يعد ديوان (سيرة الماء) لعلاء عبد الهادي – الصادر عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة 1998 – مشروعا جماليا يجمع بين انفتاح التشكيل، والدلالة، وكذلك السعي إلى تشكيل رؤى فنية تقبل التأجيل، والاختلاف ضمن بنيتها، دون أن تتخلى عن الأصالة، والبحث عن موقف ثقافي، وجمالي في آن ضمن صيرورة الكتابة، وتشكيلها اللامركزي المتغير للمعاني المتعارضة التي تصب في التعدد، والسخرية من الأحادية، وليس الموقف، أو المدلول الجمالي بحد ذاته. يسعى الشاعر – بوعي – إلى إنتاج نص ذي علاقات داخلية غير محدودة في الشكل، والدلالة معا، وهو أيضا يقع في سياقات ثقافية/ تأويلية عديدة مع نصوص التراث الديني، والحضاري التي تكتسب حضورا لا مركزيا جديدا في هوامش الديوان، وانتشار دلالات متونه المراوغة.
يرتكز النص – إذا – على تعددية تقوم على الاختلاف في الشكل عن طريق التجريب في ترتيب الصفحات، وبنيتها، واتجاه ترقيمها القائم على تأجيل منطقها الدلالي الأصلي بإضافة ترقيم آخر مناهض لاستقلال الصفحة من جهة، ووضعها في السياق النصي من جهة أخرى؛ ومن ثم تنفتح نقاط البدء في منطق النص، والقراءة معا؛ مما يسمح باتساع علاقات التشكيل المادي للنص، وتأويلاته في آن من خلال تلك الأوراق المطوية، والخارجة عن سطوة المسار المنطقي، أو الجمالي الواحد؛ وكأنه يشير إلى ثراء الرؤى، ومنطق الأشياء، وهويتها، وكذلك إلى تلك الإنتاجية التأويلية الأصيلة في عمليات القراءة، ووعي القارئ المنتج للنص؛ فالقارئ النموذجي للديوان – وفق تعبير إيكو – هو الذي يعيد إنتاج العلاقات التأويلية اللامركزية في السياق الجمالي نفسه، دون أن يتخلى عن تحديد الرؤى المحتملة، والمتغيرة التي تطرحها الكتابة، ويقوم عليها نموذج التواصل العلاماتي بين المبدع، والنص، والقارئ.
وتتجلى إيحاءات الديوان في الثراء الملازم لجذور العلامات، والأفكار، والنصوص، والضمائر، والأصوات، والذات المبدعة نفسها، والتي تعيد قراءة هويتها انطلاقا من تجاوز المركز، والبحث المستمر عن الحضور في مستواه الجمالي المتعدد. وبصدد هذا النوع من الآثار الفنية المتجاوزة للمركز يرى أمبرتو إيكو في كتابه (الأثر المفتوح) أن الأثر الفني قد تنفتح دلالاته من خلال طرق قراءاته، أو من خلال بنيته اللامركزية نفسها؛ ومن ثم يطرح مدلولين نقديين للأثر المفتوح؛ هما:
الأول: الأثر ذو البناء الفني المتكامل، والذي يصير – من خلال اكتمال بنيته- أثرا مفتوحا حين يؤول بطرق مختلفة، دون أن تتأثر خصوصيته.
الثاني: تنفتح فيه العلاقات بوعي جمالي، ويضرب له أمثلة بالأعمال الموسيقية لستوكهوزن، وبيريو، وبوسور، ويتفق مع بوسور في أن تلك الآثار تعطي المؤول الحرية، دون أن تؤثر فيه ضرورة يفرضها تنظيم العمل نفسه، ثم يستشهد بعمل (الكتاب) لمالارميه؛ فهو أثر مفتوح، ومتحول؛ إذ يتكون من كراسات غير مترابطة، ويمكن للصفحات الداخلية أن ترتب كل الترتيبات الممكنة، دون أن تفقد أي منها معناها؛ مما يمنح النص حركة، وحياة (راجع – أمبرتو إيكو – الأثر المفتوح – ترجمة عبد الرحمن بو علي – دار الحوار للنشر – اللاذقية بسوريا ط2 – 2001 ص 16، و17، و29).
