هذه قصة جديدة للقاص والروائي المغربي الكبير، يتوقف فيها عند مرحلة تاريخية بصورة تحيلها إلى استعارة شفيفة للكثير مما يدور في الحاضر.

قصة أبن دارة

بنسالم حميش

يسألونني كثيرا عن الأندلس والمغرب ويترجونني أن أعقد لهم درسا أختار موضوعه أو أجيب فيه عن بعض مشاغلهم وهمومهم لم يكن لي يد من الاستجابة لهم، فجالستهم في ركن معزول وتهيأت للكلام، لكن متي إن أنهيت البسملة والصلاة علي النبي وأله وصحبه حتي اقترب مني رجل قال إنه ناظر الجامع، ونبهني إلي أن الدرس من دون ترخيص أولي العلم والأمر ممنوع، ثم عاد الي خلف الجمع ووقف مع أعوانه بالمرصاد. ثقل الموقف علي لما لاحظت بعض الصخب يسري في الصفوف، وحركات مشبوهة تبدو هنا وهناك نهضت وقلت للطلبة: 'حرمنا من الكلام في بيت اللهو لكن أرض الله واسعة.. ردد من سمعني: 'أرض الله واسعة وعريضة'، فتبعهم في الترديد الجمع كله، وصدع البعض بالحديث الشريف: 'عالم ينتفع بعلمه خير من ألف عابد' غادرت الجامع محاطا بهم، ثم سرت في مقدمتهم، أمرا بالمسالمة والهدوء، متجنبا ما استطعت مخافر الشرطة، وذلك علي ضفتي النيل محلات المبرجين واللاعبين والملهين والخيالين والعرافين، وذلك حتي لاينساق وراءنا فلول البطالين والمتسكعين وهكذا توجهت بالفوج الحافل إلي مقبرة القرافة علي سفح جبل المقطم، وهنا جالستهم علي سطح أجرد، فعالجت قضايا تهم معاشهم ودنياهم، وأخري تربطهم بأمور الفكر والدين كانت لبعضهم أسئلة مخصوصة في الفقه والكلام والفلسفة والتصوف، فأجبت عنها بأبسط العبارات وأوضحها، وزيلت كلامي باطلاعهم علي نظريتي في التحقيق والتقريب. موصولة بما أراه في شرائط الخلع والتجريد، أخيرا ختمت بالإجابة عن سؤال بعضهم في الجهاد ضد الغزاة الإفرنج، فقلت إنه فرض عين علي من استطاع إليه سبيلا، وليس تحته أهل معوزون يعولهم، ولم يكن مسنا أوعليلا.
مع الغروب توقفت، رأيت وجوه الطلبة مشرقة بدور التحصيل والفهم، وتنافسوا بلهجتهم الدافئة السخية في تقريظي والثناء علي ٌنصحتهم بالعودة الي حال سبيلهم، فترجاني بعضهم في أخذ جانب الحيطة والحذر من فقهاء وشيوخ التدريس بالأزهر، سمعوهم ينطقون في حقي بألفاظ الاستياء والتذمر، من صنف 'هذا الأندلسي جاء يفسد فتيان مصر، كما فعل من قبل في مرسية وسبتة وبجاية..'، 'هذا المتفلسف يقول بإفلاس أهل العلم والفتوي، ويؤلب الناس عليهم لابد من لجمه وإيقافه عند حده ...' أبلغوني بهذا وشبيهه ثم ودعوني لاحقين بأصحابهم، إلا من رجل مسن تقدم لي بصفته أمين القرافة، قال إن كلامي نزل عليه بردا وسلاما، ولو لم يفهم سوي بعضه، ثم دعاني إلي المبيت في بيته بين أموات مؤمنين كرام. قبلت شاكرا بعد تردد، فتبعته إلي حيث أشار وقفت معه داخل ضريح وسيع، تضيء الشموع المنصوبة فيه قبورا مبنية وجنبات عليها لحف وحصائر عرفني الأمين علي بعض الدفناء واحدا واحدا، وكلهم من الأولياء والصالحين،و لا أعرف منهم أحدا. قدم لي كسرة خبز وتمر، وقال إنه ذاهب لقضاء بعض الشواغل، ناصحا إياي ألا أكترث لإقابل بعض أبناء السبيل لمشاركتي المبيت، ثم ضرب لي موعدا في فجر غد الجمعة الذي هو، كما أكد، يوم الزيارة والصدقة.
سمعة هذا الرجل، يامولاي، تسبقه حيث يحل ويرتجل، وهي،والعياذ بالله، في السوء ضاربة، وعلي أوتار الغي والعناد جارية كلامة في وحدة الوجود كفر وتجديف، وقدرته علي إفساد الأغرار وضعفة الإيمان خارقة شيطانية يلبس علي الناس بالسحر والسيمياء، ويخدعهم بالأقاويل المتطاولة والبدع الضالة المضلة له، علي سبيل المثال لا الحصر، لغو في التجريد، يقود متبعيه الي التزهد المتشدد والعصيان السليط وخلع حقوق أولي الأمر وأولياء الدين، بل إلي الحمق المبرح والسلوك الجانح الخطير، وهذا ما أتاه أمس الأمس طالب صعيدي فقير إذ تذكر لأهله وحرفته، وتجني علي بنت بريئة يفسخ عقد خطوبتها، والادهي من كل هذا أنه ذات ليلة ظلماء أخذ من غرفته في سطح عال يرمي بكل حوائجه وماعونه ، فما كان من أجسام صلبة إلا أن أصابت رأس مؤمن عائد من صلاة العشاء، فأردته قتيلا وحين أحضر صاحب الشرطة الجاني وسأله عن سبب فعلته قال بالحرف، وهو عار إلا من مئزر: 'أردت التجريد فرميت، ثم ادعي أنه في الرمي مسير ولا مخير، واستشهد بالاية 'ومارميت إذ رميت ولكن الله رمي'، تعالي الرب عن ذلك علوا كبيرا، ولما سئل عن داعيه الي التجريد ومحرضه عليه، نطق باسم الماثل أمامنا، عبد الحق ابن سبعين المغربي وقيل الأندلسي. تململ القاضي في قعدته وحاشيته معه تملموا، وحدجني بنظرة فاحصة مستفزة، قال:
مازدك، ياهذا، علي ما أنت متابع به؟