يكتب الباحث الفلسطيني هنا عن أحدث تجارب الشاعر الفلسطيني الكبير مع الموت، عن جداريته الخاصة التي يتميز فيها الموت عن ذلك المكتوب في قصائدَ تحدّث فيها عن الموت وتغنّى به، واتّخذه غاية ثوريّة مُفجّرَة لطاقات البطل الثوريّ الفدائي . لأن جَماليّة قصائد الموت في كولاج سميح القاسم تمتلك خصوصيّة مميزة إذ يتناول فيها الشاعر مَوْته هو.

مَرْكزيّة الموت وأنسَنَتُه في «كولاج» سميح القاسم

نبيه القاسم

شكّلَ الموتُ الثيمة  (theme)الرئيسيّة في شعر سميح القاسم عَبْرَ مسيرته الشعريّة الطويلة، حتى أنّ الكثيرَ من مجموعاته الشعريَة ارتبط اسمُها بالموت: (قرآن الموت والياسمين. الموتُ الكبير. مَراثي سميح القاسم. إلهي إلهي لماذا قتلتني. أحبّك كما يشتهي الموت. سأخرج من صورتي ذات يوم). وقد يكونُ الدّافعُ لذلك أنّ الموتَ هو المرافقُ للحياة والبديلُ لها، وهو نهايتُها والنافذة لحياة مُتجَدّدة، هو نهايةُ الآمال والمطامح والجهود والصّراعات، وهو في الوقت نفسه بداية لحياة أخرى تزخرُ بالتجدّد والآمال والمطامح والصّراعات.

ظلّ الموتُ، ولا يزال هو الشاغل الرئيسي للإنسان منذ اللحظة التي وَقَعَ فيها الموتُ الأوّلُ بقَتْل قابيل لهابيل. لكنّ مشاغلَ الحياة تُبْعدُ، وتأخذُ الواحدَ في مَسالكها الكثيرة، فينشغل بهموم حياته اليومية، وينسى الموتَ المتربّصَ به حتى يكونَ وينقضّ عليه ويمحوه من الوجود. وكانت العبرة في ما حدث لجلجامش وهو يرى صديقه أنكيدو يسقط أمامَه ويُسلّم الروحَ ويخمدُ، حيث ثار على الوجود، وراح يبحث عن ترياق وعزاء ليُواجه به الموت، ويضمن لنفسه الخلود.  وما كاد ينجحُ في الحصول على عشبة الخلود حتى سرقتها منه الحيّة في رحلة عودته، فحزن وشقي حتى التقى برَبّة الحانة "سدوري" التي سألها:

-                    هل أستطيعُ الهروبَ من الموت؟

-                    فتجيبُه: إلى أينَ تسعى يا جلجامش؟ إنّ الحياةَ التي تبغي لن تجد. حينما خلقت الآلهةُ العظامُ البَشرَ قَدَّرتْ الموتَ على البشريّة واستأثرتْ هي بالحياة.

 فخفّفت من حزنه، وأفهمته أنّ الكمالَ والخلودَ فقط للآلهة بينما النّقصان والفناء من نصيب البشر.

 ما حدث لجلجامش أقنع الإنسانَ أنّ الموتَ هو النهاية الحتمية، ولا مَهرب من الموت مهما حاولنا وعملنا. وتوالت الديانات السماوية في تأكيد حقيقة حتميّة الموت. حتى أصبح موضوعُ الموت موضوعا فلسفيّا يُشغل الفلاسفة ويجتهدون في تعريفه وتفسيره، وقد قال مونتاني "التفلسُف هو أنْ نتعلّم كيف نموت"، ورأى أفلاطون "أنْ ليس هناك ما هو أكثر إدهاشا من الموت"، بينما اسخيلوس أشاد بالموت على أنّه "خلاص من الحياة".

موتُ أنكيدو وسَعْيُ جلجامش للحصول على عشبة الخلود كانت الحافزَ لتفكير الإنسان فيما يحدثُ له بعد الموت! وآمن المصريون بالخلود وبَنَوْا لملوكهم الاهرامات. وحتى لا تفقدَ الحياةُ قيمتَها، وتغدو تافهة لا تستحقُ أنْ تُعاش، اجتهد الإنسانُ في إقناع نفسه أنّ حياته لن تضيع هباء، وأنّ له حياة أخرى أكثر جمالا وراحة وسعادة بعد الموت. وجاءت الدياناتُ السماوية لتؤُكدَ ذلك، وتُغري كلّ واحد بفوزه يوم الحساب بما حصلت يداه. ورأى البعضُ أنّ الموت ليس إلا إشارة على فناء الجسَد وانتقال الروح الخالدة لتسكن جسدا آخر لتبدأ حياة جديدة في ثنائيّة الروح والجسد. وعليه لم يعُد الموتُ يمثّلُ النهاية للحياة وإنّما البداية لحياة أكثر حيويّة وقيمة مرجوّة. الموت والحياة وجهان مُتكاملان مُتواصلان مُتلازمان، وكما قال فلاديمير جانكلفيتش "لا معنى للحياة دون موت، ومَن لا يقدرُ على الموت لا يستطيعُ أنْ يحيا أو يموت".(جانكلفيتش ص108-109)

