تنشر (الكلمة) في هذا العدد دراسة محررها عن الكاتب الصيني الذي فاز بجائزة نوبل للآداب قبل شهرين كاملة، بعد أن نشرت قسمين منها في العددين السابقين، كي تتيحها للقارئ، خاصة وقد أجريت بعض التعديلات على أقسامها الأولى أثناء تطور العمل بها. وكي تشكل مع نصين آخرين وقصة له محورا ثريا عن الكاتب الكبير.

مو يان وعوالم الأدب الصيني الجديد

صبري حافظ

أكتب للقراء عن الكاتب الصيني البديع الذي فاز هذا العام بجائزة نوبل لللآداب، لأن جل قراء العربية لا يعرفون عنه شيئا. ولم يسمع معظمهم باسمه، ولم تترجم أي من رواياته البديعة لها. بالرغم من أن له، قبل فوزه بالجائزة، عشر روايات مترجمة للإنجليزية، وأكثر من عشرة لكل من الفرنسية والألمانية. فقد أثّرت سنوات التردي والتخلف والهوان، التي ثار عليها الواقع العربي، على ثقافته. فتراجعت فيها الترجمة وساد الجهل، واستنام الواقع لدعة الكسل العقلي والتخلّف. ثم جاء الربيع العربي، لينتشلنا من هذا التردي والهوان، وليفتح أمام الواقع العربي طاقة للأمل والتغيير، ولكن ركبت موجته التيارات المتأسلمة والمتأسلفة والتي تريد أن تغرقه في دياجير جهلها، وأن تضع على عينيه غمامة كي لا ينظر منهما إلا إلى الماضي البعيد، ولا يقرأ بهما إلا كتب الأدعياء، الذين يسمون أنفسهم دعاة، المترعة بضيق الأفق والجهل والخرافة. وبدلا من أن ينشغل عالمنا العربي، بعد أن قام في مصر خاصة بثورة نبيلة نالت احترام العالم وتقديره، وساهمت في رفع أعلام مصر في وول ستريت بأميركا وفي إسبانيا واليونان، باللحاق بالعالم المتحضر الذي سبقنا في كل شيء: من الشفافية وسلامة نظم الحكم، وضمان الحريات، والتداول السلمي للسلطة، حتى التقدم العلمي، ووسائل الاتصال، والثورة الإلكترونية، وعلوم الذرة والفضاء، ها نحن نغرق في تفاهات مرضية من مفاخذة الصغيرة Paedophilia، ومضاجعة الوداع/ أقرأ الموتىNecrophilia / وفتوى شرب بول الرسول، وتحريم الوقوف لتحية العلم، والتشهير بالممثلات على الفضائيات، وحرق كتب الآخرين المقدسة. وها هو العالم يصفعنا كل يوم بحقائق جهلنا فلا نفيق. وآخر تلك الصفعات هي منح الأكاديمية السويدية جائزة نوبل لكاتب لم نسمع عنه، ولم نترجم له كتابا واحدا أو حتى قصة قصيرة واحدة قبل فوزه بها. مع أن العالم المتحضر والذي يعيش العصر ولا يريد النكوص إلى الماضي السحيق، وإنما يستخدم ماضية في إرهاف قدرته على فهم الحاضر والفاعلية فيه، ترجم أعماله لكل لغاته.

تردي الثقافة والخروج من العصر:
وهو أمر تكرر أكثر من مرة في العقدين الأخيرين. تكرر مع توماس ترانسترومر عام 2011، ومع هيرتا ميلر عام 2009، ومع جان ماري ليكلوزيو عام 2008، ومع ألفريدا يلينيك عام 2004، ومع جون كوتسيا عام 2003، وإمرا كيرتسي عام 2002، وجاو زيانجيان عام 2000، وخوزيه ساراماجو عام 1998، وداريو فو عام 1997، وفاسلافا شيمبوريسكا عام 1996، وكونزابورو أوي عام 1994، وديريك والكوت عام 1992، والقائمة تطول. وأذكر أن الصديق العزيز الذي رحل عن عالمنا قبل الأوان، محمود درويش، اتصل بي عام 1996 وطلب مني البحث عن أعمال شيمبوريسكا وترجمة بعض قصائدها وتقديمها للكرمل، حيث لم تكن لها قصيدة واحدة مترجمة للعربية عند فوزها بالجائزة. وقد عبرت باحة جامعة لندن، حيث تقع (كلية الدراسات السلافية وأوروبا الشرقية) على الجانب الآخر من الباحة التي تقع فيها (كلية الدراسات الشرقية والأفريقية) التي أعمل بها في نفس الجامعة. وذهبت لمكتبتها أفتش عن اسم شيمبوريسكا وأعمالها، فوجدت بها رفا كاملا حافلا بأعمالها الشعرية المترجمة للإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وبعديد من الدراسات النقدية الضافية عنها. بينما لم تكن لها قصيدة واحدة قد ترجمت بعد للعربية. وقد أثرت وقتها في (الكرمل) هذه الظاهرة.

كانت الثقافة العربية قد بدأت في التراجع مع مطلع السبعينيات، منذ قرر أنور السادات الارتماء في أحضان العدو، والإجهاز على العقل المصري، وكلف أحد عتاة الإخوان المسلمين، محمد عثمان اسماعيل، باستئصال شأفة كل مفكر أو يساري من الثقافة والجامعة والإعلام. وفتح الباب للتيارات المتأسلمة كي تمكنه من تنفيذ مخططه، وكي تتمكن هي من الساحة التي لم يكن لها أي وجود مذكور فيها حتى ذلك الوقت. ثم تتابعت بعد ذلك الأحداث التي نعرفها  جميعا، منذ خلق السادات «فرانكشتاين» الذي انقلب عليه، واستدار بعدها لتدمير مصر. وساخت أقدام الثقافة المصرية، والعربية من ورائها في وهاد التردي والتبعية والهون على مد عقود أربعة. لأن من يعود إلى قائمة أسماء الفائزين بنوبل قبل تلك الفترة، من بابلو نيرودا 1971، وألسكندر سولجينيتسن 1970، وصامويل بيكيت 1969، وياسوناري كواباتا 1968، وميجيل أستورياس 1967، وميخائيل شولوخوف 1965، وجان بول سارتر 1964، وجورج سيفيريس 1963، وجون شتاينبك 1962، وإيفو أندريتش 1961، وسان جون بيرس 1960 والقائمة تطول، يجد أن جل هؤلاء الكتاب، باستثناء كواباتا، كان معروفا وله أكثر من عمل مترجم للعربية قبل فوزه بالجائزة. فقد كانت أعمال نيرودا وسارتر وبيكيت وسولجنيتسن وشولوخوف مترجمة للعربية ومقروءة فيها بل ومكتوب عنها بها قبل فوز كل منهم بسنوات وسنوات بالجائزة.

فإذا كانت الحرية لا تتجزأ، فإن التخلف والتردي لا يتجزآن كذلك. فمع الاستبداد وفقدان المشروع الوطني تتراجع كل الحريات، ومع التخلف تذوي الثقافة ويضمحل معها الخيال والعقل، ويتدهور التعليم، وتسود فيه المذكرات الغثة والغش والدروس الخصوصية، ويقتصر على التلقين والترديد الببغائي لمحفوظات بالية، ويموت الشغف بالمعرفة، وحب استطلاع الآفاق الجديدة، ويختفي التمحيص النقدي للوقائع والخطابات السائدة فيه. فيسود الجهل ويعم الظلام، ويسهل تزييف ما كان يبدو في الماضي وكأنه من أسس الثقافة والجدل العقلي، والتمويه عليه بمهرجانات واحتفاليات فاسدة، ومشاريع كبيرة طنانة كالطبل الأجوف، كالمشروع القومي للترجمة مثلا. ففي عز ازدهار هذا المشروع تكررت تلك اللطمات التي عددت بعضها لثقافتنا من جائزة نوبل للآداب في العقدين الأخيرين، فبينما كان المشروع يتباهى بازدياد عدد الكتب التي يصدرها، كانت الأكاديمية السويدية تقول لنا المرة تلو الأخرى إن ثقافتنا تتردى في وهاد تكرار ما أنجزته، ولا تفتح نوافذها ناهيك عن أبوابها للعالم الذي يواصل التقدم دون أن يعبأ بانشغالنا عنه بسفاسف الأمور. أو في أحسن الأحوال، وهذا أفضل ما في المشروع القومي للترجمة، استعادة واجترار ما سبق أن عرفناه، بإعادة طبع بعض الترجمات القديمة، وليست دائما الجيدة.

وأجمل ما في الأكاديمية السويدية التي تمنح الجائزة هو يقظتها الدائمة، ووعيها بأنها تعيش في عصرها بل ترود خطاه، وشغفها بارتياد الآفاق الجديدة والبحث المستمر عن الجديد في الأماكن غير المأهولة، والجري وراء المعرفة في مصادرها. ولا يعني هذا أنها مؤسسة منزهة عن الغرض، والغرض مرض، أو أن ليس لها أجنداتها السياسية المضمرة، فقد كتبت منذ سنوات عن تحيزاتها وما تنطوي عليه سيرتها من تناقضات، ومسيرتها من خلل مثير للتساؤلات. لكن هذا لا يمنعها، بل ربما يحثها أكثر على أن تكون شديدة الوعي بزمنها وواعية بأحدث منجزاته. حيث تكلف باستمرار أبرز الخبراء في مختلف آداب العالم بكتابة تقارير عن أهم الهامات الأدبية في مجال تخصصهم، وتطلب منهم ترشيح بعض العناوين لها لقراءتها. أقول هذا عن خبرة، إذ حدث هذا معي، ومع أكثر من زميل من زملائي، في الكلية التي عملت بها لربع قرن في جامعة لندن، كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، وهي من أبرز قلاع المعرفة بشؤون قارتي آسيا وأفريقيا وآدابها. لذلك كثيرا ما تثبت لنا الأكاديمية أنها تلعب دورا في تشكيل اهتمامات الواقع الثقافي الإنساني وتحديث خريطة القراءات فيه. لأنها لا تلتفت للأسماء المكررة التي يتداولها المتكهنون ببورصة التوقعات، والتي يحبس أصحابها أنفاسهم في شهر أكتوبر من كل عام، يتمنون أن تختارهم اللجنة بعد كل ما كرروه عن أنفسهم من دعايات، بأنهم جديرون بها وسيحصلون عليها. وتطرح علينا اسما جديدا، يوسع أفق معرفة العالم الأدبية، ويعزز مصداقية الجائزة ومكانتها، ويضيف الكثير إلى رأسمالها الرمزي، فبالجدية والمعرفة والبحث النزيه ونبذ التحيز والغرض ينمو الرأسمال الرمزي للجائزة، أي جائزة.

تناظرات الأدبين: الصيني والعربي
لذلك فأن خبر حصول الكاتب الصيني مو يان Mo Yan، حسب الطريقة الصينية، ويان مو حسب الطريقة العربية (لأن مو هو اسم العائلة، ويان اسمه الأول)، على جائزة نوبل للآداب هذا العام، من الأخبار السعيدة التي تزفها لنا الأكاديمية السويدية بين الحين والآخر. وتساهم بذلك في توسيع أفق معرفة العالم الأدبية، وفي تسليط الضوء على كاتب جدير بأن يعرفه القراء على نطاق واسع، وعلى أدب يستحق الاهتمام. فلن يقل تأثير هذا الخبر على وضع الأدب الصيني الحديث في المشهد الثقافي العالمي، عن تأثير خبر حصول كاتبنا الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 1988 على مكانة الأدب العربي على الخريطة العالمية، وعلى اهتمام القراء والمترجمين به. أقول هذا لمتابعتي عن كثب لما جرى للأدب العربي في الغرب في ربع القرن الذي انصرم منذ حصول محفوظ على الجائزة من ناحية، ولمعرفتي الوثيقة بوضع الأدب الصيني الحديث حيث عملت لربع قرن جنبا إلى جنب مع متخصصين في آداب الصين واليابان وغيرها من آداب آسيا وأفريقيا.

وقد أعادني تصفحي لتغطية الصحف الصينية المنشورة بالإنجليزية للخبر، لتغطية الصحف المصرية والعربية لخبر حصول نجيب محفوظ على نوبل للآداب. حيث نشر الخبر في صدر الصفحات الأولى لكل الصحف الصينية، وتصدر نشرات الأخبار التليفزيونية، وسجل فرحة الصين الغامرة كلها بالحدث، وأكد في نوع من الاعتزاز القومي المعهود جدارة ثقافتها به. حيث تذكر كيف تأخرت الجائزة في الاعتراف بالأدب الصيني، وكيف أن هناك أكثر من كاتب صيني حديث كان جديرا بها، على مد القرن الذي مضى من عمر الجائزة، دون الحصول عليها، وتعدد أسماءهم من: لو صين وباو جين، حتى يانج مو، وماو دون وغيرهم (وهي كلها أسماء لم يترجم لها شيء بالعربية باستثناء لو صن). وأنه آن الأوان لأن يحظى الأدب الصيني بالمكانة الجديرة به على خريطة الأدب الإنساني المعاصر، وأن تترجم روائعه إلى لغات العالم المختلفة. وهو الأمر الذي فعلناه حينما فاز بها نجيب محفوظ، واعتبرناه اعتذارا عن عدم منحها لطه حسين أو توفيق الحكيم أو يحيى حقي، أو يوسف إدريس. بل اعتبر عدد قليل من المعلقين الصينيين الفرحين بفوز كاتبهم، أن الجائزة هي حكم قيمة على الكاتب، وعلى الأدب الذي ينتمي إليه معا، وأن هذا الأدب أدب يستحق العالمية، وهو نفس ما حدث بالنسبة لنا في الثقافة العربية. فعلاقة الصين بالغرب لا تقل تعقيدا وإشكالية عن علاقتنا به. نفس علاقة الحب/ الكراهية الملتبسة التي تشتهي اعتراف الغرب، وتريد أن تبدو وكأنها معرضة عنه ولا تعبأ به، لأنها واعية بمعاييره المزدوجة، وأجنداته المضمرة، وتناقضاته الأخلاقية، ولأنها عانت من هذا كله.

وكان هناك في التغطية الصينية للخبر، فضلا عن الاعتزاز الوطني بثقافتها وإنجازاتها، جانب سياسي صيني بامتياز، فلا ثقافة دون أبعاد سياسية مضمرة أو بادية. وهو سعادة الصين بفوز كاتبها بدلا من الكاتب الياباني هاروكي موراكامي الذي تداولت التكهنات اسمه بقوة باعتباره المرشح الأوفر حظا للفوز بها هذا العام. فقد كان فوز كاتبهم الذي لم يفكر في الجائزة، ولم يسع إليها أو يغازلها كما يفعل موركامي على الدوام، نوعا من الفوز المعنوي على اليابان في صراع الصين معها بشأن جزر دياويو Diaoyu islands المتنازع عليها بينهما. وكان موراكامي، غزلا منه للجائزة، قد أدان الجانبين: الصين واليابان معا لصراعهما على هذه الجزر، وكأنه يتبنى الموقف الغربي، وإن كان الغرب لا يحترم كثيرا من يتخلى عن قضايا وطنه، أو يرقص على الحبال بشأنها، خاصة وأن أميركا تقف بوضوح مع اليابان وضد الصين في موضوع الجزر ذاك لوعيها بأهمية الجزر الاستراتيجية. المهم أن من التزم بقضايا وطنه، ولم يستعرض رقصاته أمام الغرب هو الذي فاز بالجائزة. وكأن هذا الانتصار الأدبي هو المقدمة لانتصار وشيك في موضوع الجزر، لايزال الصراع بشأنه جاريا بين الجارين الآسيويين الكبيرين. صحيح أنه لا علاقة من قريب أو بعيد بين الموضوعين، ولكن السياسة ما تلبث أن تلون كل شيء بألوانها. كما أن كل إنجاز تحققه أمة ما، سرعان ما يفتح شهيتها لإنجازات أخرى، وفي مجالات ليس من الضروري ترابطها.

