اسعدتني المصادفات ـ في زيارة عابرة للذاكورة في جنوب المغرب ـ بلقاء مجموعة من شباب المثقفين في منتدى الهامش القصصي، وتنشر المجلة هنا قصة لواحد منهم آملة أن تطرح انتاجهم للاهتمام الواسع.

حارس الحدود

محمد زيتون

 

من خلال الإطار، تتوهج ابتسامته، ويتناهى إلى خافقها صدى انفتال عضلات كتفيه .. البادية صفرتهما أسفل نخلة مثمرة. وفي الغرفة المجاورة تمدد أمه جثتها الثقيلة، تشخر كعادتها، لتنهض من قيلولتها بعد ذلك متهدلة الأهداب، تحك صدرها .. وأحيانا أجزاء أخرى من لحمها. بخطو بطيء،  مقطبة الجبين، تتجه صوب الحمام، ثم صوب المرآة لتتأمل نضارة باهتة من شبابها:

   ـ إذا سافر الحسن ، ترك حروفه ..

 تعزي نفسها، لتنصرف بعدها لقضاء حوائج تسلم بسريتها، وبضرورة عدم معرفة زوجة ابنها، تلك المقيلة في الغرفة المجاورة، وحدها .. على السرير، وحدها .. أمام صورة ابنها الثاوية اهتماماته في رحم الانشغال بأوامر الآخرين.

قد يوقظونه في الصباح الباكر جدا، لتتوج جسده تعاليم التعب المتجدد، وقد لا ينام الليل ويبيت حارسا على راحة الآخرين وعتادهم في الثكنة، ليربح أجرة هزيلة، يبعث بأكثرها إلى أمه وزوجته، بعد تسديد ما في ذمته من ديون لمؤسسات القرض ... أعباء كثيرة كانت تثقل الكاهل ومازالت، ومصاريف تزيد، والأجرة لا تتسع. كانت الأم تقرأ على ملامحه وثبات الضجر و الكآبة، و ظلال حزن قاتم تنسج أخاديدها المتشابكة على وجهه بهمة ونشاط. فبادرت إلى الزج به في قرض جديد، لتكتمل دائرة الطوق، بعدما اختارت له عروسا، وخضبت يديه برقائق الأمل و الارتياح. حينئذ فقط توغل مبتسما كأنه ولد من جديد!   

فوق السرير، زوجته تستلقي على قفاها، تجادل ملامحه الصامتة في داخلها، تتلذذ بالرد على ومضات السخرية اللافحة من ابتساماته: هكذا هو دائما يرقد في لامبالاة! بين أحضان مشكوك تعففه عنها، يرتاح. لا يكلف جيبه عناء الاتصال إلا نادرا، مرة في الشهر أو مرتين، وإذا اتصل ردد الكلمات نفسها: الحدود موغلة في الامتداد القحل .. إننا نسكن أغوار الرمل كالذئاب، لا أخضر نتمرأى في حياضه، لا لون يعطف على أفئدتنا الولهة. أرى صورتك بين النجوم المتلألئة في شساعة الليل، حارسا أبيت على دور الآخرين، وهم في نشوة السكر والعربدة يتلذذون بافتقادي إليك. حارسا أبيت على قطع غيار بالية .. التهم أغلبها الصدأ، وهرب الكثير من سليمها إلى السوق السوداء، أبيت في ثكنة سلاح لها رصيد هائل من الهزائم. لا أحد يقيم اعتبارا يا حبيبتي لعمري المرهون في حروب خاسرة.

 وليزج بفؤادها في دوامة الوله الذي يتمرغ في فيافيه، يراسلها بكلمات لا تنتهي من قراءتها: أسمع صوتك المدوي في الريح السرسر العاتية، تصفع وجهي بقبلاتك .. حنانك .. ورفقك بي ساعة الغضب، ساعة تتوهج الحمرة على خدي، ساعة تلمسين الجرح بعذوبتك المفتقدة في أصيل هذا البعاد. تنتابني الذكرى كما الخوف الرابض في ثكنات الخافق، تجرحني أساريرك كلما راودتني غصة الاختناق ذاتها، وغبار الريح يعمنا بضبابه الكثيف، والحرارة تهرول في ملوحة الجسد حد الجفاف، فنفضل كأعواد القصب الجوفاء عزلا، نتقلب بين أوامر وأخرى .. والأوامر لا تنتهي .. لا تنقضي ..لا تتوقف كرصيف الرمضاء الطويل.

وليحرك خافقها بكثير من القلق والخوف عليه، يضمخ الرسالة بكثير من المبالغة: قد أموت غدا في هجوم مباغت تدبره عصابة من عصابات العدو الهزيل .. فلن أواجهه إلا بإيقاظ أجساد الموتى، لتحرك هياكل هلكى .. لترتفع الخسائر!