وسميح القاسم صاحبُ الرُؤية الثوريّة المتفائلة المتحَديّة الواثقة بانتصار إرادة الإنسان، والمؤمنُ أنّ الفَزع من الموت لا يُمكنُ أنْ يحدّ الرّغبات ويحول دون تحقّق الأهداف عند الشعوب، كان الموت، حتى السنوات العشر الأخيرة، يعني بالنسبة له الثورةَ والتّجدّدَ والانبعاث والنصر َونقطةَ انطلاق نحو اختراق المحال وتحقيق الانتصارات. حتى في لحظات اليأس والحزن والهزيمة كان سرعان ما ينتفض ويُعلنُ أنّها كبْوَة، ويتلوها انطلاق وانتصار.

هذا الموقف الواضح من الموت ودلالاته الثورية المفجّرة لم تمنع من الشاعر أنْ يقفَ من الموت موقفا فكريا فلسفيّا مستندا إلى الديانات السماويّة والأساطير الشعبية، وكثرتْ في قصائده الإشارات إلى قايين وهابيل وجلجامش وأنكيدو وإيزيس وأوزيريس إلخ. وقد تناول في قصيدة "جلجامش" حتميّة الموت وعبَثَ البحث عن ترياق الحياة وعشبة الخلود لأنّ مصير َكلّ حيّ إلى الموت:
هذا أنا "جلجامش" الإنسان
ثُلثايَ الإلهْ
وَهْمٌ،
وثُلثي للفلاهْ
جَسَدٌ تُغادرُهُ الحياهْ
يَهَبُ الخلودَ لموتِهِ
ويرى بحكمةِ مَيِّتٍ وَضحَتْ رؤاهْ
أنّ الحياةَ هي الحياهْ
أجَلٌ مُسَمّى، لا سواهْ،
ولا سواهُ،
ولا سواهْ.. (سأخرج من صورتي ذات يوم  ص202) 

لكنّ حادثَ الطرق الذي تعرّض له الشاعر بعد ظهر يوم 11 كانون الأول عام 2002 كانت نقطة التحوّل في تعامل الشاعر مع الموت. مرّة واحدة تلاشت كلّ تلك الدّلالات والرموز والهالات التي أحاطت بالموت، وتجسّد الموت في صورته الكريهة، ذلك المفترسُ الطاغي الذي يُفاجئ ضحيّته، فيأتيها على غير موعد ويأخذها، ويقطع كلّ أواصرها بالحياة التي كانت. ثم كان موتُ العديد من الأشقاء والأهل والأصدقاء والزملاء والمعارف، وخاصة موت القائد أبو عمار ياسر عرفات يوم 11/11/2004 وموت رفيق العمر الشاعر محمود درويش يوم 9/8/2008.

يتحدّث الشاعر سميح القاسم إلى الصّحفيّة ابتهاج زبيدات في حديث طويل نشرته جريدة "الشرق الأوسط" يوم 26/10/2005 العدد 9829 عن تجربته مع الموت إثر حادث الطرق قائلا: "كنتُ لتسع ساعات في حالة موت سريريّ. لكن هذه الساعات التّسع علّمتني أنّ كلّ ما يُقال عن الموت هو غير صحيح، فلا وجَع ولا ألم ولا ثقب أسود طويل ولا غيوم بيضاء، بل الرّاحة الكاملة والهدوء التّام. اكتشفتُ أنّ الموت أهونُ بكثير من وجَع الأسنان، وأنّه ليس بالسّوء الذي يوصَفُ به. أعتقدُ أنّني أصبحتُ أكثر اقترابا من الله. أنّ تجربة الموت لساعات، هي من قبيل الموعظة، والتنبيه لأهميّة الوقت والمكان. المرور بتجربة الموت، تدفعُنا إلى إعادة تَرْتيب أوراقنا بشكل أكثر عدالة، بحيث نُعطي لقيصر ما لقيصر، ونُعطي ما لله لله، ونُعطي الأسرة والأحبّاء ما لهم علينا من حقّ".   