وأرى أن ديوان (سيرة الماء) لعلاء عبد الهادي يجمع بين مفهومي إيكو عن الأثر المفتوح؛ إذ يطرح الديوان رؤى ثقافية، وجمالية متنوعة، ومختلفة ضمن تجاوزه للمركزية، وقصدية إنتاج اللعب الجمالي؛ وهو ما يمنحه خصوصية ملازمة لتحول الدلالة، وانفتاحها اللانهائي، وإن كان أقرب للمفهوم الثاني من جهة أصالة الاختلاف في شكل العمل، وعلاقاته الداخلية. ويستخدم علاء عبد الهادي مجموعة من التقنيات الفنية المؤكدة للاختلاف، والتعددية الجمالية؛ مثل المزج بين المتن، والهامش، وتبادل مواقعهما ،و تداخلهما في ديناميكية النص، والسخرية Irony من أحادية المدلول، والخطاب المركزي كما هو في آثار ما بعد الحداثية، والتجريب، والتعددية في ترقيم الصفحات، وشكلها، وكذلك الموقع الإعرابي، والوظيفة النحوية للعلامة الواحدة التي تقع في سياقين لغويين مختلفين في آن.
ويمكننا رصد خمس تيمات فنية في الديوان؛ هي:
أولا: اللعب الجمالي بين الأصالة، والتعدد.
ثانيا: الهوامش المتعالية.
ثالثا: انفتاح العلاقات التأويلية.
رابعا: تجاوز الحدود الزمكانية.
خامسا: التراث الثقافي في سياقات تأويلية متجددة.
أولا: اللعب الجمالي بين الأصالة، والتعدد:
ثمة علاقات من ثراء الدلالة، والتعارض الذاتي، ومقاومة البناء الثابت في السياق الشعري، وتأويلاته المحتملة في ديوان «سيرة الماء»؛ فمن السياق الأصلي يولد سياق جمالي آخر يناهضه من حيث الدلالة، ويباينه في الشكل؛ فقد وضع الشاعر خطوطا أسفل الكلمات التي يولد منها السياق الثاني للمعنى؛ ومن ثم يسعي النص بوعي إبداعي إلى التأجيل، والاختلاف من خلال ذلك اللعب الجمالي الذي لا يخلو من مضامين، ورؤى ثقافية متناثرة؛ وهو ما يدعو إلى قراءته طبقا للانفتاح، والأصالة معا.
وقد وضع الشاعر مجموعة من الهوامش المناظرة للمتن؛ ليؤكد لا مركزية المسارات النصية، والتاويلية من جهة، ويعزز من الارتقاء ببنية الهامش التي تبدو مثل المتن، أو تتداخل مع موقعه، ودلالاته الأولى؛ وكأننا أمام مواقع جمالية يختلط فيها الجزئي، والنسبي بالنماذج، والعناصر الكونية، دون مركزية واضحة، أو مسار نصي واحد؛ فقد يستمد المتكلم طاقته الذاتية، والشعرية من التشكيلات الإبداعية الكامنة في الهوامش، وقد يستمد الهامش طاقة التحول من امتزاج الذات بصيرورة الكتابة في المتن.
يبدأ الشاعر بالتجريب في تشكيل الغلاف الداخلي؛ إذ يضعنا أمام إشارات تزاحم مركزية المتن، وتفككها؛ فنجد عنوانا آخر هو (وقائع نبوءة الموت)؛ وهو إيماءة بتناقضات الماء الذي يوحي بالفيضان، وإعادة تشكيل بدايات الحياة في الوقت نفسه، كما يتناص مع اقتباس بومثيوس للنار في سؤاله أسفل العنوان/ سيرة الماء (كيف أسرق النار؟)، وكأنه يتهيأ لاستعادة بداية تشكيل نور المعرفة، والحضارة الإنسانية، وذلك في سياق ظلمة محتملة تتداعى مع اقتباسه فقرة من الإصحاح السابع من كتاب أعمال الرسل؛ وهي تشير إلى الجوع الذي عم في عهد يوسف عليه السلام قبل أن يأتي إله إخوته طلبا للقمح؛ وهو ما يعزز من تداخل البدايات، والنهايات، وذاكرة العقاب، والارتقاء الروحي، والحضاري في الوقت نفسه.
وتغلب إيحاءات الصخب النسبي للكتابة الشعرية في متن القسم الأول من الديوان؛ وهو (سفر الهوية)؛ إذ يبدو الهامش كتأمل أصلي في النماذج، والأفكار الفلسفية، بينما يقتبس طاقته المجازية من المتن، أو يتداخل معه حتى يحتل موقعه. يقول: "الكتابة .. عاصمة للتآلف/ تدشنها الدماء .. عاصفة على امتداد الوريد/ يقدح العبث جمرتين/ جمرة .. تصطاد بصنارة الألم .. بحيرة للذكرى / وجمرة تشعل الحرائق/ على تل من خلاء".
