قال صاحب الزنج وقد بلغه مقتل أحد قواده:
"إذا فارس منا مضى لسبيله* * *عرضنا لأطراف الأسنة آخرا"
هذا البيت من الشعر جاءني بعد أن قرأت أول قصيدة في ديوان الشاعر الدكتور فهد أبو خضرة "مسارات عبر الزوايا الحادة". القصيدة هي "أغنية للقدس/ المدينة الخالدة سيدة الأرض"، ما يميز هذه القصيدة ليس حرارة الحب للقدس أو ما تمثله القدس في تكويننا وصيرورتنا، إنما صوتها الوطني الذي لا نعهده كثيراً بما يسمى الشعر السياسي، حيث يسيطر الخطاب التاريخي/ الشعار/ الحماسة النضالية، على فنية القصيدة وعمقها الإنساني.
أبو خضرة يثبت أن الوطنية أو الموقف السياسي لا يعني شعرياً، الشعاراتية والخطابية أو المنبرية والصراخ... مع فهد بحرارة كلماته، تشعر نفسك تلقائياً تعيد قراءة القصيدة مرة أخرى، ليس فقط بقناعة فكرية، إنما بطرب يكاد يبلغ درجة الطرب الصوفي.
"بقدرة هذا الذي فيك كان
تظلين مولد كل الهدى
وموعد كل الرضا والأمان".
إلى أن يقول، وفي قوله الكثير من التأمل والرؤية:
"وأنت تظلين سيدة الأرض
فوق النوايا،
تردين كل الحراب التي توجه نحو العيون،
وتخترقين الحصار،
وتعطين للعاشقين وللساهرين
خلود الرضا والأمان،
بقدرة هذا الذي فيك كان".
فهد يستعير صلابة صاحب الزنج وإصراره على العطاء. غير أن صلابة فهد هي صلابة تأملية. ولا أخطئ إذا قلت أن لها جوانب فلسفية.
يمثل د. فهد أبو خضرة في شعرنا المحلي تياراً مميزاً، ليس صوفياً تماماً، ولو أنه يحمل أشكالاً صوفيّة، إنما أقرب للشعر الفلسفي. فهو يطرح رؤية ولا يتحدث عن موقف أو إستراتيجية.
حينما تخترق الساحة
لا يبقى سواك
هدفاً يرمى.
هذه هي رؤيته في قصيدته المتميزة بالشفافية والتأمل، والرؤية الفلسفية، قصيدة "مسارات عبر الزوايا الحادة":
حينما تحترق الساحة
ترقى
لابتهالاتك في ظل جدار
تحمد الله بأن ظلّ لأبنائك
في عصر التداعي والنفاق
ويصل مع مسار قصيدته، مع مسار رؤيته إلى حالة تأمل/ قاعدة عموميّة/ منطلق استراتيجي:
وإذا ما اُطلع الفجر
فقُل: لا!
(لا يغرنك فجر
خفيت شمسك فيه)
إنها ليست غلطة صوفية تماماً، إنما اعتماد للصلابة الصوفية. غير أن الصوفية ليست منهجه الفكري، إنما هي أداة (أسلوب) لتعمق الصور الشعرية، وتفجير الموقف من داخله من ذاته، من قلب التأمل.
وإذا ما أعلن النصر
فلن يعلنه فيها سواك.
أما قصيدته "ابتداء" فهي "غزلية وطنية" تشد إلى حب صوفي:
"على شفتيها تباشير ضوء
وميلاد نبع"
ولكنه لا يعني امرأة معينة.. هذه من خصائص شعرنا الفلسطيني، الدمج ين المرأة والوطن، فهداً يلجأ في نصه هذا إلى الصياغات الرمزية الموحية:
- ونغفر للتيه؟
كان انتهاء وكان ابتداء
ونغفر للبحر؟
كان الرحيل وكان اللقاء.
هل يقصد باللقاء، ذلك اللقاء المشوه ونصفنا الثاني تحت حراب الاحتلال؟
ويتساءل بحق:
"إلى كم سنغفر؟"
حقاً مللنا دور الغافرين التاريخي وحان الوقت لنغير ما فينا:
"ونفرش درب البدايات بالأغنيات،
ونلقي إلى الشرق نظرة حب،
ونرصد رايتنا للعطاء".
إذن الحل الذي يطرحه فهد أبو خضرة، ليس استبدال الغفران بالعقاب، إنما بالعطاء لنغير ما في نفوس "الذين استباحوا لغة الورد والعيون الندية"، كما يقول في مكان آخر من القصيدة.
بصراحة، هذه الإنسانية تخيفني، ليس لعلة فيها، إنما لأن الذين من المفترض أن نغرقهم فيها فقدوا منذ زمن صفاتهم الإنسانية، نظرتي إليهم هي نظرة إلى وحوش برية بجب أن تُلجم وتقيد، لا أريد لإنسانيتنا أن تتحول إلى نوع من الرفق والتناسي.
شدني ديوان "مسارات.." للدكتور فهد أو خضرة مع بداية قراءتي لقصائده، فانطلقت أكتب قبل أن أعرف القارئ على الديوان.
"مسارات عبر الزوايا الحادة" هو الديوان الخامس كما أعتقد. ولفهد أبو خضرة رواية وعدة كتب أبحاث ودراسات وكتب تعليمية بالاشتراك مع آخرين، إلى جانب إصدار أعماله الشعرية الكاملة.