لكنّ حديث الشاعر عن الموت ليس كمُعايشته ساعة وقوعه. فالسّاعاتُ التّسع التي غابَ فيها عن الوعي في رحلة الموت، وانقطع عن كلّ ما يُحيطُ به، كان شبحُ الموت يتجسّدُ أمامه بكل مَهابته وبَشاعته وخطره. وهاله، بعد عودته من رحلة الغياب، أنْ يرى الفزعَ في عيون الأهل، والخوف َيكسو ملامحَ الجميع، والدموعَ تتقافزُ في العيون، فتألم وتساءل وتوسّل:
لا تنوحوا.
كلّ ما يعبُرُ وَهْمٌ. والذي يُقبلُ ظنّ
جرسُ الماءِ على صوّانةِ الليل يرنُّ
وعلى المعلوم عيْنٌ
وعلى المجهولِ عينُ
عَرَباتُ العُمرِ تنأى
وخيولُ الموتِ تدنو
لا تنوحوا
لا تُغنّوا! (كولاج2 ص24)

 وأيقنَ أنّ الموت ليس مجرّد حَدَث فَرديّ يخصّه هو، بل يُؤثرُ على كلّ مَنْ له عَلاقة به، وأنّ هذا الموت الذي طالما تغنّى به، ومجّده حتى التقديس، خرج من قناعه الرمزي، وتجسّدَ له بكل جَبَروته ليتَحدّاه بشكل خاص، ويقصدُه هو دون غيره. ورغبة من الشاعر في القبول بهذا الصديق! القديم الجديد رغما عنه، يتظاهرُ بالهدوء والقبول والاستعداد للذهاب برفقته:

حقيبتي الصغيره
جاهزةٌ. يا موتْ
وبُرهتي في الوقتْ
تكفي صلاةَ الرحلةِ القصيره
والقبلة الأخيره. (كولاج2 ص26-27)

ويُقابله باستعداد ووعي كاملين:
ذراعايَ مبسوطتان.. خُذوني
إلى ضجعةِ الموتِ،
حيّا خُذوني
ولا تخذلوني! (كولاج2 ص41)

ويعلم أنّ:
آخرُ الذكريات
أوّلُ الذكريات
فاذكروا
كلُّ مَنْ عاشَ ماتْ (كولاج3 ص58)

لم يعد الموت ذلك المسَمّى الهلامي الذي طالما تغنّى به الشاعر وغيره من الثوريين رمزا للثورة والتّغيير والحياة الأفضل، لم يعُد الموت مُقابلا للحياة بل تجسّد على صورة مخلوق مُستَعجل يريدُ إتْمامَ مهمّته المنوطة به، بأخْذ الشاعر معه في طريق الأبدية، ولا مَطلب للشاعر غير قليل من الوقت لترتيب الأوراق، وأنْ تكونَ رحلتُه هادئة:  
قليلٌ من الموتِ يكفي
لترتيب أوراقنا المُهمَلهْ
وتبقى شهادةُ ميلادنا في مَلفّ الوفاةِ
ويبقى قليلٌ من الكلماتِ
ويبقى قليلٌ منَ الذكرياتِ
وتمضي الملفّاتُ. كلّ الملفّات تمضي
إلى المزبلهْ. (كولاج2 ص13)

وأنْ لا يتخللها الوجعُ ولا المرض:
أَوَدُّ. كمْ أَوَدُّ لو أموتْ
بصحّةٍ جيّدةٍ.. لا وجعَ الأسنانْ
يخلعُ ضرسَ العقلِ من رأسي. ولا
يطبُخني السكّرُ بالكوللسترول المُرّ
في طنجرةِ الدّهونِ والأعصابِ والرّيقانْ
أُريدُ. كمْ أُريدُ أنْ أموتْ
بصحّةٍ جيّدةٍ
يحضُنُني الحريرُ والمخمَلُ في التّابوتْ
أُريدُ أنْ أموتْ

لكنّني أخافُ بردَ الليلِ والوحدةِ في الأكفانْ (كولاج2 ص101-102)

والاحساسُ بالخوف هو الدافع الأول للرفض والتّراجع عمّا كان قد رضيَ به، وطالما أنّ الموت لم يعُد ذلك المجهول غير المرئي وغير المقاوَم، وأصبح زائرا كريها يُمكن رفضُ استقباله ومُقاومته. فقد وجد الشاعر نفسَه يُعلنها صريحة في وجه الموت:
لا. لا أريدُ الآن أنْ أموتْ
لا. لا أريدُ الآنْ..(كولاج2 ص101-102)

