشرب الشاي يا زغلول.

-        سيبينى. بفكر.

عاد صوتها إلى طبيعته:

-        تانى تفكر. التلاميذ ومشوا. وكفاية اللى حصل مع الشيخ.

-        اسكتى يا ولية.

-        طيب سكت.

وشدت الجلباب حول ساقيها واستدارت تنظر إلى الحارة.

هو كان يفكر فى ليلة أمس وما حكاه له الحاج.

كان مستلقياً على جنبه فوق السرير ينظر إليه حيث يرقد بالفرشة.

سأله عن ولديه وان كانا يذهبان إلى المدارس؟

-        مدارس إيه يا حاج. احنا بتوع مدارس.

ضوء المصباح المعلق بالحائط خافت، ينشر ظلالاً تهتز هنا وهناك.

قال الحاج وكان مغمض العينين أن له ولدين يعيشان فى الإسكندرية ويعملان هناك، لا يحبان البلدة ولا من فيها، منذ عودته لم يرهما، عندما سافر من سنوات إلى الخارج تركهما عند أقارب فى الإسكندرية ليواصلا تعليمهما هناك، يراهما فى الأجازات ويحس بهما متباعدين عنه، حتى خطابتهما كانت تقل من أسبوع لشهر ثم انقطعت، وحين مرض من سنوات بدا أن الأمر لم يزعجهما كثيراً، وكان يقول لنفسه أن كل الأولاد هكذا عندما يكبرون، تصبح لهم اهتمامات أخرى، وتنزوي علاقاتهم بآبائهم:

-        ودى حكمة الدنيا.

جاءا لزيارته فى الخارج، لم يمكثا طويلاً، كل يوم يذهبان للشراء، ملابس وأجهزة لأقاربهما فى الإسكندرية، مع كل منهما قائمة بالمقاسات والماركة، وكانا يسألانه عن المحلات والأماكن التى يتوافر بها ما يريدان، هو يعرف أن هناك بنتين، أقارب من ناحية امرأتي، ترتبان للزواج من الولدين، لم ير البنتين، ولا كلمه أحد من الأقارب، ما كان ليعترض لو أخبره الولدان، هما وما يريدان، مازال يرغب بشدة فى مودتهما وأن تأتى وحدها من غير أن يكلمهما، وسافرا، لم يعودا لزيارته. يرسلان إليه فقط عندما يريدان نقوداً، ويبعث إليهما بما يطلبان، حتى بعد عودته، وبعد أن اشتغلا، يقولان راتب الوظيفة لا يكفى، وسمع أنهما يعدان للزواج، ولا يخبره أحد بما يجرى، هو بحالته لن يستطيع الذهاب إلى حفل زواجهما، فلم لا يقيمانه هنا؟ وطبعاً لم يفصح عما بنفسه، هو فى حاجة إليهما، يرعيان البيت وما عندهم، أحياناً يخطر له أنهما سيبيعان كل شيء عندما يرثانه، قالا له مرة أن الزمن تغير، والأرض لم تعد كما كانت، والأعمال أهم بكثير، وصفقة واحدة مضبوطة تأتى بما لا يأتيه خمسون فداناً. أي أعمال هذه؟. لم يفهم ما قالاه. ويسأل نفسه ما جعلهما هكذا؟ أهو التعليم؟ ولكننا تعلمنا من قبلهم، ولم نصبح كما أصبحا، أكان تعليمنا مختلفاً عن تعليمهم، أهو الزمن ـ كما قالا ـ تغير وتغير معه كل شيء؟ لا أعرف.

سكت.

عيناه كما هما مغمضتان، ونفسه منتظم تتخلله حشرجة هادئة.

زغلول كان متكوراً فى رقدته، وقعد، هو حائر لا يستريح لسماع أسرار الرجل. لِْمَ يحكى له؟ عنده أصحابه. ولم يحكى؟. ربما المرض. لا يجد ما يقوله ليخفف عنه، ولا يعرف إن كان يعود للرقاد أم يظل قاعداً، وجاءه صوت الحاج فى العتمة الخفيفة:

-        وأمهم.

سكت مرة أخرى، وزغلول زاد قلقه. هل يحكى عنها أيضاً؟

طال سكوته، وبدا لزغلول أنه ربما راجع نفسه ولن يحكى، وربما غالبه النعاس. غير أنه تكلم فجأة.

قال إنه تزوجها من سنوات طويلة، وكان مبسوطاً معها، وكان هناك واحدُُ من أقاربها يسعى للزواج منها. آه. أيام. وهى فضلته عن قريبها، عنده الأرض ومعمل الجبنة والمنحل والوظيفة. "معاون زراعة". قريبها مدرس ابتدائي، لا يملك غير البيت الذى يسكنه. عنده ما يعوضه عن ذلك. فهو غندور، يسرح شعره على جنب، ووجهه بشـوش ضاحك. البنات.. من ذهبن للتعليم، التعليم الالزامى ويعدن للبيوت، تشترى الواحدة منهن مجلة بها صور مطربين ونجوم سينما، وتجلس على مقعد أمام بيتها، لا تجلس على المصطبة مع أبيها أو أمها والواحد منهما لا يفك الخط، هما مزهوان بها وبالمجلة التى بيدها، تخصص لها أمها فرختين من الفراخ التى تربيها، تبيع بيضها. هو مصروفهـا ـ يضحك فى حشرجة ـ تشترى من المصروف الشبشب القطيفة بلون أزرق أو أحمر، وشرائط لشعرها من نفس اللون ـ يضحك مرة أخرى ـ ربما رأيت هذه الفتيات فى تجوالك بالحواري، ينتظرن على مقاعدهن ابن الحلال المناسب الذى يغير من حياتهن. كن شغوفات بالمدرس، حين تراه الواحدة منهن مقبلاً تأخذ وضعاً ساكناً بمقعدها، وتفتح المجلة وتستغرق فى القراءة وبسمة خفيفة على وجهها، وتتظاهر بعدم رؤيته، ولا تصبر طويلاً، تختطف نظرة إليه، أرادت أن تكون سريعة لا يحس بها، غير أن عينيها تعلقان بوجهه الوسيم حتى يبتعد، امرأته حكت له من سنين هذا الكلام. كان يعجبها أيضاً، هى لم تقل له، لكنه أحس به. أرته يوماً ورقـة. آه. كانت ترتب درج دولابها، بجوارها حقيبة صغيرة مفتوحة، تحفظ فيها أشياءها الصغيرة. صور، سلاسل فضية، مفاتيح، كان وقتها يعمل بالخارج، سمع ضحكتها، الورقة مفرودة بيدها، ورقة قديمة، بهت لونها الوردي، طويت ما يقرب من عشر طيات، قالت له:

-        تحب تشوف حاجة؟

-        حاجة إيه؟

-        حاجة من أيام زمان.

خمسة سطور. يذكر منها كلام مثل ملهمتي، طيفك لا يفارقني. وتوقيع قريبها المدرس. سألها:

-        جواب؟

-        جواب إيه.

ضحكت، وقالت:

-        دى ورقة حطها فى ايدى وكان خارج ليلتها من بيتنا.

-        قبل ما أعرفك؟

-        قبلها بشهرين تلاتة. شايف الكلام الحلو.

وسألها لم تحتفظ بها؟

وقالت إن أى واحدة تحتفظ دائماً بهذه الأشياء.

كلامها معقول، وأعاد لها الورقة، وهى طوتها كما كانت ودستها فى جيب الحقيبة، لم تواصل ترتيب أشيائها، جمعتها على بعض ورمت بها داخل الدرج وأغلقته.

ما فكره بذلك الآن؟. تأتى على باله أحياناً أحداث مضت عليها سنين ويكون نسيها.

منذ عودتهما لم يرها غير مرة واحدة، رآها خطفاً، هى على ما يبدو لمحته خارجاً من حجرته مستنداً للجدار، وكانت بالحوش، وأسرعت لحجرتها. ولِمَ تهرب منه؟. لا يفهم. ولا يسأل. تذهب لزيارة أقاربها ولا تخبره، براحتها، تصحبها العجوز ويقضيان سهرتهما هناك، لم تكن يوماً مشغوفة بهم. والعجوز؟ لا أعرف أين عثرت عليها وسط كراكيب أهلها وجاءت بها. لا يفترقان. يأكلان معاً، ويخرجان معاً، وينامان فى حجرة واحدة. كيف تتحملها؟ لا أعرف. وتحاول العجوز أن تذكرني بأيام لا أذكرها. تقول أنني كنت ألعب فى بيتها مع المدرس قريبها، وكنا صغاراً، نعمل قطاراً وندخل من حجرة لحجرة. وتقلد صوت القطار وهى تخبرني، وتذكر لي حكايات عن شقاوتي، ولا أذكرها. يحيرني ما يبدو على وجهها أحياناً من تشفى وأنا أتخبط بين جدران الكنيف، غير أنها دائماً تمسكني فى اللحظة الأخيرة. وأقول لنفسي ربما كنت واهماً، فلا يوجد سبب لأن تضيق بي، ولا أذكر أنني رأيتها من قبل.

عندما يريد دخول الحمام ترسلها امرأته لتشطفه، وترضى بأن يتعرى أمامها، وتمد يدها بين فخذيه وإليتيه، من كان فى حالته يتقبل ما يأتي، يتساوى كل شيء، تشطفه العجوز أو غيرها لا يهم. لا يضايقه غير رائحة فمها، ويخشى أن تشعر بذلك، وحتى فى طعامه، لا أحد يسأله عما يريد، ويأكل مما يأتي على الصينية، إن كان هناك أصناف لا يميل إليها يتركها، وإذا كان جائعاً أكل منها رغماً عنه بما يسكت جوعه.

سكت. ومر وقت وهو ساكت، وعندما ارتفع صوت غطيطه تمدد زغلول ووجهه للحائط.

قال له يوماً بعد أذان المغرب أنه سيقعد قليلاً مع أصحابه فى المقهى.

كان جالساً على حافة السرير مدلياً ساقيه، وأشار إلى الدولاب ليأتيه بما يلبس، وجاءه بجلباب وغيار كما طلب. ساعده فى خلع الجلباب، ومد إليه الغيار النظيف وأدار له ظهره وانتظر. قال الحاج أنه لا يستطيع أن ينحني ليخلع سرواله. استدار زغلول وسحب السروال وأخرجه من قدميه، كان منحنياً بما يسمح للحاج أن يمسك بظهره حين يبدل قدميه.

خرجا من الحجرة، الحاج يستند بيد إلى كتف زغلول وبيده الأخرى إلى الجدار.

البغل فى الخارج أمام الباب، والعتبة مرتفعة قليلاً تساعده فى الركوب. أعطى الحاج ظهره للبغل واستند إلى كتف زغلول الذى كان منحنياً قليلاً وممسكاً برقبة البغل ليمنعه من الحركة، ارتفع زغلول بطيئاً من انحناءته وارتفع الحاج فى نفس الوقت بظهره حتى استقر فوق البردعة.

المقهى الذى يقصده على شاطىء النهر، والمقاعد متناثرة بامتداده، حين رأى القهوجي الحاج قادماً، جاء بدكة ووضعها بين مقاعد أصحابه، وسحب زغلول البغل إلى هناك، أنزل الحاج وأجلسه ثم خرج بالبغل من بين المقاعد وتركه يرعى حشائش الشاطىء، وقعد على حجر.

لم تستمر السهرة طويلاً، وظل الحاج صامتاً فى العودة حتى استقر على السرير، تنهـد عميقاً:

-        آه. تعبت. قعدة موش هى.

وقال انها المرة الأولى التى يشارك فى سهرة أصحاب منذ رجوعه، وكما رأيت لم أتحملها، كان معي حق أن لا أرحب بها وأؤجلها حين يرسلون. لم يتغيروا. غـاب عنهم طويلاً ورجع، ولا جديد يقولونه، حتى النميمة التى حكوها فيما مضى عادوا يتذكرونها ويضجون بالضحك، رغم أنهم ضحكوا منها مرات ومرات من قبل، هو نفسه شاركهم وقتها الضحك والصخب.

سأله ان كان سمع ضحكاتهم؟

قال زغلول انه سمعها.

وقال الحاج: ضحك من غير نفس.

-        آهو برضه ضحك.

-        يظهر إن الواحد ماعدش عنده صبر زى زمان.

وسكت محدقاً فى ركن السقف ثم استغرق فى النوم.

وكانا يخرجان بعد ذلك كل يومين أو ثلاثة، اختار الحاج الصباح الباكر. يأخذان جولة واسعة على الطرق الزراعية، ويتوقفان للراحة بين تجمعات الأشجار والغيطـان ممتدة حولهما، الحاج على بغله مسترخياً، وزغلول يقرفص بجواره يرقب الضفادع تقفز على شطوط قنوات المياه، قليلاً ما يتكلمان، مستغرقين فى أفكارهما والنظر حولهما.

ويوماً توقفا تحت شجرة توت، وضحك الحاج فى بهجة:

-        التوت. آخر مرة كلته كان عمرى عشر سنين.

قفز زغلول وتسلق ساق الشجرة، وصاح الحاج:

-        طب خد منديل.

أخذ زغلول المنديل منه وعاد للصعود، راح يتنقل فى خفة بين الفروع والحاج يرقبه والضحك على وجهه، رجع زغلول بالمنديل ممتلئاً، ورفعه مفتوحاً إلى الحاج الذى قال:

-        آكل النص. وانت النص.

-        تاكله كله. أنا ياما كلت منه.

-        طيب. أسيب لك حبتين بس.

كان يضحك ويهز قدميه مغتبطاً، وبعد أن انتهى قال:

-        ارم المنديل. بقع التوت. لو شافته العجوز موش حانخلص من لسانها.

ومد يده يحاول أن يلمس فرع الشجرة، واختل توازنه، وأمسك به زغلول.

قال الحاج: يا سلام لو نيجى هنا تانى. ونجيب معانا حاجة ناكلها وملاية نفرشهـا نقعد عليها. آه والله، وان كان على ركوب البغل تحط حجرين فوق بعض وأقف عليهم وأسند للشجرة، وفين كتفك يا زغلول، وهوب أبقى فوق البغل.

قال له يوماً: أشوف الناس يا زغلول.

وخرجا.

قاد زغلول البغل من رقبته إلى شارع السوق، وكان فى زحامه العادي.

