هاجس هذه المجموعة المركزي: الإحتفال بالمكان، مكان يمتلك هوية وتاريخا وذاكرة. فالمكان، في هذا العمل، كائن حي، بدءا بالعنوان، مرورا بمختلف مفاصل النص ومستوياته المعرفية والدلالية، من حيث كونه مكانا له طعم ولون ورائحة، متوزعا بين الألفة والوحشة، الإنغلاق والإنفتاح، الغلبة والهزيمة، المادي والروحي، الواقعي والمتخيل.
ولما كان الأمر كذلك، فإن الحديث، في هذا السياق، سينصب على المكان، من حيث كونه فضاء{2}، يتجاوز محدودية المكان الجغرافية(الطوبوغرافية) نحو ( طوبوغرافية) أخرى تمتحمن تضاريس الوجدان، وتفاعلات البصر والصيرة.
ولعل ذلك ما أكده "جوزيف فرانك"{3} في دراسة هامة ما زالت محتفظة براهنيتها، بحكم اشتغالها على الفضاء، في السرد الأوروبي الحديث، من حيث كونه منظومة ثقافية متكاملة المرجع والدلالة.
يتسم الفضاء، في هذه المجموعة، بالتالي:
1- الإصرار على التحديد الجغرافي الصريح من خلال تكرار تسمية الجنوب. "حين الظلمة، تبرك على الإمتداد، على سهل نابت في مكان ما من الجنوب". ص.9.
" من يحس كثافة الظلمة؟ المرأة الجنوبية الغارقة في نومها؟ص.35.
" ولائم الجنوب".ص.55.
2- الإصرار – مرة أخرى- على توسيع تضاريس الفضاء المادية والروحية للجنوب، ليصبح فضاء صحرا ويا، معبرا عنه كليا، أو جزئيا دالا على أبعاده الدلالية.
" عند المنحدرات والحفر والآبار الناضبة".ص.15.
" .. وهي قصر مهجور عبثت أصابع الزمان بزهرة شبابه".ص.21.
" أعرف رجلا تدرب قلبه على البداوة.. لم يعاند الصحراء، فهو يعرف طبعها.." ص.47
" لكن الجفاف صعب هذه المرة".ص.57.
وهذا الفضاء، جنوبا أو صحراء، يمتلك مؤشرات دالة تتوزع بين السارد، بضمير المتكلم النحوي والسردي، (.. وفي بياض النهار حين تطلع الشمس الحارقة، أركض نحوالزقاق..) ص.27، وبين المسرود له، أو عنه، داخل النص أو خارجه، المنضوي تحت عباءة ضمير المخاطب، إنسانا أوحيوانا ونباتا، ذكرى، أو محكيا من المحكيات المتداولة. "فطفولته قصيدة تركض وتسيرمع الريح"ص.75. هكذا انتشر الفضاء في هذه النصوص، بما فيها النصوص المفعمة بروائح "نوستالجية" خاصة، والتي برز فيهاى الوشم الفضائي، من خلال مؤشرات دالة. في قصة " طفولة ندم" تبرز ملامح الجنوب من خلال نموذج المولدة "القابلة"، وطقوسها في التوليد.
في نصوص" عبد العزيز الراشدي" يصبح الفضاء هو المتحكم في بناء عوالم الكتابة السردية{3}، بعد أن أصبح ( الجنوب) دالا على " إيديولوجيا" الكتابة، قبل كتابة الإيديولوجيا، مبتعدا عن الثنائية الضدية الشائعة (أبيض&أسود)، مفضلا- دون إصدار حكم قيمة- تقديم الفضاء الجنوبي عبر المحاور الأربعة التالية:
1- المكان- الفضاء من حيث كونه مسرحا لاستمرار السلالة، أو المحافظة على النوع ضد عناصر الإفناء والتدمير اليومي الطبيعية (الجغرافية القاسية)، أو من خلال محمولاته المختلفة المشدودة إلى الشرط الطبيعي، ودوره في إنتاج مسلكيات محددة في العلاقات اليومية المختلفة.(القبة/ولائم الجنوب/ زقاق الموتى/ عزلة الكا..)
2- المكان- الفضاء من حيث كونه أداة، أو وسيلة لاسترجاع طفولة هاربة، طفولة الإنسان وطفولة المكان.
3- المكان / الفضاء من حيث كونه وسيلة لمقاومة الفقدان، بما فيها فقدان المكان ذاته سواء بسبب الطبيعة القاسية ذاتها( جفاف/ تعرية..) أو بسبب عوادي الزمن- الموت خاصة- المخلخلة لنسق السيرورة- والصيرورة أيضا- في هذا الموقع من العالم. ومن ثمة تصبح الجزئيات – على بساطتها- المنتشرة في هذا المكان/ الفضاء بمثابة "أيقون" خاص يشع بالدلالات القريبة والبعيدة التي - وهي صوى الطريق- تسمح بالإنتقال عبر مستويات النص، وأبعاده المختلفة.