ويصبح المسار النصي الثاني: "عاصمة/ تدشنها على امتداد/ العبث جمرة الألم/ وجمرة من خلاء".
ترتبط الكتابة في السياق الأول بالانسجام الجمالي، والمعاناة، والفراغ، والامتلاء في الوقت نفسه؛ إذ يصير الخواء مملوءً بتكوينات المجاز الحية في التحولات الذاتية للكتابة، وإذا تتبعنا السياق الثاني في مسار الكلمات التي ميزها الشاعر بوضع خط أسفلها سوف نلاحظ انتشار مساحات السلب في مقابل الصخب الأول، وتهميش دلالات التكوين الكامنة في علامة العاصمة.
إن السياق الثاني يثري الأول بالكشف عن هوامش الاختلاف الكامنة فيه، ويعارض بنيته، ويتداخل معها في الوقت نفسه؛ فتبدو العاصمة مولدة من سياق الصخب نفسه المميز للكتابة في النص الأول، وإن جاءت مشبعة بواقعية تتجه نحو مجازات التلاشي.
وقد يلج الإبداع مدلول الحياة اليومية؛ فتصير دوالها ممثلة للصيرورة المجازية المميزة للكتابة، ولطيفية المفاهيم، وكينونتها التعبيرية في النص.
يقول: "أعربد فوضى/ أذهب للقهوة/ تدخننا أرجوزة .. على أرصفة الكتابة/ يجمع الموت الجميع .. أمسح السماء/ وهذا الزحام .. حكيم .. يلاحقني الناس .. تختنق العزلة/ لم يبق سوى الكتابة .. أو .. أن أمتلك نصا يمنحني حق إبعاد الآخرين عني !".
و النص الآخر هو: "أعربد فوضى/ على أرصفة السماء/ وهذا الزحام يلاحقني/ يمنحني الآخرين".
يستحضر المتكلم هويته حينما ينخرط في أطياف الكتابة، وتداخلها الأصلي مع السياق الواقعي، ويختلط الصوت بهذه الحركات، والتشكيلات الفنية الوليدة؛ فيمتزج بالدخان، وروح الأرجوزة، بينما تكتسب المفاهيم ، والعناصر فاعلية استعارية؛ فالموت الدال على التناثر نجده يجمع بين السلب، وإيجابية التحول الاستعاري، ويبدو الزحام دافعا لتحقيق لذة الكتابة في ذلك السياق الذي تختلط فيه الأطياف، والأصوات، والعناصر.
وفي مسار السياق الثاني للنص يؤكد الشاعر تواصل الأنا، والآخر في المشهد نفسه، وإن ارتكز على اليومي الذي يحتمل المجازي، دون أن يكون الأخير أصلا داخل اليومي كما هو في القراءة الأولى. إننا أمام حالة من التعارض الظاهري بين أخيلة الشعر الكامنة في الذات المتعالية، وصخب الواقع الذي يكاد يلامس الوعي المبدع، ويتحد به في المساحات الفارغة في المشهد؛ وكأن السياق الثاني يتهيأ في نهايته لاكتساب طاقة الكتابة مرة أخرى، ولكن ضمن بدايات تمنح الذات، والآخر وجودا ماديا يوشك أن يصبح طيفيا. وقد وضع الشاعر تأملاته للنماذج، والمفاهيم في الهوامش، وجعلها أكثر تكثيفا، وكأن الهامش هو الأصل، أو يتهيأ ليحتل موقعه في صيرورة الكتابة، ولكن تلك النماذج نفسها تقع في حالة من الحركية الإبداعية الملازمة لوجودها في وعي المتكلم، وخارجه.
يؤول الشاعر الهواء من خلال سياقين؛ فالأول يجسد موسيقى السلام، والتناغم الكوني، والآخر يؤكد إيجابية الصخب، والتحول. وأرى أنه من داخل هذا التأمل الكثيف يمكننا القبض على رؤيتين للإبداع في مشروع علاء عبد الهادي؛ هما الاختلاف والتحول في الحياة، والكتابة، والبحث عن أصالة السلام الداخلي للذات، والعناصر، ومن ثم البحث عن نسق جمالي يقبل الاختلاف، واستمرارية التكوين في الوقت نفسه.