وبسرعة ينزعُ نفسَه من رفقة الموت ويلجأ للربّ علّه يُنقذه من الزائر الغريب، فقد فوجئ بانقضاء العمر ومرور الزمن:
فجأةً. في آخرِ العُمْر انتبهْتُ
كلُّ ما ينقصُني في الوقتِ. وقتُ
وقُبَيْلَ البتِّ في الحلّ، وقَبْلَ الحَلّ.. متُّ!
حَسَبَ الوقتُ.. ولكنْ ما حَسَبْتُ!! (كولاج2 ص117)

فقصيدتُه الأخيرة، أمّ قَصائده، لم يقُلها بَعْد:
يا خالقي لا تختصرْ أيّامي
شُغْلٌ كثيرٌ لا يزالُ أمامي
ما زلتُ مَسكونًا بحمّى هاجسٍ.
أمِّ القصائد. مَطلعًا لختامي! (كولاج2 ص115)

فالموتُ كما اتفق الفلاسفة، وكما هو واقع، "يحدثُ مرّة واحدة، وبصفة خاطفة، ثمّ ينقطعُ ويتلاشى، وكأنّ شيئا لم يكن، وبذلك يستحيلُ معرفته في ذاته أو عند التوسّل بالما- وَراء، كأن ينتقلُ التناولُ البَحثي من تحليل الظاهرة إلى التأويل الذي لا يستندُ إلى وقائعَ وحقائقَ ملموسة"(جانكليفتش ص37)  وكما رأينا في قصّة جلجامش وصديقه أنكيدو، "الموتُ هو مصيرُ الكائن البشري، وهو مصيرُ كلّ المصائر، يُصيبُ كاملَ الوجود خلافا للمرض الذي يصيبُ جزءا من الجسد." والموت برأي جانكلفيتش "أداة نفي قطعيّة تُهلكُ الكائنَ البشري بضربة واحدة ليندثرَ كلّ شيء ويضمحلّ تماما." ( جانكلفيتش ص90) ويرى الفلاسفة أنّ اللا- وجود الذي يُمثّله الموتُ هو المحدّد للوجود الذي تعنيه الحياة. ولأنّ الموتَ هو اللا- وجود فهو الممثل للمستقبل  على عكس الحياة التي تعني الوجودَ والحاضرَ، وعليه فهذا الموتُ (المستقبل) يظلّ الحافزَ الأقوى في   الحياة. (جانكلفيتش ص120) بحثا عن "حقيقة الحقائق" التي تكمُنُ في الموت، ولكن لحظة يُدركُ الإنسانُ هذا الحدّ الأقصى في الوجود لا يستطيعُ استعادة الحياة، فينعكسُ ذلك وجعا داميّا في الإبداع الفنيّ، بشعور مأساويّ حادّ على امتداد العصور وفي مختلف الآداب والفنون" وهذا ما نلمسه بقوة في إبداع سميح القاسم الأخير.

ولأنّ الحياة برأي جانكلفيتش "مدفوعة بالأمل فهي دائمة التغيّر، خلافا للموت الذي يعني فقدان الحياة تماما"(جانكلفيتش ص130)، فإنّ الإنسان في مواجهة الموت "يكون شبيها ببطل يربح وقتَ التأجيل، ولكنّه مُهدّد في كلّ لحظة بالسّقوط"(المصدر السابق ص144). فالتأجيل ضروريّ لانبعاث الأمل في الإنسان، "فإنْ علمَ بميعاد الموت تملّكه قلق حادّ، لذلك يظلّ الموت دون أجل مُحدّد إلا في حالات المرض"(المصدر السابق ص146) ونتيجة هذا الجهل يمتلكُ الإنسان إرادة الفعل. ولأنّ "الموتَ حدوث مستقبليّ فيكون للراهن حضورُه الفاعل، كأنْ يسعى الإنسانُ وينشغلُ عن اللحظة الأخيرة بسلسلة من اللحظات الفاعلة المؤسسة في سيرورة العمر القصير دون تَفَجّع أو استكانَة.." (مصطفى الكيالي نزوى عدد 52)

المُعاناةُ من ساعات المَلل والفراغ ومُرور الوقت البطيء
الساعاتُ والأيامُ والأسابيعُ والأشهرُ التي لازَمَ الشاعرُ فيها السريرَ مُرغما بعد تعرّضه لحادث الطرق، وضعته أمام واقع جديد لم يَعهدْهُ سابقا، واقع الوحدة والملل وقضاء الساعات أمام التلفزيون، وقراءة الصحف والاستماع إلى الراديو ولعب الشيش بيش واحتساء القهوة وتدخين السجائر، حتى يجدَ نفسَه تتمنى:
لا. لستَ وحيدًا في الحلم بغفوه
ذاتَ مساءٍ
لا تتلوها صحْوه.. (كولاج2 ص25)