كما أعادتني قراءة تغطيات الصحف الصينية لنفس القضايا التي طرحت عربيا حول سياسات الترجمة، وحول الصعوبات التي يطرحها الأدب الصيني على المترجم الغربي لاختلاف الإحالات الثقافية من ناحية، ولضياع الكثير من جماليات الكتابة الصينية الحديثة وتناصّاتها المضمرة في الترجمة من ناحية أخرى. لأن الأدب الصيني كنظيره العربي، له تاريخ أدبي طويل وعريق، وتاريخ سياسي إشكالي ومعقد، يحاوره الأدب المعاصر، ويقيم علاقاته النصية معه وإحالاته التاريخية والسياسية عليه. ناهيك عن أهمية معرفة تاريخ الصين من ثورة 1911 حتى الاحتلال الياباني 1937، وصولا إلى الزحف الطويل وثورة 1949، ثم الثورة الثقافية عام 1966، وحتى انتفاضة ميدان تينانمين الموؤدة عام 1989. وهي كلها من المرتكزات الأساسية والضرورية لفهم أعمال الكاتب الصيني مو يان القصصية والروائية. وهو أمر يناظر ما نقوله عن ضرورة معرفة ثورة 1919 ومرحلة الاستعمار البريطاني لمصر، وثورة 1952 وما دار بعدها لفهم أدب نجيب محفوظ، وقراءة المستويات المتعددة للمعنى في رواياته.

لكن الفرق بالطبع، وهو فرق كبير، هو أن مو يان يحصل على الجائزة بعد 24 عاما من حصول نجيب محفوظ عليها، جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسر. كما أنه حصل عليها وهو في السابعة والخمسين من عمره، بينما حصل نجيب محفوظ على جائزته وهو في السابعة والسبعين. أي أن نجيب محفوظ حصل على الجائزة في شيخوخته، حيث وهن الجسد وبدأ في التضعضع، وكان الأفق العربي ينسد تدريجيا أمامه، ليس فقط بمقاطعة العرب لأعماله عقب زيارة السادات للقدس واتفاقية كامب دافيد المشؤومة، ولكن أيضا بانسداده أمام قراءه المحتملين من الشباب الذين عانى معظمهم من البطالة من ناحية ومن هجمات الظلام عليهم من ناحية أخرى. فلم يكتب بعدها إلا عملا واحدا لامعا هو (اصداء السيرة الذاتية) ارتبك نشره وترتيب فصوله بسبب العدوان الأثيم على حياته، مع عدد قليل من أعمال يعاني بعضها من الشيخوخة ومن أعقاب الحادث الأثيم على حياته، والذي لا يمكن التغاضي عن أنه من عواقب منحه نوبل من ناحية وسيطرة ظلمات التأسلم على العقل المصري من ناحية أخرى. ولم تضف الكثير لما انجزه.

بينما يحصل عليها الكاتب الصيني وهو في شرخ كهولته ونضجه، حيث تتتابع أعماله بوتيرة أحسب أنها ستستمر لسنوات طويلة، وسيستفيد من أصداء تلقيها في عالم أدبي أرحب. فقد قال تعليقا على سماعه بنبأ فوزه بها «سأركز الآن على كتابة أعمال جديدة، أريد الانخراط أكثر في الكتابة كي أشكر العالم على هذه الهدية.» ناهيك عن اختلاف جوهري آخر، وهو أن نجيب محفوظ حصل عليها في مرحلة كانت بلاده فيها تتخبط في مهاوي التردي والتبعية والهوان، وكان الأفق فيها ينسد أمام الكاتب بالشيخوخة، وأمام مجتمعة بالتردي والفساد وإدخال المثقفين إلى حظيرة التدجين والتدجيل والاحتواء. وكانت الثقافة العربية تنحدر إلى مهاوي التخلف وتصبح صورتها في العالم هي ما يجسده هذا التخلف من إرهاب وإسلاموفوبيا. أما مو يان، فإنه أسعد حظا، حيث يحصل عليها في مرحلة ترتقي فيها الصين مدارج القوة والتقدم بخطوات متسارعة، وينفتح فيها الأفق أمامها، وأمام مواطنيها وثقافتها بالتالي في أربعة أرجاء الأرض بتقدير واحترام. وتتحول صورتها بالتالي إلى صورة العملاق الجديد الذي يبني معجزته على مهل، ويتوقع منه العالم الكثير.

وقد أثار خبر حصوله على الجائزة بالفعل الاهتمام بأعماله فقفزت مبيعاتها، عن طريق شركة «أمازون»، به من المكانة 560 إلى المكانة 14 بعد يوم واحد من حصوله على الجائزة. كما أن الألف وخمسمائة نسخة التي كانت لديها من كتابه الأخير (الضفادع) نفدت في الساعات الست التالية لإعلان الخبر. ولا يقل ما جرى لأعماله في الصين نفسها عما حدث لترجماته الانجليزية. إذ قررت دار النشر التي تصدر أعماله (دار شنغهاي لنشر الآداب والفنون) إعادة طبع أعماله الستة عشر على الفور كي تلاحق الطلب المتزايد عليها. فقد عمت الصين فرحة لا تقل عن تلك التي عمّت مصر عقب فوز نجيب محفوظ بالجائزة. ونشرت الصحف الرسمية الخبر في صدر صفحاتها الأولى. باعتباره أول كاتب صيني يفوز بجائزة نوبل للآداب. وقد اهتمت في تغطيتها للخبر بالتركيز على أنه أول مواطن صيني يفوز بجائزة نوبل للآداب طوال تاريخها الذي تجاوز القرن، وأن هذا الفوز يشكل اعترافا غربيا بأهمية الأدب الصيني، وبالثقافة الصينية الأصلية، وبمكانة الصين الدولية كقوة صاعدة، كما تقول (جلوبال تايمز) الصحيفة الصينية الرسمية الناطقة بالإنجليزية.

لأن الكاتب الصيني جاو زينجيانGao Xingjian  صاحب الرواية الجميلة (جبل الروح) الذي سبقه إليها وفاز بها عام 2000 فاز بها كمواطن فرنسي، تخلى عن جنسيته الصينية عام 1996 بعد لجوئه السياسي لفرنسا. وهو أمر أدانته الصين وقتها، واعتبرت منحه جائزة نوبل للآداب فعلا عدائيا لا ينطوي على أي تقدير للأدب الصيني، وإنما يدخل ضمن ألاعيب جائزة نوبل السياسية والمغرضة. كما أن حصول الناقد الأدبي والناشط السياسي، والرئيس السابق لنادي القلم الصيني (وهو مؤسسة ممولة بالكامل من NED الوقف القومي للديموقراطيةNational Endowment for Democracy ، وهو أحد أذرع المخابرات المركزية الأمريكية) ليو زياوبو Liu Xiaobo على جائزة نوبل للسلام عام 2010 بعدما منعت كتبه، وحكم عليه بالسجن بتهم تحريضه على هدم الدولة الصينية، ودعوته لإنشاء أحزاب أخرى غير الحزب الشيوعي، الحزب الوحيد والحاكم في الصين، لم تره الصين إلا في سياق مخططات الغرب السياسية العدائية ضدها. بل إن جائزة مو يان لم تسلم هي الأخرى من مجموعة من ردود الفعل الإشكالية كتلك التي واجهتها جائزة محفوظ.

ردود أفعال تمزج الأدب بالسياسة:
وبدلا من ردود فعل المتأسلمين المتخلفة على فوزه بالجائزة، وتنديد بعضهم من جديد بروايته البديعة (أولاد حارتنا)، وإصدار عمر عبدالرحمن فتوى تهدر دمه، وزعم بعض العرب بأن سر فوزه بها هو مهادنته للعدو الصهيوني أو مغازلته للتطبيع معه، ها نحن نقرأ مجموعة أخرى من الإشكاليات الصينية الخالصة. وهي إشكاليات تكشف لنا عن أن الجائزة، برغم أدبيتها تلعب دورا سياسيا بامتياز، وتؤثر في لعبة علاقات القوى الثقافية منها والسياسية على السواء. فقد انتقدت عدة منابر في الصحافة الغربية، والأمريكية منها خاصة، قرار منحه الجائزة لأنه عضو في الحزب الشيوعي الصيني، ولم يعرف عنه انتقاد سياسات الحزب، أو تأييد الحركات الصينية الداعية للديموقراطية. وأنه التزم في كثير من سفراته التي مثل فيها الأدب الصيني في الغرب بخط الحزب في هذا المجال وتعليماته بألا يُستدرَج إلى إدانة نظام بلاده لصالح أعدائها. ولم يستجب لكثير من استفزازات الصحافة المعادية للصين في هذا المجال. أما الكتاب الصينيون في المنفى بمختلف المنافي الأوروبية والأمريكية، فلم يقل هجومهم على منحه الجائزة عن نظرائهم الغربيين. لكن برندان أوكين Brendan O’Kane وهو مترجم أيرلندي/ أمريكي للأدب الصيني رد على هذا الهجوم مؤكدا أن «أعمال مو يان في جوهرها، وبطريقتها السيريالية البارعة في السرد تقوض الكثير من المسلمات وتزعزعها. صحيح أنه ليس معارضا على طريقة ليو زياوبو، ولكن قدرة أعماله على فضح الرشوة والقسوة وغباء السلطة، تجعلها أقوى تأثيرا من معارضات زياوبو. ففي الصين كثير من الكتاب الذين يفضلون أن يمارسوا دورهم المعارض في مجتمعهم ضمن سياق المسموح، الذي يوسعون رقعته باستمرار، على أن تمنع أعمالهم، أو يسجنوا أو أن يمنحهم الغرب وظيفة شرفية في إحدى جامعاته».

أما في الصين نفسها، فإن الفرحة القومية الكبيرة بحصوله على جائزة نوبل باعتبارها اعترافا بأهمية الأدب الصيني ومكانة الصين الدولية، وهي التي وسمت تغطية الصحافة الرسمية للخبر، سرعان ما أفسحت المجال لعدد من الاستجابات المختلفة، بل والمتناقضة، في الإنترنت خاصة. فبينما أثنى البعض على عمق بصيرته، ورهافة رؤيته الأدبية، وتجريبيته الجسورة في الشكل والموضوع معا، واعترف الكثيرون بموهبته وإنجازه وقيمته الأدبية المهمة، بل حتى شجاعته في التعبير عن آراء مستهجنة لخط الحزب في رواياته. انتقده الآخرون لأنه يؤثر الصمت حينما يتعلق الأمر بقضايا الحرية وحقوق الإنسان. ألا يذكرنا هذا بشيء مما قيل عن نجيب محفوظ؟! فقد انتقد الكاتب لياو ييوو Liao Yiwu الخارج قبل عامين من المعتقل، قرار لجنة نوبل باعتباره «دليلا واضحا على معايير الغرب الملتبسة وما دعاه بغمغماتة الأخلاقية». بينما ذهب ناشط صيني معروف هو آي ويوي Ai Weiwei إلى أن منحه الجائزة «وصمة في جبين الأدب وجبين الإنسانية» كما يقول، وهو يسرد سجله الطويل في الالتزام بتعليمات الحزب والصمت عن انتهاكاته.

ويشير ثالث إلى أنه حينما رأس وفد الصين لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب عام 2009، عندما كانت الصين ضيف شرف المعرض، قاطع أنشطة كتاب المنفى الصينيين المعارضين في الغرب، استجابة بالطبع لتعليمات الحزب. كما حثّه عدد من منتقديه على أن يقوم الآن، وقد حصنته نوبل، بدور بارز في الدفاع عن نجوم الدعوة للحرية والأجندات الغربية في الصين، مثل ليو زياوبو. لكن ردود فعل مو يان على تلك الهجمات تفاوتت، بين كشف نفاق مهاجميه، حينما رد عليهم: «إن كثيرا من الذين انتقدوني في الإنترنت، هم أنفسهم أعضاء في الحزب الشيوعي، ويعملون ضمن النظام القائم، ومنهم من استفاد منه كثيرا. ولو قرأوا أعمالي لأدركوا أنني أعبر عن ضمير شعبي، وأنني انتهكت فيها الكثير من المحرمات التي تعرض منتهكيها للخطر.» وبين اللجوء إلى مهادنة أكثر جرأة قليلا من تلك التي اتخذها محفوظ عقب هجوم منتقدي نوبل عليه، إذ سارع بعد يومين من نبأ حصوله على الجائزة إلى مطالبة السلطات الصينية بالإفراج عن ليو زياوبو. إلى الحد الذي دفع معارض صيني للتعليق على الأمر، بأنه إذا كان حصول الكاتب على جائزة نوبل سيمكنه من التخلي عن الصمت ونقد النظام الصيني الراهن، فمرحبا بنوبل.

مو يان حياته وسياقات ظهور مشروعه الأدبي:
فمن هو مو يان؟ وكيف صعد من أحد أفقر مناطق الصين إلى ساحة الاهتمام الدولي والثقافي؟ ولد جوان موييه Guan Moye المعروف باسم مو يان Mo Yan وهو اسمه الأدبي الذي استقاه من نصه الأول من ناحية، ومن مفارقة دالة على وضع الكاتب في الصين من ناحية أخرى، لأنه يعني باللغة الصينية، «لا تتكلم»، ولد في 17 فبراير عام 1955 في قرية صغيرة هي جاومي Gaomi  التي تقع في محافظة أو شبه جزيرة شاندونج (التي يعني اسمها شرق الجبل)، والمطلة على البحر الأصفر في الشمال الشرقي من الصين، في مواجهة شبه الجزيرة الكورية. وهي محافظة ريفية مغمورة نسبيا، عانت من الاحتلال الألماني ثم الصيني في النصف الأول من القرن العشرين، بالرغم من أنها «بيت لحم» الصين، وموطن ميلاد كونفشيوس. وقد ولد فيها مو يان في أسرة فلاحية فقيرة تعاني من شظف العيش وقلة الإمكانيات، وتوفر لها فلاحة الأرض بالكاد قوت يومها وعيالها. وساعد أسرته في الفلاحة، كغيره من أبناء جيله حتى بلغ السابعة عشرة من عمره، فزرع الذرة الصينية الرفيعة والثوم (وسوف يكون لكل من هذين المحصولين رواية من رواياته في المستقبل) واضطر كأغلب أبناء جيله إلى ترك المدرسة صبيا للالتحاق بالثورة الثقافية عام 1966، وخبر بنفسه تأثيرها المدمر على المناطق الفلاحية الفقيرة، وما انطوت عليه من تدمير وعصف بالحريات. فقد كان أبوه الفلاح، الذي عانى هو وأبناؤه من شظف العيش طويلا، ينصحه دائما بألا يتكلم؟! يول له دوما «مو يان: لا تتكلم» حتى لا تورطه الكلمات في مشاكل، هو حقيقة في غنى عنها!

ثم اضطر للعمل لما بلغ السابعة عشرة من عمره في مصنع للمنتجات النفطية إلى جانب عمله في الحقل لمساعدة أسرته الفلاحية. وعاني طوال سنوات طفولته وصباه من الفقر، إلى الحد الذي يوشك فيه حديثه عن الفقر الذي خبره بحق أن يكون طالعا من صفحات رواية (جوع) للكاتب النرويجي الكبير كنوت هامسون، حيث اضطر إلى أكل لحاء الأشجار كما فعل بطل هامسون. كما أن إجابته على سؤال لماذا أصبحت كاتبا، ذكرتني بمشهد طالع من رواية (جوع) لمحمد البساطي، حينما يسأل الابن أباه مندهشا، وقد جلب لهم بقايا مائدة الرجل الثري الذي يعمل عنده بما فيها من لحوم: «وبتاكل من ده كل يوم!» لأن مو يان قال: إن أحد ابناء قريته الذي تعلم في بكين، قال له مرة بعد أن عاد للقرية، إنه عرف كاتبا في بيكين يأكل «جياوزي» ثلاث مرات في اليوم، وهي المعادل المصري لأكل اللحم كل يوم! فقرر أن يكون كاتبا، إذا كانت الكتابة تنتشل الإنسان من براثن الفقر والجوع.

وبعد أن حطت الثورة الثقافية أوزارها عام 1976 التحق بجيش التحرير الشعبي، باعتباره الوسيلة الوحيدة للتحرر من الفقر والمسغبة، إلى درجة أن أسرته زورت في تاريخ ميلاده، وجعلته أصغر من عمره الحقيقي بسنه (زعموا أنه ولد عام 1956 وليس 1955، فلم يكن لديه شهادة ميلاد على كل حال) كي يلتحق بالجيش. وأكمل تعليمه فيه، حيث أن الجيش الصيني، مثله في ذلك مثل الجيش الأمريكي، يوفر لمن يتطوعون للالتحاق به سبل التعليم المجاني، حتى وصل إلى رتبة ضابط. وبدأ الكتابة أثناء ذلك، ونشر عددا من قصصه القصيرة اللافتة. ولكن بعض رؤسائه في الجيش كانوا ينتقدونه لأنه يكتب بدلا من القيام بمهامه العسكرية الأخرى، فقرر عام 1980 الالتحاق بقسم الأدب في أكاديمية جيش التحرير الشعبي للفنون والآداب. كي تصبح الكتابة جزءا من مهامه العسكرية. ثم كتب روايته الأولى (مطر في ليلة ربيعية) عام 1981. وفي عام 1983 عين مدرسا في نفس القسم الذي تخرج منه. وفي العام التالي نشر روايته القصيرة الأولى (فجل شفاف)، التي جاءت ضمن سياق فورة مرحلة الانفتاح والإصلاح الكبيرة التي بدأت مع بداية الثمانينيات، وعقب القضاء على عصابة الأربعة. وفي عام 1991 حصل على درجة الماجستير في الآداب من جامعة بكين. وهو عضو في الحزب الشيوعي الصيني، ونائب رئيس اتحاد كتاب الصين.