يقول: "الهواء : يجري لمستقر له !/ يشعل في الكون قلبا .. من مدى/ ورئة من رياح".
والنص الآخر هو: "الهواء يجري/ يشعل مدى من رياح".
تنتشر أخيلة الاتساع، والسلام الجمالي، والصخب الهادئ في السياق الشعري الأول، بينما تتجه القراءة الأخرى إلى الإعلاء من إيحاءات الصخب المنتج للحياة الخيالية للهواء، وهو ما يجسد طيران العنصر المجازي في إدراك الذات المبدعة؛ إنه المدلول الشعري الكامن في المستوى الكوني، ويمتد عنصر التحول الكامن فيه إلى الكتابة، ونشاط الوعي المبدع. ويؤول الشاعر مدلول الشعر في الهامش انطلاقا من المعاناة، والانفتاح، والتحولات المقاومة للبداية، والنهاية كما هو في فنون ما بعد الحداثية المتجاوزة للإطار، ثم يؤوله من داخل البحث عن الرؤى الجمالية، والتكوين في لوحة، أو نوته، أو كتاب، وقد جمع الشاعر في مشروعه بين المدلولين التأويليين للشعر؛ فسيرة الماء كتاب يسعى لتجاوز البنية المنطقية للكتاب نفسه.
يقول: " الشعر: دم الكائنات / فضاء .. لا يبتدئ لانتهاء".
والنص الآخر هو: "الشعر فضاء / يبتدئ لانتهاء".
تبدو الجذور التكوينية للأشياء ، والعلامات مهيأة للظهور في العالم حاملة لتحولاتها المحتملة من النشوة، والألم ، والغياب في السياق الأول، بينما يبدأ الوعي في تشكيل رؤاه الذاتية في السياق الثاني؛ فثمة تكوين في حالة من النشوء الجمالي، والاكتمال المحتمل الذي يتحد بالمنظومة الأولى المناهضة للحدود، دون مركزية واضحة.
ثانيا: الهوامش المتعالية:
تحتل الكتابة الذاتية موقع الهامش في نهاية سفر الهوية، ولكنها كتبت ببنط كبير، بينما تحتل التأملات الهامشية موقع المتن ببنط صغير؛ مما يعزز من حالة التداخل الأصلية بين النص، والهامش، وتأجيل فكرة الهوية بحد ذاتها في التداخلات، وتبادل المواقع، والكشف المستمر عن هامش الاختلاف في المتن، والهامش معا؛ وهو ما يدعو إلى التساؤل حول كينونة الهامش نفسها، والتي لم تعد هامشية بقدر حضورها الطبيعي في تعددية الكتابة. وتجسد هذه النصوص التي تقع في مواقع النص، أو الهوامش ارتقاء دلالات الاختلاف، والتناقض الثري؛ وكأن الشاعر يجسد التباس البدايات، والنهايات بصورة دائرية متكررة في أشكال جديدة من الكتابة التي تستوعب المفاهيم، والنماذج، والضمائر، والتكوينات الاستعارية – الكونية المتجددة في المشهد.
ثمة تداخل بين الأنا والآخر في السياق الإبداعي للمصائر، والشكول المجردة، والكثيفة من الحياة.
يقول: "الناس ينتظرون / ونحن / على أرائك الأرمدة".
ويصير النص الآخر: "الناس على الأرمدة".
يرتبط الرماد بالنهايات بينما تقترن الأرائك باللذة، والسلام الداخلي؛ وهو ما يعكس التناقض التكويني للمفاهيم، وفي المسار الآخر تغلب دلالة التهميش ونبوءة الموت الكامنة في الرماد، ولكن تجريد علامة الناس يوحي بحياة كامنة في المدلول تقاوم سطوة العدم، ويؤكد هذا التصور التأويلي استبدال الولادة للموت في المتن / الهامش التالي؛ إذ يقول:
"تصطلى فينا .. / نبوءة الموت / الولادة".
و المسار الآخر: "تصطلي الولادة".
وفي المسار الأول يكتسب الموت طاقة النار المولدة من زيف الرماد، ونهاياته؛ فيتبادل الموقع مع الولادة، وفي المسار الثاني تتجلى الولادة في المشهد كبديل عن دائرية الحضور، ورغبات الخلود غير الواعية في الذات، والآخر، والآخرين. التناقضات الشعرية هنا تكسب المدلول الذهني ثراء دلاليا مضافا للأصل، وملازما لبنيته، وبزوغه المتجدد في الوعي؛ فالموت يختلط بالنار؛ فيصبح ولادة بحد ذاته، بينما تختلط الأصوات بالرماد؛ فينتابها تهميش يشبه الرياح، أو العواصف الممهدة لحضور آخر.
