هذه تجربة روائية سورية تؤسس لتقعيد بدايتها، ومعها تنخرط في السياق الراهن السوري بكل حمولاته وتجاذباته السياسية مع أنها تختار الانتصار لقيم النضال السلمي التحرري. كما تحاول الرواية التقاط الراهن السوري اليوم وتحويره حدثا ومنجزا سرديا يطمح لانخراط إبداعي في ما يروم من حراك اليوم.

أيام في «بابا عمرو»

زياد جيّوسي

ليست الرواية الأولى التي أخوض غمارها للكاتب السوري الشاب عبد الله المكسور، وربما لحسن الحظ أننا قد ارتبطنا بصداقة قوية رغم المسافات ما أتاح لي الاطلاع على رواياته وهي ما زالت مخطوطات قبل أن تنشر، ومتعة التفرد بالقراءة لمخطوط أشعر بها متعة تتفوق على القراءة بعد الطباعة والنشر.

في هذه الرواية والتي صدرت عن دار فضاءات – الأردن، وكالعادة أول ما يلفت نظري العنوان، وهنا شعرت أن العنوان أثارني لقراءة الرواية بسرعة، فالمكان في سوريا- حمص، وشهد المكان أحداثاً كثيرة وما زال في ظل الأحداث التي تشهدها سوريا منذ آذار 2012، والتي تفجرت وامتدت بشكل كبير وأدت إلى سقوط آلاف الضحايا من الدم السوري العربي الزكي، وكنت بحاجة لقراءة الأحداث بعيداً عن زيف الإعلام، والمسألة الأخرى التي شدتني هو الإهداء: (إلى حبات التراب المشكلة لاسمها الممتد عبر حروف خمسة.. إلى.. سوريا.. الوطن والأم..). ولعل كلمتي (حروف خمسة) قد لفتت نظري كثيراً، فأنا في كتابين من مؤلفاتي كان الإهداء فيها (لحروفي الخمسة)، ما دفعني للتساؤل في داخلي: هل كانت سوريا في عقلي الباطن حين أهديت مؤلفاتي لحروفي الخمسة؟

   الرواية اعتمدت أسلوب استدراك الذاكرة من الشوق في الاغتراب عن الوطن، وتبدأ عملية الاستدراك من لحظة الوقوف للنافذة والهمس: اشتقتك سوريا، لينطلق بطل الرواية في طرح السؤال الذي شكل البداية للرواية حين يتساءل: لماذا قلت اشتقتك ولم أقل أحبك سوريا؟ لينطلق لتذكر ابنة العم وهواه الأموي الطويل، وقصة البوح بالهوى العام 2003، وزيارته الأخيرة للوطن ومدى إحساسه بالغربة الذي دفعه للعودة (كالغيم الذي يسافر في كل البلاد ثم يعود)، فهو في الغربة يلجأ للكتابة وللصمت وتنتابه كراهية التكنولوجيا فيبتعد حتى عن بريده الإلكتروني، لاجئاً للذاكرة والشخوص الذين عرفهم، فيتذكر ناجي الزواوي الذي هرب من مدينة حماة في فترة الأحداث التي ألمت بها منذ أعوام طويلة، حتى أصبحت عنده (رغبة عارمة في كسر الآخرين) من خلال اصطحاب نساء (الأسواق والبارات والحانات)، (كما كسروا أهله في زمن مضى).

   يواصل بطل الرواية استدراك الذاكرة والأحداث التي تركت أثرها عليه، ومنها زيارته للجولان المحرر وهو في السابعة عشرة من عمره، فيقول: (لم أجد فرقاً بين وطني المحتل وبين وطني المحرر)، ويستذكر شخوصاً أعدمت في وطنه إما لمحاولة انقلابية أو لأسباب أخرى لها علاقة بالوطن، ويستذكر أنه لم يختر الكتابة الأدبية والروائية لولا تأثير زوجته (رفقة) على هذا المسار، فيقرر في لحظة تحقيق حلم له أن يزور سوريا كي يعد لتصوير أفلام وثائقية عن الأحداث، فيتجه إلى عمان عاصمة الأردن حيث يشعر هناك بالرعشة، فهو أصبح أكثر قرباً من الشام، (فهل قدر الشام أن تسافر معنا نحن أبناءها في كل المطارات وفي كل الحقائب وفي كل جوازات السفر؟)، وهو يرى أن الحدود العربية والمطارات تتشابه بالأسئلة وأسلوب التعامل مع القادمين إليها.