قال الحاج: المحلات كترت. فى أيامي ماكنش فى الشارع غير دكان الخياط. راح فين؟

-        بعد مصطبتين.

-        آه. هوه. بس الخياط واحد تانى.

-        الأسطى سليمان تعيش انت. ده ابنه.

-        كان يفصل لى الجلابيب، وبعدها القمصان، ولا واحد منها كان مضبوط. وكنت أسمع أن نظره على قده، ومحل عصير، وحـلواني، ومخبز أفر نجى، البلد كبرت.

انفجرت صيحة: حاج عبد الرحيم.

ورأى زغلول رجلاً يهرول ناحيتهما.

الحاج يحدق فى الرجل المقبل، ويرتفع صوته:

-        معقول. عطوة. معقول. عرفتك زى ماعرفتنى.

رمى عطوة نفسه فى حضن الحاج وهو فوق البغل، بعدها سحب البغل إلى مدخل شارع جانبي:

-        دكانى يا حاج. تقعد شوية ونتكلم.

محل فكهاني. أقفاص مرصوصة على جانبيه، أخرج ولد فى المحل دكة إلى الخارج، ونفض عطوة الفرشة. قال الحاج:

-        أخاف يا عطوة أنزل. ما أقدرش أركب تانى. ماعندكش عتبة عالية.

-        أشيلك بنفسى.

وساعده فى النزول والجلوس على الدكة.

-        والله زمان يا حاج. كان نفسى أشوفك. حا أقول لك. الأول حبة مانجة. لا أبيعهـا للزبائن. إنما للحبايب.

هرول إلى الداخل، غسل حبة مانجو جاء بها من قفص كان مخفياً فى الركن تحت أقفاص فارغة، وصاح بالولد:

-        اجر. اشتر فوطة من الدكان جنبنا.

وقال الحاج: معايا منديل.

-        فوطة يا حاج. وجديدة.

سحب مقعداً واطئاً وجلس أمام الحاج:

-        أقول لك الحق. كل ما أفكر أزورك. أقول دى سنين يا عطوة. حايفتكرك. وأنا فين وهو فين. وتبقى صعبة قوى يا حاج على الواحد بعد السنين الحلوة اللى شفناها سوا انك ما تفتكرنيش.

هش ذباباً يحلق قرب الحاج:

-        آه. أيام. ما أنسهاش أبداً. وأوقات أفتكر حاجات كنا بنعملها وأضحك. وأستغرب ازاى كنا بنعمل كده. أشقى ولدين فى البلد. انت تخطط والتنفيذ سوا. فاكر لما سرقنا جنينة المرحوم والدك. وكانت أشجار مانجة. طول عمرك تحبها. وأبوك عرف. الخفير قال له. والعلقة السخنة اللى انت كلتها. وأنا سمعت صراخك واختفيت. لا فى بيتنا ولا غير بيتنا. نايم قايم فى الجامع. يومين ما يشوفنى حد. والخفير اللى كشفنا لغاية ما مات ما يعرفش الحجر اللى فتح دماغه جاله منين. وكان يشوفنا مع بعض. يبص لنا. ويبان عليه أنه عارف إن احنا اللى عملناها. وانت موش مكفيك الحجر. عايز تحط له ثعبان فى ظهره من ياقة الجلابية وهو نايم فى الجنينة. وفين وفين لغاية ما خليتك ترجع عنها. كنت غاوى تصيد الثعابين. تمسكها من تحت راسها وتخبى الواحد منها ورا ظهرك. يبقى شوية ناس واقفة. وتقف معاهم، وبعدين تمد ايدك بالثعبان، والناس تصرخ وتجرى، حتى الرجالة كانت تجرى.

ويحكى عطوة ويحكى. والحاج غارق فى الضحك، يمسك صدره ويغمغم:

-        بس يا عطوة. صدري.

-        خلاص يا حاج حاسكت. سلامتك.

ويسكت قليلاً ثم يقول:

-        طب واحدة كمان وبس. فاكر نبوية وصاحبها. كان اسمه، اسمه، نسيت.

وقال الحاج: منصور

-        آه منصور. ما انت فاكر آهه. ابن الكلب. جوزها بيحش البرسيم فى الحوض، ومنصور مستنيها تحت الجميزة عند الساقية العطلانة. هى قاعدة على شط الحوض تبص لجوزها شوية وللجميزة شوية. وبعدين قامت. قالت لجوزها اللى قالته، ومشت للجميزة، وصاحبنا منصور قاعد يلاعب بتاعه عشان يبقى جاهز، واحنا فوق الشجرة، كنا شفناهم مرة من بعيد وعرفنا الحكاية، ولبدنا بين فروع الجميزة. وهى وصلت، ومن غير ما تقول كلمة خلعت لباسها ورمته، ومدّدتْ على كومة القش وشلحت وفتحتْ رجليها، وصاحبنا شمر الجلابية ونزّل لباسه وبرك فوقها، وانت مديت رأسك وعايز ترميها بحبة جميز. وأنا مسكت ايدك، ماتعرف صوت الفروع، ولاّ صوت ورق الشجر، هى فتحت عنيها لفـوق وشافتنا، وعنينا فى عنيها، وفين وفين لما رجع لها نفّسها ورقعت بالصوت، وصاحبنا نط من فوقها وأخدها جـرى، يقع ويجرى، ويقع تانى، اللباس نازل على رجليه، مالحقش يرفعه، وكان بيعاكسه فى الجرى، وهى زحفت بظهرها بعيد عن القش وجريت وراه. آه. كان يوم. ونزلنا. وانت أبداً. وصلنا لجوزها فى حوض البرسيم، وتقول له:

-        سلام عليكم.

والرجل رفع رأسه ورد السلام، وانت ترمى اللباس فى وشه ونجرى. آه. كل ما أفتكر سلام عليكم أموت من الضحك. هى قالت له إيه؟ الله أعلم. المهم مافيش حـاجة حصلت لها. على ما سمعت قطعتْ الخلفة بس. عندها ولدان. كفاية.

الحاج يلهث من الضحك، يجفف عينيه الدامعتين، ويشير بيده لعطوة أن يسكت.

وسكت عطوة.

خرجا بعد أن هدأ صدر الحاج، حمله عطوة بمساعدة زغلول ووضعاه على ظهر البغل.

استلقى الحاج على السرير. تنهد وقال:

-        آه يا زغلول. ادينى أشرب.

شرب وتمدد، ينظر إلى ركن السقف كما اعتاد:

-        آه يا زغلول. أما يومين. الواحد حتى لو مات كده مايزعلش.

وقد كان.

مات فى اليوم التالى. وكان قد أرسل زغلول فى مشوار إلى معمل الجبن، ولدى عودته وجد زحاماً من الجيران فى حوش البيت، ولمح عطوة مقرفصاً فى ركن ينهنه ويداه حول رأسه، مشى متجهاً إلى حجرة الحاج، وشعر بيد تمسك ذراعه. العجوز. همست:

-        على فين؟

-        أشوفه.

-        شافتك العافية. تعال.

وسحبته باتجاه الباب، وربتت خفيفاً على ظهره:

-        مع السلامة.

وخرج.

*  *  *

الزوجة..      

سكينة فى قعدتها على المصطبة، ضاقت من انتظار طلعة النهار، الشمس بانت والناس مازالوا نياماً، ولا دبة قدم واحدة فى الحارة، هى لا تستطيع أن تنتظر، مغص الجوع خفت وطأته، يشتد فى البداية، مثل ما يجرى فى شهر الصوم، تتحمل الأيام الأولى فى صعوبة، وجع البطن ودوخة، يومان أو ثلاثة وتروح الأوجاع، الواحد وما يتعود، وأكثر أيام رمضان تصومها دون سحور، ما يقلقها الولد الكبير، الصغير من نظرة واحدة تعرف ما يعانيه، وحتى من غير نظرة، كلما قرصة الجوع لبد فيها، تتحرك وهو يكاد يلتصق بها، وعندما يراها تقعد يحوم حولها ثم يتمدد ورأسه على ساقها، الكبير احتارت معه، من شهور ووجهه يتلون، يوم ذابل، ويوم يسترد عافيته، ما عاد يقترب منها ويتمسح فيها حين يشتد به الجوع كما كان يفعل. وفى قعدته يشرد، تناديه مرتين أو ثلاث إلى أن ينتبه لها، وأوقات وهو فى شروده يسيل اللعاب من ركن فمه، وتقول ربما عنده ديدان فى بطنه، ولو كان ظنها صحيحاً لن يصبر على الجوع، الديدان حين لا تجد ما تأكله تنهش مصارينه. وزغلول فى دنيا أخرى، والكلام معه لا يفيد، هو فى قعدته بالطرف الآخر من المصطبة كف عن تسليك أسنانه، والآن يمص عود القش.

سمعت صرير باب، تعرف الصوت ومن أين يأتي، البيت الكبير، فى هذا الوقت الباكر تحضر البنتان، كبيرتان بما يكفى للعمل فى البيت. لا تعرفهما، تعيشان فى الطرف الآخر من البلدة، تراهما لحظة دخولهما وتسمع ضحكتهما ثم يغلق الباب.

لا يبعد البيت الكبير كثيراً عن بيتها. ثلاثين خطوة، وحوله خلاء واسع أوقف زحف بيوت الأهالي الصغيرة باتجاهه، كما لو أن هناك خطاً غير مرئي لا يجوز أن تتخطاه، برضاها أو رغماً عنها لا أحد يعرف، ويقال أن الحاج هاشم صاحب البيت الكبير يملك الأرض الخلاء، اشتراها يوم اشترى أرض البيت، قطعة واحدة، شيد البيت وسطها. ومن وقت لآخر يأتي من يكنس الخلاء ويرشه بالماء.

أصحاب البيوت الصغيرة يزهون بالاقتراب منه، تزاحموا فى الصفوف الأولى دون أن يتركوا فراغاً كافياً بين البيوت، مجرد ممرات ضيقة يسع الواحد منها الحمار لو رفع راكبه ساقيه فوقه، يتمتعون بالخلاء والنسمة الطرية التى تأتى منه حتى فى عز الصيف، كما يسمح لهم موقعهم الأمامي بمشاهدة زوار البيت الكبير من أهل المدن، أحياناً سيارات، وحناطير إذا جاءوا من المراكز القريبة، والنساء تلبسن فساتين قصيرة وأحذية بكعب ورؤوسهن عارية من غير طرحة، ويتصادف أن تهب نسمة قوية فتتطاير شعورهن وتنتفخ الفساتين من تحت فتتعرى أفخاذهن ويعلو صياحهن، ويحاولن لمها حول أجسادهن.

بيت سكينة فى الوسط، اختارت مكاناً على المصطبة لقعدتها حيث يتخذ الفراغ فى الصفوف الأولى من البيوت خطاً مستقيماً يإمتداد بصرها، فترى واجهة البيت الكبير، والباب، والداخل والخارج.

البيت بلون وردى، اللون الذى تستريح له سكينة عن أي لون آخر، وتمنت أن يكون لها لباس منه، وفى بالها عندما يتوفر قرشان فى يدها أن تشترى القماش وتفصله.

رأت سكينة البيت عندما كان دواراً واحداً وعلى جانبيه صفان من أشجار الكافور العالية، ثم تتكاثف فى الخلاء وراءه. الآن أصبح دورين، الدور الثاني لم يأخذ وقتاً طويلاً فى بنائه، بدا مهيباً بعد أن أكتمل، لونها الوردي الذي تحبه كان زاهياً فى الفضاء لا يحجبه شيء عن عينيها، ويحلو لها ساعة المغربية أن تنظر إليه وظلال أشجار الكافور تتحرك فوقه.

انتظرت بعد أن انتهى بناؤه أن ترى وجوهاً فى شرفته الكبيرة أو نوافذه العريضة الخضراء ولم تر أحداً، وتمضى الأيام والشهور ولا أحد. ظل خالياً. هم فى البيت الكبير على ما يبدو اعتادوا المعيشة بالدور الأرضي، حتى البنتان والولد، والذى أضيف الدور الثاني لإقامتهم حين يأتون فى الأجازات، كانوا يفضلون حجراتهم التى عرفوها من صغرهم.

ما تعرفه عن البيت عرفته بالسمع. حوش كبير أرضه مدكوكة على جانبيه خمس حجرات. حجرة الخزين، وحجرة للولد، هو لم يعد ولداً، يعمل مهندساً، وتزوج ويقيم فى احدى المدن على مسافة مائتي كيلو متر، وحجرة لكل من البنتين، هما أيضاً تزوجتا، واحدة طبيبة والأخرى مدرسة فى الثانوي، والأثنتان تقيمان فى مدينتين مختلفتين، الحجرة الخامسة للست الكبيرة. الحوش يفتح عن طريق ممر صغير على صالة واسعة لقعدة الزوار، أرضها من البلاط الملون وبطرفها المنحنى حجرة الحاج.

من دخلن البيت يحكين ما رأينه من فرش ومقاعد ودواليب وسراير من النحاس، ولا يحكين عن أهله. بائعة البيض. وتاجرة القماش التى تأتى بطلبات خاصة للست الكبيرة، وأم خالد أيضاً، تقوم بخدمات لنسوان الأعيان والموظفين، تنظف أجسادهن من الشعر، تظهر أمام البيت الكبير حين تأتى بنتا الحاج وزوجة الأبن فى أجازة.

ودت سكينة أن تدخل البيت وترى بعينيها ما سمعت به، وفكرت فى ألف سبب، وكل مرة تكون فى الخلاء تذهب وتأتى أمام الباب المغلق، وحاولت مع البنتين اللتين تعملان هناك، اعترضت طريقهما أكثر من مرة أثناء عودتهما، وفتحت معهما الكلام، والبنتان تتمهلان قليلاً، وتنظران إليها وتواصلان طريقهما دون أن تردا عليها، وبعدها كانتا حين تلمحانها مقبلة عليهما تدخلان أول حارة تقابلهما وهما تضجان بالضحك.