هذه الإقامة القسْرية والخضوع لتقارير الأطباء وتناول الدواء في مواعيد محدّدة جعلته يشتاق لتلك الساعات التي كان ينحصرُ فيها بين الكتب والأقلام وورق الكتابة:
كم كنتَ سعيدًا في الحصار
بين الكتبِ والأقلامِ وورق الكتابه
كم أنتَ بائسٌ في الحصار
بين تقارير الأطبّاءِ وعُلَب الأدويه.. (كولاج2 ص22)

السيجارة متعتُه الوحيدة الباقية

ويجدُ في السيجارة متعتَه، ويرفض أيّة محاولة لمنعه من التدخين. ويستعيدُ في جلسته مع ذاته كلمات الموسيقار محمد عبد الوهاب:"حياة الناس سيجارة وكاس". ويذهب بخياله وراء ما تُخلّفه السيجارة، كما يروون له:
التهابُ اللثّة المُزمن. رنتجن. تصلّب الشّرايين.
الأوداج. الجهاز التنفّسي الموصد، النوبة القَلبيّة
الحادّة. يُسمّونه الدّاء الخبيث واسمه السرطان.
لن أقاضي شركات التّبغ. ليس لديّ مَنْ
أقاضيه سوى..موتي. موتي الدّخِن الهادئ. (كولاج2 ص73)

ومع استمرار تسمّره لسريره، يزدادُ تمسّكا بالسيجارة، مع ادراكه التامّ للمَخاطر في التدخين:
كثيرٌ من التّبغِ يَعني قليلا من الوقتِ
دخّنْ ببطءٍ إذا شئتَ موتا سريعًا
ودخّنْ كثيرًا إذا شئتَ موتا كثيرًا
ومُتْ في سجائرك الباهرة
إذا شئتَ موتًا وثيرًا
تفضّل. ودخّنْ. تفضّلْ
ودخّنْ.. لترْحلْ
شهيدَ سجائرك الفاخره
غود باي ماي فرند غود باي! (كولاج2 ص93-94)

وتتكرّر المحاولات لمنعه من التدخين، وتفشل كلّها ويُعلن:
ويظلّ بسيطا لغزُ الإقلاع عن الأرض
إلى أفقٍ يختارُ سواه
ويظلُّ عصيبًا وعصيّا
لغز الإقلاع عن التدخين
لا حول ولا قوّة إلا بالله
آمين. (كولاج2 ص114)

ويُجيب الذين يخوّفونه من نتائج التدخين:
وحين يقول الطبيبُ "أُصبتَ بداءٍ عُضالْ"
سأحزنُ لا شكّ.
لكنني لا أطيلُ السؤالْ
عن الدّاء والأدويهْ
سأرحلُ في قاربٍ حالمٍ لا يزالْ
على شاطئ القلبِ.. والأغنيهْ! (كولاج2 ص97-98)

اعتراف الشاعر بقيمة الموت وأهميّته
منذ وُجِدَ الإنسان أدرك أنّه محكوم بين لحظة الولادة ولحظة الموت، وما الحياة التي يحياها إلا فسْحة بينهما عليه اقتناصها. وحتى تكونَ قيمة لوجوده عَمِلَ على أنْ يُعطيَ للحياة والموتِ مَعْنى ما. فالموتُ يكتسبُ معناه من الحياة، ولا تكونُ الحياة إلا بالموت. وكما تقولُ الواقعيّة الوجوديّة " شرط الموت الحياة، وشرط الحياة الموت" (جانكليفيتش ص20-21)

وقد بدأ التفكير في الموت بأنّه موتُ الآخر بَعيدا عن الذات، ولكنْ مع تَطوّر الحياة والفكر الإنساني بدأت الدوائرُ تضيقُ وتتشابكُ وتتعالقُ، ولم يعُد الآخرُ بَعيدا عن الأنا والأنت. وما يُصيبُ الواحدَ لا بدّ ويترك آثارَه على الغير. وبهذا الانقلاب في الوعي استحال الموت تفكيرا فرديّا وإمكانا للحياة، إذ نحيا لنموت ونموت لنحيا، ونموت في الحياة ذاتها. بهذا التفكير الفرديّ الدّائم في الموت. "ونتيجة لارتباط الأنا والأنت والهو يكون الموت مُقترنا طيلة حياتنا بالمستقبل، خلافا للولادة التي تعني الماضي الهارب." (الكيلاني نزوى 52)