وهكذا تتداخل المسارات النصية، أو تتطابق في الهامش / المتن؛ لتجسد وهج البدايات المتجددة، والتي تستمد طاقتها من أخيلة النماذج في الوعي، واللاوعي؛ فالصباحات تتجدد، وكذلك الماء، وأصالة الإبداع، والرغبة في المعرفة.
يقول: "كأنما رغبته تفتحت على اتكاء: الصباحات: / كصنارة .. تلتقط قديم عنادها في عناء التأمل / يفتتح البدء بالاشتعال / ويختتم في مقام اليقين – بين الضلوع – الثقوب".
والنص الآخر هنا يطابق الأول.
لقد بدا الوعي هنا متحدا بالكثرة التي تتجاوزه، وتتشكل فيه مرة أخرى بصور نسبة شعرية؛ وهو ما يجعل الشعر ضرورة تسعى للانسجام والتوافق الجمالي من خلال أصالة الاختلاف الكامن في تجليات الإبداع النسبية في الأنا، ومرجعياتها الفكرية، والخيالية.
ثالثا: انفتاح العلاقات التأويلية:
تتداخل المسارات، والأصوات، والتكوينات في قسم (البدايات)؛ إذ يفكك الشاعر منطق الاتصال المنطقي، ويضع الكراسات، والأوراق المنثنية بحيث يمكن قراءة الجزء من أي نقطة، دون أن يتأثر المعنى، أو إمكانية الاتصال التأويلية المحتملة بين الصفحات، والتكوينات النصية، ورغم تكرار تقسيم الشاعر لأصوات، وتكوينات هذا الجزء بين (الناس)، و(الطوفان)، و(أنت)، فإنه يدفع المؤول لقراءات تفاعلية محتملة بين هذه الأقسام، دون حدود في مجالي بناء التكوين نفسه، وعلاقته المحتملة بالتكوينين الآخرين؛ وهو ما يؤكد أن تلك الرؤى، والأخيلة مازالت في حالة من الحياة البهيجة المرحة؛ إنها في حالة عمل يصل الكتابة بالمفهوم الواسع للحياة الواقعية، والطيفية في آن، كما يظل التراث فاعلا في النفس المتعالية، ورؤيتها للواقع، وفي علامات الواقع الشعر نفسه.
وفي مسار تأويلي محتمل يمكننا قراءة الصوت (أنت) كذات متعالية تسعى لتجاوز بنيتها، ويجمعها بتكوين (الطوفان) النزوع الإيماني، والتعالي الروحي؛ أي تستمد تلك الذات طاقتها الروحية من أخيلة الماء الصاخبة في (الطوفان)؛ كي تتجاوز غياب الصوت الفردي في سياق صوت (الناس)؛ إذ تسعى إيماءات التهميش فيه إلى طلب الخلاص؛ وهو ما يدعو إلى ارتباط تأويلي عضوي جديد بالطوفان؛ ففيه تكمن ولادة الأنا من داخل الناس، دون نهاية حاسمة للمسار الدلالي؛ فنبوءة الموت التي بدأت في صوت الناس تبلغ ذروتها في صخب الطوفان، بينما تستمد من خلاص المؤمنين بدايات جديدة تبحث عن الصوت الفردي المبدع في صوت (أنت). وقد تنتج العلاقات المحتملة بين النصوص مسارا تأويليا آخر يبدأ من تناقضات الصوت (أنت) الداخلية؛ إذ يجمع بين التعالي، واحتمالات الموت معا، وتتصاعد تلك التعارضات الداخلية في حالة (الطوفان) الذي يجمع بين التدمير، والبناء بصورة صاخبة، ويبدو تكوين (الناس) هنا ممثلا لخلاص جماعي محتمل يذوب في ارتقاء صوت الفرد في سياق تجاوزه لأزمته.
ولنبدأ بالترقيم (1) للمستويات النصية الثلاثة وفيه نلمح قوة السياق المهيمنة على صوت (الناس)؛ وهو ما يدل على التهميش، والانتظار لحدث ما؛ كالعقاب، أو النجاة، أو الخلاص المحتمل للصوت في شكله الجماعي الملتبس.
يقول: "نذهب نهمي في مائنا .. كي ننام .. عجينا/ نسهر على لحمنا/ نبني – فوق العظام – معاقل للعطش والسكينة !".