واحدة منهما تخرج كل يومين أو ثلاثة فى الضحى وبيدها رابطة كبيرة، سكينة تعرف الرابطة، رأتها أكثر من مرة، خرقة ممتلئة بالكراكيب، وتتعجب من كثرة ما يرمونه، تمضى البنت بالربطة إلى كومة هدم خارج الخلاء وتفرغ الرابطة، وتعود والخرقة بيدها، وتكون سكينة نادت على ابنها الصغير، وما أن تدخل البنت البيت وتغلق الباب حتى تطلقه إلى كومة الهدم:

-        بص كده. رموا إيه النهاردة.

ويمضى الولد، ويعود بزجاجات وبرطمانات فارغة، وحين تتجمع كمية منها ترسله بها إلى السوق، هناك دائماً من يشتريها.

ويوماً رجع من تفتيش الكراكيب ومعه مكحلة خالية، كان شكلها جميلاً لم تر مثلها من قبل، احتارت أن تبيعها أو تحتفظ بها. هى لا تتكحل، وخطر لها أن تعيدها للبيت الكبير، لابد أنها سقطت سهواً وسط الكراكيب. الخاطر يلح عليها، لفت الطرحة حول رأسها وذهبت، فتحت واحدة من البنتين الباب، الأخرى جاءت متمهلة، مدت سكينة رأسها ونظرت مبهورة إلى الداخل، أشياء كثيرة هنا وهناك، لا تستطيع فى نظرة خاطفة أن تلم بها، وانتبهت على سؤال البنت عما تريده؟

قالت سكينة أنها تريد أن ترى الست هانم.

-        وعايزاها فى إيه؟

-        عايزاها فى حاجة.

مالت رأس البنت جانباً، وبانت فى عينيها نظرة غير مريحة. قالت:

-        حاجة إيه؟

وسكينة لا تريد أن تعادى البنتين، فتحت قبضتها عن المكحلة وقالت:

-        كانت بين الكراكيب.

-        آه. ما أنا اللى رميتها. مخرومة.

-        رمتيها؟ افتكرت راحت غلط. طيب.

وعادت بنظراتها إلى داخل الحوش، ولم تمهلها البنت، قالت بغلظة:

-        انت بقى اللى بتفتشى الكراكيب كل مرة.

-        أبداً. ولا بشوفها. هى المرة اللى كنت هناك وشفت المكحلة.

أغلق الباب وراءها. غير أن البنت كشفت نفسها، لابد أنها توصى أحداً من بيتها ليقلب فى الكراكيب، وعندما يذهب لا يجد ما يستحق، يسبقه دائماً ابن سكينة، البنتان تخرجان دائماً وأيديهما فارغة، لا تريدان أن تحملا معهما شيئاً حتى لو كان مكسوراً أو عديم الفائدة، فقد يظن أحد فى البيت أنهما تخفيان شيئاً ذا قيمة، فكرت سكينة وفكرت، ما أسهل أن يدسا بين الكراكيب ما ترغبان فيه، ستنبه على ابنها أن يفتشها مرتين وثلاث، وربما راحت إليها بنفسها، وكانت على يقين من أن المكحلة سليمة، وفى البيت ملأتها بالماء، ورأت غير مصدقة الماء ينبثق من خرم بها.

-        طيب. حتى لو مخرومة. نسد الخرم بأى حاجة.

ورمتها فى ركن الحوش بين أشياء أخرى.

ويوماً كانت فى مشيتها هناك، ولمحت الباب مفتوحاً، أسرعت ودخلت، فوجئت بعد أن تخطت العتبة بالأبنة الكبيرة، المُدرسة، عرفت أنها هى مما سمعته عنها، طويلة، شديدة النحول، جلد على عظم، ولا صدر، حبتا ليمون صغيرتان، ووجهها ممصوص، تلبس الروب فوق جلباب البيت، اضطربت سكينة من نظرتها. قالت:

-        الباب مفتوح. قلت. أى خدمة يا ست هانم.

نظرت الأبنة إلى البنتين متسائلة، قالت واحدة منهما:

-        ساكنة هناك.

وأشارت نحو البيوت.

وقالت الأبنة: كتر خيرك.

سكينة ظلت واقفة كأنما صعب عليها أن تغادر بعد أن دخلت، عدلت من وضع الطرحة حول رأسها، كانت تنظر إليهن ويبادلنها النظرات، استدارت فى بطء، توقعت أثناء خروجها أن تسمع من يناديها، ولم تسمع غير صوت إغلاق الباب، وقالت لنفسها:

-        دايماً كده، يقفلوه.

لم تتوقف محاولاتها، تحوم حوله، عندما يتوافر العيش بقفص الجريد عقب الخبيز، والكل شبعان، تخطف رجلها إلى هناك، تمشى قليلاً بين شجر الكافور، وتزيح بقدمها أوراق الشجر الجافة.

-        ولا حد يكنسه.

وترمق الدور الثاني ونوافذه الخضراء المغلقة:

-        الواحد فوق يشوف البلد كلها، غير الهوا اللى يرد الروح، ويسيبوه كده فاضى.

وتجمع أغصاناً صغيرة متساقطة ترمى بها جانباً، وتعود إلى بيتها.

ويوماً رأت الباب مفتوحاً، ترددت، الأبنة الكبيرة وسافرت، ظلت فى ترددها ومشيتها المتمهلة، أصوات عالية تأتى من الداخل، وضحكات البنتين، غمغمت:

-        هوه فيه إيه؟

مرت أمام الباب ونظرت، ما رأته جعلها تزيح الطرحة عن رأسها وتندفع إلى الداخل وكلامها يسبقها:

-        عنك انت وهى، رجل البوفيه كده تنكسر.

البنتان تزيحان البوفيه الثقيل من مكانه، تحاولان نقله إلى ركن الحوش، والست الكبيرة واقفة ملتفه بروبها وشعرها الرمادي عقدته من الخلف بشريط أسود، وجهها هزيل تشوبه صفرة خفيفة.

سكينة فى اندفاعها لمست بالكتف مصباحاً مطفأ كان على طاولة قريبة، ترنح المصباح وكاد يسقط، لحقت يدها به، غير أن بنورته هوت وأحدث تهشمها صوتاً.

انحنت سكينة قائلة:

-        خليك بعيد يا ست هانم. خليك بعيد.

راحت بكفها تكنس الزجاج المتناثر وتكومه، القطع المدببة جرحت يدهـا وسالت منها قطرة دم، رمقتها خطفاً واستمرت تلم الزجاج ثم جرفته إلى حجرها، رفعت ذيل جلبابها وقالت:

-        دقيقة أرميه.

خرجت. أفرغت حجرها بجوار الحائط، وكانت تنفضه حين سمعت صوت الباب يغلق، استدارت ونظرت نحو الباب غير فاهمة:

-        مفيش وراهم غير قفل الباب.

بعدها خاصمت البيت الكبير، لم تعد تذهب إلى هناك، ولا ترقب بابه، واستمر خصامها لأكثر من شهر حتى جاء يوم سَفّرْ الخزين.

كانت تكنس الحوش وسمعت ضجة السيارات تدخل الخلاء. قالت:

-        زغلول. الخزين يا زغلول.

وجاء زغلول من رقدته فى المندرة، انحنى فى وقفته على المصطبة حتى استطاع أن يلتقط خطاً مستقيماً من الفراغات بين البيوت، ورأى العربات الثلاث نصف النقل تقف وراء بعضها أمام باب البيت الكبير.

سكينة أخذت قعدتها وقالت:

-        هى نفس العربيات.

وزغلول عاد إلى الحوش، وسحب رغيفين كاملين من قفص الجريد، وتربع فى المكان الذى اختبر الرؤية منه، ووضع الرغيفين فى حجره، وسكينة رأت الرغيفين ولم تبرطم كعادتها:

-        ماكفاية رغيف. الأولاد.

انتظر حتى ابتعدت نظراتها عن الرغيفين، وامتدت يده وكسر واحداً فى رفق فكتم صوت الكسر، خشى أن يسأل عن غموس ولم يبرد بعد أثر سحبه للرغيفين. هى قالت من نفسها:

-        فيه حتة خيار مخلل. تلاقيها فى الشباك.

قفز رافعاً حجره بالعيش، حفرة صغيرة مربعة فى جدار الحوش مغلقة بباب من الخشب، فتحه وأخذ المخلل وكان ملفوفاً فى ورقة، وتحسس جوف الحفرة، أحياناً يكون به طبق فيه لحسة عسل أسود تخفيها للولدين، لمست يده ورقة أخرى بها فتات جبن نشفت أخذها أيضاً، وورقة ثالثة بها قليل من السكر المخلوط بالشاي، أعادها للحفرة. تحفظها لتعمل له كوب شاي حين لا تكون فى غضبها.

عاد لقعدته بجوارها. المرة السادسة التى يشاهدان فيها سفر الخزين. كل أربعة أو خمسة شهور تسافر العربات الثلاث محملة إلى الولد والبنتين كلُ فى مدينته. هو يعرف الكثير عما تحمله العربات، تصادف مرة وكان يمر من هناك أن ساعد فى تحميلها.

رأيا العربة الأولى وقد أنزلوا جوانبها الثلاث.

وقالت سكينة: تقول العربية دى لمين من الأولاد؟

-        نشوف الحاجة اللى حاتشيلها الأول. وكله زى بعضه.

-        لأ. الولد بيفرق. فاكر؟ العسل الأبيض أكثر من البنتين، والحمام. شايف قفص الحمام؟. أول حاجة يحطوها فى العربية.

-        يبقى دى عربية ابنه. عايز يشد حيله.

-        طب وانت يا زغلول. عمرك ما أكلت حمام وحيلك مشدود على الآخر.

ومالت وضربته خفيفاً على كتفه. قال زغلول:

-        وقفص بط. وفراخ. يا قوة الله. المرة دى قفص سمان.

-        وعرفته ازاى؟

-        شفته مرة، أصغر من الحمام.

-        وأكلت منه؟

-        أبداً. اللى أكلوه بيحكوا. لحمه ناعم وحلو. وبيعمل فى الراجل عمايل.

مالت قليلاً نحوه: بيعمل إيه؟

-        وأقول لك ليه. كفاية اللى عندك.

-        والنبي تقول لي.

-        بيقولوا الواحد ما يقمش عن الواحدة طول الليل.

-        طب ما انت يا أخويا من غير سمان ..

ودفعته خفيفاً من كتفه. وقال زغلول:

-        وصفيحة الجبن. والعسل الأبيض. والعسل الأسود. كل واحد شايل صفيحة على كتفه. ويوم ما ساعدتهم شيلونى الصفيحتين. وزلعة السمن. والزبدة.

-        وياكلوا الحاجات دى كلها. ده كام شهر. أربعة؟

-        هم وحبايبهم هناك. ودى صفيحة إيه؟ يمكن جبنة قديمة. وقفص مانجة. وجوافة، وقفص إيه ده يا سكينة؟ حاجة ما أعرفهاش.

-        ولا أنا أعرفها.

-        وقفص جواه قش. دا البيض.

-        وشوال الرز أهه. المرة اللى فاتت جابوه فى الأول. وشيكارة العدس. والفول المدشوش. الشيكارة مخروقة، والفول بيقع. كنت حاسة أنه الفول.

-        وقع كتير. طبعاً يرجعوا. الكيس. حايخيطوه، واحد بيلم اللى وقع فى حجره، حايحطه فى الكيس.

-        ويعملوا إيه هناك بالفول المدشوش.

-        بصارة. أهل البندر على ما أسمع يحبوها قوى.

-        ويعرفوا يعملوها.

-        عندهم بنت أخذوها من البلد.

-        والله وفكرونى. نفسى أعملها. آخر مرة كانت من سنة. ويومها أكلت لوحـدك طبقين.

-        شفتى العربيتين بتوع البنتين؟ ولا قفص حمام. ولا سمان. يبقى الحاج موش راضى عن الراجلين.

-        ويمكن موش راضى عن البنتين.

-        أه يا سكينة. كل ده يطلع منك.

-        أنا كنت قطة مغمضة لغاية ما عرفتك.

وتركت رأسها تسقط على كتفه. مد يده داخل جلبابها، همست:

-        ايدك سخنة.

تسللت يدها تحت جلبابه، وحكت وجهها بذراعه:

-        قال سمان قال. ييجوا يشوفوا.

تساندا ودخلا البيت.

*  *  *

ماتت الست الكبيرة ذات صباح، وتصاعد الصراخ من هناك، وفى لحظات تزاحم الكثيرون فى البيت وخارجه، والباب مفتوح على سعته، رجال ونساء بملابس سوداء. وسيارات تفرغ حمولتها من المعارف والأقارب وتبتعد.

سكينة واقفة على المصطبة مع زغلول. قالت:

-        أول ما شفتها. الموت كان باين عليها.

بحث زغلول عن جلبابه ونفضه. قال:

-        خيطى القطع اللى فى الجنب.

-        حاتروح هناك؟

-        آهو.

-        أجيب فتلة.

سارت إلى البيت المجاور، عادت بعد قليل والخيط ملفوف على إصبعها.

مضى إلى البيت الكبير.

هى فى وقفتها تنظر إلى ما يجرى هناك. الدور الثاني فتحت نوافذه، امرأة تنفض عنها الغبار، البنتان لا أثر لهما، لابد أنهما مشغولتان فى الدور الأرضي. صحيح من يرعى البيت بعدها؟ دخلت عربات الكارو تحمل قماش السرادق وعروق الخشب والمقاعد، بحثت عن زوجها ولم تره، قعدت.

عاد زغلول فى وقت متأخر من الليل. سكينة فى قعدتها على المصطبة ورأسها مائل على الجدار، وفى عز النوم. صحت على حضوره:

-        خلاص؟

-        خلاص إيه؟

-        المعزى؟

-        من ساعة زمن.

-        ودخلت البيت؟

-        ودخلت وخرجت. ودخلت وخرجت.

-        وكلهم هناك؟

-        كلهم مين؟

-        أولادها.

-        البنتان هناك. الولد ييجى بكره.

-        والمعزى كان مليان؟

-        على الآخر. ورصينا ثلاثين كرسي فى الخلا، وبرضه كام واحد كانوا واقفين. وأنا كنت جنب الباب ولقيت اللى بتشاور لى. رحت لها. يظهر أنها البنت الكبيرة.