وتجيء أعماله التي تعاقبت بوتيرة متسارعة، في سياق مجموعة من المتغيرات الدالة في الأدب الصيني الحديث. فبعد فترة من الازدهار النسبي في بداية حكم ماوتسي تونج، نتيجة لدعوته الشهيرة «دع مئة زهرة تتفتح»، تراجعت حرية الكتّاب النقدية، وسادت المشهد الواقعية الاشتراكية بمنتجاتها الأدبية البليدة. وأحكم الحزب سيطرته على الحياة الثقافية عبر اتحاد الكتاب، وتأميم دور النشر. لكن الفترة التي تلت التخلص من عصابة الاربعة بعد موت ماوتسي تونج عام 1976، وبداية التحولات السياسية والاقتصادية في الصين مع انتصار دنج جياوبنج، مهندس التحول الصيني، وشعاره الشهير: «بلد واحد ونظامان» و«ليس مهما أن تكون القطة بيضاء أو سوداء، المهم أن تقتل الفئران»، شهدت مجموعة من التحولات الثقافية المهمة. فقد اندلعت معها انفجارة أدبية كبيرة استعادت زخم حركة «الرابع من مايو»(1) التجريبية في بداية القرن العشرين. وهي الحركة التي ساهمت في إرساء قواعد الأدب الصيني الحديث، وتكوين أشكاله السردية والدرامية الجديدة، ومكنته من تحقيق حالة من الازدهار الكبير طوال الثلث الأول من القرن العشرين، وحتى الاحتلال الياباني الذي أدخل البلاد في دوامة من الصراعات والاضطرابات والحروب لم تنته إلا بهزيمة اليابان وقيام الثورة الصينية. لكن الحزب سرعان ما استشعر الخطر الداهم لتلك الانفجارة المتسارعة التي لم يستطع السيطرة عليها، فشن حملاته الأيديولوجية ضدها. وكان من أبرزها حملتان.

أولاهما ضد النزعة البرجوازية الليبرالية عام 1980/ 1981، وضد الخطاب الذي تحرر من قيود الواقعية الاشتراكية، ورؤية الحزب الثقافية التي كانت قد تزعزعت إبان الثورة الثقافية. وثانيتهما ضد ما عرف باسم «تلويث الروح الصينية» عام 1983 بسبب تدفق الأعمال الأدبية التي تكتب بسرعة كوابيس مرحلة الثورة الثقافية، متشجعة باستمرار الهجوم الأيديولوجي عليها. وتعيد النظر في تاريخ الصين الحديث، بعيدا عن رؤية الحزب التبسيطية له: حيث كل من حارب مع ماو هم الأخيار، وكل ما عداهم أشرار خونة. لكنهما كانتا حملتان قصيرتي العمر والتأثير. لأن زخم الانفجارة الأدبية سرعان ما تغلب على هاتين الحملتين قصيرتي العمر وتنامي. وانطلق الأدب وقد تشجع بنجاح سياسات دنج في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وبرز كتاب مهمين مثل وانج مينجWang Ming ، وجانج زينزن Zhang Xinxin ، وزونج بو Zong Po  في مجال الرواية، وجاو زينجيان في مجال المسرح.

وتبلورت خلال هذه الازدهارة مع سنوات الثمانينيات الأولى مدرستان/ جماعتان أدبيتان تجسدان على الصعيد الثقافي شعار دنج: «بلد واحد ونظامان». أولاهما «حركة الأدب الطليعي» التي استعادت روح «الرابع من مايو» في الانفتاح على أحدث أشكال الكتابة الغربية، والاهتمام بالتجريب في اللغة والأشكال الأدبية، وتأسيس عدد من المجلات الطليعية ودور النشر الجديدة خارج سيطرة المؤسسة الرسمية. وبدأت هذه الحركة في كتابة كوابيس مرحلة الثورة الثقافية، وما جرته على الصين من خراب. مستفيدة بذلك من تقنيات الحداثة الغربية، والإيغال في الفانتازيا والمناجيات الداخلية. وبدأ جيل كان يكتب على استحياء، ويحتفظ بكتابته في الأدراج نتيجة للثورة الثقافية، يمكن أن نسميه بجيل الستينيات، ينشر أعماله القديمة ذات الحساسية الأدبية المغايرة، ويفتح الأدب الصيني على الأساليب التجريبية الجديدة، وعلى كثير من تقنيات الحداثة الغربية مثل يو هان Yu Hua، وجي فايGe Fei  وسو تونجSu Tong . بصورة جددت اللغة والأدب معا، وأظهرت غياب الإيمان بأي نموذج أو مثال قديم.

وثانيتهما هي حركة أو جماعة «العودة للجذور»، وتزعمها هان شاجونجHan Shagong  وزونج شينجZhong Cheng ، وضمت عددا من الكاتبات البارزات مثل تشين ران Chen Ran، ووي هويWei Hui ، ووانج آنييهWang Anie ، وهونج ينج Hong Ying. وقد سعت إلى إدارة حوار خصب بين تقنيات الحداثة الغربية التي روج لها كتاب جيل الستينيات وجماعة الأدب الطليعي، والتقاليد الراسخة في الأدب الصيني القديم، بنصوصه السردية الشيقة، واستراتيجياته النصية المتجذرة في بنية اللغة والوجدان الشعبي معا. وهذه هي الجماعة التي مال إليها كاتبنا مو يان، الذي تربى على حكايات قريته الشعبية وعوالمها الخيالية الخصيبة التي يمتزج فيها الواقع بالخيال  وينساب الخيال في ثنايا الواقع دون أي تعارض بينهما. وإن كان في الوقت نفسه من أكثر كتابها استفادة من انجاز الجماعة الأخرى، وتقنياتها التي تقترب في عالمه من تقنيات الحداثة الأوروبية الأولى بسرياليتها الواضحة، وبما دعاه الواقعية المهلوسة أو الموسوسة Hallucinatory Realism وقد اكتسبت زخما جديدا من تحرر الواقعية السحرية وإنجازاتها التي ولع بها مو يان وخاصة عند جابرييل جارسيا ماركيز.

كيف تفصح عما دار لعشيرتك و«لا تتكلم»:
فقد بدأ الكتابة في مدينته النائية، بعيدا عن مركز هذا الجدل الأدبي الدائر في بكين وشنغهاي. واستفاد بمكر الفلاح الصيني العريق منهما معا، دون أن يفصح عن انخراطه في أي منهما. ألم ينصحه أبوه الفلاح من قبل بألا يتكلم؟! ألم يتعلم من قراءته لوليام فوكنر، وهو الكاتب الآخر الذي يقول أنه تأثر بها كثيرا، أن باستطاعته أن يؤسس عالما خياليا موازيا لعالم الواقع وقادرا على الكشف عن أدق خباياه، مثل يوكناباتوفا Yoknapatawpha، يتناول فيه كل ما يدور في العالم الواقعي بحرية وقدرة أكبر على التأثير؟! وقد فعل ذلك في أكثر من عمل من أعماله الروائية التي يتعمد ألا تدور في جغرافيا واقعية، بل متخيلة وشديدة الالتصاق بالواقع معا، أقرب ما تكون إلى منهج فوكنر في يوكناباتوفا. فقد شب مو يان عن الطوق إبان اندلاع عواصف الثورة الثقافية، وانتشار شراراتها في كل الأقاليم. كان في الحادية عشرة من عمره حينما انطلقت، وكان خوف أبيه عليه هو ما دفعه إلى أن يشدد عليه بألا يتكلم خارج البيت، وأن يتظاهر بأنه أبكم، وألا يعبر عن أرائه الحقيقية، لما قد يجلبه هذا عليه من عواقب وخيمه. لا تتكلم «مو يان»! هكذا كان يقول له الأب طوال الأعوام العشرين الأولى من حياته.

وقد استحسن استخدام هذا الاسم أدبيا، حينما بدأ الكتابة بدلا من الكلام، بدلا من اسمه الحقيقي جوان موييه؛ لما ينطوي عليه من مفارقة دالة وشيقة معا. خاصة وأنه بدأ الكتابة وهو مجند بجيش التحرير الشعبي، فكان في حاجة إلى أن يذكر نفسه بدلالات هذا الاسم باستمرار، حتى لا يتورط فيما لا تحمد عقباه. بل إنه استخدم نصيحة أبيه له، تظاهر بأنكم أبكم، كاستراتيجية أدبية في روايته الأولى التي يرويها طفل عازف عن الكلام. فحق عليه استخدام الاسم الأدبي إذن «مو يان» لكتابة ما رآه هذا لطفل وعاشه دون أي كلام. خاصة وأنه يتناول في كتاباته كثيرا من القضايا السياسية الشائكة، وينتهك فيها في الوقت نفسه بعض المحرمات الجنسية. لذلك حافظ على الاسم، وواصل الكتابة به حتى اليوم، برغم تغير الظروف، وانفراج المناخ.

ومع أن مو يان كاتب خصب وفير الانتاج، مثله في ذلك مثل كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، فإن مدار عالمه على العكس من محفوظ هو الريف الصيني، ومدنه الصغيرة، لا العاصمة أو المدن الصينية الضخمة. فهو كنجيب محفوظ لا يكتب إلا عن خبرة حميمة بما يكتب عنه، عما يعرفه عن كثب. وقد عاش القسم الأكبر من حياته في قريته «جاومي» لذلك يدير أغلب أعماله في عالم قريب من عالمها، فالقرية بالنسبة له هي الحارة بالنسبة لنجيب محفوظ سواء أكانت حقيقية أو متخلية. لأنه يقول أنه بعد أكثر من عشرين عاما من الصمت، والحرمان من الكلام، يريد أن ينقل للعالم كل ما عاشه وشاهده في قريته ومدينته الصغيرة، يريد أن يحكي ولا يستطيع أن يتوقف عن الحكي. خاصة منذ قرر أن يتفرغ للكتابة بعد النجاح النسبي لروايته الثانية (فجل شفاف) عام 1983. وهو كاتب كما تقول حيثيات فوزة بجائزة نوبل «يمزج واقعية الهلاوس التخييلية بالتاريخ والحكايات الشعبية والوقائع المعاصرة». ولو أضفنا إليها ويعتمد على الجدل الخصب بين الخيال والواقع بطريقة تهكمية ساخرة تتسم بمنطق القص العفوي والاستطرادات السلسة، والسرد التوليدي الذي تتناسل في الحكايات، ويذكرك باستراتيجيات القص الشهرزادية في (ألف ليلة)، لتحولت هذه الجملة الأطول إلى مفتاح لأسلوبه السردي المتميز.

عوالم مو يان الروائية المدهشة
قبل أن اواصل تقديم بعض أعمال الكاتب الصيني البديع، مو يان للقارئ، أحب أن أعود إلى مسألة مهمة في السياق الثقافي الصيني، وهي تتعلق بتصنيف أحد أكبر أعلامه، وهو لو صن Lu Xun (1881 – 1936)، رائد الأدب الصيني الحديث بإجماع الثقات في التأريخ له، لظاهرة نعرفها جيدا في أدبنا العربي منذ أن كتب أحد أبرز رواده أيضا، محمد حسين هيكل (زينب)، وهي ما يدعوها بظاهرة أدب الموطن المحلي Native-Soil Literature وهو الأدب الذي يكتبه الكتاب الصينيون «الذين يقيمون في العاصمة أو شنغهاي عن مشاعرهم تجاه موطنهم الريفي الأصلي، الذي تركوه خلفهم، سواء أكانت كتابة ذاتية أو موضوعيه. فإن ما يكتبونه هو أدب الموطن المحلي. لأنه أدب لا يكتب عن الواقع، بقدر ما يستدعى واقعا قد لا يكون له أي وجود عند الكتابة عنه. فحينما يستدعي كاتب ابتعد عن موطنه الأصلي، جبرا أو اختيارا، حديقة منزل أبيه، فقد لا يكون لهذه الحديقة أي وجود ساعة الكتابة، وقد تكون اختفت للأبد. ولكن استدعاءها يهدهده ويعزيه، أكثر مما يعبر عن شيء حقيقي موجود.»(2)

وقد ظل هذا التعبير الذي صكه لو صن عام 1935 يطارد كل من يكتب عن الريف الصيني لأمد طويل. حتى أدار كتاب الحداثة الصينية المعاصرين حوارهم التناصي المهم معه، ومع عدد كبير من أعمال لو صن وروءاه الناقدة لنهنهات الحنين الرومانسي للريف البعيد. وقد مر هذا الأمر بمرحلتين أساسيتين: جسدت أولاهما حركة كتاب الحداثة في شنغهاي، وتفجيرهم الحساسية الواقعية التقليدية من الداخل، و طرح تنويعات جديدة عليها تحررها من تلك النهنهات: من الواقعية الغنائية النقدية critical lyricism إلى مفهوم آخر صاغه أحد أبرز كتاب تلك الحداثة وهو شين كونجوين Shen Congwen (1902 – 1988) وهو مفهومه عن الحنين الخيالي imaginary nostalgia، أو الحنين المفجر للخيال بمعنى أدق، والذي يرجع إليه أحد الباحثين الفضل في زرع كل البذور التي نبتت منها كتابات مو يان وسونج زيلاي Song Zelai ولي يونجبنج Li Yongping وغيرهم من كتاب ما يدعوه بحصاد المحلية الجديدة والمختلفة جذريا عن محلية كتابة العودة للموطن المحلي، ونهنهات الحنين الرومانسي السارية فيها.(3) وهي المدرسة التي عرفت فيما بعد، خاصة مع إبداعات عدد من كتاب القصة القصيرة كان على رأسهم مو يان وجيا بنجوا Jia Pingwaa  وزينج وانلونج Zheng Wanlong  وغيرهم، بمدرسة «العودة إلى الجذور»، أي إلى مناطق الريف الصيني المهمشة والمغيبة عن عوالم الأدب، والتعبير عن غرائب الحياة القديمة فيها وأساطيرها وأعرافها وخيالاتها، التي أسست بطريقتها الفريدة لواقعيتها السحرية الخاصة. وقد كتب مو يان الكثير من هذه القصص التي تدور في مقاطعة جاومي Gaomi التي ولد وعاش فيها، وفي عوالم جيش التحرير الشعبي الذي التحق به منذ العشرين من عمره.(4)

«الذرة الصينية» رواية العودة إلى الجذور:
لكن الرواية التي تتجلى فيها ملامح كتابة العودة للجذور، والتي جلبت له الشهرة، وكرست مكانته كواحد من أبرز كتاب جيله هي روايته الثالثة أو الرابعة ربما، فليس ثمة معلومات دقيقة بعد عن كل مؤلفاته، (عشيرة الذرة الحمراء Red Sorghum Clan) عام 1987، وفي بعض ترجمات العنوان (الذرة الحمراء). والذرة الصينية Sorghum، أو الذرة الرفيعة كما ترجمها البعض، هي الزراعة الرئيسية في المحافظة التي جاء منها مو يان، وهي عماد الحياة فيها. ويصف مو يان حقولها في هذه الرواية بأنها «بحر من الدم اللامع المتألق الذي يشكل الروح التقليدية للمنطقة». حيث تستخدم حبوبها الصغيرة والتي تنمو في عناقيد مثل عناقيد العنب أو مثل سباطة البلح، وليس ككيزان الذرة التي نعرفها، في عمل الخبز و«الشعرية» الصينية وهي الغذاء الأساسي، كما تستخدم أيضا في صناعة مشروب كحولي صيني بامتياز، بينما يستخدم النبات نفسه علفا للماشية، لذلك توشك عشيرة هذه الذرة الصينية بامتياز أن تكون استعارة شفيفة للصين نفسها، أو لعالمها الفلاحي، خاصة وأن الرواية تقيم تناظرا بين طول عيدان الذرة الصينية الحمراء وأصالتها واستقامتها، وطول أسلاف الراوي وقوتهم، وتميزها عن الذرة الهجين الوافدة من جزيرة هاينان والتي تشبه أوراقها الخضراء الثعابين السامة. وهذا هو سر نجاحها، واستجابة الكثير من القراء لرؤاها، إذ وجدوا أنفسهم وتواريخهم المنسية فيها. وقد تحولت في العام التالي لصدورها إلى فيلم ناجح، فاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 1988.