فهد هو من جيل شعراء الرعيل الأول بعد النكبة، نجد أجواء المأساة تنسحب على معظم انتاجهم، بحيث بات الغزل أيضاً يحمل بعض ملامح التاريخ المأساوي لشعبنا، وكأني بفهد وزملائه من شعرائنا، يقولون أن الغزل أيضاً أصيب بمأساة الشتات، وحتى ينتهي الشتات سيبقى الغزل حلماً، تماماً كحلم العودة، لأن المغني كما يقول في قصيدته "الساحات والدائرة الهوجاء":
"والمغني لم يعد يقدر
أن يطبع فوق الشفتين
بسمة بلهاء".
وينهي هذه القصيدة، بسؤال، لكنه أقرب إلى الصفعة، والازدراء:
"أترى يبق لنا،
أيها السادة والقادة،
بعد يوم،
باب للرجاء؟"
حقاً تحولت قدرتنا على الحب والعشق إلى إضافة وطنية، إلى طاقة نبني فيها ذاتنا وموقفنا وكرامتنا، وصرنا نرى بمن نحب ملامح جيلنا وكرملنا، نوار الربيع في بلادنا، زرقة البحر وحمرة الغروب، تحولت قرانا المهدومة إلى عشيقاتنا اللواتي نتسرب ليلاً للقائهن، نضيء استمراريتنا من جيل إلى جيل، حتى نظل:
"خُطى تتحدى ورؤى تبتكر،
وحروف كلما داعبتها
عانق الآفاق منها شرر".
(قصيدة في البدء كانت الكلمة)
لاحظت أن فهد يعود بمعظم قصائده للبحر وما يرتبط به كرمز للتشرد والشتات، بحيث نرى البحر يمتد على عرض الديوان وطوله.
الدكتور فهد يعرف كيف يبني جملته الشعرية بانسياب وهدوء دون تكلف، بموسيقى هادئة غير هادرة، أقرب للسيمفونية الكلاسيكية، بعض قصائده مليئة بالغضب، لكنه غضب غير منفلت وبدون صراخ وزبد يتناثر، كأني به يكتفي بدور صاحب الرؤية، الذي يؤمن بمساره فلسفياً، يصوغ رؤيته شعراً، يترك للآخرين قرار الفعل وهو بذلك يثبت أن ليس كل من يضع يده على المحراث يصلح لملكوت الله، إنما من يعرف كيف يحرث/ يكتب الشعر.
قصائد فهد يجب أن تقرأ بوعي كامل. فالتماسك في القصيدة يجعلها سبيكة واحدة. نجد ذلك في ديوانه في القصائد العمودية المقفاة، المميز لهذه القصائد، هو خلوها من الحشو الذي يميز قارضي هذا الشعر، من القدماء والحديثين، بحيث كثيراً ما تتحول قصائدهم إلى مجرد نظم يقاس بالمسطرة، يخلو من العاطفة، من الفكرة ومن الحلم الشعري.. هنا تبرز شاعرية فهد أبو خضرة وفي الواقع هذا هو الامتحان للشاعر.
هل تجاوز النظم إلى الشعر، أم بقي الشعر نظماً موزوناً لكن بلا روح شعرية، بلا معنى شعري؟
أعتقد أن فهد أبو خضرة استطاع أن يعطينا حلماً شعرياً وأنسياباً شعرياً أيضاً في نظمه المقفى:
"ما للسماسرة الذين تعثروا
بدم الطرائد في الزمان الغابر
يتربعون على العروش رفيعة
ويشرفون بكل مجد باهر؟"
(من قصيدة تكريم)
د. فهد أبو خضرة، في ديوانه "مسارات عبر الزوايا الحادة"، يثبت وجوده في مسارات الشعر، نصه الشعري يميل إلى الرمزية دون أن يؤدي ذلك إلى فقدان المتلقي للمناخ الشعري والفكرة. أحياناً يقترب من البساطة ليكشف الفكرة، يحافظ عبر قصائد الديوان كلها على رونق متميز ومليء بعطر شعري خاص به وبروح شعرية متوثبة.
ملاحظة: نشرت هذه المراجعة للديوان في صحيفة "الأهالي" التي عملت محرراً فيها بين أعوام 2000–2005، تساءلت كثيراً عن سبب توقف فهد أبو خضرة عن كتابة الشعر، إذ لم اصادف أي قصيدة جديدة له منذ ذلك التاريخ. ورب صدفة خير من ألف ميعاد. التقيته صدفة في مكتبة وجرنا الحديث إلى توقفه عن كتابة الشعر، تفاجأ وقال لم أتوقف وأنه أصدر ديوانين جديدين، آخرهما في هذا العام 2012 "عائدون إلى الورد"، أهداني نسخة منه.
ليس غريبا أن الكتاب المحلي لا يصل للقراء، وأن النشر يكاد يكون مهمة شخصية في التوزيع أيضاً. وأن نقدنا المحلي يعيش في نفق لا ضوء في آخره!!
قراءتي الأولى للديوان أعادتني إلى المراجعة التي نشرتها قبل عشر سنين تقريباً. مفاجأتي كانت أن التجديد لدى فهد كان عبر تعميق مسيرته محافظاً على نمط أسلوبي وفكري ميز ديوانه "مسارات..." ويبدو أني سأعود لتقديم قراءة أعمق لديوانه "عائدون إلى الورد".
ما أشعرني بالراحة أن فهد يواصل الصلاة في معبد الشعر، فهو شاعر له طريقته الخاصة في تركيب القصيدة. وله رؤيتة غير التقليدية، وأكثر ما يلفت الانتباه قدرته على طرح المواضيع بهدوء وتأمل فلسفي، والحفاظ على ذاتية تعطي لشعره هويته الخاصة.