-        ناشفة؟

-        آه. شيلتنى كراسي السفرة، وخرجت بها للواقفين، ست كراسي. وبرضه اثنان لسه واقفين. دخلت وراها، وسحبت كرسيين بيسموها فوتيه. طول الوقت قاعدة على شلته جنب الباب، قالت خليك قريب منى. وروح وتعالى. حاضر. دوارق ميه. وكبايات. وطفايات سجاير. وأربع ترابيزات صغيرة، كانوا بيطلبوها. وخلى بالك من الحاجات دى، ترجعها بنفسك. حاضر. وإنت اسمك إيه؟. زغلول. خد يا زغلول. ومدت إيدها بعلبة سجاير. وأنا رفضت، خدها يا زغلول دى منى. آه والله قالتها. وبعدها تسألني كنت تعرف المرحومة؟. وقالت كلمة المرحومة وهات يا عياط، وأنا وقفت ساكت. ماكنتش أعرف المرحومة ولا شفتها، ولما سألتني بعدهـا: كنت تعرفها؟ قلت هو فيه حد مايعرفهاش. ست طيبة، وكانت كلمتها حلوة وتسألني دايماً عن حالي والأولاد. وتسمع كلامي وتعيط وتقول طول عمرها كانت تحب كل الناس.

وسكتت. وقعدت تبص للمعزى، المعزى له فتحتان. واحدة على الخلا للمعزيين، يدخلوا ويخرجوا، وفتحة أصغر شوية تبص على باب البيت للقهوجي وصبيانه، نصبته وحاجته جنب الجدار، وهى من الفتحة دى شايفة أكتر المعزيين والمقرىء كمان.

وسألتني إن كنت سمعته؟

-        بيقولوا كويس.

-        جبناه من البندر. بيشكروا فيه.

-        أول مرة ييجى البلد.

-        أصل سعره غالى قوى.

وسكتت، وأنا وقفت ساكت، كانت ساندة رأسها لحلق الباب. بعد كده حصلت حكاية إنما عجب.

وسكينة قالت: حكاية إيه؟

-        آهو.

-        احك يا زغلول. أنا دايماً أقول لك كل حاجة.

وحكى زغلول:

قال إنها كانت قاعدة جنب الباب ساكتة.

بعد شوية سألته: شايف الأستاذ اللى فى وشى على طول؟

بصيت، واحد لابس بدلة، وشه مليان، وحليوة، وشنبه رفيع قوى، زى فتلة على شفته، وعينه فى الأرض. وهى سألت:

-        شفته؟

-        آه. هناك. وجنب ايده اليمين ترابيزة صغيرة.

وسألت تانى: عليها صينية فوقها فنجال قهوة. موش برضه فنجال قهوة؟

-        آه. فنجال.

-        تروح له. تعمل أنك بتشيل الصينية وقل له فى ودنه الست وداد عايزاك.

-        وفين الست وداد؟

-        أنا.

بصيت لها. وهى بصت لى. وقالت:

-        خلى بالك وانت بتوشوشه. نَفَسك يبقى بعيد عنه. ما يحبش النفس ييجى عليه.

وعملت زى ما قالت. والأفندي رجع بوشه بعيد. ولونه تغير. يبص لى وساكت. وبان أن مزاجه تعكر. وقام مرة واحدة:

-        تعال.

وخرجت وراه. أخذني لظهر المعزى. وقف وبص لى تانى. زى ما يكون محتار يقـول إيه.

-        اسمع.

وسكت.

يده فى جيبه بتتحرك. وصابعه بينقر صدري:

-        قل لها.

وسكت. وبعدين قال:

-        قل لها خلاص. الحكاية وانتهت. سامع؟

-        سامع يا أفندي. إنما برضه كنت انت اللى تقول لها.

وكف نزلت على صدغي. وأنا رجعت خطوة.

-        اعمل اللى بقول لك عليه. أو ماتعملش. والمعزى وموش قاعده.

ومشى فى الخلا، وأنا وقفت لغاية ما راح بعيد ورجعت.

هى فى قعدتها بصت لى. وبان عليها أنها فهمت من غير ما أقول كلمة. فضلت ساكتة. وأنا سكت، بعد شوية سألت:

-        مشى؟

-        آه. مشى.

-        فهم غلط.

بتبص للمعزى ورأسها على حلق الباب.

-        كنت بس حا أسأله عن أولاده. وأسمعه يعزيني.

وسكتت، وشوية وقالت:

-        كان خطيبي من سنين. الاسم خطيبي. كنا قرأنا الفاتحة. اللى حصل.

وزى ما يكون ضايقها أنها تكلمت معاى وقالت اللى قالته. بصت لى. وعنيها راح منها العياط. وطيب يا زغلول كتر خيرك. روح انت ليكونوا عايزينك فى حاجة.

وسبتها فى قعدتها ومشيت.

سكينة بعد أن سمعت، أخذت نفساً طويلاً وقالت:

-        أما حكاية يا زغلول. وفى المعزى.

-        الموت بيقلّب المواجع.

ورأته ينهض، وسألته:

-        وعلبة السجاير. فتحتها؟

-        لسه بقفلتها.

-        بيعها يا زغلول. انت بتدخن دلع.

-        موش حابيعها. الواحد كل يومين تلاته ياخد منها سيجارة. وبعدين يا سكينة حد يديك حاجة وتبعيها؟

-        ويجرى إيه؟

دخل المندرة وتمدد فى الفرشة. وهى بقيت على المصطبة تنظر للبيت الكبيـر يتلألأ بالأضواء، وتغالب النعاس.

أيام وعاد كل شيء إلى ما كان عليه. رجال جاءوا وكنسوا الخلاء، ونسوة نظفن البيت، رأت سكينة خيالاتهن بنوافذ الدور الثاني، ثم أغلقت النوافذ. ترى الابنة الكبيرة تطل من الباب، وأحياناً تقف به ملتفة بروبها وشال على كتفيها تنظر حولها وإلى قمم أشجار الكافور ثم تدخل وتغلق الباب.

أسبوعان ورحلت، رأتها سكينة يوم ركبت السيارة الأجرة هى وولديها، والبنتان ظهرتا أخيراً، وقفتا بالباب حتى تحركت السيارة ثم دخلتا وأغلق الباب.

ومن يرعى البيت؟ والحاج هاشم وهو على ما يبدو صاحب مرض، رأته مرة، كانت عائدة من الخلاء ولمحته قادماً، ضخماً وبيده عصا يستند إليها فى مشيته المتمهلة. اختلست النظر إليه، لا يراها هى أو غيرها. شارد النظرات، ولون وجهه الرمادي، وقالت إن أوجاعه ثقيلة. وسبحان الله رحلت زوجته قبله، وهى حين سمعت الصراخ ظنته هو، والبنتان؟ أيمكنهما؟ والرجل يريد من يرعاه، والبيت واسع، حوش وصالة وحجرات كثيرة لا تعرف عددها، كنس ومسح وغسيل وطبخ وخبيز، لا يهم الخبيز، تستطيعان أن تشتريا العيش الجاهز من فرن عباس، عيش ميرى إن كان الحاج يحبه، أو تكلفا أحداً بالخبيز.

سكينة مشغولة البال، لا يستريح رأسها من التفكير، وطالت قعدتها على المصطبة، ولاحظت أن البنت لم تعد تخرج بالربطة لتفرغها على كومة الهدم، وكل منهما كانت تحمل لفة تحت إبطها لدى خروجهما من البيت وقت المغرب، وتغلقان الباب بالمفتاح، الحاج على ما يبدو يكتفي بباب الخروج من ناحيته المفتوح على صالة الزوار. هو هناك وحده طول الليل، وإن تعب من يساعده؟

ذات صباح انطلقت سكينة إلى البيت الكبير، هناك أمور لا يمكن السكات عنها، وعليها هى دون غيرها لكثرة ما راقبت وفهمت أن تنبه البنتين إلى ما يجب عمله، لا يصح أبداً أن يترك البيت هكذا.

رأت الباب موارباً، دفعته ونظرت. رأت البنتين قاعدتين على فرشة بالحوش، قالت واحدة منهما:

-        ادخلى يا خالة سكينة.

وتعرفان اسمها !

طار كل ما كان فى رأسها من كلام تنوى أن تقوله، وثمة شك خفيف كان يراودها فى أنها تستطيع أن تقول أى كلام.

البنتان تقعدان براحتهما وسيقانهما ممدودة، تتناولان فطورهما على ما يبدو.

-        اقعدى يا خالة.

قعدت على الأرض حيث أشارتا، أمامهما عيش طرى وجبن وعسل أسود مخلوط بالطحينة وبيض مقلي، صفاره متماسك، ست بيضات. بخار خفيف يتصاعد منه.

قالت واحدة منهما: فطرت يا خالة؟

-        الحمد لله.

تتحاشى النظر إليهما.

-        مدى ايدك.

فهمت أنهما يريدان أن تشاركهما الأكل، كادت تتحرك نحوهما حين لمحت الذراع ممدودة إليها برغيف فوقه قطعة جبن، وأخذته.

تأكل فى صمت، هى مأخوذة، تحيرها مقابلتهما لها وما تراه من مودة وان كانت فاترة.

فرغت البنتان من الأكل، وقالت واحدة منهما:

-        ولعي على الشاي يا خالة. الوابور والبراد وراك. وبعد الشاي نتكلم.

أراحتا ظهريهما للمسندين وراءهما.

-        خدى الصينية، حطيها على النملية.

أثناء عملها الشاي عرفت من كلامهما أن البنت ذات الصدر الكبير اسمها زبيدة والأخرى زهرة، ولم تسمع أو تر فى كلامهما أو حركاتهما ما يعيب.

عادت بصينية الشاي إليهما، ومدت يدها بكوب الشاي إلى زبيدة التى قالت:

-        لأ يا خالة. كل كوباية يبقى معاها طبقها. الأطباق الصغيرة فى درج النملية.

شربن الشاي.

وقالت زبيدة أن الحاج صحا. سمعت صوت حركته فى الحجرة، ستعد له الفطور وتأخذه إليه:

-        تعال معايا يا زهرة. وانت يا خالة.

سكتت لحظة تنظر حولها، وقالت ان عليها أن تبدأ بالحجرات:

-        هى نظيفة. امسحى بس التراب من على الكراسي والدواليب، واللى تلاقيه. ولما تخلصي قولي. عندك فوطة فى مدخل المطبخ.

 دخلت سكينة أول حجرة قابلتها. توقفت ببابها مأخوذة، السرير بعمدانه النحاسية والداير حولها مزخرف بألوان زرقاء، وناموسية ملمومة، ومقعدان فوتيه كما يقول زغلول، بينهما منضدة صغيرة، ودولاب بست أبواب، وبوفيه كبير على سطحه غبار خفيف، وسمعت صوت البنتين آتياً من ناحية المطبخ، ودت أن تكون معهما لترى ما يعدانه من فطور للحاج، يكلمانها وكأنهما أصحاب البيت، من صغرهما – كما عرفت – وهما به، كانا فى الثامنة، الآن الواحدة منهما لا تقل عن السابعة عشر، معهما حق أن يأمراها، روحي، تعالى، نظفي، سنوات، مهما طال بها الزمن فى البيت لا يحق لهما أن يأمراها، هما مثلها، ما كان يجب عليها أن تسكت، طيب يا سكينة. إن لم يعجبك اخرجي.

استمرت فى مسح الغبار، وكان يتراكم فى الثنايا الضيقة، لا تلمحه عين إلا إذا قصدت أن تراه، استطاعت أن تخرجه بحافة الفوطة.

انتهت من الحجرات سريعاً، ومضت إلى مكانها فى الحوش، سمعت زهرة تقول:

-        ايدك نظيفة يا خالة. حتى عمدان السرير لمعت.

لابد أنها مرت على الحجرات وراءها لترى ما عملته. وقالت زهرة:

-        ودلوقتى. الحوش. تكنسيه وتنفضى الفرشة.

وأشارت إلى الفرشة التى تجلسان عليها، وكانت مغطاة بملاءة.

-        آه. واقلبى الملاية على وشها.

وقالت زبيدة:

-        على فكرة. أنا قلت للحاج أنك معانا فى البيت. تساعدينا.

قالت فى لهفة: وقال إيه؟

-        ماقلش. آهو عرف. عشان لو شافك.

-        وحايشوفنى فين؟

انتهى الكنس، وينتظرها غسيل المواعين، كانت مكومة تحت الحوض، لها أيام كما يبدو بوساختها، والماء لمنتصفها حتى لا تنشف بقايا الأكل بها.

شمرت كميها، ولفت ذيل الجلباب حول وسطها، وقعدت على كرسي واطىء، وجذبت المواعين إليها، وقالت زبيدة:

-        الحاج خارج دلوقتى، وجاى على الغدا، خف ايدك عشان نلحق نطبخ.

أخف ايدى أكتر من كده؟ أشوف أخرتها إيه. رأتهما تقعدان بالفَرشَة وسيقانهما ممدودة، وقدما كل منهما المتعانقة تهتزان مع إيقاع الأغاني التى تسمعانها من راديو بجوارهما.

انتهت من المواعين، واستدارت لغسل الملابس، الطشِت بمدخل الحمام. والغسيل غير كثـير، أشعلت وابور الجاز بجوارها وسخنت الماء.

اكتشفت حين قلبت بيدها فى الغسيل أنها ملابس البنتين، ثلاثة جلابيب لكل منهما، وخمسة غيارات داخلية، أمسكت يدها "كيلوت" عرضه شبر، تلبسه الواحدة فيلصق بها، ومن أين تأتيان بها، ربما تباع الآن فى البلدة، وربما أعطتها لهما ابنتا الحاج.

نشرت الغسيل على حبال بالمنور، وقعدت فى مكانها بالحوش، البنتان تتهـامسان وتضحكان، وقالت زبيدة:

-        لأ يا زهرة. اعملى انت الشاى. الخالة تعبت النهارده.

-        أعمله أنا. مفيش تعب ولا حاجة.

عملت الشاي، وحملت الأكواب والأطباق الصغيرة على صينية وذهبت إليهما.

وكن يشربن الشاي، وقالت زهرة:

-        تعرفى تدبحى يا خالة؟

-        أدبح إيه؟

ضحكت زبيدة: وحاتدبحى إيه؟ فراخ، بط، حمام.

-        عمرى ما عملتها.

-        ماقلتيش يا زهرة ندبح إيه؟

-        والحاج؟

-        سألته. قال أى حاجة.