لكن أحد أهم عناصر نجاح هذه الرواية هو اختلافها الجذري مع روايات الواقعية الاشتراكية التي سادت في زمن ماوتسي تونج. وقدرتها في الوقت نفسه على الكشف عن البنية التحتية للمرحلة الماوية من تاريخ الصين الحديثة، وتعرية كل تناقضاتها بشكل مراوغ. وهي من هذه الناحية رواية إشكالية من حيث موقفها من التاريخ الذي تسعى في الظاهر لإدانته، بينما تحتفي استراتيجيات السرد بصلابته وتغلغل تأثيراته في الثقافة التحتية من ناحية، وفي تكوين الموروث الثقافي المحلي من ناحية أخرى. كما أن ظلال المفهوم الأبوي الكونفشيوسي التقليدية تتحول فيها إلى مصدر الغواية الأخلاقية لعالم مألوف وقادر في الوقت نفسه على طرح بديل أخلاقي لحاضر الصين المتوتر الممزق بين نزعات السوق اللاأخلاقية وسعار النزعة الفردية والكسب السريع والحنين لماضٍ وديع يتناءى بأخلاقياته المثالية، وصراعاته الدموية المضمخة بالشبق والثأر والدمار. وخاصة من خلال تصويره لشخصية الجدة ومغامراتها الجنسية التي تتخلق عبرها البنية التراتبية للمرحلة، والنقد المضمر لها في آن. وإن كان مو يان قد مرر ذلك كله عبر مفارقات التجاور بين التقليدي والحديث، وبين الغرب والشرق والسخرية منهما.(5)

وتتكون الرواية من خمسة أجزاء «نبيذ الذرة الصينية»، و«جنازة الذرة»، و«طريق الكلب»، و«الميت الغريب»، و«الذرة الحمراء». وهي اشبه بالملحمة التاريخية التي تغطي أربعين عاما من تاريخ الصين، وتدون تاريخ عشيرته المنسي، أو تكتب التواريخ التحتية لمنطقته الريفية المتميزة والمهمشة معا، بحكاياتها الشيقة وفولكلورها الثري، وخيالاتها الجامحة. فبقدر ما هي رواية عشيرة ما بأجيالها الثلاثة، فهي في الوقت نفسه رواية مرحلة تاريخية متميزة، ومنطقة فريدة من مناطق هذا البلد الشاسع الذي تتعدد فيه الثقافات والجغرافيات. ولابد هنا أن نتذكر أن الصين هي من اخترعت رواية الأجيال وليس الغرب. لأن أول روايات هذا الجنس الأدبي في العالم هي رواية كاو زوكين (1715 – 1764)  Cao Xueqinحلم الغرفة الحمراء Dream of the Red Chamber وبها أكثر من أربعمئة شخصية. وقد ذكرها الكاتب الأرجنتيني الكبير خورجي لويس بورخيس في قصته الشهيرة «حديقة الممرات المتشعبة». وتعد أحد روائع الأدب الصيني القديم الأربعة (مع روايات: «هامش الماء» لشي نائيان و«قصص حب الممالك الثلاثة» لليو جانزونج في القرن الرابع عشر، و«رحلة إلى الغرب» لوو تشينجن في القرن السادس عشر، وإن كان لو صن يضم لها رواية رابعة هي «برقوق في المزهرية الذهبية» أو «اللوتس الذهبية» للانلنج جياوجياو في القرن السادس عشر، والتي ظلت ممنوعة لوقت طويل لانتهاكها للمحرم الجنسي.

أعود بعد هذه الاستطرادات الجانبية التي تربط الرواية بميراث طويل من روايات الأجيال في الأدب الصيني، إلى وعي الكاتب بانتمائه لهذا التراث، ورغبته بالتالي في الإضافة إليه. لأن ما تكتبه الرواية ليس التاريخ الرسمي الذي تخصص المؤرخون الحزبيون في كتابته، حتى جف وصار من المحفوظات الممجوجة، وإنما تاريخ البشر البسطاء المنسي، والمثير للتهكم والسخرية والإعجاب معا من خلال كتابته لقصة ثلاثة أجيال من أسرة ريفية في شمال شرق الصين. لكن قصة هذه الأجيال الثلاثة مكتوبة بشكل تزامني، وليس بأسلوب التتابع التقليدي لرواية الأجيال. لأن الرواية تعتمد معا على تقنيتي الاسترجاع والاستشراف flashbacks and foreshadowing لأن مرتكزها الرئيسي ليس الزمن وإنما الإنسان، فكما تتزامن فيها الأجيال تتجاور فيها البطولات مع النذالات، والفضائل مع الرذائل والصبوات الحسية. لأن هدفها هو أن يبدو أبطاله أشخاصا من لحم ودم، يختلط فيهم الخير بالشر، والحكمة بالسذاجة، والحب بالرغبة في الانتقام، والعنف بالشبق لمتع الحياة. ولكن يظل حبهم للوطن ورغبتهم في تحريره من الاحتلال دافعهم للجلد والحياة. فلمو يان جملة شهيرة، توشك أن تكون مفتاحا لفهم جل الشخصيات التي يكتبها وهي «إن حكمة الإنسان محدودة، ولكن حماقاته لا تعرف الحدود».

وتبدأ الرواية عام 1939، بعد عامين من اندلاع الحرب الصينية اليابانية الثانية (1937 – 1945) وكانت الأولى قد دارت (1894 – 1895). وكان شمال شرق الصين كله، بما فيه محافظته، شاندونج، قد وقع تحت الاحتلال الياباني، وتستمر إلى ما بعد وفاة ماوتسي تونج. تبدأ الرواية في ذروة فترة الاضطرابات التي عاشتها الصين عقب الغزو الياباني، وبدايات الحروب التي لم تنته إلا بالزحف الكبير أو الطويل، وتأسيس الصين الشعبية. ويرويها راوٍ عن المرحلة التي شارك فيها أبوه حينما كان صغيرا، أي الأب دوجوانDouguan ، في حرب التحرير تلك، وانضم وهو في الرابعة عشرة من عمره إلى إحدى عصابات الإغارة على المدن، أو فرق مقاومة اليابانيين، التي تزعمها أبوه الريّس يو زهانآوYu Zhan’ao ، أي الجد، والذي يرسله في مفتتح الرواية كي يجلب الطعام من أمه، الجدة فينجليانGrandma Fenglian ، للفرقة. فأنت لا تعرف حقا الفرق في هذه الرواية الساخرة بين قطاع الطرق وعصابات الإغارة على المدن، وبين فرق مقاومة اليابانيين الوطنية.

ويمتزج هذا كله في الرواية بشتى صور الحياة الحسية: الحياة والموت معا. الحياة بكل لذاتها الصغيرة منها والكبيرة، لأن الطعام والشراب هو أحد أدوات تكوين العالم السردي في هذه الرواية، ومعه الحب والجنس كذلك، لأن قصة الجد مع الجدة تبدأ بالحب حينما وقع الجد في غرامها، مع أنها كانت عروس ابن صاحب مصنع الخمر في المنطقة. وهو الأمر الذي لم يمنع الجد من إقامة علاقة غرامية معها، حيث كان يضاجعها خلسة في حقول الذرة الصينية، قبل التخلص من زوجها، واستمرت علاقته معها خارج إطار الزواج التقليدي بعد موت زوجها، بالصورة التي يعد معها الأب دوجوان، الذي وضع الأب بذرته في حقول الذرة (وللبذرة Zhong/ السلالة/ الأصل/ العرق دلالاتها المتشعبة في الفكر الشعبي الصيني) ابن الحب المشتعل، أو بالتعبير العربي «ابن حرام»، وإن افتقر هذا الأمر إلى الدلالات السلبية الحادة في السياق الصيني. لأن دلالة كونه ابن الحب في حقول الذرة تفوق في الرواية أي دلالة أخرى على مستوى التأويل السردي والارتباط العضوي بالأرض. هذا فضلا عن أن الموت/ الوجه الآخر للحياة هو أحد الخيوط البارزة في نسيج هذه الرواية، سواء أكان الموت قتلا أو جوعا أو حتى نتيجة مهاجمة قطيع من الكلاب الضارية، فهو أحد الألحان الرئيسية في هذه الملحمة ذات الخيوط السردية المتعددة.

ولأن الابن هو الذي يروي الحكاية بعدما كبر، ويبدأها من فترة صبا أبيه الذي وضع الجد بذرته Zhong  في حقول الذرة، فإنه يعرف مستقبل ما يرويه من أحداث، بصورة تمكنه بيسر من الانتقال الحر بين الأزمنة: هبوطا من الحاضر إلى الماضي، وصعودا منه إلى المستقبل في بنية روائية شيقة تستخدم ببراعة ما أود دعوته بتقنيات الاستطرادات السردية التي تتوالد فيها الحكايات بعفوية دون أن يحكمها منطق التتابع السببي. لأن الابن يعرف مآلات كل ما يرويه من حكايات، ولا يطيق الصبر أحيانا على الحكاية حتى تكتمل أو تصل إلى المنعطف الذي يريد أن يحكيه لنا، بل يقفز منها إلى مستقبلها، أو إلى ما أثارته فيما بعد من عواقب. وتتيح له هذه الحرية في الحكي أن يتحرك بيسر في الزمان، منتقلا من الحاضر للماضي، ومن الماضي إلى المستقبل، دون أن يقطع خيط السرد المتدفق في سلاسة. وإن كانت هذه التقنية المراوغة لا تصرف الكاتب عن هدفه الأساسي، وهو كتابة رواية تحكي تاريخ أسرته من ناحية/ وتاريخ منطقته الريفية جوامي في شمال شرق الصين من ناحية ثانية/ وتاريخ الصين نفسها على مد فترة طويلة وحرجة من تاريخها من ناحية ثالثة.(6)

إنها ملحمة تاريخية، تكتب تاريخ الوجع الصيني الفريد مع الاحتلال الياباني أولا، ثم مع السنوات الأولى من الحكم الشيوعي ومعاناة الفلاحين في هذه الفترة، وبدايات تأسيس بيروقراطية الحزب في الريف الصيني. وتطرح تناقضات هذا التاريخ غير المكتوب، وغير المهتم به، بوقائعه التي توازي التاريخ الرسمي وتحيل بشكل مراوغ عليه، وأساطيره العامرة بالجن والأشباح، في مواجهة المتخيل الوطني الرسمي الذي يحيط مسيرة الصين التاريخية بهالة من القداسة والجمود. وتسخر من هذا المتخيل وهي ترويه في مسيرة النضال المضطربة ضد الغزو الياباني والكاشفة عن كل تناقضات الواقع السياسي وقتها. حيث تختلط بطولات المقاومة بنذالات قطاع الطرق، وحكمة المحاربين الأشاوس بسذاجة الفلاحين البسطاء، وشجاعة الفرسان بجبن الخائفين ومكرهم. لكن الرواية تكتب أيضا بعد هذا كله، أثر المعجزة الصينية والتحول إلى اقتصاديات السوق على الريف، وأوجاع التحول من الاقتصاد الاشتراكي الملتزم بالعدالة الاجتماعية، والذي تمتع فيه بيروقراطيو الحزب بالنفوذ والسلطة، إلى اقتصاد السوق الذي يعصف بالضعفاء ومن يتمسكون بالأخلاق والمثاليات، لصالح نهازي الفرص ومن لا خلاق لهم. ويزعزع سلطة البيروقراطية ومندوبي الحزب القديمة، لصالح بنية الفساد القوية الجديدة المدعومة بسطوة المال الجديد وأبهة الفجور والدعارة.

وستظل أبهة الفجور والدعارة من الاستعارات التي يستخدمها مو يان في أكثر من رواية تالية لتجسيد عملية مسخ القيم والأخلاقيات التي نتجت عن التحول السريع، والمدمر أحيانا، نحو اقتصاد السوق. ورؤية المهمشين الذين يقع عليهم وزر هذا التحول ويعانون أوجاعه. فقد تواصلت روايات مو يان، الذي تفرغ كلية للكتابة، وأصبح عضوا بارزا في اتحاد الكتاب، وصار قبل أعوام نائبا لرئيسه، فصدرت روايته (مواويل الثوم The Garlic Ballads) عام 1988. وهي رواية تحكي قصة ثلاث عائلات تشارك في التمردات الفلاحية المناهضة لفساد الإدارة المحلية وتهتك نخبتها. من خلال ثلاث شخصيات أساسية: بطلان يمثلان طريقتين مختلفتين في مقاومة هذا الفساد، والتصدي لتجلياته المختلفة، ولكنهما يدفعان ثمنا باهظا لذلك، وإن استطاعا البقاء دون الانتصار. فإن الشخصية الثالثة وهي بطلة الرواية الأساسية التي تتطلع للحصول على حريتها الجنسية ضد قهر الأب والأخ وضربهما المستمر لها، ينتهي بها الأمر إلى الانتحار. وقد قدمت هذه الرواية بوادر ما تسميه بوني ماكدوجل في مقال لها عن الرواية الصينية المعاصرة،(7) بالكرنفالية التهويلية  Carnivalistic Grotesqueوهو تنويع صيني اشتقته من مصطلح ميخائيل باختين الأصلي عن الكرنفالية، لترصد به تلك الغرائبية التي تتحقق من خلال الإسراف في السخرية والهزء في السرد، مع السامي والمقنن في الكتابة التي تلجأ إلى وضع أبيات من الشعر الكلاسيكي الصيني الراقي في مفتتح الفصول، بينما تكتب في متنها عن المنحط من السلوكيات الحسية المفرطة والأجساد الممزقة والحشرات والفضلات وأوجاع الهوان، التي يقع عبؤها على عاتق الفلاحين من ممارسات السلطات المحلية أو نتيجة للعنف الموجه ضد الذات. وهذا كله في تعارض واضح مع الاتساق والنظافة التي تتسم بها نصوص الواقعية الاشتراكية السابقة عليه في الأدب الصيني. وفي محاولة لتخليق صياغات سردية جديدة قادرة على استيعاب تهاويل الواقع وتناقضاته وغرائبياته.

الهروب إلى التاريخ وقضية الهوية المعقدة:
ولكن سرعان ما وقعت أحد أكبر مظاهرات الغضب الصينية والتي استمرت لأيام وبلغت ذروتها في الرابع من يونيو 1989 والمعروفة باسم أحداث ميدان تيانانمين. فبدأ بعدها مو يان الهروب إلى التاريخ، فنشر عام 1990 قصته «الخطاب المقدس Divine Discourse» التي تتناول العادات الغريبة لأحد كبار ملاك الأرض قبل ثورة 1949، وممارساته السيريالية في الريف الصيني، في نوع من الكتابة التي يتهرب فيها من مواجهة توترات ما بعد أحداث تيانانمين من ناحية، ويؤسس لقواعد سرد وتلقٍ جديدة يدرب القارئ فيها على تلقي شفراتها السردية. وهو الأمر الذي ذكرني بما فعله نجيب محفوظ في مرحلة الستينيات الناصرية من ناحية، وسيرياليات «تحت المظلة» وما بعد النكسة من ناحية أخرى. ثم نشر عام 1993 قصة «الشفاء The Cure» التي تدور في أربعينيات القرن الماضي أيضا، وتتناول الاختفاءات الكثيرة والمريبة والتي كانت تنتشر أخبارها في كل أرجاء الصين، والإشاعات التي تتردد بعدها عن قتل المختفين واستخدام أعضائهم في عمليات نقل الأعضاء التي انتشرت في التسعينيات. ولأن هذه القصة تقيم تناصاتها مع قصة شهيرة للو صين بعنوان «الدواءYao » من أجل توسيع آفاق أو مستويات القراءة فيها. فيمكن قراءتها على أنها تتناول مرحلة القهر والاعدامات التي انتشرت في ثمانينيات القرن الماضي.