وطالما أنّ الموتَ يُمثّلُ لنا المستقبلَ إلى آخر لحظة في الحياة، فهو الحافزُ الأقوى على الاستمرار في الحياة المدفوعة بالأمل ودائمة التغيّر. (جانكلفيتش 120) .هذه الحياة التي "لا تكونُ إلا بالموت الذي هو مَرجعُ القيمة في الحياة، حيث يحيا الإنسان ويستعدّ للّحظة الأخيرة، دون التفريط في الحياة." (الكيلاني نزوى 52).

وكم صَدقَ فلاديمير جانكلفيتش بقوله: " الذي لا يقدرُ على الموت لا يستطيعُ أنْ يحيا أو يموت" لأنّ الإنسان الفرد لا يفصلُ بين الحياة والموت.

وهذا المعنى هو الذي يقوله الشاعر حول أهميّة الموت لاستمراريّة الحياة:

ولأنتَ ذاكرةُ الزّمان وأنتَ ذاكرةُ المكانْ
وجهُ الحياةِ. وبدؤُها.
وبغيرِ سحرِكَ لا حياةَ ولا حراكْ
ولسرّ سرّك نشوةُ الصّوفيّ محمولا
بأجنحة الملاكْ.(كولاج2 ص123)

وأنّ الموت هو السبيل إلى بداية الحياة:
أنتَ السبيلُ إلى التجسّدِ بالحلول
ولكَ المواسمُ والفصولْ
ولكَ الحياةُ. لديكَ شهوتُها وزهوتُها. وفيها أنتَ.
بُرعمُها وسكرتُها. تبثّ فخاخَها في الكونِ. مسكونًا
بفتنتها. وتنصبُ في مفاتنها الشّراكْ.(كولاج2 ص123-124)

تحوّلُ الموت ليكونَ قيمة وحافزا على إرادة القوّة والفعل، ومُلهمًا للإبداع الفني، ودافعا إلى التأسيس الثقافيّ والحضاريّ "دفعَ الإنسانَ إلى تحمّل مسؤوليّتة في الوجود وتجاوز ذاته بالإرادة، ومُغالبة العجز وتحويل وَعْي الموت منْ حَيّز التسليم بالقَدَرِ المحتوم إلى فضاءات الأمل والحبّ ورغبة التحدّي والإصرار على البقاء رغم قصر العمر وتراجيديّة وضع الإرْجاء"(الكيلاني نزوى 52).

ولأنّ الموت حدوث مستقبليّ فإنّ للرّاهن حضورَه الفاعل، كأنْ يسعى الإنسان إلى الفعل لتجاوز ذاته باستمرار، على أساس إدراك نهايته المحتومة مُسبقًا. "وبهذا الإدراك الحادّ لأهميّة الآن يُغَلّبُ الإنسان عجزَه ويُضانك المستحيل وينشغل عن اللحظة الأخيرة بسلسلة من اللحظات الفاعلة المؤسّسة في سيرورة العمر القصير دون تفجّع أو استكانَة." (الكيلاني نزوى 52).

ويَقبَلُ الموتَ لأنّه بدايةُ حياة جديدة:
بكلّ الهدوءِ المواتي
أُرتّبُ أوراقَ موتي
وأعلنُ بدءَ الحياةِ.. (كولاج 3 ص 32)

والشاعر يؤمن بأنَّ جسَدَ الإنسان قميصٌ سيبلى، وما يخلُدُ ويتجدّدُ هو الروح:
جسَدي
ليسَ إلا قميصًا لرجْسِ الحياةِ (كولاج2 ص130)

الحياة والموت مُتشابهان ومُتلازمان
ومع مرور الأيام والأسابيع والأشهر أدرك الشاعرُ أنّه لن يستعيدَ صحّته وعافيته، ولن يعودَ إلى ما كان عليه قبل تعرّضه لحادث الطرق. وأيقن أنّ حياته الآتية لن تكونَ كتلك التي كانت، وأنّ البسمة والضحكة والسعادة التي عرفها وعايشها ووزّعها على كلّ مَنْ عرَفَ تُعَكّرُها غصّة عميقة وحَسْرة أليمة ودَمعة تحاول التّواري، وأنّ مشوارَه الباقي له سيتلازمُ فيه الموتُ مع الحياة، ولا فكاك للواحد من الآخر:
حياتي صديقةُ موتي
وليس لموتي صديقٌ سواها
فكيف تراني؟
وأين أراها؟
ولا وقتَ فيها لوقتي
لأنّ حياتي صديقةُ موتي.. (كولاج2 ص158)