-        ادبحى الاثنين.

-        بطة وفرختين.

-        آه. ومعاهم بامية. الحاج يحبها.

-        طب يا خالة. خدى بطة وفرختين. البيت فى وشك. أم خليل تدبحهم. ندبح عندها دايماً، وبالمرة نشترى اتنين كيلو سكر ونصف كيلو شاي ناعم، وكيلو بامية ونص طماطم.

أقفاص الدواجن فى حجرة الخزين، سحبت البطة والفرختين، وزبيدة أعطتها ورقة بعشر جنيهات من جيب صغير بصدر الجلباب، وخرجت.

فكرت أن تمر على البيت وتلقى نظرة، ربما لا تجد أحداً فى هذا الوقت، عـادة ما يخرجون. وأين يذهب زغلول؟ نائم. خرج الولدان، وهو أخذها نوم. ويقول انه لا ينام ما يكفيه.

لم تغب طويلاً، وضعت المشتريات أمام البنتين وكانتا فى قعدتهما تستمعان للأغاني، وأخذت الذبائح إلى المطبخ، وضعتها فى طشت، وغلت ماء ودلقته فوقها، وجلست تنتف ريشهما، لمحت البنتين تتهامسان وتكتمان الضحك، ثم عرت كل منهما ساقيها وتحسستهما، وفهمت سكينة ما يجرى:

-        شافونى بانتف، فكرتهم.

نهضت زهرة وجاءت إلى المطبخ، وقفت خلف سكينة وأشعلت وابور الجاز، وفاحت رائحة السكر المحروق، بعدها غادرت المطبخ وبيدها طبق به الحلوى اللزجة، وقصدت أقرب حجرة لها، حجرة البنت الكبيرة، غير أن زبيدة وكانت قادمة أشارت إلى الحجرة التالية، حجرة البنت الأخرى، اختفتا داخلها وأغلقتا الباب.

تنتفان. طيب. الشعر فى سيقانهما، هى لمحته وتعجبت، عندهما الوقت والسكر. فما يمنعهما. ولا تدخلان حجرة البنت الكبيرة، تخافانها حتى فى غيابها.

خرجت البنتان مهرولتين، تحمل كل منهما لفة ملابس تحت إبطها، واتجهتا إلى الحمام، وتعالت ضحكاتهما فى الداخل، بعدها قعدتا بالفَرْشَة تسرحان شعرهما المبتل.

قبل العصر بقليل جاءت زبيدة من المطبخ وكانت تعد الطعام، وقالت إن الحاج وصل.

وحملت زهرة صينية الأكل ودخلت بها. قالت بعد عودتها:

-        ناكل احنا كمان.

وقفت سكينة بالمطبخ لتغسل المواعين بعد الطعام. وقالت زبيدة:

-        خدى باقي الأكل معاك للأولاد.

الفرحة التى غمرتها، وكانت تفكر فيما يأكلونه وقد تركتهم فى الصباح وبطونهم فارغة. البامية الباقية تكفى الثلاثة، والأوز، وقطع فراخ وبط، لو رغيفين عيش كمان، وفيها إيه لو طلبتهم، ووجدت نفسها تقول:

-        يا ست زبيدة. كنت أخدت رغيفين عيش.

-        آه خدى. وحتة جبنة. بس تعال. عايزاك فى كلمة.

مضت إليهما وبسمة صغيرة على وجهها، وقعدت.

قالت زبيدة إن الحاج كلمها الآن حين دخلت لتأتى بالصينية، قال انه يريد من يبيت هنا.

سكينة غير فاهمة، تفكر فيما ستحمله من أكل معها، وضجة الولدين حين تدخل عليهم. قالت:

-        آه. وماله.

-        يعنى موافقة؟

-        موافقة على إيه؟

-        تقضى الليل هنا.

-        ليه؟ هو جرى إيه؟

-        شوفى. أفهّمك.

قالت إن الحاج لا يريد أن يبيت وحده. هو لم يقل لها السبب. إنما هى تعرفه. سمعته من المرحومة.

قالت زهرة: والمرحومة قالت لك؟

-        حاتقول لى ازاى يا زهرة؟

وعادت تحكى.

قالت إن بنت المرحومة الكبيرة كانت تريد أن تأخذه معها إلى بيتهـا أسبوعاً أو أسبوعين تغيير، والمرحومة قالت انها لا تستطيع أن تترك الحاج وحده، وابنتها ردت عليها:

-        ويجرى إيه؟

-        بيخاف يحصل له حاجة وماحدش معاه. انت عارفة أنه صاحب مرض، ذراعه الشمال ثقيلة. ورجله الشمال كمان، كده ولا كده. آهو.

-        ماكنتش أعرف حكاية رجله.

-        آه من شهر. واللى بيقوله. عايز حد يبقى جنبه يسقيه آخر جرعة ميه.

-        إيه الكلام ده؟

-        قاله أكثر من مرة. الواحد روحه ماتطلعش السما قبل ما يسدد كل ديونه ويشرب جرعة ميه آخر حاجة.

وقالت زبيدة: آدى كل الحكاية. قلت إيه يا خالة. أنا وزهرة مانقدرش، أهالينا موش حايوافقوا، وكمان احنا على وش جواز، مين يرضى بواحدة بتبات بره بيتها. قلت إيه؟

-        وأنا عندى أولادى. وجوزى. وماحدش منهم حايرضى.

-        اسأليهم. وممكن يباتوا هنا معاك ويمشوا الصبح.

-        والحاج حايوافق؟

-        مايوافقش ليه؟ على سريره وراقد.

-        بس يبقى عارف.

-        طبعاً حايبقى عارف.

-        أشوفهم وأقول لك.

-        طيب الشغل كده خلاص.

خرجت سكينة. الدنيا من فرحتها لا تسعها. حلة الأكل داخل هدمة مربوطة. وزغلول والولدان سينامون من باكر فى فرشة نظيفة، ويجدان عشاءً وفطوراً. وستعمل حسابهم فى الغذاء أيضاً.

*  *  *

وقف زغلول ومعه الولدان بفتحة باب البيت الكبير ينتظرون أن تلتفت واحدة من الداخل وتراهم، لم يجرؤ على دق الباب، كل منهم يلبس جلباباً وغياراً نظيفين، أعدتها لهم سكينة فى الصباح قبل أن تخرج، ونبهت عليهم أن يغسلوا وجوههم بالصابون، وأخرجت لهم بروة كانت تلفها فى ورقة دستها فى جوف الشباك، وأن يتواجدوا بالبيت بعد صلاة المغرب.

وقد كان.

التفتت زبيدة ورأتهم.

قالت: ادخلوا.

ودخلوا.

تفحصتهم بنظراتها، وكانوا يقفون أمامها ساكتين، وسكينة على بعد قليل تنظر إليهم.

قالت زبيدة ورأسها مرفوع وزراعها مثنية جنبها.

-        أيوه يا عم زغلول. تعال يا خالة سكينة.

وجاءت سكينة وأخذتهم إلى حجرة ابن الحاج، وما أن أغلق عليهم الباب حتى سأل زغلول:

-        هى بتتكلم كده ليه من طرف مناخيرها؟

-        أصلها لابسة توب المرحومة. والتوب واسع عليها.

فرشة معدة على الأرض. مرتبة عريضة، ومخدات، وغطاء، وتحذير من زبيدة لسكينة بعدم استخدام السرير.

الفرشة مريحة، فرشتهم بالبيت من القش المغطى بالأجولة، وأحياناً ما يكون بالقش بعض قطع حطب يحسون بها تخزهم قبل أن يروحوا فى النوم، ويؤجلون البحث عنها إلى ليلة أخرى، وينسون.

تمرغ الولدان على المرتبة، وطلبت منهم سكينة أن يغسلوا أقدامهم قبل النوم، وأشارت إلى شبشب قديم كان لأبن الحاج:

-        واحد ورا التانى.

قال الصغير: حاننام دلوقتى؟

-        نتعشى الأول.

-        فيه عشا؟

-        آه. عشا واللى نفسك فيه.

خرجت، وعادت بصينية الأكل. ما تبقى من الغذاء، قطع لحمة وفراخ ومحشى كرنب تعبت فى عمله بالنهار. وبعد الأكل أخذتهم لدورة المياه، واحداً بعد الآخر، والشبشب فى يده.

استقروا متجاورين فى الفرشة.

وقالت ابص على البنتين.  

وسألها الصغير: حانقعد هنا على طول.

-        أما نشوف.

-        ويبقى لنا بيتين واحد للصبح. وواحد لليل.

انضمت للبنتين، وزبيدة طلبت من سكينة أن تترك باب الحجرة موارباً فربما احتاج الحاج شيئاً، سينادى زوجها، هى قالت له اسمه، وربما ينساه فيناديها باسمها.

لفت كل من البنتين الطرحة حول رأسها، وغادرتا البيت، وسكينة أغلقت الباب.

أخيراً وحدها بالبيت لتراه على راحتها، حجرة الخزين وشافتها مرات وتعرف كل ما فيها، وحجرة المرحومة أخلوها من كل شيء، تركوا الدولاب والبوفيه فارغين، والسرير نزعوا عنه الداير والناموسية، وطووا المرتبة وبداخلها المخدة وغطوها بملاءة قديمة. ليس بالحجرة ما تراه، وتخاف أن تدخلها فى هذا الوقت من الليل.

حجرة البنت الكبيرة، وغداً حجرة الأخرى، خاب أملها حين اكتشفت أن أبواب الدولاب والبوفيه مغلقة بالمفتاح، نظرت تحت السرير، حقيبتان كبيرتان مغلقتان أيضاً بالمفتاح. فتشت هنا وهنا، وسألت نفسها عما تبحث عنه، وقالت أشوف وبس، وتمنت لو رأت بعض ملابسها، الكومودينو وحده كان مفتوحاً وبه حذاءان وشبشب قطيفة، لم تحاول أن تقيس أي منها، غير أنها عثرت على علبة سجاير داخل فردة حذاء، ربما كانت تدخن فى السر بعد أن تغلق على نفسها الباب. العلبة بها سجائر كثيرة، أخذت منها اثنتين، وجاءت بعلبة كبريت من المطبخ وطبق صغير كطفاية، وعادت لحجرتهم.

انتشى زغلول وهو يدخن السيجارة، الولدان بجواره استغرقا فى النوم.

قال زغلول: بيتنا أحسن. الواحد هناك على راحته.

-        الواحدة ماخدتش على أنها تكون معاك فى مكان غريب.

-        آه.

-        ولا حتى الواحدة ييجى لها مزاج تعمل حاجة معاك.

-        واللى سامعك.

-        أدينا بنلاقى لقمة كويسة يا زغلول.

-        ولا قادر أخرج ولا أدخل.

-        سنين يا زغلول ما دخلتش بطونا أكلة. وان حصلت مرة كانت بتبقى صدفة.

-        ومحبوس لغاية الصبح.

-        واللى هنا برضه صدفة. بس يمكن تطول شوية.

-        حتى المشى بالليل اللى كان بيريحنى.

-        الأولاد. بياكلوا وموش مصدقين. وعينهم على الباب. خايفين من إيه؟ ما أعـرفش.

-        كان بيريحنى. والواحد يبقى مع الناس ويسمعهم.

-        طب ما تدور على شغل.

-        بتقولى. من بكرة حاخرج للشغل لغاية ما يبان لها حل.

-        والولدان فى بيتنا شوية، وهنا شوية، وتمشى.

-        آه. تمشى.

وناما.

*  *  *

صحت سكينة مبكراً، كنست الحوش، ورتبت فرشة البنتين، وغسلت ما فى المطبخ من مواعين، ونظفته ودورة المياه، وأعدت صينية فطور لهم، بيض مقلي، جبن، ومربى، وكانت تتمايل طرباً وهى تملأ الأطباق.

أيقظتهم ليغسلوا وجوههم قبل الأكل.

تناولوا فطورهم سريعاً، وسأل الصغير:

-        حاناكل من ده كل يوم؟

لم يجبه أحد. ودخن زغلول السيجارة الثانية، وتساءل إن كان هناك سجائر أخرى؟

-        لما ترجع أجيب لك واحدة.

خرج، وقعد الولدان مع أمهما بالحوش حتى جاءت البنتان فانطلقا إلى الخارج.

ومضى اليوم. وأيام أخرى،  وعمل زغلول فى مقهى على النهر، هو رأى الزبائن هناك من قبل، وقال إنهم ليسوا من النوع الذى يشتم الأم. وما أن أكتمل أسبوعه الأول، وقبل أن يقبض أجره بساعتين شتم بعض من الزبائن أمه وأباه، وبلعها زغلول وسكت، واستلم راتب الأسبوع وبقى فى عمله، هو يستريح للشغل فى المقاهي، ربما مجاورته للنـاس، يذهبون ويأتون، وتتغير الوجوه، ويتغير ما يسمعه من كلام.

أختار وردياته بالنهار حتى يكون بالبيت الكبير بعد المغرب، يصل والبنتـان تتأهبان للخروج، ويكون الولدان سبقاه، يتجمعون فى الحجرة حول الأكل.

أحياناً يخرج الحاج بعد تناول العشاء، وتخبر زبيدة سكينة لتظل صاحية لحين عودته.

تخرج وزوجها والولدان ويقعدون فى الحوش، تعلوا أصواتهم قليلاً، وتعمل لهم الحلبة المطحونة، التى شربوها مرة، ويلحون كل يوم فى طلبها، يتنـاولون وجبة عشاء ثانية خفيفة، عيش وجبن وعسل أبيض، وينطلق الولدان إلى الخارج، ويترامى صياحهم من بين الأشجار، وتصحب سكينة زغلول إلى الدور الثاني ليلقيا نظرة على الحجرات هناك، ويجدانها كلها مغلقة بالمفتاح، فيقعدان فى الصالة الواسعة، يحسان ببرودة بلاط الأرض، وينظران من خلال الزجاج المغلق إلى الفضاء.

وتقول سكينة: شايف يا زغلول، البلاط ملون.

ينظر خطفاً للأرض، ويعود بنظره إلى الفضاء.

وتقول: كل بلاطة فيها وردة. شايف؟

تتحسس خطوط الوردة بإصبعها.

وزغلول لم يلتفت إليها.