4-المكان/ الفضاء من حيث كونه موضوعا للكتابة. فالكاتب، في هذه المجموعة، لايكتب عن الفضاء، بل يكتب بواسطة الفضاء. حروفه من ذرات الرمل، وأوراقه من سعف النخل، وحبره من البئر الجاف، وصوره من مرويات الريح، وشخصياته من الإنس والجن والضب والشيح والحر والقر والشوك والغربان والقصور المهجورة، لكنها مسكونة بصدى من مر بهذا المكان. من هنا اتسعت هذه النصوص لتشمل الصحراء، وضاقت- في الوقت ذاته- لتقتصر على "القصر" والمدشر والمنزل والغرفة والبئر والنخلة، وأخيرا، وليس أخيرا، ذرة الرمل.
السعة والضيق، في هذه النصوص، مسألة نسبية، ما دامت – بالمفهوم الجشطالتي- بقعة زيت قادرة على منح المكان دلالات عديدة، بل إن انعدامها، في هذا الفضاء، يحول هذا الأخير إلى صفحة بيضاء فاقدة للذاكرة.
من خلال هذه المحاور الأربعة، المشار إليها أعلاه، يصبح المكان/ الفضاء بوصلة هادية للسارد والنص، في آن واحد، عبر تقري الأمكنة/ الفضاءات، وانعكاس ذلك على الجسد والذاكرة ومكونات البيئة المختلفة. كما أن المحاور ذاتها، تخلق كيمياء جديدة جسدها – على حد تعبير " جوزيف فرانك"- (شكل فضائي) أعلن عن وجوده منذ الوهلة الأولى.
ماذا حقق هذا الشكل الفضائي في المجموعة الحالية؟
1- حقق نوعا من الخصوصية- كما فعل الطيب صالح-{4} تضافرت في إنتاجها مكونات الطبيعة والإنسان، الماضي والحاضر، ذاكرة الفرد وذاكرة الجماعة، الوهمو والحقيقة، السرد والوصف.
ولايقوم – كما سبقت الإشارة( هذا العالم على الثنائية الضدية المتداولة، بل يقوم على الإصرار في تقديم هذا الفضاء بعيون مفتوحة دون تأفف أو استهجان. لنتأمل هذه الصورة الصحراوية- بامتياز-
عبر وصف لمؤثاته البسيطة، لكنها تمتلك طعمها الخاص، ورائحتها المميزة.(.. وسط السهل ينفلت فراغ بليد، فائض غير محدود، لايفسح المجال أمام انحدار، أو منعطف، كبحر هادئ، أفقه الجبل، على صفحة كثبان صغيرة من الرمل، مقددة بعناية.أحجار سوداء.أما الريح فتصنع ارتعاشها في المدى، صوتا يحاكي جموح حصان أرعن) القبة.ص.9/10.
2- وهذه الخصوصية ليست تأثيتا شكليا للمروي، أو ديكورا زائدا يقبع مكتوف الأيدي خلف الحكاية، بل إنها- الخصوصية- مكون رئيسي من مكونات النص عبر أقانيم الهوية والوجدان والذاكرة مما أنتج:
أ- لحظات من الأسطرة التي يتحول فيها الفضاء إلى منظومة من القيم تسمح للكائن بالمقاومة والإستمرار، فضلا عن التفسير والتأويل اللذين نتجا عن التجربة الإنسانية المتوارثة، جيلا بعد جيل، في طقوسها اليومية، وعلاقتها بالموت والحياة، أو الوجود والعدم.
ب- هكذا يصبح الفضاء قدر كل الموجودات المتناثرة في زواياه وأركا نه الواقعية والمتخيلة.فمعادلة الوجود والعدم تستمد قوتها من طبيعة الفضاء الفاعل، قبل أن يكون مفعولا به. في قصة " زقاق الموتى" يتحول الموتى إلى مراقبين للأحياء، والشاهد الوحيد – السارد- على قوافل الذاهبين إلى مقرهم الأخير يصبح بدوره جزءا من هذا العالم، إلى الحد الذي تحول فيه البياض- تحويل دلالة الاللون- إلى مرادف للموت سواء تعلق بحليب الطفولة، أو بطقس متوارث ( رش الحليب على الأموات)، أو تعلق ببياض الكفن، أو بصورة أحد الأموات الراسخة في ذاكرة السارد، بعد أن مر به جثمانه دون أن ( يغطوا وجهه، وطنت بالسطح، فبانت عيناه البيضاوان... ظل البياض يغزوني ويحرك في شهوة البكاء).ص.29.
بكاء السارد، في هذا السياق، بكاء الميت على الحي، بعد أن توصل إلى قناعة لامحيد ..عنها تجسدت في كون( الحياة بالضبط هي زقاق الموتى. الحياة التي ينزرع الموت في كل مكان فيها).ص.30
ها هو ( كتاب الموتى) ينفتح على حكمة تكررت منذ الأزل، دون أن يمل الكائن الإنساني من ممارسة اللعبة، لعبة الموت الخارجة من رحم الحياة.
سأنهي هذا التحليل المتواضع، برسم سؤيع لتجليات " الشكل الفضائي" من خلال قصة " وجع الرمال" التي عنونت بها المجموعة.