وأدركَ أنّ الحياة سيرك ومثلها الموت:
يا موتُ. آخرُ لعبةٍ في السيركِ أنتَ
وما الحياةْ؟
إنْ لم تكن سيركا. وأوّلُ لعبةٍ فيه اجتراحُ المعجزاتْ
واللعبةُ الكبرى ضجيجُ الصّمتِ
في إعلانِ أسبابِ الوفاةْ..(كولاج2ص126-127)

الشعورُ بثقَلِ وجوده على الغَير
استسلام الشاعر لرحْمَة الموت جعلته يشعرُ وكأنّه فقَدَ أهميّتَه في الوجود، ولم يعُد يُثير اهتمامَ أيّ كان:
أنْ تنسى زوجتُكَ الفُضلى
حاجتَكَ القصوى للقهوة والسّيجاره
في لحظة عُزلتك البيضاء
أنْ يهجرَكَ الأبناء
أنْ يصمتَ صوتُكَ في قلبِ الحارة
وتموتَ الأضواء
أنْ ينسحبَ الملحُ من الخبز الباقي
أنْ ترحلَ عنكَ عصافيرُ الخرّوبَهْ
أنْ تفقد طعمَ الكُبّةِ والنعناع
وتنسى رائحةَ المَقْلوبَهْ
أنْ يبتعدَ النّرجسُ عنكَ وينأى زُوّارُكْ
أنْ تتضاءلَ أخبارُكْ
المعنى في المعنى،
أنّ حياتَك ما عادت مطلوبَهْ
(غود باي. ماي فرند. غود باي..) (كولاج2 ص144-145)

 

هذه الحالة النفسية الصّعبة أثقلته بالحزن:
أنا ملكُ الحزن.. حزني جميلٌ
وحزني ثريٌّ
 كقوسِ قُزَحْ
وحزني،
يُمهّدُ دَرْبَ الفَرَحْ (كولاج3 ص77-78)

 ونقَلته حالةُ الحزن والشعور بالوحدة لافتقادِ مَنْ كان يُمكنُه أنْ يُخرجَه من وحدته، ويملأ عليه الوجود، صديقه ورفيق دربه محمود درويش الذي كان قد مرّ بهذه التجربة الصّعبة وكتب يومها إلى سميح:

"أن تكونَ معي.. أنْ يكونَ أحدُ أفرادِ عائلتي معي.. أنْ يكونَ أحدٌ من أصدقائي القُدامى معي.. هو الدّليلُ الأخيرُ الوحيدُ على أنّني موجود.(الرسائل ص76). وكتب مستنجدًا: "أنقذني يا عزيزي سميح منْ سَطوة هذا الحنين. أنقذني من شماتة هذا المطار الذي يوصلكم إلى بيوتٍ من حجر، ويوصلني إلى بيتٍ من هواء!.."(الرسائل. منشورات عربسك حيفا 1989 ص79)

فبكى واستعاد الماضي الجميل مع محمود وشرب كأسا:
لذكراكَ. محمود. أشربُ كأسًا
لأوقظَ من نومها قُرحَتي
وأسكُبُ كازًا
على وردتي
لأشعلَ نارًا جديدة
بجمرةِ حُزْنٍ.. تُسمّى قصيدة
وأبكي طويلا على ثورتي
وأبكي. وأبكي. على أمّتي (كولاج2 ص145)

هذه المشاعر بالوحدة، وهذه الأحزان، وهذا المتربّص به صباح مساء، وانفضاض الآخرين من حوله دفعت به أيضا ليستحضرَ أمّه وأباه لعلّه بذلك يشعر بالأمان والطمأنينة:
حلمتُ بأمّي
تشدُّ عليّ لحافي
تُمسّدُ شَعري برفقٍ
وتنثُرُ حول المخدّة
ثلاثا وعشرين وردَه (كولاج3 ص78)

  *   *  *

حلمتُ بكفّ أبي الطيّبه
تجسُّ جبيني المريضَ
وتمحو كوابيسَهُ المُرعبهْ (كولاج3 ص79)