والنص الآخر هو: "نذهب في مائنا .. كي ننام على لحمنا / نبني السكينة".
وتهيمن أخيلة السلب في أحلام اليقظة على المسار الأول للصوت؛ فثمة علامات تشير إلى الهدم، والتحول؛ مثل (العظام)، و(العطش)، و(العجين)؛ وكأن الصوت يلج نبوءة للموت، أو العقاب، أو أنه يقع في سكينة ملتبسة تجسد حالة من الانتظار الدائري، وقد مزج الشاعر الصوت بهامش يستحضر فيه مدلول الاصطفاء المبني على الإيمان؛ فهل ينتظر الصوت نهاياته عند انحرافه عن النواميس؟ أم أنه يسعى للأصالة المبنية على عنصر النجاة الكامن في تكوين الطوفان؟ وتتجه القراءة المرتبطة بالمسار الثاني للنص إلى المدلول الإيجابي للسكينة كغاية يحقق من خلالها صوت (الناس) أصالته، وارتباطه الفطري بالعنصر الكوني / الماء في حالته الخيالية الهادئة في اللاوعي الجمعي؛ فهل هو اتساع الكون الممتد في الصوت الجماعي؟ أم أنه الحضور الروحي السابق لصخب التحول القادم؟.
ويستعيد الشاعر بدايات التدمير الكامنة في أخيلة الطوفان الممتدة في صيرورة الكتابة، وتشكيلها لسياق الوعي المبدع في حالته المتعالية، أو ضميره الجمعي؛ الطوفان طاقة إبداعية للموت، والحياة، وبكارة التجدد داخل الذات، وخارجها.
يقول في المستوى الدلالي للتدمير:
"ووجه الفجر مجدور / والوقت صوبك ليل .. يعيد الصهيل / يضيق المدى .. هامة .. / فوق شعر الفضاء / تمشط بالبوم ترقوة المدائن".
والنص الآخر هو: "الوقت ليل/ يضيق فوق المدائن".
يستعيد الشاعر شاعرية بدايات الطوفان بوصفه تدميرا يعلو على السياق الإنساني؛ ومن ثم يرتكز في استعاراته التأملية للمشهد على نحول الفجر، وسطوة الليل، وخفوت المدائن، وتضاؤلها، ولكن طاقة الطوفان نفسها، وأصداء (الصهيل) تحتمل بدايات جديدة يؤكدها ذلك الاستثناء للمؤمنين المقتبس من كتاب التكوين في الهامش؛ وكأننا بصدد بزوغ للذات الشعرية المتعالية التي تتخذ من إخناتون مظهرا مجازيا متولدا عن النشوء الآخر للحياة فيما وراء التدمير الظاهر. ونلاحظ سطوة الظلمة على المدائن في المسار الثاني للنص؛ إذ تمثل نبوءة أخرى للطوفان، أو تؤكد تكرار بداياته في الكتابة، وعلاماتها في المستقبل.
أما الترقيم (5) من تشكيل النص نجد فيه الأصوات، والعلامات في حالة من الوهج، والصخب الجمالي البهيج؛ فالكتابة هنا تحاول القبض على اللحظة التي يتسع فيها الصوت، أو العنصر الكوني في تجاوزه لبنيته؛ إنها الروح الفتية للأشياء في سياق استشرافها للخلود، دون أن تغيب عنها النغمات، والإيحاءات السابقة.
يرتكز الشاعر في الصوت (أنت) على البكارة المتجددة لتفاعل الروح، والوعي مع العالم في سياق إبداعي ممتد.
يقول: "صغيرا كنت/ أضرب برئة الجناح المدى/ أصطاد شمسي بفخ بسيط/ وحين تحط/ تحك رأسها في يدي ../ وأمضي/ أداعب على حائش النور ظلي/ ويضغط قزح/ في سكون الحجارة رمحي".
والنص الآخر هو: "كنت أصطاد شمسي/ وحين تحط تحك على النور رمحي".
يلج المتكلم الحركية الإبداعية بداخله؛ ومن ثم يختلط الوعي بالمسار الجمالي للعناصر الكونية؛ فالنور المشكل من المجاز الداخلي يلاعب الظل، بينما يتسع الصوت حين يدرك الإيقاع المنسجم للنور، وتحولاته الاستعارية.