لو كان الأمر بيدها لبقيت طول حياتها هنا. تجد كل ما تريده. لكنه زغلول. يوم والثاني ولم يعد يقول كلمة. ولا يطلب شيئاً، يتناول ما تأتى به صامتاً، هو فى بيتهم أيضاً قليـلاً ما يتكلم، غير أن سكوته هنا يقلقها، وجهه عابس، ولا يطيق حركة ولديه بجـواره فى الفراش، سرعان ما يزجرهما، تخشى أن يخرج ولا يعود. يرجع إلى بيتهم، وماذا يأكل هناك؟ الولدان سيبقيان معها. فرحين بما يجدانه هنا. وزبيدة ماذا تقول؟ هى ترى أن وجود زغلول يريح الجميع. قالت لها مرة أنها حين تدخل على الحاج لتأتى بصينية العشاء يسألها إن كان زغلول ما يزال موجوداً؟

وتقول أنه موجود.

وتراه يتنهد مستريحاً.

هى لا تفهم ما يجعله مستريحاً لوجود زوجها. إنما. آهو.

وقالت زبيدة أيضاً أن أكثر من واحدة ومعها زوجها تتمنى لو كانت مكانها.

وسكتت قليلاً. ثم قالت كلاماً استغربته، وكانت تريد أن تحكيه لزغلول، وهو كما رأته قافل على نفسه، لن يسمع. ولن يهتم. قالت زبيدة أن الحاج على ما يبدو لا يستريح لوجود أحد من أقاربه، لم يلمح بأي كلمة لها أو أمامها باستدعائهم. لا تعرف ولا سمعت أن له إخوة أو أخوات ربما أبناء عمومة أو أخوال وخالات. هم بعيدون، لم تر أحـداً منهم فى البيت من قبل، ربما كان بينه وبينهم شيء لا تعرفه، وربما يخشى إذا جاء البعض منهم ليقيم فلا يغادر بعد ذلك لو حدث له شيء لا سمح الله. أشياء كهذه حدثت وسمعت بهـا فى بيوت أخرى. هو لم يفصح، إنما خطر لها، هى التى عاشرتهم كل هذه السنين، وربما وجودهم وهو يعرف أكثر من أي واحد سيسبب له قلقاً أو إزعاجاً. يعنى. آهو كلام وسكتت. البنت ناصحة، وعارفة حاجات، ولا يبان عليها.

هى وزغلول فى الدور الثاني، سمعا صوت باب الخروج من ناحية الحاج يفتح ويغلق، رجع من مشواره. هبطا سريعاً إلى الحوش، وهرول زغلول إلى الخارج ليأتي بالولدين، ومشوا على أطراف أقدامهم إلى الحجرة.

وفى ليلة صحت سكينة على صوت فى الحوش. هو الحاج ينادى:

-        يا اللى هنا.

وصاحت: - حاضر.

صحا زغلول على صوتها، اندفع خارجاً، شطف وجهه سريعاً ليفيق، ودخل الممر الصغير المؤدى للصالة ثم حجرة الحاج، رآه متربعاً فى السرير، قال لاهثاً:

-        زغلول؟

-        آه.

-        كنت ناسي اسمك. اقعد معايا شوية.

جذب زغلول المقعد إلى جوار السرير وجلس، الحاج ينهج ويضغط بيده على صدره، يرمقه زغلول مشفقاً. وسأله:

-        أعمل لك ينسون؟

وافق الحاج بهزة من رأسه.

خرج زغلول، وجد سكينة واقفة بمدخل الصالة. همست:

-        خير؟

-        اعملي ينسون.

عاد إلى المقعد، غمغم كأنما يهمس لنفسه:

-        شوية برد.

هدأ تنفس الحاج قليلاً، وسأله عما كان يقول؟

فوجىء زغلول بأنه سمعه. وقال:

-        شوية برد.

-        صحيح. شوية برد.

مازال يلتقط أنفاسه بصعوبة، شرب الينسون وسأله عن شغله؟

لا يبدو مهتماً بأن يسمع، حركة رأسه بإيقاعها البطيء للأمام والخلف.

وقال زغلول انه يعمل فى المقهى على النهر.

-        أعرفها. كلهم هناك ولاد كلب.

وتنهد طويلاً مغمضاً عينيه، وسأله إن كان رآها؟

-        مين؟

-        الحاجة.

يرمقه زغلول جاحظ العينين، ومن تكون الحاجة غير المرحومة؟

همس ورجفة تسرى فى ساقيه: انه لم يرها.

زغلول فيه ما يكفيه، يرعبه أي كلام عن الأرواح، يحس بها تكاد تلمسه، ودائماً ما يتجنب فى الليل الأماكن التى سمع بظهور مخلوقات لا ترى بها.

قال الحاج مسترخياً بظهره انه لا يحلو لها المجيء إلا وهو يوشك على النوم، حين تراني نائماً لا توقظني، وكثيراً ما وقفت بجواري بالساعات وأنا نائم.

سكت وعيناه شاردتان.

قال أنها أيضاً غير مستريحة، زعلانة انها سابتنى. تسألني:

-        ومين حايكون جنبك وانت تعبان؟

وأنا لا أجيب. أسمعها ولا أجيب.

-        وإيه عندى أقوله لها.

وحتى قبل أن تتركني، تظل فى الحجرة بجواري تدعك ذراعي إلى أن أنام، فتذهب إلى حجرتها، وأوقات، فى الليل، أكون نمت، أحس بها تمشى على طرفي قدميها، تغلق ما يكون مفتوحاً من النافذتين، وتحكم الغطاء حولي، منحنية فوقى، أشم أنفاسها، ورائحة شعرها، وتريح وجهها قليلاً على كتفي، وتمضى. ويأتي من يقول أنها كانت صفراوية، واحد فى مقهاك قالها، وبلغني الكلام، وأحاول أن أعرف من يكون، ولا أعرف. وجهها به صفرة، فيقولون صفراوية، ولا يعرفون ما بها، حتى أولادها لم يعرفوا، كنت وحدي أعرف أوجاعها. وتقول لي لا تخبر الأولاد. ولا أخبرهم.

رقد على جنبه وظهره للحجرة، وقال:

-        غطينى.

جذب زغلول الغطاء فوقه. عاد للكلام.

-        فيها ما فيها من أوجاع ولا تشتكى. تقـول.. حامشى قبلك يا هاشم. أبص لها ساكت. حا أقول لها إيه؟. تقعد على الكرسي. نفس مكانك، وتقول.. حامشى يا هاشم. ومشت.

وقف زغلول، يده ترتعش على مسند المقعد، ينظر إلى ظهر الرجل الراقد، جسده الضخم يملأ السرير، وحشرجة أنفاسه، وعتمة الحجرة الخفيفة، أراد أن يصل إلى الباب دون صوت، وسمعه يقول:

-        اقعد شوية يا زغلول لغاية ما أنام.

وقال انها حين تراه فى الحجرة لن تدخل، ويكون راح فى النوم. لا تحب أن تزورني ومعي آخرون.

أخذ أنفاساً طويلة، والحشرجة يزيد ثقلها. الكلام يتعبه ولا يريد أن يتوقف.

قال إنها تأتى. كل يوم تأتى. مجيئها يخفف عنه، تسأله.. تخفى عنى يا هاشم؟. وما عندي لأخفيه عنها؟ هى لا تفصح أبداً. تسأل وكأنها لم تسأل. وتروح لكلام آخر. وأنا طول الوقت أفكر فيما أكون أخفيته عنها، وتسألني: فيم أفكر؟. وأنا ساكت. وجاء يوم وسألتني أن أسدد دينها حتى تصعد للسماء. دين؟ أي دين؟ لا أعرف أنها مدينة لأحد. هذه المرة أفصحت، باقي حساب لأم السعد. ثلاثة جنيهات ونصف، وقالت أنها حائرة. تريد أن تصعد ولا تريد. فلو صعدت لن تستطيع أن تأتى لتراني، غير أنها تعبت من الانتظار، تريد أن تستريح، وأكثر صاحباتها صعدن، لا تعرف يا هاشم ما أعانيه، وأردت أن أقول لها أنني أعرف، ولم أقل، ورجتني أن أسدد دينها. لا أعرف من هى أم السعد، وسألت البنتين ولا تعرفان، ولا أحد يعرف فى ناحيتنا، واليوم فقط أخبرني أحدهم أنه لا يوجد فى البلدة كلها غير "أم سعد" واحدة. ماتت من زمن، كانت تبيع التوابل والحنة، وأقول لنفسي أي حساب كان بينها وبين الحاجة، كل ما يحتاجه البيت من توابل تشتريه البنتان من البقال، ثم تذكرت، هى قبل أن تذهب بأيام صبغت يديها وقدميها بالحنة، ويومها تعجبت لأنها لم تستخدمها منذ زواجنا، وكانت فرِحْة بالصبغة، تفرد يديها أمامي وتقول:

-        بص.

هى الحنة. وعلينا أن نبحث عن ورثة "أم السعد" ونسدد لهم الدين، أخشى ألا يكون لها ورثة، لو تساعدني يا زغلول. تسأل عنهم وتسدد لهم المبلغ.

-        من الصبح يا حاج حا أسأل.

-        طيب.

انقلب على ظهره، عيناه هنا وهناك، عكرتان، أغمضهما.

زغلول فى وقفته انتبه إلى أنه بملابسه الداخلية. السروال والفانلة الممزقة، فى اندفاعه نسى أن يلتقط الجلباب، ود لو ينادى امرأته لترمى به إليه. وأين هى الآن؟ تتركه وتذهب، غمغم الحاج فى صوت خافت:

-        أيوه. أنا أهه.

استند إلى كوعه ملتفتاً إلى زغلول، يرتجف بشده مشيراً بيده، ونظر زغلول حيث يشير، دورق ماء وبجواره كوب على منضدة صغيرة، ملأ الكوب وتقدم زائغ النظرات، اليد الممدودة ترتعش، والرعشة فى فمه أيضاً، دس زغلول الكوب بين الأصابع المقوسة، اهتزت فى شدة وانسكب منها الماء، لم يستطع أن يصل بها إلى فمه، كادت تهوى حين أمسك بها زغلول، رفع رأس الحاج وقرب الكوب من فمه، أخذ رشفة وضم شفتيه ليمنع خروجها ورأسه تعود للمخدة، سال الماء من ركن فمه، وتكونت رقعة بلل صغيرة على المخدة، عيناه تحدقان بنظرة ثابتة نحو الباب، غمغم لاهثاً:

-        آه. والحنة فى ايدك..

قفز زغلول للوراء، فى قفزته أوقع الكرسي، واندفع إلى الباب، أحس لدى خروجه بمن يمر بجواره كأنه لفحة هواء، صرخ، وقدماه تتشبثان بالأرض، لمح رأس الحاج ترتفع قليلاً محدقاً نحوه، ثم سقطت مائلة على المخدة.

جاءت سكينة جرياً وخلفها الولدان، احتوت زغلول وكان ينتفض بين ذراعيها، ومشت به إلى حجرتهم، أرادت أن تعطيه كوب ماء فردها بيده، لم تصبر حتى يهدأ تماماً، وذهبت إلى حجرة الحاج.

غابت قليلاً ورجعت، نظر إليها مستفهماً، قالت:

-        رحمة عليه.

ظلا فى قعدتهما صامتين، والولدان عادا إلى نومهما.

لاحت بشاير الفجر فى منور السلم. وقالت سكينة:

-        أخطف رجلى للبنتين.

-        أروح أنا.

وسكينة بعد تفكير قالت:

-        كنا أكلنا لقمة قبل ما نخرج.

وأيقظت الولدين.

*  *  *

الإبن..

سكينة فى قعدتها على المصطبة، والولدان كعادتهما، الصغير يضع رأسه على فخذها ويمد جسده الضامر، يحاول أن يستعيد النوم، يرجع للبيت بجروح فى ساقيه ولا يقول، تكتشفها صدفة، بعضها انتفخ بالصديد، تضغطها لتصفيها ثم تربطها. الكبير يقرفص جنب الباب يتجنب النظر إليها، والنهار لا يأتي حتى تمضى لتبحث عن رغيفين، النسوة فى البيوت لا يتركن الفرشة قبل طلعة الشمس، كل الرجال خرجوا بدري، عندهم أشغالهم، زوجها من دونهم قاعد على طرف المصطبة وعود القش فى فمه، يلتقطه من الفرشة قبل أن يغادرها، يقلب القش تحته حتى يجد عوداً على مزاجه، ولا يسوى الفرشة بعدها.

شهر كامل، يزيد أو ينقص يومين وهو فى قعدته، يخرج ساعة المغرب ويرجع على منتصف الليل وبعد أن يكون الجميع عادوا إلى بيوتهم، تحس به يفتش عما يأكله، يتبقى له عادة رغيف مما استلفته بالنهار، الولدان رغم تحذيراتها ينتهزان ابتعادها عن البيت لسبب ما وينزلان قفص الجريد المعلق ويأتيان على رغيفين أو ثلاثة، لا يبقيان غير واحد لأبيهما، يقولان لها وهى ترميهما بالطوب:

-        ما واحد كفاية عليه. هو يعنى كان بيشتغل.

وقالها الولدان.

آخر مرة اشتغل كان بالمقهى على النهر وأيامها قالت:

-        خير.

شتموا أمه وسكت، والثانية وسكت، الثالثة رد الشتمة. وانهالوا عليه بالضرب، حتى صاحب المقهى شاركهم، ورموا به خارج الكراسي، إصاباته كثيرة، أول ما قاله عند عودته:

-        بس الجلابية سليمة. ولا قطع واحد.

فى قعدتها ترمى بنظرها إلى البيت الكبير وتتحسر على أيامه، مغلق وساكن كالخرابة، ومن يرعاه؟ واجهته لطخها الوسخ، الخلاء حوله امتلأ بكل ما تقذف به الريح. يقول ولدها الصغير حين يراها تطيل النظر إلى البيت:

-        ومالك زعلانة. كفاية شفنا يومين كويسين هناك. يمكن ييجى بيت غيره.

يفاجئها الولد بكلام لا تعرف من أين يأتي به.