   الأمكنة والمدن حاضرة بقوة في ذاكرة بطل الرواية كما الأشخاص، فهناك زياد الكاتب والمرتبط بفلسطين إلى درجة العشق، والمستضاف سنوات من زهرة شبابه في المعتقلات العربية، وجهاد الشاعر والناشر في عمّان والحالم ببناء صرح من الثقافة يتجاوز الحدود، حيث (دائماً في عمّان هناك مساحة برغم كل شيء للأدب والشعر)، فيعيد المكان ذكرى المكان والأمكنة الأخرى، بغداد وحماة والعاصي وغيرها من الأماكن، وهذا يدفع بطل الرواية للتساؤل: (أتساءل لماذا مدننا العربية بالمجمل نختصرها بأسماء ملوكها أو أسيادها الذي رحلوا أو الحاضرين.. هل مدننا لا تستحق أن تكون مستقلة بذاتها فهي دوماً على عصمة رجل، ولا يجوز لها أن تحضر مفردة دون محرم!!). ويكمل الحديث عن المكان ورائحته فيقول: (لكل مدينة رائحتها المميزة التي يختزلها زائرها في جيوبه الأنفية، لا يستطيع تشبيهها بشيء عندما يود الحديث لأحد عنها ولا يستطيع وصفها رغم محاولاته المتلعثمة فيكتفي بالقول: (رائحة غريبة لا أعلم مثل ماذا ولكنها مميزة ولا تشبه إلا ذاتها، يستحضرها في أنفه وخلاياه ولكنه لا يجدها بين يديه عندما يطلبها فيغمض عينيه لتعود تسبح في قلب المكان الأول. للحاضر في حماه رائحة تميزه عن السوق، ولسوق المنصور أو سوق الطويل رائحة مختلفة تماماً عن جسر المراكب أو جسر السرايا، لباب قبلي رائحة تتفرد بنوعها عن حي الجراجمة والبولمان والسوق المسقوف.. في كل مدينة هناك روائح تعشش كما الذاكرة لتكون جزءاً منها دون أن تزول، في خان الزيت في القدس هناك رائحة، إذا أصغيت وبرغم كل محاولات العابرين من كل مكان لإخفائها لكنها تفوح معلنة حدادها وبقاءها والتزامها الأبدي بعروبة المكان، وقد حدثتني مرة زوجتي رفقة عن سوق البصل في نابلس والخان النابلسي فهناك روائح البهارات والزعتر والسمك والذبائح المتعددة الأسباب، لتسيطر بعد ذلك رائحة الياسمين في نهاية السوق رغم كل شيء، فللرائحة لسان لو سألته يجيب!! في المدن العربية تتشابه الروائح وتتفق الأرصفة مع بعضها بالعطور رخيصة الثمن وأوراق أمهات الكتب!! ولا زلت أذكر رائحة بيت جدتي عائشة رغم كل الأماكن التي مررت بها، ولصومعة زياد رائحة متفردة تشبه تلك النصوص المرتبكة التي تخرج فيها.. فهل الرائحة هوية ومكان!!).