وقد كانت رواية (أرض الخمرLe Pays de Alcool ) أو (جمهورية النبيذ The Republic of Wine) حسب الترجمة الانجليزية للعنوان عام 1992، هي الرواية الأولى له بعد أحداث ميدان تيانانمين الشهيرة عام 1989، وقد صادرتها السلطات، فنشرها في تايوان. حيث صُرّح وقتها للكتاب المقيمين في الصين بنشر كتبهم في الخارج في تلك الفترة، وإن لم يتم رفع الحظر عن مؤلفات الكتاب الصينيين في المنفى. وسوف نعود لهذه الرواية بشيء من التفصيل بعد قليل. ثم نشر بعدها (أثداء كبيرة وأرداف ثقيلة  Big Breasts & Wide Hips) عام 1995، والتي حصل عليها في العام التالي 1996 على جائزة «الكتاب الكبرى»، ولكنها صودرت هي الأخرى لأنه تجاوز فيها كتابة تاريخ المنسيين والمهمشين إلى تناول شيء من التاريخ الرسمي وإشكاليات الهوية. حيث يغطي السرد فيها مرحلة طويلة من تاريخ الصين تمتد لما يقرب من تسعين عاما، من السنوات الأخيرة لأسرة كينج (انتهت عام 1911 وأخرج بيرتولوتشي فيلما جميلا عن إمبراطورها الأخير) وتستمر إلى ما بعد موت ماوتسي تونج، والإصلاحات الاقتصادية في تسعينيات القرن الماضي. من خلال امرأة، شانجوان لو شي Shangguan Lu Shi، هي بطلة الرواية المركزية ومركز السرد فيها تسعى لإنجاب ولد، ولكنها تنجب ثماني بنات متتابعات قبل أن يجيئها الولد الوحيد في نهاية المطاف، شانجوان شوكسي Shangguan Shouxi، من حداد محلي، لاحظ دلالات مهنته على الزواج القلق بين الريف وبذور الصناعة الوليدة.

وهي رواية تقدم من خلال شخصية هذه المرأة الجبارة، التي تنجب أبناءها خارج مؤسسة الزواج، وتعاني من العنف، رؤية امرأة فريدة لتاريخ لا يقل عنفا وفرادة عن حياتها اليومية، بصورة توشك معه أن تكون استعارة شفيفة للصين ذاتها وخيباتها المستمرة في إنجاب الولد/ أقرأ النظام/ الذي تشتهي إنجابه. كما أنها رواية تطرح المرأة مرتين (من خلال هذه المرأة/ الأم/ الأرض/ الوطن مرة، ومن خلال كنتها زوجة هذا الابن المشتهى التي ستنجب راوي النص الخلاسي أخرى) كموقع للعنف الجسدي، حيث يحمل جسدها جراح التواريخ ومشاكل المجتمع الأبوي الصنين المعقدة، وكمؤسسة لنظام أموي في مواجهة النظام الصيني الأبوي بامتياز. وهو ما أدى إلى مصادرة الرواية في الصين، لسببين: أولهما أنها تخلت عن الانطلاق من المصادرة التقليدية بأن كل ما فعله الحزب الشيوعي الصيني خير وكل ما قام به الكومنتانج، الذي انهزم في الحرب الأهلية وفر زعيمه لفرموزا (تايوان) شر. كما أنها اعتبرت رواية مغرقة في الحسية وتنتهك المحرم الجنسي، بسبب عرامة تلك المرأة القوية وحسيتها، وهو الأمر الذي ستواصله كنتها وإن بدوافع مغايرة، ليس أقلها عقد النظام الأبوي وعنفه المستمر ضد المرأة. فطبعت في هونج كونج وترجمت لأكثر من لغة، وقدمت ما يمكن دعوته على صعيد التأويل لعوالمه السردية الجانب الآخر من قضايا التاريخ والجنوسة والذي يكمل ما طرحته روايته (الذرة الصينية الحمراء).

وقد أثارت هذه الرواية الكثير من ردود الفعل بالرغم من فوزها بتلك الجائزة الكبيرة، وقيمتها مئة ألف يوان أي أكثر من 16 ألف دولار، بدءا من عنوانها ذاته، الذي اعتبره المحكمون في الجائزة عاميا وغير موفق ويستهدف استقطاب القارئ بشكل تجاري، ولكن مو يان رد عليهم بمقال يشرح فيه كيف أنه استقاه من المعيار الجمالي الذي تجسده أمه وتعجب به نساء بلدته من ناحية، ومن تمثال صخري قديم وجميل في منطقته لامرأة تجسد المرأة/ الأم/ الأرض من ناحية أخرى. لأن هدف هذه الرواية الاساسي كان الاحتفاء بالأم وبالأرض معا. وبالفعل نجد أن المرأة / الأم هي مركز السرد في هذه الرواية، وأن قضية المرأة في مجتمع أبوي له خصوصياته الثقافية كالصين، كجسد وجنوسة هي قضيتها الأساسية. حيث تجد «شانجوان لو شي» نفسها هي المسؤولة عن أسرتها الكبيرة بعد أن يجهز جيش الغزو الياباني في إحدى مجازره على زوجها وحماها وجل رجال القرية في الثلاثينيات. وتعصف المجزرة بعقل حماتها، فتجد المرأة الشابة وقتها نفسها هي عائل هذه الأسرة الكبيرة وحاميها وأمها/ الأرض معا. وتصبح في مستوى من مستويات التأويل السردي نموذجا للنظام الأمومي Matriarchy وللأم/ الأرض التي تجسد المعاناة والجلد والتفاني والتضحية والغيرية، ولكنها تجسد في الوقت نفسه الخصب والنماء والاحتفاء بالحياة والشبق للذتها وعرامتها وتذكرنا بالجدة في (الذرة الصينية الحمراء).

موقع الراوي وإشكاليات الأنا والآخر:
وتشترك هذه الرواية مع (الذرة الصينية) في موقع الراوي الإشكالي فيها، لأن راويها يشعر هو الآخر بأنه غير جدير بتاريخ أسرته المجيد الذي يرويه. فراوي هذه الرواية الطويلة بضمير المتكلم أحيانا، وضمير الغائب أخرى، هو الحفيد أيضا، ولكنه هذه المرة هو الابن غير الشرعي لولدها الوحيد، شانجوان شوكسي، وهو على العكس من كثير من أبناء الأم بالمصاهرة، ابن خلاسي هجين: أشقر بعيون زرق يطرح وجوده ذاته أحد أكثر إشكاليات الرواية/ والصين معها تعقيدا، وهي إشكالية الهوية الأبوية الصينية النقية، والعلاقة المعقدة مع الغرب في آن. صحيح أن الأم/ الأرض/ شانجوان لو شي قد أصبح لها عبر أزواج بناتها الثمانية أبناء/ أصهار كثيرون، تسجل عبرهم الرواية تاريخ الصين الحافل بالعنف والدمار، وصراعات ابناء الأسرة الواحدة ضد بعضهم البعض: من الاحتلال الياباني الذي تعاون معه زوج ابنتها الأولى، إلى المقاومة الشعبية الوطنية له، والتي انخرط فيها زوج الابنة الثانية، فقتل بدوره زوج الأولى الخائن، المتعامل مع الاحتلال الياباني. بينما اسر اليابانيون خطيب البنت الثالثة، وبقي في اليابان أعواما بعد هروبه ممن الأسر، حتى عاد، ليثبت فحولته في جسد البنت الأولى التي خان زوجها الصين ولقي حتفه جزاء ذلك، وكان على جسدها أن يكون الأرض التي ترد لمن أسره اليابانيون رجولته وثقته في ذكورته/ رديف صينيته. وصولا إلى الحرب الأهلية التي اعقبت هزيمة اليابان، وانضم فيها زوج الخامسة إلى الحزب الشيوعي، وحارب مع ماوتسي تونج في زحفه الطويل ضد الجيش الوطني، بقيادة شنج كايتشيك المتحالف وقتها مع الأمريكان، فقتل الصهر الوطني الذي قتل من قبل المتعامل مع الاحتلال الياباني، وهكذا في دائرة من العنف الدموي داخل الأسرة الواحدة. وهي الأسرة التي تحيطها الأم/ الأرض/ الصين بحبها لهم جميعا، برغم شقاق البنات وصراعاتهن، بعدما انحازت كل منهن بالطبع لخيارات زوجها.

لكن يظل للحفيد الذكر الوحيد، الذي جاء من ابنها الذكر الوحيد، والمرشح لحمل اسم شانجوان وتخليده عبر الزمن دلالات رمزية. فقد تزوج ابنها الوحيد شانجوان شوكسي من امرأة صينية جميلة ذات اثداء باذخة هي لو زوانر  Lu Xuaner ولكنه أخفق في الانجاب منها لسنوات ثلاث. فطاردتها الأم والزوج بتهمة العقم والإخفاق في تزويد الأسرة بالذكر الذي يخلد اسمها ويحفظه من الضياع. فحاولت عمتها مساعدتها بتحليل أثبت أن الزوج هو العقيم، لكنها لم تستطع مواجهة أسرته بالحقيقة، فقررت أن تنجب له الأبن الذي يريد بمضاجعة رجال آخرين من القرية، بدءا بخالها ومرورا بجزار للكلاب، وببلطجي، وبحرفي شاب وحتى براهب القرية. غير أن القدر واصل عناده لها، إذ كانت تنجب له، وكأنها تكرر قصة الأم، البنات الواحدة تلو الأخرى، حتى بلغ عددهن سبع بنات. فاستمر اضطهاده لها وضربه إياها، حتى دفعها القهر مرة إلى الذهاب للكنيسة والارتماء في أحضان مبشر سويدي بها، فحملت في توأمين: ولد وبنت، لكن لسخرية المفارقة ومرارتها، نجد أن الولد الذي جاء أخيرا ليواصل استمرار السلالة الأبوية الصينية التي يبحث عنها الزوج وأمه معا، جاء خلاسيا أشقر وبعيون زرق. ليطرح إشكالية الهوية وعلاقة الصين المعقدة بالغرب، ويهدد النظام الأبوي الصيني نفسه، ويبرز عدم قدرته على تخصيب المرأة/ الأم/ الصين لإنجاب الابن/ الصين.

لأن الذي وضع بذرة Zhong هذا الابن، على العكس مما جرى في (الذرة الصينية الحمراء) هو الغرب الذي تتوق إليه الصين، وترتمي في أحضانه ابنتها المضطهدة الجميلة، وتستهجن بل ترفض علاقتها به في الوقت نفسه. ومع أننا نعرف قرب نهاية الرواية، أن كل بنات لو زوانر غير شرعيات، مثلهن في ذلك مثل زوجها نفسه، إلا أن مظهرهن الصيني جعلهن شرعيات بالضرورة. ولكن مجيء الذكر أخيرا، وهو الحدث الذي اختارت الرواية أن تبدأ سردها به، وأن تجعل ولادته متعثرة صعبة، وأن تقيم بينها وبين ولادة حمار الأسرة لبغل هجين، توازيا دالا في بداية الرواية. ويزداد الأمر إشكالية حينما تربط الرواية بين ميلاد الحفيد الهجين، وبمساعدة طبيب ياباني لمرارة المفارقة، وقتل اليابانيين للأب والجد معا وكل ذكور العائلة، بل القرية، عقب الميلاد. كي يصبح هو الذكر الوحيد الباقي في العائلة. بينما يترك اليابانيون القس السويدي حيا، لأنه أجنبي. لكن حياته لن تستمر طويلا، وإنما ستنتهي في يوم بالغ الدلالة أيضا، وهو يوم التسمية، أي اليوم المئة بعد ميلاد الطفل في الطقوس الصينية. لأن جماعة من المقاومين/ قطاع الطريق الصينيين سوف تهاجم الكنيسة وتجهز عليه وتغتصب الأم/الأرض وقد ذهبت إليه يوم تسمية التوأمين، أي في موعد طقس التسمية، والتي كان القس مزمعا أن يحيله إلى طقس تعميد لابنه.

لكن مقتله بعد أن اطلق المقاومون النار على ساقيه، فصعد إلى برج الكنيسة وألقى بنفسه منه منتحرا، لا يحدث إلا بعد، وربما من أجل، تعميد ابنه بالدم على طريقته، وكتابه اسمه بدمه على جدران البرج قبل أن يلقي بنفسه منه، وتسميته لكل من التوأمين بأسماء صينية خالصه. إذ دعا الابن جينتونج أي الولد الذهبي Jintong (Golden Boy)، كما سمى البنت يونوYunü ، وهي الأسماء التي ستمنحها الجدة لكل منهما على كل حال، والتي سيكشف السرد أن لها لمرارة المفارقة الساخرة دلالات تناقضية على مصائرهما. لأن هذا الولد الخلاسي، جينتونج، لن يكون ولدا ذهبيا أبدا، وسيصبح أحد أكثر الشخصيات ثراءً وتعقيدا في عالم مو يان، وأكثرها عرضة للتأويلات المتناقضة. فقد جعله النص شخصية إشكالية بامتياز، وقدم من خلاله واحدا من أثرى النماذج الأدبية لهذا النمط الإنساني: الابن غير الشرعي، وهو من موضوعات الأدب الشيقة منذ هوميروس وصولا إلى ديستويفسكي مرورا بشكسبير وتشوسر وستندال.(8)

لكن مو يان لا يكتفي في هذا العمل بأن يجعل الابن، ذكر العشيرة، لا شرعيا فحسب، ولكنه يجعله خلاسيا كذلك ناتجا عن هذا اللقاء المعقد بين الصين والغرب. ولذلك فإنه على العكس من الابن غير الشرعي في النماذج الأدبية الشهيرة له، لا يتمتع بأي قدرات متميزة، بل لا يتمتع حتى بأبسط القدرات الطبيعية، إذ حرمه مو يان من أبسط الأمور، من أن يكون إنسانا سويا، وكأنه لا يريد أن ينتج مشروع التزاوج بين الصين والغرب أي شيء يهدد مفهوم الذكورة الأبوية الصينية. إذ لا يريد ذكره الخلاسي جينتونج على المستوى الرمزي الدلالي الاستعاري أن يشب عن الطوق، ويأبى الفطام، ويعاني من هواس أو وسواس التشبث بالثدي مصدر الطعام/ الحياة/ اللذة معا. فيعيش على الرضاعة، دون أن يدخل جسده أي طعام حقيقي حتى الثامنة عشرة من عمره. وكأن النص الأيديولوجي يؤجل نضجه، أو يمنعه من أن يصبح رجل العائلة، لأن بذرته ليست صينية. وهو الأمر الذي سيستمر حينما يحرمه النص أيضا من النضج الجنسي، ويجعل علاقاته بالمرأة أكثر إشكالية. سواء أتعلق الأمر بتلك الفتاة الروسية، ناتاشا، التي يراسلها بعدما تعلم الروسية، ثم يقع في غرامها حينما ترسل له صورتها الكاشفة عن ثدييها الثقيلين، أو بالمشرفة الشيوعية التي تنتحر لإخفاقها في غوايته والتي تؤدي بها للانتحار وبه إلى السجن لخمسة عشر عاما، فلا يخرج منه إلا بعد أن تجاوز الأربعين.