هذه المرة طال بقاء زغلول فى البيت، استلفت فيها العيش ثلاث مرات من كل من تعرفهن بالحارة، ولم ترد الدين بعد، وتخشى لو ذهبت إليهن مرة رابعة يجدن الدين يصبح كبيراً لا تستطيع سداده فيختلقن أعذاراً يوجعها سماعها، ربما لو أرسلت الولد الكبير إلى فرن عباس؟ عيش ميرى. وماله. جاء به مرتين من قبل.

-        آهو. طعمه عيش. بس لو يقدر يجيب.

سموه بالميرى حين رأوا أقسام الشرطة فى البلدة والبلاد المجاورة ترسل عرباتها إلى الفرن لتشترى كميات كبيرة منه للعسكر والمساجين.

عيناها على زاهر، كان منحنياً ينفخ فى يديه المنقبضتين بين ركبتيه. توقف عن النفخ، لم يلتفت إليها.

زحف على مقعدته حتى نهاية المصطبة، ثم نفض جلبابه ومضى.

-        فهم من غير ما أقول له.

فرن عباس. ومتى اكتشفه؟ يمر به دون أن يلتفت إليه. هى رائحة العيش، الوقت كان مبكراً، يمشى كعادته وعيناه فى الأرض، وشم الرائحة، قوية، نفاذة، والتفت، رأى أرغفة العيش الخارجة لتوها من الفرن مرصوصة على طاولات خشبية بالمدخل تنتظر من يحملها، الأرغفة منتفخة ووجهها داكن قليلاً، به نقرات محترقة، هى فقاعات صغيرة ظهرت مع بداية انتفاخ الرغيف ونالها اللهب، شاهدها أكثر من مرة حين كان يقبع قرب فوهة الفرن بجوار أمه فى أيام خبيزها، عادة ما يكون وجه الرغيف هشاً، تذوب اللقمة منه سريعاً فى فمه.

هو واقف يحدق فى المدخل بعتمته الخفيفة، ولمح طاولة منزوية، فوقها كومة من كسر العيش، ما تخلف من الخبيز، رآه عندما اقترب وقد خطر له أنه ربما استطاع أن يأخذ القليل منه ولن يرفض صاحب الفرن، أرغفة معوجة، وأخرى احترق جانب منها، الكسر كثيرة، أرغفة تسقط أثناء إخراجها من الفرن أو نقلها إلى الطاولات، مد يده وتناول لقمة، وجاء صوت من الداخل المعتم:

-        خد لو عايز.

الفرن مطفأ، وعبده الفران – كما عرف اسمه بعدها – يزيح بمقشة طويلة ما تناثر أمام الفرن من قطع خشب وحطب.

-        تعال اكنس الفرن واملا حجرك.

دخل زاهر. فوجىء بالرجل الذي لم يره من قبل قصيراً محنى الظهر، لحست النار ذراعه وجانباً من رقبته وحلمة أذنه، وأخلفت جلداً ميتاً. كان واقفاً أمام فوهة الفرن بسروال طويل وصديرى، سحب جلباباً وترك المقشة لزاهر، وقعد بالمدخل يدخن سيجارة.

انتهى زاهر سريعاً، ووقف جنب طاولة العيش الكسر منتظراً، رمقه عبده الفران وقال:

-        خد على قد ما تقدر.

ونهض ليساعده، فتح زاهر حِجْره على سعته، وغرف الرجل بكفيه مرات، وزاهر قال:

-        كفاية. كده على الآخر.

لا يستطيع أن يغلق حِجْره، وهرول خارجاً. المرة الأولى التى يأخذ عيشاً إلى البيت، لهم يوم ونصف لم يأكلوا شيئاً، وأمه؟ حين تراه وحجره ممتلىء؟

كانوا فى قعدتهم على المصطبة. وقف أمامهم لاهثاً، ثم فتح حِجْره فجأة. أمه صاحت وقفزت، سحبته من كتفه إلى داخل البيت، وأبوه وأخوه جاءا وراءهما.

أنزلت أمه قفص الجريد، وأفرغت حِجْره داخله:

-        كل ده. كل ده. منين؟

-        من فرن عباس.

-        فرن عباس؟ ورضي يديك؟

-        عبده الفران هناك. قال لى اكنس الفرن واملأ حجرك.

-        وكنسته؟

-        آه. بالمقشة الطويلة.

أخذت قضمة من العيش، وقفوا يحدقون إليها منتظرين ما تقول.

-        والنبى طعمه حلو.

أبوه لم يقل كلمة، غير أن وجهه كان راضياً، وجاءت أمه ببصلتين كانت تخفيهما ليوم يكون فيه طبيخ، كسرهما أبوه بين كفيه، وتحلقوا حول القفص، يومها أكلوا حتى الشبع، وبقى القليل فى القفص، وكان راضياً يكتم زهوه وهو يرى عيشه معلقاً فى السقف. ويومها أيضاً لبس أبوه جلبابه وخرج، وأمه تبعته بعينيها وقالت:

-        ربنا يهدى ويفتحها فى وشه.

اشتغل يومها عند نجار سواقي.

قال زاهر لصاحبه عبد الله وكانا يمشيان على شاطىء النهر:

-        عبده الفران ده حدوته، وعنده شوية حكايات. يصدف أخدك الفرن وتسمعه.

-        حكايات إيه؟

-        أقول لك.

وحكى زاهر.

قال انه جاء البلد من سنتين. شاف بلاد كثيرة، لا يبقى فى البلد الواحد أكثر من ثلاث أو أربع سنين ويزهق. وأسأله:

-        تزهق من البلد ولا من ناسها؟

-        ولا من البلد ولا من ناسها، كلهم شبه بعض فى أى مكان أروحه. أبقى عايز أمشى وخلاص.

يعمل الليل وينام مع طلعة الشمس، يجاور النار، يرمقها خلال فوهة الفرن، ويرى ألسنتها عندما تتراقص ثم تستقر، هما أصحاب. هو والنار.

-        عمرك سمعت حاجة زى كده؟

-        هو والنار.

-        آه. هو وهى.

يطمئن لها. وتطمئن له. حين تصدر فحيحاً يلتفت إليها، ويجدها تشكو من قطعة جِذر رطبة وغليظة ترفض أن تشتعل، وتنفث دخاناً كثيفاً يكتم لهبها، ويمد حديدته ويسحب قطعة الجذر شديدة السواد، ويجدها استراحت، ويعود لهبها يرقص، وغناؤها يطقطق.

-        آه. بيقول كلام عجيب. قال النار بتغني. وأسأله عندك عيال يا عم عبده؟

-        ومين ترضى بواحد النار أكلت حته منه.

طول الليل هو والنار وحدهما. يتركها ويدخل الكنيف ويعود ليجدها كما هى. ويأتيها النوم، تعبت وتريد أن تستريح. ويضحك عم عبده. يخفت اللهب قليلاً ثم يختفي. الجمرات متوهجة. وهجها الجميل. ويضحك عم عبده. ويطول انتظارها للنعاس، ثم تنطفىء. ودخنة صغيرة. تتثاءب، وأنا بجوارها أنتظر تثاؤبها، وأتمدد جنبها وأنام. ويضحك عم عبده. ويسألني إن كنت أظنه مخبولاً؟

وأقول: إيه يا عم عبده؟ مخبول إيه؟

وأنا موش فاهم حاجة. عارف الكلام اللى بيقوله وموش فاهمه.

وجاءت ليلة غفل عنها. دس فى الكانون قطعة من جذع شجرة. رطبة. وكان يضعها جانباً حتى تجف، وسها عليه ودفعها للكانون، وأعطاها ظهره، وسمع زمجرتهـا وراءه ولم يلتفت، كان مشغولاً بالزعيق مع الخباز، جاء بالعجين قبل أن يختمر، والمشادة طالت بينهما، وأحس بدخان كثيف يغمره، والتفت، سحب بسرعة قطعة الشجرة من الكانون، ودفع إليه بقطع كثيرة من الخشب الجاف وعيدان الحطب، واستدار إلى الخباز. لحظات وسمع الحفيف، والتفت، فوجىء بموجة هائلة من النار مندفعة من فوهة الفرن، لم يجد وقتاً ليبتعد أو ينحني ليأتي بجردل الماء القريب منه. لفحته. هنا. وهنا. وبعد أن نالت منه تراجعت. واللهب عاد إلى هدوئه. هو راقد يحدق إليها، لا يكاد يحس بما أصابه. ويضحك عم عبده. تغضب. آه غضبت لأنه أهملها.

-        وحا أقول له إيه وهو بيحكى الكلام ده. أبص وأنا ساكت.

قال لى ممكن أحضر وآخذ العيش الكسر كل أربعة أيام. الأيام الأخرى محجوزة. قبل ذلك كان يعطيه لواحدة تطعم به دواجنها، وعرضت عليه أن تحضر له كل يوم ثلاث بيضات مسلوقة، وقال لها أنه لا يأكله. ثم ظهرت واحدة أخرى، وسألته أن يعطيها بعضه لأولادهـا. عندها أربعة أولاد، وزوجها يعمل يومين ويمرض يومين، باليومية فى الغيطـان. هى حكت له. لم تكن تشكو أو تندب حظها، كانت تحكى والسلام. المغص يأتيه فى جنبه بعد أيام من العمل، يصرخ ويتلوى، أخذته لسلماوى التومرجى، يعطى حقن وقطرة فى العين.

-        وآهو يعرف. كلهم بيروحوا له.

شاف زوجها وقال انها حصوة فى الكلى، ولابد من عملية فى المستشفى الأميري، وزوجها رفض وقال إنه لم يسمع بواحد دخلها وخرج على قدميه. والتومرجى غضب ـ وهو يعمل بها ـ من كلامه وزعق فيه:

-        ازاى تقول كده. موش كفاية. تذكرة بخمسين قرش. وتدخل وتنام على فرشة. ويطلعوا منك الحصوة. دكاترة هناك أحسن دكاترة فى الدنيا.

وسكت التومرجى ثم قال له ان يعمل حسابه على قرشين يكونوا معه. لأن الأدوية والشاش والقطن التى تحتاجها العملية على حسابه. المستشفى لم يعد بها ما يكفى. والأكل تذهب به امرأتك إليك. وقال:

-        انما برضه لها حل.

المرضى هناك اعتادوا أن يجمعوا فيما بينهم، كل واحد وقدرته، ثمن الأدوية وما يلزم للمريض الجديد عندما يرونه خالياً.

وزوجها لا يريد. يقول:

-        آهى ماشية.

يعطيها العيش يومين متتاليين، وما يبقى عندها يكفيها يوماً ثالثاً، فلا تأتى. قطعه عن المرأة صاحبة البيض، وامرأة أخرى جاءت للعيش، عندها أولاد أيضاً، تأخذ يوماً ويبقى عندها ما يكفى ليوم آخر، والمرأة زوجة المريض عملت معه معروفاً، رأته يوماً يغسل جلبابه خلف الفرن، وغضبت لأنه لا يطلب منها غسل هدومه، يعطيها لها ومعها قطعة صابون.

-        هدومه قليلة.

وأشار إلى صندوق صغير من الصفيح الصدىء فوق الفرن.

-        كلها هنا.

ويأتي أولاد أيضاً، ثلاثة أو أربعة، من يوم لآخر، يقفون أمام الطاولة ويأكلون، يمضغون وينظرون إليه، يتوقعون فى كل مرة أن ينهرهم.

يحكى ويحكى. لو رأيته وهو يحكى. أنا متربع أمامه. يراني ولا يراني. ولا يسأل نفسه إن كان الولد الذي أجلسه ليحكى له يسمع أو يفهم، ينبش الأرض بظفره، وينظر هنا وهنا. وأكثر ما تعجبت له حكايته مع النار. لم أسمع فى حياتي عن واحد يصاحبها. ثلاثون سنة كما يقول وهو معها. عرف مزاجها وهى عرفت مزاجه.

ويقول إنه يفكر فى الرحيل عن البلدة ولم تكتمل السنتين:

-        ناسها كويسين. إنما صاحب الفرن، المعلم عباس. كل يوم زعيق وشخط لأنه لا يبيع كسر العيش. وصوته من أول الحارة لأخرها:

"كتير فى البلد عايزينه. عليه طلب. وله ثمنه"

المعلم يعرف انه ليس سهلاً أن يجد فراناً آخر فى الناحية وإلا كان طرده، يتركه يزعق ولا يسأل فيه. لم يعد يحتمل. آخر مرة دفعه بيده فى صدره ووجهه يرتعش من الغضب:

"انت هنا بتشتغل عندى. تسمع اللى أقوله"

*  *  *

ويكون زاهر قاعداً على المصطبة، ويضيق من القعدة ومن انتظارهم طلعة النهار، وربما تخرج أمه وتعود ويدها خاليتان، وينهض، يحس بعيونهم ترقبه، وما بيده أن يفعل. لا يستطيع أن يذهب إلى الفرن كل يوم. لن يجد كِسرة عيش واحدة، أخذته إحدى المرأتين.

ويمشى.

يلتقط حجراً ليرمى به الكلب الذي يتربص به دائماً عند منتصف الحارة، وكان يمد رأسه من زقاق جانبي، وينبش الأرض بمخالبه الأمامية متحفزاً، ويناله الحجر فى ظهره، يعوى ويختفي داخل الزقاق.

يفكر زاهر أن يمر على اثنين أو ثلاثة من أصحابه. الوقت مبكر وربما كانوا نائمين، وحده عبد الله الذي يصحو الآن، غير أن أمه لا تسمح له بالخروج قبل الفطور، رافقه مرتين حين أرسلته لشراء الفول المدمس، وفى مرة منها اشترى طعمية، وفى الطريق فتح عبد الله قرطاس الطعمية وتناول قرصين، أكل واحداً ومد يده بالآخر لزاهر، وزاهر رفض رغم جوعه الشديد، حذرته أمه هو وأخاه من أن يأخذ شيئاً من أحد، وأصر عبد الله، وقـال زاهر:

-        وأمك؟

-        حا أقول اننى أكلتهم.

هو من دون أصحابه لا يكاد يفارقه، وجاء إلى بيته مرتين، وقعد معهم على المصطبة، لابد أنه سمع بما تستلف أمه من أرغفة العيش، البعض من الأولاد عايره بذلك فى شجارهم. ويوماً قال له عبد الله:

-        اسمع. عندى فكرة. تستنانى ورا البيت وأدلى لك حاجة من فوق السطح.

-        حاجة إيه.