ويشير المسار الثاني للنص إلى الإعلاء قوة الإشراقة النورانية للشمس، والتي تستحيل في عالم الشاعر الداخلي إلى أثر إبداعي متجدد؛ وكأنه يمهد في ذلك المسار التأويلي إلى قوة الماء في الحركة الثانية (الطوفان) الذي يبدو فتيا، ومشكلا للحياة الصاخبة المجازية للماء؛ إذ يكشف النص عن حضوره الصافي المجرد.
يقول: "يخلع عنه الحفر/ يجير المهتضمين ببحر/ يخبئ خبز الحقيقة في كرمته/ يصطاد من صفحته التجاعيد/ يناصر مسكونه المرتجف".
و يصير النص الآخر: "يخلع عنه التجاعيد/ يناصر مسكونه المرتجف".
تتجه فاعلية الماء الخيالية إلى سيرته الخاصة؛ فهو يكشف عن صفائه، وحضوره الآخر في الوعي، واللاوعي، ويتجاوز منظور الأنا؛ ليصير قائما بذاته مستشرفا لقيمة الحياة نفسها قبل تشكل إشراقة الوعي، وانخراطه في فعل الكتابة.
وتتفق الكتابة الأخرى للنص – ضمنيا – مع التصور الأول؛ فالماء يكشف، ويتعالى بصورة كثيفة تتجاوز الندوب الأولى.
وبالتداعي نجد صوت (الناس) يوحي بالكثرة، واستشراف فجر للخلاص، والتحقق، وتجاوز ظلام القلق من داخله؛ إذ يسعى الصوت للانسلاخ من هيمنة التهميش السابق.
يقول: "أي فجر سيأتي .. ونحن/ لم نخبر بعد الشتاء؟/ يفيق علينا السؤال/ حين تصعد في الذاكرة، الوجوه القديمة ../ مفاتشة بين الدخان/ حتام نظل طريقا .. / توردت وجنتاه من كثرة العابرين؟".
والنص الآخر: "فجر يفيق في الذاكرة/ بين الدخان طريقا من العابرين".
ثمة استشراف للذكريات، والأطياف، ووهج للكثرة، وحضورها المتجدد في العالم؛ فالصوت يمجد فعل التساؤل المقاوم للظلمة، ويجدد من خلاله تحققه المحتمل.
أما المسار الثاني فيؤكد حضور الفجر، والعابرين في صورتهم الحية المتوهجة خارج سياق اليأس، والتهميش.
لقد امتدت نغمات (الطوفان)، و(أنت) فصار المجموع متحققا في أنوار الكتابة، والخروج عن أبنية القهر التي كانت تهيمن عليه.
وفي الترقيم (9) نلمح بواكير تخلق الحياة الجديدة المولدة من نغمات الصخب، وتصاعدها داخل الذات، وخارجها؛ فثمة انتظار يصاحب التشكل الآخر للصوت، والكتابة؛ هذا الصوت ممزوج بأخيلة الماء، وبالبدايات الإبداعية للحياة.
يقول: "عادت الطير تهتف / تحمل جيفة الماء / بين خوافي الجناح .. الذي لا يكن / على قوادمها رسالة الطين تنز / ترخي على الصدر أنفاسها والعين / تغفو قليلا ...".
و النص الآخر: "عادت تحمل الطين / ترخي أنفاسها ...".
يمتزج استقرار الوعي المبدع الحتمل بنغمتي انتظار الراحة، ومعاينة البزوغ المتجدد للحياة في المشهد؛ إنها الرسائل الروحية الصامتة المولدة عن الهول السابق.
و يؤكد المسار الثاني للنص توجه التجدد بإبراز عنص الطين قبل الانتظار، وكأنه رسالة تأجيل للانتظار.
ويأتي صوت (أنت) حاملا لأخيلة البحر الإبداعية الحية في نسيج تناقضات الكتابة الإبداعية التي تختلط فيها العناصر المتضادة في توافقية جديدة.
يقول: "أنا القدوم من جعدة / في جبين الرحيل / أعود / خليلي هو البحر / أطلق سنابك الريح تفرى / حتى انتفاخ الهواء على ساعد النار ...".
و النص الآخر: "أنا من جبين البحر / أطلق ساعد النار".
تعاين الذات حضورها الآخر من الفراغ السابق للتجدد الإبداعي في أخيلة الكتابة المولدة من اتساع البحر في عوالم الحلم البهيجة؛ فيبدو المشهد كاحتفالية بجماليات التناقض، والانسجام الداخلي للأنا في آن.