 هذه الاستدراكات من الذاكرة والحديث عن الشخوص والمكان كانت عملياً هي المدخل للرواية التي تبدأ أحداثها المؤلمة وذكر التفاصيل من لحظة دخول الحدود، فدفع الإتاوة جزء من تقاليد الحدود لتسهيل المرور، والرشوة أصبحت تقليداً رسمياً، والتحقيق جزء آخر، فبطل الرواية صحافي، وفي ظل الأحداث فهذه الصفة تعامل بحذر وفي كثير من المواقف تصبح تهمة، وتبدأ المعاناة مع الأسئلة المعتادة من ضباط أمن الحدود (هناك من ينتظر دوماً في الأوطان ليسألك عن سبب عودتك وليس سبب غيابك الطويل، ليسألك عن أولئك خلف الحدود وليس من حقك أن تسأل عمن هم داخل الحدود، وإلا فماذا تعني سايكس بيكو!!) ويبدأ التساؤل الداخلي: (لماذا أوطاننا توقفنا على أبوابها وكأننا متهمون حينما نعود، أشياء لا يمكن أن نفهمها إلا حين نمر بها فحبنا لأوطاننا تهمة نحاسب عليها تحت سلطة الدولة والقانون.. لا يمكن أن تكون وطنياً إلا على مقاسهم، ولا يمكن أن تحمل ولاءك لتراب هذا الوطن، دون أن تسأل نفسك عن مفهوم الوطن الذي تؤمن به...).

   رحلة العودة إلى الوطن تعيد استدراج الذاكرة في كل الأمكنة التي مر بها بطل الرواية ذات يوم، دمشق، قاصيون، وفي الطريق ومن لحظة الوصول إلى عمان قبل الحدود إلى سوريا، ومن خلال لقاء صدفة مع بعض الأشخاص من أبناء بلده، يبدأ يسمع الروايات والمعاناة التي مروا بها، فلكلٍّ حكاية، ومجمل هذه الحكايات أكبر من رواية، أكبر من ملحمة، حتى لحظة الوصول إلى حاجز طيار يتم حجزه فيه لأنه يحمل جواز سفر، فهو قادم من الخارج ولا يحمل هوية، لتبدأ المعاناة مع رحلة التحقيق والمهانة والضرب والاحتجاز، ونقله إلى المخابرات المعنية في حمص، ليرى الموت في كل دقيقة ويرى من صنوف العذاب الكثير من ضمن كم من المعتقلين، وحين يفرج عنه بعفو مؤقت يخرج بلا هوية ولا جواز ولا نقود ولا حقيبة، فيلخص الحالة بقوله: (لأول مرة أنزوي إلى مجتمع ذكوري بالكامل ولا يكون هناك حضور للمرأة إطلاقاً، كانت لدي قناعة مطلقة فيما مضى أن المرأة هي الملاذ الوحيد للرجل في كل أوقاته كما القهوة تماماً، عندما يكون الرجل في قمة زهوته وفرحه فهو يطمح لأنثى تشاركه متعته وعندما يخوض انكساراته المتتالية يبحث عن أنثى تأخذ بيده ليبكي على صدرها، وعندما يكتب فهو بحاجة لملهمة توحي له بأفكار لم تولد بعد من رحمها المتصدع، وعندما يعود من الحرب فأول ما يبحث عنه هي الأنثى لتزغرد له وتطنب آذانه بأوصاف المديح والبطولة، كما القهوة؛ هي المرأة في فرح الرجل، وحزنه، وبطولاته، وانكساراته وأتراحه، لها وجود ولها حضور) ليجد نفسه اثر تقديمه خدمة اتصال هاتفي لأحد الذين قتلوا بالمعتقل لأخيه، بين الثائرين على النظام، ليقضي أياماً في بابا عمرو، فيجرب القصف والجنون وإطلاق النار، ويكون شاهداً مختبئاً على الاغتصاب في ظل المعارك المحتدمة ما بين النظام والثائرين عليه.. حتى يتمكن من الوصول بمساعدة الثوار إلى بيت أهله في حماة..