والواقع أن هذه الشخصية بالذات، ومعها الرواية بأكملها، تحتاج لدراسة مستقلة لا مجال لها هنا. حيث تمتزج فيها سياسات الهوية بإشكاليات الأنا والآخر، وآليات اخصاء الذات، بالهوس بغواية الأثداء الأنثوية ودلالاتها، وقضايا الأسلاف والأخلاف. وعدم القدرة على الفطام، بالعجز عن إقامة علاقة جنسية أو عاطفية سليمة. خاصة إذا ما درست بالتفاعل والتناظر مع شخصية هان دنجشان Han Dingshan خطيب البنت الثالثة الذي اسره اليابانيون، وبقي في الأسر أعواما كان همه الأساسي فيها هو الحفاظ على أعضائه الجنسية من الأذى، ثم هرب وغطى عورته ببلوزه نسائية يابانية حماية لأعضائه الذكرية، والرعب من عقدة الإخصاء، والتي تمتد لتصبح رمزا لإخصاء الصين، أو الإجهاز علي صينيتها نفسها. فهناك ارتباط قوي في الرواية بين الفحولة/ الرجولة والحفاظ على الحس الوطني. لذلك فإن هان لم يسترد رجولته إلا بعد البرهان على فحولته، مع البنت الكبرى، وليس مع الثالثة التي كان خطيبا لها. فسياسات الهوية في الرواية لا تنفصل عن سياسات الفحولة الجنسية فيها، ولا عن عملية الصراع المعقدة بين الأنا والآخر، الآخر الغربي أساسا، والاخر الياباني من بعده، والتي لا تقل في الأدب الصيني الحديث إشكالية عن مثيلتها في أدبنا العربي الحديث.(9)

مساخر «الأسطى دنج» مرثية ساخرة لزمن يتناءى:
بعد هذه الرواية جاءت روايته المهمة (مساخر شيفو Shifu, You’ll Do Anything for a Laugh) 1999 و(مساخر الأسطى دنج) هي أفضل ترجمة للعنوان الصيني بعد قراءتي لدراسة ألكسندر هونج الشيقة عنها، وعن مفهوم الكلمة المفتاحية في عنوانها youmo  والتي يصعب ترجمتها بالتهكم أو السخرية الانجليزية، ولذلك لجأ مترجم مويان إلى الانجليزية إلى هذا الحل التفسيري لها، ستفعل أي شيء لتثير الضحك، بينما الكلمة العربية مسخرة أو مساخر تغطي ما قال هونج إن الكلمة الصينية تعنيه، ولا تغطيه كلمات التهكم أو السخرية الانجليزية. فأقل ما توصف به توابع الخصخصة هو المسخرة. والرواية تحكي عن مسخرة أو مساخر نعرفها حقا في مصر ونعيشها كل يوم، في زمن الكذب والفساد والخصخصة. بل توشك في بعد من أبعادها أن تكون رواية عن أوجاع التحول من نظام القطاع العام، كما كان الحال في مصر حتى بداية الانفتاح الساداتي المشؤوم، إلى نظام الخصخصة وثراء القلة على حساب السواد الأعظم من البشر. لأنها تسجل لنا وبشكل تهكمي، أو تراجيكوميدي، يمزج بين خيط الدراما الاجتماعية الواقعية بأبعادها النفسية، وبين كوميديا المواقف العبثية التي تهتم بالتأمل والتعليق المستمر على الأحداث. تسجل الرواية آلام ضحايا التحول الصيني السريع من الاقتصاد الاشتراكي الرحيم، إلى اقتصاد السوق الرجيم. وما جره هذا التحول من متغيرات أخلاقية ونفسية على ضحاياه.

إذ يجد بطلها دنج شيكوDing Shikou  نفسه بعد عمر من التفاني الدؤوب في العمل حتى أصبح «شيفو» أي أسطى، أو معلما ورئيس وردية من العمال، عاطلا فجأة عن العمل دون ذنب أو جريرة. فقد استغنى عنه مصنعه قبل سنوات قليلة من بلوغه سن التقاعد، وهو في منتصف الخمسينيات من عمره، لأن المصنع يتحول لآليات السوق الجديدة. وسوف ينتج من أجل التصدير مراحيض آلية سابقة التجهيز من النوع الذي يستأدي من يستخدمها الثمن مقدما. ويجد البطل نفسه فجأة في هذا العمر الذي لا يستطيع معه بداية حياة جديدة، أو التأقلم مع المتغيرات المدوخة للتحول الاقتصادي، وسط عالم عبثي غريب. عالم اقتصاديات السوق القاسية، والاستغناء عن العمال من خلال التأكيد المستمر على احترام حقوقهم، وتقدير تضحياتهم. حيث يؤكد له الجميع، من مدير المصنع إلى نائب العمدة ومسؤول الحزب، وعبر خطب تجلب الدموع إلى عينيه، أنه «شيفو» مثالي ولن يستغني المصنع عنه أبدا. حتى ولو لم يبق فيه إلا عامل واحد فسيكون هو هذا العامل. ومع ذلك يحال للتقاعد المبكر، وهو لا يستطيع أن يستوعب منطق السوق الجديد، ولا التمييز بين من يكذب عليه، ومن يصدقه القول.

ويتأرجح دنج، في لحظته الجديدة التي انسحبت فيها الأرض الصلبة من تحت قدميه، بين الماضي الذي يبدو الآن مثاليا ونائيا، والحاضر الذي يحكمه منطق ثقافي مغاير، لا يستوعبه إلا صبيه الشاب لو زياوهوLü Xiaohu  الذي يقدر ما تعلمه منه من حرفية وعلم، ولكنه يسخر من كل شيء حوله، ويدعوه هو الآخر للاستهانة بما يحدث له. ولا يستطيع تصديق افتراضاته الأخلاقية الطالعة من عالم آخر موغل في القدم والمثالية، ولا علاقة له بمنطق العالم الجديد، أو المنطق المقلوب إذا ما أردنا الدقة في التعبير. فهو ابن عالم السوق والنمو الاقتصادي السريع، وبحث كل صيني يتوسم في نفسه القدرة والذكاء عن فرص للثراء السريع بأي شكل من الأشكال. ومن خلال إراقة «لو زياوهو» المستمرة لماء التهكم البارد على الموقف، يتجنب النص الوقوع في شراك الميلودراما أو السينتمنتالية الرخيصة.

وتتحول مأساة دنج إلى نوع من التراجيكوميدي المثير للتأمل والتفكير حول صدام عالمين ومنطقين أخلاقيين: منطق احترام العهود والضمير الأخلاقي والقيم الإنسانية القديمة من ناحية، وما تفرضه من حق العمل، وحق التقاعد الكريم، وحق الراحة؛ وذرائعية السوق ومتطلباته التي لا خلاق لها إلا الربح، ومضاعفة التصدير، حتى لو كان ما يصدرونه هو مراحيض سابقة التجهيز تستأدي من يستخدمها من أجل حاجة إنسانية أساسية الثمن مقدما. إن إنتاج المصنع للمراحيض سابقة التجهيز، بدلا من أدوات بناء البيوت القديمة، يكشف أيضا بطريقته الرمزية عن التدهور الأخلاقي لهذا التحول. فبدلا من انتاج مواد رخيصة لبناء البيوت التي توفر للإنسان البسيط حاجته الأساسية للمأوى، ها هو اقتصاد السوق يحول حاجة أساسية أخرى، هي التبول أو التبرز إلى وسيلة للإثراء السريع.

ولا تكتفي الرواية بهذه الاستعارة، ولكنها تربط، كما فعلت رواية (عشيرة الذرة الحمراء) بين هذا التحول والدعارة الفعلية والاستعارية معا. لأن الرواية وقد تدفع بطلها دنج المحاصر بواقع البطالة الأليم، بعد ان انفض مولد الخطب العصماء التي لا معنى لها، ووجد نفسه في الشارع بلا وظيفة بعد خصخصة المصنع، وتحوله لهذا النشاط المرحاضي الجديد، إلى مأزق مأساوي. وتكشف لنا عن كيف تتدهور حياته، وتراجع مستوى معيشته على المستويات الاقتصادية منها والاجتماعية، بصورة لم يعد فيها أمامه إلا أن ينخرط في نشاط جديد يدر عليه المال بأي حال حتى يدفع عن نفسه غائلة الجوع والهوان. فبعد أن عثر على هيكل أتوبيس قديم في الغابة، يجد أنه لو حوله إلى عش غرام يؤجره بالساعة، فإنه سيحل بذلك مشاكله الاقتصادية.

لكنه يشعر بالخجل من الأمر الذي لا يناسب كرامته كما يقول. غير أن صبيه القديم «لو» يزينه له، قائلا: ماذا بقي لعامل استغنى عنه مصنعه ليخجل منه؟! وهل ثمة كرامة لعاطل أو محتاج! ويبدأ دنج في تحديث هيكل الأتوبيس القديم وتجهيزه، ثم تأجيره للعشاق، أو لممارسة الدعارة لا فرق. ولكن مقاومته الداخلية للواقع الذي وجد نفسه فيه هي التي تهيء له أن اثنان ممن أجره لهما ماتا فيه، ويبلغ الشرطة التي ما أن تزور المكان حتى لا تجد أثرا لهما. فيفسر الأمر بأن روحاهما قد طارتا من المكان دون دفع الأجرة. أو أن ما رآه كان شبحيهما وليس جثتيهما كما توهم. لكن معرفة الشرطة بالأمر، وتدخلها فيه، ما تلبث أن تجر عليه متاعب من نوع جديد أقرب إلى استئداء الأتاوات العينية منها والمادية. وتتعقد الحبكة بصورة تمتزج فيها الخيالات بالوقائع، وتتفاقم المساخر والتعليقات. حتى يصبح معها عالم الخيالات والظلال أكثر واقعية من عالم الوقائع.

يقول لويجي بيرانديللو «يهتم الفنان عادة بالجسم، بينما يهتم الفنان الساخر بالجسم والظل معا، وفي بعض الأحيان يكون اهتمامه بالظل أكثر من الجسم، حيث يلاحظ كل تحولات الظل وتبدلاته، وكيف يتمدد كثيرا هنا أو ينبعج قليلا هناك. وكأنه يسخر من الجسم، الذي لا يأبه عادة بالظل ولا بتغير احجامه.» وهذا ما يقوم به مو يان، حيث يكشف لنا بطريقته المراوغة في التعامل مع تحولات الظلال عن مصدر الضوء الذي تتخلق نتيجة له. فما تجسده الرواية من تحولات اجتماعية واقتصادية وأخلاقية في حياة دنج، وتعامل صبيه «لو» معها بهذا الشكل التهكمي هي مجموعة الظلال التي تدفعنا للتفكير في مصدر الضوء الذي أدى إلى تكوينها السيريالي العجيب. دون أن تلجأ إلى أي من المبالغات الميلودرامية عن ضحايا التحولات السياسية، أو أوجاع التخلي عن الأخلاق والمبادئ الإنسانية، أو حتى المعارضة المباشرة للنظام الذي أنتج هذه المآسي. وإنما من خلال التهكم الشفيف الذي يكتفي بأن يعرض علينا ظلال تلك الأحداث وهي تتطاول أو تنبعج، ويترك لنا أمر التفكير فيها، والتعرف على طبيعة الضوء، أو الظلمة التي انتجتها.

استقصاء التحولات الجديدة عبر الخيال والسيريالية:
بعد (مساخر الأسطى دنج) تتابعت روايات مو يان فجاءت (الموت على خازوق خشب الصندل Sandalwood Death) عام 2001، و(الحياة والموت ينهكاني Life and Death Are Wearing Me Out) 2005، والتي ترجمت للفرنسية بعنوان مغاير هو (قانون كارما الثابت) و(تغيّرات Changes) 2007 و(41 قنبلة Forty-One Bombs) 2006 و(تعذيب Torture) 2007 و( ضفادع Frogs) 2009، وهي آخر رواياته، والتي يستخدم فيها بنية أبيسودية، أقرب إلى بنية الحلقات القصصية التي يوشك كل فصل فيها أن يكون قصة قصيرة مستقلة، ولكنها تترابط فيما بينهما برباط سردي مراوغ. وقد فازت بجائزة ماوتسي تونج للآداب عام 2011، وهي أرقى الجوائز الأدبية الصينية. وتوشك رواية (الحياة والموت ينهكاني/ أو قانون كارما الثابت) أن تكون تجسيدا لمنهجه الروائي الذي يعمد إلى استخدام استراتيجيات الواقعية السحرية والسيريالية معا، ولكن بعد تمريرها عبر رؤى الحكايات الشعبية والمعتقدات الدينية الصينية، والتناول الواقعي الصارم الذي يجذر النص في الواقع المحلي الذي صدر عنه، من أجل بلورة نقده السياسي اللاذع لما دار ويدور في بلاده، دون أن تتمكن السلطات التي لا يتصادم معها من أخذ هذا النقد عليه، واستخدامه ضده للحيلولة دونه والقيام بدوره الأدبي والنقدي في مجتمعه.

إذ تستخدم هذه الرواية في دفاعها المجيد عن فلاحي الصين المهمشين بنية تنهض فكريا على معتقد أساسي في الديانات البوذية والكونفشيوسية والطاوية، هو فكرة المسارات او التجليات الستة للتناسخ، أو «مراحل الكارما وتناسخاتها الستة» والتي تقول بأنه إذا ما تعرض شخص ما للظلم، أو ارتكب خطيئة كبرى في حياته، فسوف تظل روحه تعود إلى الحياة في أشكال مختلفة حتى يرفع عنها الظلم أو تكفر عن خطاياها. وتعتمد فنيا على إطلاق عنان الخيال واستخدام تقنيات الواقعية السحرية التي يدين فيها لجابرييل جارسيا ماركيز، وتسعى عبرهما معا إلى كتابة تاريخ الصين الحديث، منذ بدء إصلاح ماوتسي تونج الزراعي عام 1949 وحتى عام 2000 أي بعدما انقلب كل شيء رأسا على عقب، وردت التحولات الاقتصادية والسياسية نفسها الاعتبار للمبادرات الفردية، ولمن اعتبر عام 1949 معاديا للثورة ومجرما برجوازيا في مطلع الثورة وأعدم. حيث نصل مع عام 2000 في الرواية، وبعد المرور بعدد من المراحل الحيوانية المختلفة إلى المرحلة السادسة في الكارما، حينما تعاد ولادة البطل من جديد على هيئة إنسان، ويرتد معها إلى حالته التي بدأ بها الرواية، وجرِّم عليها في آن.

لكن دعنا نبدأ الحكاية من أولها. فقد شهد العام الأول من الثورة الصينية، وتطبيق الإصلاح الزراعي فيها إعدامات لكثير من أصحاب الأراضي بلا تمييز، سواء أكان صاحب هذه الأرض قد امتلكها بحسن تدبيره وتفانيه في العمل، أم انحدرت إليه عبر أجيال استعبد فيها أسلافه الفلاحين، واستخدمها بدوره في استغلالهم، وتحويلهم إلى أقنان للأرض التي يفلحونها له. فقد كان إصلاح ماوتسي تونج الزراعي في الصين أكثر راديكالية وجذرية من إصلاح جمال عبدالناصر الزراعي في مصر، وإن اتفق معه في أنه كان الوسيلة الأساسية لتمويل النهضة الصناعية المطلوبة، للتحول من الاقتصاد الزراعي إلى الصناعة. إذ لجأت الصين إلى تأميم الأرض، وتأسيس المزارع الجماعية عليها، واحتكار عائدها واستخدامه لبناء الصناعة. بينما عمدت مصر، عقب ثورة عبدالناصر، والتي أعقبت الثورة الصينية بسنوات ثلاث، فأين نحن الآن من الصين! إلى بيع جزء منها للفلاحين، بعد ترك 200 فدان لكل مالك، واستخدام ثمنها في بناء الصناعة، وتعويض الملاك عما فقدوه بسندات في المشروعات الصناعية الجديدة.

وإذا كان فلاحو الإصلاح الزراعي قد تعرضوا للظلم مرتين في مصر، مرة حينما دفعوا أقساط ثمن الأرض لبناء النهضة الصناعية في عصر عبدالناصر، ومرة حينما نزعت منهم هذه الأرض وأعيدت لملاكها السابقين، وطرد المستأجرون منها في زمن مبارك المخلوع. فإن فلاحي الإصلاح الزراعي في الصين تعرضوا هم أيضا للظلم مرتين: مرة حينما تحملوا عبء النهضة الصناعية في زمن الشيوعية، ومرة أخرى حينما دفعوا أيضا ثمن التحول للاقتصاد المزدوج وقوانين السوق بعد إصلاحت دنج هسياوبنج. بل إنهم مازالوا يدفعون الثمن، بمن فيهم أسرة مو يان نفسها كما يقول لنا، والتي دفعت ثمن نهضة الصين، ولاتزال تدفع ثمن تحولها مرة أخرى إلى اقتصاد السوق. فالفلاحون، في الصين كما في مصر، هم أول من يشارك في بناء الوطن، وآخر من يجني عائدات مساهمتهم. كما تعرض للظلم أيضا ملاك الأراضي كما تقول لنا هذه الرواية المهمة الذين أعدم عدد منهم دون ذنب أو جريرة. إذ تحكي الرواية قصة أحد هؤلاء الملاك الزراعيين الذين أعدمهم ماوتسي تونج في بداية إصلاحه الزراعي، وهو بطلها الأساسي «زيمن ناو». وتقدم من خلال قصته، وما جرى له من تناسخ في مراحل الكارما الستة، استعارتها السحرية لمراحل تطور الصين من ناحية، وما جرته كل مرحلة على الريف والفلاحين من ناحية أخرى.