و يضخم المسار الثاني من ذلك الاتساع المصاحب للبحر، وكأنه نقطة لبداية الوهج الإبداعي، وتجدده في صخب النار، والهواء.
رابعا: تجاوز الحدود الزمكانية:
تنفتح الإشارات الزمكانية بين المحدود، واللامحدود في (سيرة الماء)؛ فالذات تسعى لماوراء الحدود، والاتحاد بعوالم الحلم الفسيحة، ودرجة تجسدها، وتمثيلها المجازي للخلود في صيرورة الكتابة.
وقد تتوحد الذات بالفضاءات المجازية النسبية؛ لتعاين من خلالها اتساعها الحلمي المحتمل فيما وراء الحدود الجسدية، والزمكانية معا.
يقول: "أتجرع أعضائي / ينعتني القوم بمدينة لا منارات لها / تيه شوارعي .. غير .. قابلة للاكتمال / فأمضي حزينا .. أزرع جسدي بحارا ترسو فيها السنون".
و النص الآخر: "أتجرع القوم / شوارعي قابلة للاكتمال / فأمضي حزينا .. أزرع السنون".
تتحول نغمة الانسحاب إلى الداخل، والاتحاد بأخيلة المدينة المظلمة إلى نغمات من الاتساع الحلمي فيما وراء الصوت، والكينونة، والحدود الزمكانية.
و يتجه النص الثاني إلى الاتساع الطبيعي للذات في صورتها الاستعارية التي تتحد مباشرة بالامتداد الزمني، أو استشراف الخلود.
وقد يكشف الشاعر عن تناقضات الزمن في تأملاته الهامشية؛ فيقول:
"الزمان: خريف من الأحباء تواروا .. خلف السنين !".
والمسار الآخر: "الزمان خلف السنين".
النص الأول يشير إلى أصالة التناقض في لحظة الحضور التي تجمع بين الغياب، وحضور الأطياف فيما وراء الزمن المرئي؛ ومن ثم يتولد الحضور المتجدد من أصالة الغياب.
ويتجه المسار الثاني إلى استشراف الخلود بشكل مباشر فيما وراء السنين كزمن حقيقي متعال على الحضور، وحدود الكينونة.
وتتسع دلالة تجاوز الزمن في القسم الثالث من الديوان المعنون ب (سفر البعث)؛ إذ يتعالى الصوت الشعري باتجاه أصالة دائرية الوجود الروحي، وامتداده فيما وراء الحضور؛ فأيام الأسبوع تتجه نحو نغمة الموت، بينما تؤكد إيماءات الخلود الكامنة في (النفس)، وخطاباتها الممتدة، والمتجاوزة للحظات المنقضية.
يقول: "فتنثال من جيوب الذاكرة الفتوحات فعلا والمغازي / تبلل جرحنا / بملح الإرادات التي / لا تنطفئ إن اشتعلت / جذاها".
و النص الآخر: "فتنثال الإرادات التي اشتعلت جذاها".
و نلمح – في السياق الأول – مدلول التجدد ممزوجا بالمعاناة، والبزوغ المشرق للروح، بينما يتجه المسار الآخر إلى ولوج الإشراق الروحي نفسه مجردا من الأشواك، وصخب الاشتباك بالجزئي، واليومي، وهنا تكمن المفارقة الشعرية في ذلك المشروع بين الإيغال في التفاصيل، والصور النسبية المنتجة بواسطة الوعي المبدع، وما يوازيها من قيم، ونماذج، وأفكار تكشف عن منطق التجاوز المتجدد للحدود الأولى.
خامسا: التراث الثقافي في سياقات تأويلية متجددة:
تقع النصوص المستوحاة من التراث الديني، والثقافي في علاقة معقدة مع لحظة الحضور في النص؛ فإيماءات كتاب التكوين عن الطوفان تندمج بالتهيؤ لنهايات مؤقتة في الذات، وتحولات العناصر بينما يظل الاصطفاء، أو الاستثناء قائما حتى تتشكل الذات المبدعة حينما تتجدد الحياة في العالم، ويعاين الوعي ذلك البزوغ الجديد لحضوره في المشهد، وتشير الإيماءات إلى إخناتون إلى خضوع ينزع إلى ارتقاء ملتبس، بينما تقع حكمة ابن عطاء الله في سياق البحث عن ذلك العلم الداخلي، وسبل البحث عن الهوية في تحولات النص في سياق تجدد لحظة الحضور الفريدة في مسارات استعارية عديدة.