   لن أدخل في تفاصيل ما يرويه بطل الرواية الذي حمل في نفس الوقت اسم المؤلف، تاركاً المجال للقارئ أن يرى ويحكم بنفسه على الرواية، التي اعتمدت أسلوب استدراك الذاكرة، وممازجته بخيال الكاتب وكيف يرى الأحداث، مازجاً الخيال الروائي بوقائع ومعلومات وصلته واعتمد عليها، ومازجاً الذاكرة التاريخية لأحداث حماة السابقة قبل سنوات طويلة مع الظروف الحالية، مؤكداً أن بطل الرواية ليس أكثر من صحافي تعرّض للمأساة بأشكالها المختلفة ليكتشف من خلال جندي انشق عن النظام، أنه حين تم اعتقاله كان ضحية رشوة قدمت للضابط ليفرج عن معتقل آخر، وأنه كان البديل لذلك الشخص، فنقل ما يراه عبر الرواية، وإن كان واضحاً ميل بطل الرواية للثائرين على النظام، مصوراً نماذج من الذين ثاروا على النظام وأسباب ثورتهم، متأثراً بما سبق وما يحصل الآن، ومتحدثاً عن الواقع الاقتصادي من رشاوى واختلاسات وسرقات، خلقت طبقة ثرية وأخرى مسحوقة، والرشوة في أي مجتمع مؤشر فساد يكون المعول الذي يهدم المجتمع، فالرشوة كما أسميها أنا: (الجرذان التي هدمت سد مأرب)، إلا أن بطل الرواية كان أكثر وضوحاً بالموقف بجانب الأناس العاديين، الذين هم الضحايا بشكل خاص في ظل مأساة بدأت ولم تنته بعد.

   بحياديةٍ نقل بطل الرواية تلخيص الآراء حول ما يجري في البلاد بقوله: (مصطفى شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره تقريباً يقف ضد العمل العسكري فهو مع التظاهر السلمي والنضال الثوري السياسي دون حمل السلاح، وتوجيهه لأبناء المؤسسة العسكرية أو الأمنية، وحجته في ذلك عدم القدرة على ضبط السلاح بيد الشعب بعد سقوط النظام، أما عمر فقد حمل السلاح منذ وقع الاستهداف الأول للمنطقة معتبراً أن هذا النظام لا يذهب إلا بالقوة، بينما ظلّ خليل على ولائه المطلق للسلطة الحاكمة رافضاً أي تظاهرة أو أي عمل مسلّح، فهو يكتفي بالإصلاحات التي لا حاجة لها أصلاً من وجهة نظره، بينما كان هناك طيف واسع من الناس يلتزمون الصمت، وهم ثلة كبيرة لمست منهم تخاذلاً أو جبناً في الحديث والاشتراك بالاحتجاجات، أو الاستهزاء بمطالب الثائرين على هذه الأرض بينما هرب قسم آخر خارج البلاد).

الرواية التي امتازت بقوة الحبكة وقلة الثغرات فيها، ينهيها الكاتب بعد أن تمكن من تهريب بطل الرواية عبر التسلل إلى تركيا بدون نهاية، فقد اعتمد أسلوب النهاية المفتوحة، وقد كان موفقاً في ذلك، فلا أحد يمكنه بعد هذه الفترة الطويلة من الأحداث المستمرة، وتحول الوضع في سوريا إلى حرب حقيقية في كل المدن والقرى والحواري، وفي ظل سقوط مراهنة البعض على التدخل العسكري الغربي لحسم وضع النظام، وبعد آلاف الضحايا والفقر والجوع والدماء، لا أحد يمكنه أن يضع نهاية دقيقة لما يجري.

   قد يختلف البعض مع مؤلف الرواية وروايته، وقد يراها البعض رواية حقيقية، وقد يتهمه آخرون أنه قد باع روحه وقلمه، وكلّ سيكون موقفه متأثراً بحجم المأساة التي تعانيها سوريا، مع النظام أو مع الثائرين أو مع الشعب، لكن لا أحد يمكنه أن ينفي أن ما يجري مأساة كبيرة، وأن الضحايا هم الخاسرون، وأن الشعب هو من يعاني، ولكننا بالتأكيد لن نختلف أن من واجب المبدع أن لا يقف صامتاً أمام مأساة يعيشها شعبه.