-        حاتشوف. بس ماتعملش صوت.

يبدو الأمر وكأنها لعبة جديدة يرتبها عبد الله ويريد أن يفاجئه بها كعادته. وينتظر خلف البيت ملتصقاً بالجدار.

ويسمع "هس".

ويرى عبد الله منبطحاً فوق السطح يمد رأسه وينظر إلى الناحيتين، وتتدلى الدوبارة وطرفها يلتف حول رغيف عيش، رغيف كبير وناشف، يتأرجح فى هبوطه، زاهر يحدق ويداه متأهبتان لالتقاطه لو سقط، يفك الدوبارة وينظر إلى عبد الله، وكان يشير له بيده أن يسرع بالابتعاد، وهرول زاهر بالرغيف، وقف على رأس الحارة ينتظره، ولم يأت. بحث عن مكان تخف فيه القدم ليتناوله دون أن يزعجه أحد. وضع الرغيف فى حِجرة رافعاً ركبتيه ليخفيه، امتص أول لقمة فى بطء مستمتعاً وطرفها يذوب لزجاً على لسانه، وصوت بقبقة فى بطنه وقد اضطربت.

الرغيف يسكت قرصة الجوع قليلاً، ويسمح له بأن يأخذ جولته دون عجلة على دكاكين الفاكهة والخضار، يلتقط المعطوب ويكون عادة غير بعيد عن الأقفاص، يرمى الجزء التالف ويتناول الباقي، أكثر من مرة تمد له البائعة خيارة سليمة أو حبة طماطم، غير أنه كان يتراجع مبتعداً.

ومرة بعد مرة وجد نفسه ينتظر رغيف عبد الله، حين يتناول العيش قبل أي حاجة تستريح بطنه ولا تزعجه، وحين يبدأ بالخضار أو الفاكهة تمور بطنه بالبقبقة طويلاً.

عادة يكونان معاً أثناء رجوع عبد الله إلى بيته فى الظهيرة حين يأتي موعد غذائه، فى البداية أدهشه أن يكون هناك من يأكل بمواعيد، غير أنه لم يسأل، لا يحب أن يسأل عما لا يعرفه، يفضل أن ينتظر حتى تأتى وحدها، ويسمع عبد الله وهما فى الطريق يقول أنه سيدلى الدوبارة. كان من قبل يعترض، والآن يسمعه ويكون الرفض على لسانه ويسكت. كان أبوه مدرساً بالمدرسة الإلزامية، وعنده بدل الجلباب أربعة، ويلبس فانلة داخلية، ويتناول ثلاث وجبات فى اليوم، هو لا يحكى أبداً عما يأكل رغم أن زاهر كان يحب أن يسمع.

ويوماً فاجأه برغيف دلاه به كسر من الجانب، وحين استقر فى قعدته وجد بداخله عدداً من أصابع محشى الكرنب، تأملها مغتبطاً، هو أكله ثلاث مرات من قبل، واحدة فى بيتهم من زمن طويل، واثنتان فى بيت الحاج هاشم، المرة التى فى بيتهم قعد وأخوه بجوار أمهما من البداية، نزعت أوراق الكرنبة للمحشى، وقطعت العيدان والرأس فى أجزاء صغيرة وملحتها مع الماء فى زلعة، لم ترم شيئاً من الكرنبة، هما لم ينتظرا المخلل حتى يستوي، أنهيا على ما بالزلعة فى نفس اليوم، لم يبق بها غير الماء المالح، وكانت تطاردهما فى الحوش. والمحشى أيضاً، حاولا مشاركتها فى لف الأصابع، غير أنها نهرتهما وأبقتهما بعيداً، ترمقهما من وقت لآخر، ووجهها يتألق بالبهجة، وتقول:

-        خلاص. قربت أخلص.

لم ينتظرا نضج المحشى على النار، وكانا يرجوانها حتى أخرجت اصبعين لكل منهما:

-        حاتكلوه ازاى وهو لسه.

لو عرفت أنه الآن يكاد يأكل رغيفاً كل يوم، وأحياناً بالمحشى، لن يخبرها، لا يستطيع أن يذهب به إليهم، ستسمعه الكثير من الكلام ولا يجد ما يقوله، وبعد ذلك ماذا يأخذ الواحد منهم غير كسرة.

ومرات يفاجئه عبد الله أثناء تسكعهما فى المساء بورقة صغيرة ملفوفة داخلها كبدة أو قونصة فرخة، ومرة رأس أرنب بجزء من رقبته، يحتفظ باللفة فى جيبه.

ويسأل عبد الله لم لا يأكلها؟

ويقول: بعدين.

هو نفسه لا يعرف لم لا يأكلها أمامه، يتحسسها فى جيبه من حين لآخر، وما أن يفترقا حتى يخرج اللفة ويأكل ما بها.

تبدأ جولتهما حين يلتقيان بالذهاب إلى الغيطان، وذراع واحد منهما على كتف الآخر، يبحثان عن أشجار التوت والجميز المنزوية بعيداً عن السكك المطروقة، ودائماً يجدان فروعها مثقلة بالثمر، بعدها يذهبان لصيد السمك، يحتفظان بصنارتيهما وسط أعواد الغاب على شاطىء مجرى ماء جانبي، حصيلتهما أسماك صغيرة يرميانها فى عودتهما، ثم يقصدان النهر، أول مرة ينزل عبد الله إلى الماء كان خائفاً، يتشبث بطين الشاطىء ويضرب المياه بقدميه، وبعد أن علمه زاهر السباحة كانا يمضيان إلى منتصف النهر، وأحياناً إلى الشاطىء الآخر، ويفاجئان ركاب قطار يتصادف مروره بظهورهما عاريين ويجريان بجواره، والركاب يقذفانهما بالشتائم.

ويحين موعد غذاء عبد الله، فى عودتهما كثيراً ما يشكو أباه. يقول انه يمنعه من كل شيء يحبه، الذهاب للغيطان، الاستحمام فى النهر، صيد السمك، البلهارسيا ودود البطن، يراهما أبوه فى كل مكان، ومن يوم لآخر يتلو عليه تحذيراته، وأقل شيء يضرب، إن رآني حافياً فى البيت تنالني الصفعة، إن كلمني والتفت صدفة جانباً لأي سبب، الصفعة، إن ارتفع صوتي، إن بكيت من ضربه، لا أفهم، يضربني ولا أبكي.

يتسلل إلى البيت ليغسل قدميه ويلبس الشبشب قبل أن يلتقي بأبيه، زاهر يسمع ولا يجد ما يقوله.

يخفيان جولاتهما حتى عن عيون أصحابهما.

ويوماً سأله عبد الله: لم لا تذهب إلى المدرسة مثل الآخرين؟

-        اللى حصل.

-        صحيح. ليه؟

-        مفيش حد قال لى روح المدرسة وقلت لأ.

-        موش فاهم.

-        ولا أنا.

وقال عبد الله انه سأله لأن أباه سأله نفس السؤال. كان يسأله عن أصحابه واحداً واحداً، وما يفعلونه فى لعبهم، وحين جاء اسمك سألني لم لا تذهب إلى المدرسة؟

وقلت اننى لا أعرف.

قال: سألته؟

-        لأ.

-        وأبوه. عمله؟

وقلت إن كل ما أعرفه أنه يعمل أوقات فى القهاوي.

-        وغير القهاوي.

-        وأعرف منين؟

ونالني الكف، كان لابد أن أسألك وأعرف وأرد عليه بأدب، أنفجر أحياناً فى الصراخ والبكاء، وأضرب الأرض بقدمي، وينهال علىّ بالضرب، وتأتى أمي على صراخي وتسحبني من يديه. وتسألني:

-        ورحت عندهم؟

وأقول اننى لم أذهب عندكم.

ويقول فى النهاية لا تخرج معه بعد ذلك، ولا تصاحبه.

وأقول حاضر.

ومن سيخبره أننا نخرج معاً؟. وحتى لو عَرف، علقة؟ ماشي، تعودت عليها ولا تخيفني.

وزاهر أصبح حريصاً فى مشيه مع عبد الله، يرافقه حتى أقرب حارة لبيته ويمضي، ويتجنبان الشوارع الكبيرة التى يمكن أن يسير بها أبوه، وحين يذهب لمناداته يكمن بناصية الحارة يترقب خروج أبيه، يعرف مواعيد انصرافه وعودته، ويراه خارجاً، طويلاً نحيلاً، يجمع الجلباب بيده حول جسده حين يقترب من الكلاب خشية النجاسة، ما أن يبتعد حتى يطلق زاهر صفيره، ويخرج إليه عبد الله، وأحياناً يكون أبوه طلب من أمه عدم خروجه عقاباً له، ويظهر عبد الله على السطح رداً على الصفير، وينبطح، ويلتصق زاهر بالجدار، ويتبادلان الكلام فى صوت خافت. يحكي له ما فعله وأصحابه، وأين ذهبوا، ويكتم عبد الله ضحكاته، ويهز ساقيه، ويسأل:

-        والليلة؟

-        ما أعرفش. يمكن نقعد نحكى حواديت.

-        تحكيها لى بكرة.

-        وامتى تخرج؟

-        كمان يومين. استنى أدلى لك رغيف وحتة جبنة.

ومرات يتشاحن عبد الله مع أصحابه، ويشتبك بهم، هو رقيق البنية ولا يجيد العراك. يعايره الأولاد بأبيه الذي يتعامل بالربا، وزاهر لا يفهم معنى ما يقولونه، ولا سأل عبد الله عنه، غير أنها لابد شتمة، يراه مندفعاً للعراك، يوقعه الولد منهم سريعاً على الأرض، ويتقدم زاهر ويمسك بخناق الولد، ويتراجع الآخرون، يعرفون قوة زاهر وبطشه، ولكمته تتجه خطفاً إلى الوجه، وسرعان ما يسيل دم الواحد منهم، أنفه أو فمه، ويختفي زاهر فى غمضة عين.

ويوماً وقف يتلصص على بيت عبد الله. كان الوقت ضحى ولابد أن أباه خرج، ولم يكن مطمئناً لذلك، انتظر ما يكفى ثم أطلق صفيره، وبعد قليل لمح عبد الله فوق السطح وبيده ما يشبه الطائرة الورقية، أشار له أن يقترب، واقترب زاهر. وعبد الله انبطح ورأسه خارج حافة السطح، وقال رافعاً الطائرة بيده:

-        ناقص الذيل. حا أعمله النهاردة. شفت؟

-        حلوة. حاتطيرها على السطح؟

-        مفيش هوا على السطح. عايزة الغيطان. شط النهر.

-        آه. صحيح. لما تخرج نروح نطيرها هناك.

ولمح وجه عبد الله يتغير، وجسده ينكمش متراجعاً، فى نفس اللحظة انتبه لصوت خطوات خفيفة وراءه، التفت، والده على بعد قليل، تأهب زاهر للانطلاق، وأشار له الأب بيده أن يبقى. تسمر زاهر فى مكانه، تأمله الأب لحظة وأخرى مشمراً جلبـابه حتى لا يلمس الأرض.

-        انت بقى زاهر؟

أومأ زاهر صامتاً. وقال الأب.

-        تعال.

تقدم زاهر ووقف أمامه، ومد الأب يده وأمسكه من كتفه، وشعر زاهر بالأصابع تنغرز فى لحمه، وتوجعه:

-        أنا موش عارف ربنا ابتلانا بكم ليه. مفيش إلا ابنى. عندك عيال الدنيا. وجاى لغـاية بيته. أعمل فيك إيه؟ رد.

يهزه فى عنف، وزاهر يحدق فى وجهه ولا يتكلم، الوجه نحيل، وعظامه بارزة، تشوبه صفرة، ورعشة خفيفة بفمه:

-        بقول لك رد.

صوته يعلو حتى أصبح زعيقاً، وتجمع جيران على رأس الحارة التى يتواجدان بها، وقفوا هناك ولم يتقدم أحد أو نطق بكلمة. يزداد الوجع فى كتفه، الأصابع المغروزة فى لحمه تلمس العظم وتضغط، انحنى قليلاً، أراد أن يخفف من قبضتها. نالته صفعة. وقف ساكناً محدقاً فى الأرض.

-        بص لى. الحارة دى. من أولها لأخرها. والحارة اللى جنبها. واللى بعدها. أشوفك فى واحدة منهم حا أقطم رقبتك.

يحاول زاهر أن يبتعد قليلاً عن أنفاسه التى تلفح وجهه، يجذبه الأب من كتف الجلباب، القماش لم يحتمل الشد، مزق كبير برز منه كتف زاهر العارية، الأب ينظر إليها متعجباً:

-        إيه ده؟

هدأ فجأة. التفت إلى الواقفين على رأس الحارة:

-        قولوا لهم فى البيت يجيبوا جلابية من هدوم الكلب اللى فوق السطح.

اختطف زاهر نظرة إلى فوق السطح، ولمح عبد الله ما يزال منبطحاً يمسح عينيه بقبضته.

جاء الجلباب سريعاً. رماه الأب على كتف زاهر:

-        خد. بدل الخرقة اللى انت لابسها.

وتراجع خطوتين ونفض جلبابه. وكان يتأهب للعودة حين رمى زاهر الجلباب على الأرض وابتعد، ولاحقه صوت الأب:

-        شوفوا ابن الكلب.

*  *  *

سكينة فى قعدتها على المصطبة تنتظر طلعة النهار التى اقتربت. الشمـس بانت فى الأفق، وأشعتها تلمس طرف مئذنة الجامع، والندى فوق تراب الحارة أخذ يجف، وصوت سعلات يأتي من هنا وهناك، مدت ساقيها وراحت تدعك ركبتها:

-          هانت. شوية وأبص عليهم.

رجب رفع رأسه عن فخذها ونظر حوله، وزغلول بالطرف الآخر من المصطبة يمص عود القش ويرقب كلباً يتشمم جنب الجدار، وزاهر فى قرفصته عند الباب يتجنب النظر إلى أمه، يخشى أن تطلب منه الذهاب إلى فرن عباس بعد أن غادره عبده الفران من يومين. رآه يحمل صندوقه متجهاً إلى المحطة، وتوقف عبده حتى لحق به وقال:

-          إيه يا زاهر. آن الآوان.

وزاهر لا يتكلم. وعبده الفران سكت.

تمت