ثم يعود لمهاتفتها من جديد.. يعود إلى تطمينها عليه بين الفينة والأخرى، قبل أن يصمت لزمن بعيد، مكتفيا فقط بمكاتبتها: لك عزائي في بهجة كان من الممكن أن تكون، لكنها وئدت كما هي دائما ومضات الابتسام على ثغورنا ... لك عزائي .. أعانقك .. أعانقك .. كالبندقية، أتمسك بها جيدا ولا أنام كما الكثيرين ممن ضفروا بمثلك. وعكس الكثيرين الذين ألفوا القلق الدائم في محمية العزوبة القاتلة. كم أكره نفسي حينما أجد نفسي أتعب في سبيل ما لا يستحق التعب .. وحده الله ... (يداري دمعات أمطرتها عيناه).

حينما أهيم على وجهي في غمرة الافتقاد والشوق، كلما أتيحت فجوة. حينما يتأخر موعد سماع أصواتكم الندية المنبعثة عبر بوق الهاتف البعيد، أطارد باستمرار في بطاح الصفرة الذهبية، حر الظل الذي يمكن أن يتشكل أسفل سدرة تقاوم مثلك بعيدا. أدفع الدخان عميقا في داخلي، و أمارس عاداتي السرية خفية عن الآخرين. أعرف مدى ما تحسين، لكنني لا أجد الظل في صفاءه إلا مخدوشا ببعر العابرين، فيعمني الاستياء و أنا الذي كبرت بين الخضرة والظلال والمياه المنسابة!

قد يتأتى أن أكلف بالسهر حارسا .. خادما لخيمة "رائد" يرقد معانقا زوجته في فراش دافئ، وأنا أتلوى في البرد. هكذا هم الصغار يا حبيبتي!

الصيف القادم .. بعد عام طبعا، آمل أن يغيروا مكاني، سأصير أقرب، سنتعانق مرة في كل شهر على الأكثر، لن تغضب منك أمي كثيرا مثلما الآن .. إنها امرأة كبيرة، ستصبحين مثلها يوما، وابنك الذي يخفق فؤادك به .. سيحب امرأة غيرك، ويبادلها الوفاء مثلي، وستنزعجين! "كاذبا تعتقدين.. فيما أقول "هكذا ستعتقد حبيبته هو الآخر .. خصوصا إذا كانت لها أم مثلك " تكذب كل الرجال".

 ـ هكذا أنت دائم الثقة في يوم غد .. تعللني بالآمال وتقهرني بوعودك الفارغة ...

تردد مع نفسها، ثم تسحب الوسادة من جنبها الأيسر وتدعك صدرها بقوة. ترفع رجليها في وضع مريح كانت تتلذذ من خلاله، وتغمض عينيها .. تتقلب في مقلاتها متنهدة، وأوصال السرير تطقطق. تسمع الأم في الغرفة المجاورة أناته، فتتذكر غياب ابنها، ووحدانية زوجته، عطشها، قيلولتها ...

كان يقلقها ، يعذبها بلامبالاته عندما لا يهاتفها في كل نهاية أسبوع، فتجلس حيث ترقد الزوجة الآن، في بيته الخاص، تتأمل صوره، وتهدهده بحنانها وعطفها، تمطره بصيب من الدعوات، وتغادر دموعها شوقا إليه، تحدث الآخرين في مجالسها بمحاسنه. تبكيه عندما يبكي الآخرون أمواتهم، تبكيه جهرا: قلبي .. روحي .. هواء فؤادي .. شمس نهاري ... ربيعي... كان كل شيء في حياتها. أما الآن فتحس في بعض ما يأتيه متعة و أي متعة .. فزوجته وحدها .. وهي على كل حال .. لا تتعذب بمفردها.

تتلوى في انحدار إسفنج السرير، تتقلب في بركة الوجع، تطقطق أصابعها بارتباك .. يطقطق تحتها السرير، تبكي .. كما كانت تبكي أمه .. في عين المكان، ولا تبكي الآن كبرياء .. أمامها. تتلهف شوقا ... وهو مرتاح في غيابه أمامها .. جانب النخلة المثمرة .. قبالة السرير، شاهرا عضلاته ، وأمه في الغرفة المجاورة ، ترفع يديها، تبارك أفعاله.. تتوسل الله.. وتختم بزمجرة مزلزلة :

 ـ آآآآآلالة *.. الشمس راحت .. وأنت مازلت مقيلة ؟ !!

فتجمع هيكلها المتعب، وتخطو معالجة الخمار فوق شعرها، قاصدة أشغالها التي لا تنتهي، في انتظار الانفراد بروحها، ساعة العودة مرة أخرى للسرير، وحيدة .. في الليل.

* آآآآآآآلالة: يا ااااسيدتي

الزاكورة                                         المغرب