ما أسباب هذا الوجع الذي امتد إلى الرمل بعد أن كان وقفا على الكائن الحي؟ كيف يتوجع الرمل؟ ما مظاهر التوجع من تقلصات ونداءات وآهات؟
الرمل- كما سبقت الإشارة- كائن حي يعيش حياته الخاصة، متفاعلا مع حيوات أخرى لكائنات حية أو غير حية. ومن ثم يصبح الفضاء ناطقا بلسان البدوي الذي لايعرف إلا الإرتحال.و(البدوي الحق لايستقر إلا حين يموت). قد يقول قائل: هذا من سمات البدو، فما الجديد في ذلك؟ الجديد هو أن الفضاء يصبح دليلا للبدوي، مبرزا تحولات الصحراء السلبية. فبعد أن كا ن مطهرا للنفس، مجالا للتأمل والمتعة، وسيلة للتسامي عن رذائل العمران المزيف، أقول بعد أن كان كذلك، تحول إلى فضاء لتصريف مظاهر التدمير اليومي لكل ملامحه "النبوية". والرحلة، في النص، ليست مجرد تحصيل حاصل، بل إنها مكون من مكونات النص . فالرحلة رحلتان:
أ- رحلة من الداخل( الذات) نحو الخارج.
ب- رحلة من الخارج نحو الداخل.
والرحلتان معا تحققان أعلى مرتحل التجريد، ليصبح المرتحل مجسدا في الإنسان قبل البدوي.(اسمه لايهم، ولايهم الزمن الذي ينتمي إليه... قد يكون من الحاضر، أو الماضي.. من بداية القرن أو وسطه وقد ينتمي إلى المستقبل.. من قال "إن للزمن معنى في الصحراء).ص.47/48.
ما أسباب هذا الوجع؟
أ- التوقف- كما سبقت الإشارة- الذي رادف الموت. والبدوي يعرف ذلك جيدا، مع اضطراه للتوقف، فدخل بذلك دائرة الموت، سواء موت الذات، او موت الفضاء ذاته.
ب- ومن ثم لم تعد الصحراء(أرض الأنبياء) بل أصبحت مثوى لكل الممارسات البئيسة. والمدى لم يعد مفتوحا على شفافية الرؤية النابعة منة طهرانية المكان، بل هو مجرد مدى مفتوح على ( غربان طالما راودته، فاجأته والتفت حول جيفة غزال).ص.50.
ج- ونتج عن ذلك تلوث الداخل( الذات) أمام سيل تغيرات الخارج.وتداخل الحلم بالواقع، وأن (كل ماحدث كان صدى لأحلامه)ص,50. والدنس انسحب على الصحراء والروح في الوقت ذاته.
د- تحويل هذا الفضاء النبوي إلى مجرد مرتع للطرائد، وسيصبح البدوي/ السارد، في نهاية المطاف، مجرد طريدة منة الطرائد لرجال (خضر العيون شقر الوجوه.. جاؤوا من شيكاغو أو نيوجرسي يكسرون الرتابة.. يصطادون الأرانب والغزال).ص.51.
إنه أخر البدو، آخر الرحالين، بعد أن خطا خطوته الأخيرة، وسقط صريعا على هذه الأرض التي أخلصت لطهرها الدائم.
يكتب "عبد العزيز الراشدي" نصه مثل نساج لايمل من حبك خيوطه، معيدا- أسطورة بنيلوب- تفكيكها وهو يسترجع مع كل خيط لحظة من لحظات اختراق الفضاء. فهذا خيط الطفولة، وذاك خيط التاريخ، والثالث عين على الحاضر والرابع يكرع من الأسطورة والمرويات المتداولة. وتفاعلات هذه الخيوط تنتج اللحظة الملائمة، او "البورتريه" المطلوب، بعيدا عن الخطية الصارمة، بعيدا عن هندسة البدايات والخواتم المقننة، بل إن النص ينساب- صعودا ونزولا- عبر كثبان النص التي قد تخفي أكثر مما تظهر، مفسحة المجال للمغامرة الدائمة، منتهية إلى خاتمة تظل مفتوحة على كل الإحتمالات./.
هوامش:
1- عبدالعزيز الراشدي : وجع الرمال. دار وجوه للنشر والإنتاج. المملكة العربية السعودية.الرياض.2007.
2- المكان- كما هو معلوم- له بعد إقليدي. يراه الأعمى والمبصر. والفضاء هو بعد المكان، أى تأويله عبر الذات، ومنحه أبعادا مختلفة, فالأمكنة المشتركة لاتولد الفضاءات المشتركة. و( نحن لانسبح في النهر مرتين). يمكن الرجوع أيضا إلى مادة ( فضا) في المعجم العربي، التي تعني اتسع. والمكان عند اتساعه لأسئلة الذات يصبح فضاء.
3-joseph frank/la forme spatiale dans la litterature moderne/poetique /n/ 10/seuil/ 1972/
4- موسم الهجرة إلى الشمال/ دومة ود حامد من مجموعته القصصية الحاملة للعنوان ذاته/ ضو البيت/ مريود.