متغيرات الريف ومراحل الكارما الستة:
فقد أعدم بطل الرواية «زيمن ناو» الذي كان من ملاك الأراضي لخطاياه البرجوازية عقب نجاح الثورة الشيوعية عام 1949. أعدم ظلما، كالكثيرين من الفلاحين الذين كانوا ملاكا لأرضهم، ورفضوا فكرة تأميم تلك الأرض بلا مقابل. أو فناء الفرد في الجماعة. ولذلك عاد للحياة بعدما أزعج ملك الجحيم في العالم الآخر بأنه مظلوم، عاد أولا في صورة حمار، وهي الصورة التي يتحول معها  في الرواية إلى تجسيد لأول مراحل تطبيق الإصلاح الزراعي والمزارع الجماعية، حيث كان الفلاحون يعملون بلا كلل كالحمير، ولا يحصلون إلا على ما يسد الرمق بالكاد. ويستخدم هذا الحمار المقولات الشيوعية الرائجة وقتها والتي يصدقها ببلاهة حمارية ضد البغلين اللذين يشاركانه الحظيرة، كي يشركانه فيما يحظيان به من علف لا ينال هو شيئا منه، «دعنا نتشارك في كل شيء بالتساوي» كما تقول الشعارات.

لكن هيهات فقد سبقه جورج أوريل في (مزرعة الحيوانات) حينما صك شعاره التهكمي الذي صار مثلا: كل الخنازير متساوية، ولكن بعض الخنازير أكثر تساويا من بعضها الآخر. فكيف لبغال الحزب التي تحظى بأفضل خيرات الريف، أن تتساوى مع حمير التتريب التي ينهكها العمل المستمر بلا طائل أو عائد. ويكشف مو يان هنا من خلال مختلف تناسخات بطله، حيث تبعت صورة الحمار بعدما نفق من الإجهاد، صورة ثور لا يقل تفانيا في العمل وتحملا لأعبائه عن الحمار، أصل مشكلة الفلاحين في الصين، وأسرته بالطبع منهم. حيث عملوا كالحمير أو الثيران لعقود من أجل بناء الصين الحديثة، بينما كانت بغال الحزب تميز نفسها عنهم بكل خيرات المنطقة. وظلوا هم وأبناؤهم من «المينجونج» وهم أقرب إلى ما كنا نعرفه في مصر بعمال التراحيل، أو العمالة الزراعية التي لا حقوق لها، والتي تحصل بالكاد على فتات العوائد الزراعية. وهناك الآن في الصين المزدهرة والفخورة بنموها الاقتصادي المتسارع، 120 مليون من هؤلاء «المينجونج» المهمشين والمحرومين من أبسط الحقوق، والذين يدفعون باستمرار فاتورة الازدهار الصيني، ولا يحصلون على أي من ثماره. دفعوها أثناء الانتقال للتصنيع، ويدفعونها من جديد مع الطفرة الاقتصادية الجديدة.

بعد الثور يعود «زيمن ناو» للحياة في تناسخه الثالث على صورة خنزير بدأ التفات الواقع إلى أهمية تسمينه حتى يكتنز لحمه، ويوفر لأصحابه المزيد من اللحم الشهي. فقد كانت الثورة الزراعية قد أخذت في الاستقرار النسبي في الخمسينيات، وكانت الصناعة الجديدة قد أتت بعض ثمارها. لكن الأمر لا يسلم في الصين من بعض الأوبئة، حيث أطاح بالخنزير واحد منها. ومع سنوات الثورة الثقافية يجيء التناسخ الرابع في صورة كلب. يعترف الكثيرون بما يتسم به من مهارات، ويستخدم الجميع ما يتميز به من مهارات لصالحهم باستمرار. ولكنه يظل في منزلة بين الكلب البوليسي المدلل، والكلب الضال المضطهد. لا يستقر به الحال في مكان واحد أو حال واحد، وإنما يعاني من تغير الأحوال باستمرار. وبعدما حطت الثورة الثقافية أوزارها وتم التخلص من عصابة الأربعة ونجح دنج هسياوبنج في إطلاق مشروعه «بلد واحد ونظامان» نلتقي ببطلنا في تناسخه الخامس كقرد هذه المرة. ولكنه قرد ماهر يستطيع التمييز بين سيارات الأودي والمرسيدس والبي إم دبليو، في واقع صيني جديد بدأت تغزوه السيارات الفارهة، ويعرف أخبار مركبات الفضاء الأمريكية، وحاملات الطائرات الروسية.

فنحن في مرحلة تحتاج إلى القردة المهرة القادرة على القفز على كل الحبال، والبارعة في التعامل مع الموقف ونقيضه. فقد بقي الفلاحون مهمشين، ولكن القردة التي تنحدر من أصول شبه برجوازية قديمة مثل «زيمن ناو» استطاعت الاستفادة من متغيرات تلك المرحلة. وما أن يترسخ نظام السوق الجديد، ويصبح هو القاعدة وليس الاستثناء، حتى نلتقي بـ«زيمن ناو» في تجليه السادس على هيئة طفل بشري. وكأنما ردت له التغيرات طبيعته الأولى التي قتل ظلما من أجلها، طبيعة الفرد الذي يعمل لنفسه وليس من أجل الجماعة، ويدافع عن الملكية الفردية، التي كانت توصم في الماضي بأنها بورجوازية أنانية عفنة. وأصبحت الآن رديفا للمهارة والطموح، وشارة على الدافع الإنساني والتفاني في العمل من أجل ازدهار الصين وتقدمها، وهو لمرارة المفارقة نفس الشعار الذي قتل بسببه «زيمن ناو».

وطوال هذه التناسخات المختلفة التي يتبدى فيها «زيمن ناو» في صور هذه المخلوقات المتتابعة يتعامل مع الناس في مجتمعه الذي انحدر منه، والذي ظل ريفيا لم يتغير فيه الكثير، بينما يعلق على ما جرى فيه، وما حدث في المجتمع الصيني الأكبر من ورائه، والذي يمر بكل تلك التحولات التاريخية المهمة. ويرصد تغيرات الواقع الذي لم يبرحه، وفيه إلى جانب جماعات الفلاحين الذين يتأرجحون بين مرحلة الحمار والثور وحتى الخنزير الذي تطيح به الأوبئة فيحرق في مقابر جماعية، ويشكلون عصب طبقة «المينجونج» شخصيتان أساسيتان: أولاهما هو هذا الرافض الغريب «لان ليان» الذي عثر عليه «زيمن ناو» طفلا، وتعهده قبل إعدامه. والذي يتحول في الرواية بعدما كبر إلى صوت الفرد المتوحد المعتز بفرديته والذي يقاوم الاندماج في القطيع. فهو عنيد لا يعبأ بما يجره عليه عناده من متاعب. يرفض ضم قطعة الأرض الصغيرة التي يزرعها إلى الكومونة الشعبية، برغم انصياع الجميع وضم أراضيهم لها. ويصمد وحده في وجه هستيريا العصر الجماعية، ويصبح هدف زرايتهم واضطهادهم، حتى يموت وحيدا بعد أربعة مراحل من كارما «زيمن ناو».

أما الثانية فهي شخصية «هونج تايي» سكرتير الحزب الشيوعي في المنطقة، وهو نقيض «لان ليان» من حيث أنه صوت الجماعة، والإيمان الخالص بالأيديولوجية الشيوعية، مما يجعله غير قادر على استيعاب عملية تقوض عالمه القديم من حوله، وتبدد تركة ماو أمام ضربات التحولات الجديدة التي شنها دنج، وبلغت ذروتها مع عقد الثمانينيات وتسارع معدلات الانخراط في اقتصاد السوق الفردي. بين هذين القطبين: الفرد والجماعة يستخدم مو يان مفهوم «الكارما البوذي» وغيره من المعتقدات الطاوية التي كانت سائدة بين أجداده، واستمرت متداولة في الريف الصيني، رغم المد الشيوعي المناهض لها، في بناء هذه الرواية التي تقدم لنا تاريخا نقديا ساخرا لما جرى للصين وريفها خاصة في نصف قرن.

رواية العوالم المتوازية والسخرية اللاذعة وسمادير الخمر:

والواقع أنني وبمصادفة جميلة، وقبل أن يفوز مو يان بالجائزة أو أسمع حتى بأنه على قوائمها القصيرة، قرأت في الصيف الماضي روايته (بلاد الخمر) بالرغم من أن الترجمة الانجليزية للعنوان هي (جمهورية النبيذ) مع أنه ليس في الرواية نبيذ بالمعنى المعروف في الغرب، ولكنها تلك الخمر الصينية المنتشرة في الريف والمصنوعة عادة من الذرة الصينية. ولكنها رغبة المترجم الانجليزي على ما أظن في استيحاء أطياف (جمهورية أفلاطون) وتنبه القارئ إلى الأبعاد الاستعارية والفلسفية من ورائها في هذه الرواية التي تبدو على السطح من أكثر النصوص بعدا عن الفلسفة، وإن ظلت بها مضمراتها الفلسفية الشيقة. ذلك لأن مو يان مولع بالاستعارات والصور التعبيرية في كتاباته، وهو ولع يكشف عن رغبته الواضحة في تضمين أعماله أبعادا فكرية وفلسفية متعددة.(10) وإن كانت الترجمة الفرنسية لعنوان الرواية هي (ارض/ بلاد الخمور Le Pays de l’alcool) هي الأقرب للعنوان الأصلي للرواية كما علمت من زملاء في قسم الأدب الصيني بالجامعة. وقد عرفت قبل قراءتي لها أنها كتبت عام 1992 بعد انتفاضة تيانمين الموءودة، ومنعت من النشر في بيكين، واضطر مو يان لطبعها في تايوان. مما جعلني أقرأها بشغف الروايات المصادرة، والرغبة في استكناه سر مصادرتها، ومداخل القراءة والتلقي كما نعلم تترك عادة أثرها على أي قراءة. وهي رواية جميلة بأي معيار من المعايير، لأنها تنطوي في بنيتها على محاكاة ساخرة لنمطين من الكتابة الروائية، تستخدمهما ببراعة وتنقضهما عبر سخريتها منهما في الوقت نفسه.

فهي رواية تكشف عن علاقة الصينين الحسية، وهي علاقة لها أبعاد فلسفية كما سنرى، بالطعام والشراب، باعتبارهما طقس حياة من ناحية، وأداة تنظيم إيقاع الوجود وخلق بنيته المتميزة من ناحية أخرى. فنحن نعرف أن الصينيين يأكلون كل شيء، من الحشرات والبرمائيات وحتى لحوم الكلاب والثعابين وغيرها من الزواحف، وأنهم يولون الطعوم والمذاقات المختلفة أهمية خاصة في تركيب الأكلة وترتيب أصنافها، وأنهم مولعون بالشراب والخمر إلى الحد الذي تحدد معه القدرة على الشراب صلابة الرجل ومكانته وفحولته، لكن ما لا نعرفه أن الولائم عندهم هي أداة أساسية من أدوات تنظيم المجتمع والعلاقات التراتبية بين البشر من ناحية، والتعبير عن المشاعر الإنسانية المختلفة من ناحية أخرى. لكنها في الوقت نفسه رواية تكشف من خلال الأكل والشراب عن الكثير مما يدور في الواقع الصيني سياسيا واجتماعيا وحتى أدبيا. إذ تمزج الرواية بين نسقين روائيين راسخين: نسق الرواية البوليسية الذي تستخدمه بشكل تهكمي في الكشف عن بعض المسكوت عنه سياسيا، ونسق رواية الرسائل التقليدية القديمة الذي تتقصى فيه الكثير من أبعاد الواقع الأدبي الصيني المعاصر، وتناصاته المختلفة مع لو صن، مؤسس الأدب الصيني الحديث، وخاصة في نصه الشهير (يوميات مجنون). حيث تستدعي رواية مو يان، في أحد فصولها مشهد شهير من لو صن في (يوميات مجنون) وتناوله فيه لآكلي لحوم البشر، وهو مشهد يلوك فيه، أو يمسك في يده ما يبدو أنه ذراع جنين بشري. ويستهدف مو يان من هذا المشهد التأكيد على أن كتابات لو صن لاتزال فاعلة في حاضر الأدب الصيني المعاصر.(11) وعلى أن الأمر في رواية مو يان ليس رمزا، وإنما حقيقة واقعية صادمة ومتجذرة نصيا في الواقع الصيني حيث نجد أن المسؤول الحزبي يلتهم البشر، حقيقة لا مجازا.

وتضفر الرواية، وهي أهجية سيريالية متخيلة للواقع الصيني، في سردها الشيق الذي يستخدم أسلوب مو يان المعتاد في التحرر من الزمن التقليدي والتتابع المنطقي السببي خيطين سرديين. أولهما أقرب ما يكون إلى طبيعة السرد اللاهث للرواية البوليسية، ولكنه مكتوب بطريقة الباروديا المضمرة التي تكتب هذا الجنس الأدبي بينما تفككه وتسخر منه. حيث تتتبع رحلة محقق بوليسي قدير، هو دنج جوعير Ding Gou'er، طبقت شهرته في بكين الآفاق، فأرسله إدارة المباحث العليا إلى منطقة ريفية نائية كي يحقق في دعاوى تحيطها بالكتمان، تقول بأن سكانها يأكلون لحوم البشر. وتوصيه بألا يألوا جهدا في كشف الحقيقة، واستخدام كل الوسائل المشروعة في ذلك. وثانيهما، وهو ابن الاستطرادات السردية التي تتسم بها كتابة يان، عن علاقة الكاتب مو يان نفسه وبالاسم في الرواية، بأحد قرائه، لي ييدو Li Yidou، والذي يعبر عن إعجابه به، ويبعث له بنصوصه، ويريده أن يسهل له نشرها حيث تحتاج لتزكية كاتب مرموق مثله. لكن حس السخرية التهكمية من الذات يتخلل هذا الخيط السردي أيضا، حيث يؤكد مو يان للكاتب الشاب المتحمس بأنه يبالغ في تقدير نفوذه الأدبي، وأنه في حقيقة الأمر لا حول له ولا طول، وأنه لا يستطيع أن ينشر نصوصه هو في كثير من الأحيان، ناهيك عن التوسط لنشر نصوص الآخرين، وأن كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يقرأ نصوصه ويبدي له فيها رأي قارئ عادي لا ناقد متخصص .. إلى آخر تلك التعليقات. وعبر تلك الرسائل والنصوص القصصية التي يبعث بها هذا الكاتب الشاب، وينشر بعضها كاتب الرواية، في الرواية بالطبع، وعلى القراء عبر منابر النشر كما يوهمنا السرد، تتداخل الحبكتان، ويتضخم الخيط السردي الثاني على حساب الأول أو يصبح كل منهما مرآة للآخر. وتظهر بعض الشخصيات فيهما معا، ويتخلق في الرواية تضافر آخر بين نقد الحبكة الروائية البوليسية لفساد الإدارة الصينية وبيروقراطية الحزب في الهوامش أو المناطق النائية، وتعليق الرسائل، بل والنصوص التي يبعثها الكاتب الشاب، على فساد عالم الأدب والسياسية والنشر في المركز.

وتتكون الرواية من عشر فصول، يتكون كل منها من عدة أقسام غير متجانسة في العدد أو الطول (22 قسما). ويبدأ الفصل الأول بدنج جوعير، وهو محقق رسمي في الثامنة والأربعين من عمره، مشهود له بالكفاءة والخبرة، وقد أخذ توصيله في سيارة نقل سيدة جميلة ومغوية يسيل لها لعابه، وستلعب دورا مهما في قابل الفصول، للوصول لمنجم فحم جبل ليو الذي يقع في منطقة متخيلة، تدعى بمحافظة الخمور أو أرض الكحوليات Liquorland، كي يحقق في دعاوى بأكل سكانها للحوم البشر. ويستقبله رئيس منجم الفحم بها وسكرتير فرع الحزب داياموند جين Diamond Jin، ويدعوانه على وليمة أقيمت على شرفه. وفي القسم الثاني من الفصل الأول نقرأ أول خطابات لي ييدو (وييدو تعني بالصينية الكأس أو المعيار في شرب النبيذ) وهو طالب يعد رسالة دكتوراه عن الخمور في «كلية الجعة» بمحافظة الخمر، والتي يشرف عليها أستاذه يوان شوانجيو Yuan Shuangyu، وهو بالمناسبة حماه. ويبعث له معها بقصة بعنوان (خمر) يقول له أنه كتبها عقب مشاهدته لفيلم (عشيرة الذرة الحمراء). ويرد عليه مو يان قائلا بأن قصته أعجبته، وبعث بها للنشر في مجلة (أدب المواطن)، وهي مجلة حقيقية في الصين، ولكنها لم تنشر. ثم نقرأ في القسم التالي من هذا الفصل قصة (خمر).

