ننشر في هذا العدد دراسة ضافية عن قصص محمد عبدالله الهادي الذي لم ينل حظه من الاهتمام والتقدير، ونقدم له كذلك قصتين كي يتعرف القراء على بعض النصوص التي تناولتها الدراسة.

قصتان

إلي روح ابن القرى: عبد الحكيم قاسم

محمد عبدالله الهادي

 
1. شجيـرات حـب صغـيرة
عندما رأوها لأول مرَّة بصحبة أمِّها، في طريقها للسوق، انبهروا بجمالها الفاتن، الذي جذبهم جذباً، فتركوا لعب الكرة بالجرن، وتتبعوا خطواتها كالمنومين، وهي تتنقل مع أمِّها من بائع لآخر، يتطلعون لمحاسنها، ويرصدون حركاتها العفوية، وهي تتكلم أو تبتسم أو تنتقي الثمار لأمِّها، كانوا مندهشين حقاً، بكل هذا الجمال الباهر الذي يمشي علي الأرض. وعندما تنتهي طقوس الشراء، وتصحبها أمُّها في طريق العـودة لـ "العزبة" البعيدة، كانوا يتتبعون أيضاً خطواتها من السوق إلي الشارع، حتى تعـبر كوبري الميزانية، وتركب العربة عائدةً لدارها. آنئذ يتحررون من سحرها ويفيقون، ويعـودون للجرن الواسع، لاستكمال لعبهم الذي انقطع بمجيئها، وهم يتساءلون بحـيرة:
ـ هـل تنجب البطون في "العِـزب" الفقـيرة مثل هذا الجمال الصارخ؟!..
لم تكن قريتهم الكبيرة، التي يمكنها أن تبتلع عشرات "العزب" الصغيرة، والتي يُعقـد فيها السوق الرئيسي كل أسبوع، قادرةً علي إنجاب بنـت جميلة مثل هـذه البنـت. في الأسبوع التالي، عندما جاءتْ بصحبة أمِّها للسوق، عرفوا اسمها، وراحوا يرددونه علي ألسنتهم:
ـ "كـوثر.. كـوثر.. كـوثر".

ولأن دوام الحال من المحال، فإن حياة الأخرس التي اصطدمتْ بعقبات كثيرة، تمكن من اجتيازها بنجاح، واجهتها أكبر عقبة في حياته، عندما أراد الزواج بفتـاة من فتيات القرية، ورغم أنه لم يكن يملك رفاهية الحق في الاختيار والمفاضلة كالآخرين، فإن رغبته في الزواج من أي فتاة من قريته بسلام ويسر، أُصيبتْ دائماً بالفشل، فـإذا وافقتْ الفتـاة التي رشحها لنفسه رفضته أسرتها، وإذا وافقتْ الأسرة عليه رفضته الفتاة. وهكذا تبـدَّل حال الأخرس بتوالي مرَّات الفشل، فلقد نمتْ لديه مشاعر عدائية حيال أهله وناس قريته، وصار مؤمناً عن يقين أنهم سبب آلامه وتعاسته وسوء حظَّـه، وآثر الانزواء والوحدة، واختفتْ البسمة من وجهه، وواجه الجميع ـ حتى الذين اعتادوا مداعبته ـ بوجه جامد يخلو من أي مشاعر إنسانية، ورغم مشاعر الحب والشفقة اللـذين ازدادا لدى ناس قريته تبعـاً لتكرار ذلك الفشـل، إلاَّ أنهم لم يتمكنـوا من تقـديم يـد المساعدة له. وفي الوقت الذي اعتقدوا فيـه أنه نسي الأمر، واستعذب حياة العزوبية، وصرف النظر عن فكرة الزواج، فوجئوا بعُـرسه وقد تزوج بامرأة خرساء من قرية أخرى. أقبلوا عليه يهنئونه بفرح، بظن أنه قد حلَّ مشكلته، وخرج من قوقعة حزنه، لكنه ظلَّ ـ رغم ذلك ـ يواجههم بمشاعر حيادية.