وتتوالى الفصول على هذا المنوال: فنشهد في الفصل الثاني الوليمة التي أعدها له مدير المنجم ومسؤول الحزب، والتي يغدقان عليه في بدايتها الخمر حتى يسكر ويترنح، ويرى عبر سمادير الخمر عفريتا أحمر، سرعان ما سيأخذه إلى عوالمه التحتية في الفصل الثالث، وقد قادته إليه النادلة الحسناء. ويواصل المسؤولان عب الخمر بلا مشاكل برهانا على فحولتهما وتفوقهما على المسؤول القادم من بيكين. بينما يرسل لي ييدو قصته الثانية التي يعنونها «لحم الصبي»، والتي يصفها بأنها تنتمي للواقعية الكئيبة. ويقارن لي قصته بأعمال لو صين، ويلح على مو يان في نشرها، قائلا له، لو تطلب الأمر أن تقيم مأدبة للناشر، فافعل، ولو احتاج الأمر إلى أن تقدم الهدايا، فإني أباركك! وتكون رسالة مو يان الجوابية تحليلا نقديا لقصة «لحم الصبي»، والتي سرعان ما نقرأها في القسم التالي، حيث تصف لنا كيف تجهز أسرة أحد أبنائها، وتذهب بهم لـ«أكاديمية المآدب الباذخة» وكيف تقرر لجنة التحكيم أن الصبي من طراز رفيع وتدفع لأبيه أكثر من ألفي يوان. ومع الفصل الثالث تتكشف لنا تفاصيل المأدبة، حيث يتصدرها طبق طفل مطهيّ تتصاعد منه روائح شهية لايمكن مقاومة غواياتها. ويقرر مسؤول الحزب وهو يتلمظه أن الطبق تحفة رائعة، فيخرج المحقق الرسمي مسدسه وقد لعب الشراب برأسه فاختلط الأمر عليه ويطلق النار. بينما يتلقى مو يان الرسالة الثالثة من لي ييدو ومعها قصة (الطفل الضال) وهي قصة تنتمي إلى الواقعية الشيطانية كما يقول، وتتبع مصير الأطفال الذين يباعون لقسم المشتريات الخاصة، ودور العفريب الأحمر في تيسسير الاستحواذ عليهم.

وهكذا يتضافر الخيطان على مد تلك الرواية المدهشة ويتداخلان، في هلاوس كاشفة عما يدور في أعماق الصين من تناقضات. حيث تدير الرواية في هذه المقاطعة الأسطورية المتخيلة، «أرض الخمر»، حوارا شيقا بين المتخيل، والنقد اللاذع للواقع الاجتماعي، والجرأة على انتهاك المحرمات التقليدية من جنس وسياسة. لتكشف لنا عن حقيقة الخواء الروحي القابع وراء نجاحات اقتصاد السوق الصيني ومعدلات نموه المتسارعة. وهي في الوقت نفسه رواية المشاريع المحبطة والبدايات المخفقة: فهناك التحقيق البوليسي ومساره المتعرج، وهناك أكثر من قصة حب تبدأ ولا نعرف مصيرها، وهناك المشروع الأدبي للشاب، ومشروع الباحث الذي يعد رسالة الدكتوراه عن الخمر تحت إشراف حماه أيضا. وهناك المنافسة في الشراب ودلالاتها الثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية، المختلفة. وهي «أهجية ساخرة تغلي بالاستهانة بالكثير من الرواسي المغلوطة، والأحداث الخيالية، وتسعى إلى تفكيك المفاهيم التقليدية للسرد وسيطرة المؤلف والعصف بها. ويقدم مو يان في هذه الرواية عن أكل لحوم البشر نسخته الخاصة من أحد النماذج الأولية للخيالي، ألا وهي الطفل الوحش. وهذا الطفل الوحش هو أحد مخلوقات شخصية لي ييدو، وأحد الأطفال الهاربين من عمليات تجهيز اللحم، أو أطفال اللحم، وهو شيطان حقيقي صغير، له نظرات ثاقبة ترعب وتخترق، وقدرة هائلة على القسوة وابتداع الحيل. وقد انضم في الرواية إلى القزم الوحشي يو يتشي Yu Yichi الذي يعد أحد النماذج الوحشية الخيالية الحقة zhiguai. وهناك أيضا هذا النمط الخيالي المرعب الذي تجسده الحماة الجميلة الساحرة المغوية، والتي تتكشف على حقيقتها الشيطانية حينما نكتشف أنها خبيرة في طهي لحم الأطفال، وتجهيز طبخات شهية منه».(12) فهي بحق رواية غنية تحتاج إلى دراسة مستقلة.

وفي نهاية (بلاد الخمور) يقول مو يان «عندما غادرت بيكين، ومرت الحافلة التي أركبها بميدان تيانانمين حيث تتدلى صورة صن يات صن (أبو الجمهورية الصينية التي تأسست عام 1911) من على سور المدينة المحرمة، وهو يرامق ماوتسي تونج (مؤسس جمهورية الصين الشعبية 1949) النظر وقد تدلت صورته هو الآخر من على السور المدينة المحرمة، و يتبادل رسائل صامته عبر العلم الأحمر بنجومه الخمس وهو يرفرف من فوق صارية جديدة» نتعرف على واحد من الأمثلة الكثيرة التي تتخلل الرواية، والتي تكشف عن قراءة مو يان المراوغة للتاريخ السياسي والثقافي الصيني.

مو يان وإسهاماته السردية والأدبية الشيقة:
بعد هذه الجولة السريعة في عوالم الروائية مو يان المدهشة، لابد من الإشارة إلى بعض إضافاته الأدبية، لأننا حقا بإزاء كاتب ينتقل بسلاسة ويسر من الواقعية السحرية المترعة بالخيالات المحلقة، الي الواقعية الخشنة الكئيبة التي تسجل جهامة الواقع وتقشفه. كاتب يستخدم أدوات التعبير الشعري من صور واستعارات ولعب على المفارقات وتخليق الجدل المستمر بين المتجاورات. ليوظف هذا كله في تعرية الواقع والكشف عن سوءاته. وفي تقديم جوهر الإنسان الكامن وراء خصوصيته الصينية الشديدة دون أي خجل من ضعفه أو هشاشته، فوراء هذا كله تكمن قوته الحقيقية. فليس في رواياته ذرة من التشفي أو الاستعلاء الناجم عن أننا نعرف الآن أكثر منهم، أو ألم أقل لكم؟ فالإنسان عنده يتسم دوما بأن لحكمته حدود، وليس لضعفه أي حدود. وكثيرا ما أعادتني تقنيات مو يان المراوغة إلى ذكريات تخليق كاتبنا الكبير نجيب محفوظ لشفراته السردية الخاصة مع جمهوره في ستينيات القرن الماضي، حيث كان الخوف والاسترابات من سطوة السلطة تنتشر في الهواء، ولكن الكاتب الكبير كان يريد أن يوصل رسالته التي يتمرد فيها على هذا كله دون أن يعرض نفسه للخطر.

فنحن هنا بإزاء كاتب يعي أنه يلعب دورا عسيرا ومراوغا مع المؤسسة، حيث يريد الحفاظ على مساحة من الحرية الإبداعية تضمن له القدرة على الفاعلية في سياق قيودها، دون التضحية بفاعليته أو الرغبة في لعب دور نقدي كاشف لتناقضاتها وعواقب تصرفاتها السلبية الوخيمة. كاتب يتحدى سيطرة المؤسسة السياسية والاجتماعية الجبارة، ويفك قبضتها المحكمة عن عالم الأدب والإبداع. كاتب تسجل أعماله تحولات مجتمعه من تمرد الملاكمين Boxer Rebellion حتى الثورة الثقافية، ومن «بلد واحد ونظامان» حتى «سياسة الطفل الواحد» ولكن هذا التاريخ كله يتجسد عبر رؤية مراوغة تمرره خلال منشور الإبداع الذي يحللها إلى ألوان طيفها المختلفة ويراوغ بها كل أشكال القمع والرقابة من خلال الضربات الجانبية لا المباشرة التي مكنته من تناول أكثر المواضيع حساسية، وانتهاك الكثير من المحرمات دون الصدام المباشر مع النظام أو التعرض لعواقبه الوخيمة.

وقد استخدم مو يان في تحقيق ذلك مجموعة من الاستراتيجيات الأدبية الجديدة التي صاغت إضافاته المتميزة للخطاب السردي الإنساني عامة والصيني خاصة. ومن هذه الاستراتيجيات السردية الجديدة، ما تدعوه الباحثة في الأدب الصيني سابينا نايت Sabina Knight(13) مفهوم الإحالات أو الإيماءات الجانبية Side-shadowing في أعمال مو يان في مواجهة مصطلحين سرديين تقليديين هما الاسترجاعات الزمنية Flashback / Backshadowing والاستشراف او التمهيد لأحداث لاحقة Foreshadowing باعتبار أنهما مفهومان ينهضان على خطية السرد وعلى تعاقبية الزمن معا. فهما تقنيتان مشغولتان بالعلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، سواء أكانت تلك العلاقة خطية أو دائرية أو حتى حلزونية. أما مفهوم الإحالات أو الايماءات الجانبية فإنها استراتيجية مشغولة إلى حد ما بتثبيت الزمن ومساءلته من خلال الكشف عن عدد من الاحتمالات المتغايرة والمتناقضة أحيانا والثاوية في اللحظة الزمنية الواحدة التي يرويها الكاتب أو تعيشها الشخصية. إنها أقرب ما تكون إلى التريث عند الدوائر التي يحدثها إلقاء الحجر في الماء، أكثر من انشغالها بمن ألقى الحجر، وإذا ما كان قد وصل إلى الغاية المطلوبة أما حاد عنها. وهي لهذا السبب استراتيجية تكشف عن مختلف الأبعاد الأخلاقية المرتبطة بالفعل الإنساني، وبكل موقف سردي يقدمه الكاتب، حيث أن كل فعل أو موقف ينطوي على مجموعة من الاحتمالات، التي تحرص الرواية على إرهاف وعي القارئ بها، وخاصة بالمسكوت عنه فيها وبما جرى تجاهله، قبل تقديم ما اختاره الموقف أو فضلته الشخصية، كي ترهف وعي القارئ بالدلالات الأخلاقية لكل اختيار من ناحية، وكي تعزز دور الأدب في احتلال الموقع الأخلاقي الأعلى من كل ما يدور في الواقع الذي يصدر عنه.

وهناك ما يدعوه باحث آخر، وهو زياوبن يانج، باستراتيجيات السرد التفكيكية التي تكشف عن أزمة الخطاب الرسمي باستعادتها لأشباح الزمن القديم الدموية، وكيف أنها تعري ما ينطوي عليه الخطاب الرسمي من تناقضات باستخدام ما يدعوه بالمفارقات المقلوبة أو المعكوسة التي ترفض أن تضفي على ما يكتبونه المعنى، في نوع من نشر جذع الشجرة الذي يجلس عليه. وهي كتابة تشعر معها بأن الذات في العالم وخارجه في الوقت نفسه، تبنيه وتفككه في آن من خلال التعامل مع هو سيريالي على أنه واقعي، ومع ما هو ما واقعي أحيانا بطريقة تكشف عن أنه أكثر غرابة من السيريالي نفسه. وانتاج خليط سردي فريد يتم فيه المزج بين السامي والسفيه! بين المقدس والمدنس.(14) وقد لمسنا بعضا من ذلك في (أرض الخمر) التي يتم فيها هذا المزج ببراعة، ويستخدمه الكاتب في تعريه الكثير مما يدور في الواقع بشكل تهكمي فعّال.(15) لأننا بحق بإزاء كاتب كبير مهموم بقضايا الإنسان في وطنه، وبالقيم الإنسانية الخالدة في آن، يضيف إلى ضمير السرد، بقدر ما يرهف ضمير قارئه ومجتمعه معا.

 

هوامش:

 (1) حركة الرابع من مايو هي حركة ثقافية وطنية شعبية كبيرة في تاريخ الصين الحديثة، لا تقل أهمية عن ثورة 1919 المصرية بالنسبة لمصر. وقد جرت بعد شهور من ثورتنا، أي في 4 مايو 1919، ولنفس السبب، احتجاجا على ما توصل إليه الحلفاء من اتفاقات في فيرساي بعد الحرب العالمية الأولى. وكان من أهم قضايا هذه الحركة السياسية قضية منطقة أو شبه جزيرة شاندونج، وهي المنطقة التي ولد فيها كونفشيوس، ونشأ بها مو يان. حيث منحت معاهده فيرساي، وبسبب اتفاقات سرية مسبقة بين الحلفاء واليابان، وتشبث لويد جورج وكليمنصو بسياساتهم الاستعمارية، السيادة عليها لليابان، خاصة وأن اليابان كانت من انتزع علي شبه الجزيرة من الألمان أثناء الحرب. فاندلعت المظاهرات في الصين كلها في هذا التاريخ الذي أكسب الحركة اسمها. وقد استمر نشاط هذه الحركة وازدهارها، وأصبحت تعرف باسم الحركة الثقافية الجديدة، وتغطي نشاط الفترة من 1915 – 1922، حين تم الاتفاق على عودة شاندونج للصين، وبمساعدة أمريكية في هذا الوقت الذي كانت فيه أميركا تؤيد مبدأ تقرير المصير.
(1) راجع Alexander C. Y. Haung, “Mo Yan as Humourist”, World Literature Today, July – August 2009, pp. 32 – 35.
(2) راجع
Haili Kong, “The Spirit of ‘Native-Soil’ in the Fictional World of Duanmu Hongliang and Mo Yan” in China Information, Vol. XI, No.4 (Spring 1997), p. 58 
(3) راجع كتاب David Der-Wei Wang, Fictional Realism in Twentieth-Century China: Mao Dun, Lao She, Shen Congwen, [ New York: Columbia University Press, 1992. 367 pp.] 

(4) راجع مجموعته القصصية Mo Yan, Explosions and Other Stores, edited Janice Wickeri. (Research Centre for Translation, Chinese University of Hong Kong, Hong Kong, 1991) xii, 214 pp

(5) للمزيد من التفاصيل  حول تحليل دور الكونفشيوسية في هذه الرواية راجع Lu Tonglin, Misogyny, Cultural Nihilism, & Oppositional Politics: Contemporary Chinese Experimental Fiction, (Stanford University Press, Stanford, 1995). x + 235pp.

(6) راجع الرواية في ترجمتها الانجليزية: Mo Yan, Red Sorghum, trans. Howard Goldblatt, (London, Penguin Books, 1994).

(7) للمزيد من التفاصيل راجع Bonnie S. McDougall, “Literary Decorum or Carnivalistic Grotesque: Literature in the People's Republic of China after 50 Years”, The China Quarterly, No. 159, September, 1999, p. 727  

(8) للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجعAlison Findlay, Illegitimate Power: Bastards in Renaissance Drama, (Manchester, Manchester University Press 1994).

(9) أود أن أحيل القارئ هنا على دراسة مهمة لهذه الرواية هي مقالة: Rong Cai, “Problematizing the Foreign Other: Mother, Father and the Bastard in Mo Yan’s Large Breasts and Full Hips”, Modern China, Vol. 29, No.1, January 2003, pp. 108 – 137.

(10) راجع دراسة مهمة عن طبيعة الاستعارة، وعن آليات التفكير التجريدي الذي تنطوي عليه في روايات مو يان وقصصه القصيرة Ning Yu, “Synesthetic Metaphor: A Cognitive Perspective”, Journal of Literary Semantics, No. 32 (Berlin, Walter de Gruyter, 2003), pp. 19 – 34. 

(11) للمزيد من التفاصيل، راجع LUO Xing-ping, “On the Inheritance of Lu Xun’s Spirit in Mo Yan’s Wine Land, (College of Literature, Southern Yangtze University, Wuxi Jiangsu 214063, China), Journal of Anhui Normal University, 2006.

(12)  راجع دراسة الباحثة الدنماركية   Anne Wedell-Wedellsborg, “Haunted Fiction: Modern Chinese Literature and the Supernatural”, The International Fiction Review, Volume 32, Numbers 1 & 2 (2005).

(13) راجع دراستها المضيئةSabina Night, The Heart of Time: Moral Agency in Twentieth-Century Chinese Fiction, (Cambridge, Mass.: Harvard University Asia Center, 2006), 306 pp.

(14) للمزيد من التفاصيل راجع Xiaobin Yang, The Chinese Postmodern: Trauma and Irony in Chinese Avant-Garde Fiction, (Ann Arbor: University of Michigan Press, 2002) 286 pp.

(15) هناك أكثر من كاتب صيني يفعل هذا، ومن أبرزهم زاكسي داوا Zhaxi Dawa ، وهو نصف صيني ونصف تبتي، من التبت، يعتز بخلفيته وينكر مشروعية الهيمنة الصينية العسكرية على التبت، دون أن تستطيع المؤسسة الإضرار به.