وتتعالى صرخةُ محمود درويش في مَسامعه وكأنّها تصله الآن: "ستَ عشرةَ سنة تكفي لأصرخَ: بدّي أعود. بَدّي أعود. كافيةٌ لأتلاشى في الأغنية حتى النصر أو القبر. ولكن، أينَ قبري يا صديقي؟ أينَ قبري يا أخي؟ أينَ قبري!؟" (الرسائل ص38). وردّد بينه وبين نفسه السؤال المعذّب نفسه: أينَ قبري؟
هكذا أنتَ يا صاحبي،
هكذا كنتَ من أزَلٍ مُزْمنٍ،
وإلى أبَدٍ عابرٍ.. في الضّريحْ
أنتَ لا تستسيغُ هدوءَ الزّمانِ،
ولا تستطيعُ المكانَ المُريحْ
إنّما مَلَكُ الموت يا صاحبي يدّعيكْ
فاقترحْ ميتةً
قُل لنا شهوةَ الموتِ فيكْ
قُلْ لنا يا سميحْ
واحْكِ عن حيرةِ القبرِ،
من مَوْقعٍ أنتَ مَهَّدْتَهُ
ثمّ بدَّلتَهُ
ثمّ غيَّرْتَهُ
ثمَّ حَيَّرتَهُ
وإلى موقعٍ مُضمَرٍ لم يزَلْ
في مكانٍ جميلْ
عندَ سفْحِ الجَبَلْ
من أعالي الجليلْ
حسنًا. هكذا. آنَ أنْ تستريحْ
يا صديقي سميحْ
بعدَ طولِ الصّراعِ وعُنْفِ الوداعِ وعُسْرِ الجدَلْ
آنَ أنْ تستَريحْ
منْ عَذابِ المَلَلْ
يا أخي. يا ابنَ أمّي. ويا ابنَ أبي.
يا سميحْ!! (كولاج3 ص23-24)

رَفْعُ رايةِ الاستسلام والتّصريحُ بوَصيّتَه الأخيرة
أدرك الشاعرُ أنّ مُقاومتَه تلاشت، وقُدرتَه على المواجهة ضعُفت، وأنّ النهايةَ هي الحقيقة الباقية:
أرهقني السّيْرُ على الأشواكِ وفوقَ الجمْرِ
وطالَ الدّربْ
وتلاشى هذا القلبْ
في داءِ الحزنِ وداءِ الشّوقِ وداءِ الحبّ
خُذ بيدي.. في آخر خطواتي
خُذْ بيدي.. يا ربّ! (كولاج3 ص84)

وخاطبَ كلّ الذين يُحبّ:
أيّها الإخوةُ الطيّبون الكرامْ
ربّما تذكرونَ، فمِنْ خمسين عامْ
قال لي الموتْ، موتي الزؤام
إنّه يشتهيني فتيًّا،
فلا تخذلوه إذا متُّ شيخًا عجوزًا
وقولوا له: أيّها الموْتُ
مات على دينِ شيخٍ.. غلامْ..(كولاج3 ص8)

وسارعَ ليُلقي وصيّتَه على كلّ الناس ليحتفظوا بها وينقلوها للغير:
وردتي نجمةٌ في الظلامْ
حَجَري وردةٌ للسّلامْ
وكلامي مَصيرُ الكلامْ
فاحفظوا سرّ زيتونتي
واحرسوا سرّ سنبلتي
واكرزوا في جميع الأنامْ (كولاج3 ص84)

ويُصَرّح بأمنيتِه الأخيرة:
أنا "لا نسيلوت"
وأحلُمُ بالعيشِ في "شانغري لا"
وبالموتِ في ظلّ زيتونتي الخالده.. (كولاج3 ص66)

 

دَفقة الأمل الجديدة ورَفْض الموت وتحَدّيه
تظلّ جَذوةُ الحياة هي الأقوى رغم ما يُصيبنا أحيانا من حالات حزن ويأس وانقطاع أمل، وما يشدّنا من اندفاع لبَتْر هذه الحياة وانهائها في لحظة، ونُنهي كلّ شيء. تظلّ جذوة الحياة هي الأقوى، ويظل حبّنا للحياة وتعلّقنا بها هو الحاسم في النهاية كيف تكون علاقتُنا بالموت.  لقد اعتقدَ الشاعر، مَدفوعا بتعلّقه بجذوة الحياة، أنّ نجاته في حادث الطرق أبْعَدَ عنه الموت، ويمكنُه مُتابعة الحياة كما اعتاد:
سالمًا.. غانمًا
عُدْتُ من ابعدِ الموتِ
فلتقتربْ من حياتي الحياةْ
ولتُباركْ خُطايَ الجهاتْ..(كولاج2 ص125-126)

ورغم اعترافه بقوّة الموت وجَبَروته، يُصرّ على أنّ الحياة رغم ضعفها تظلّ الأقوى والأحلى:
قويٌّ هوَ الموتُ. أدركُ.
لكنّهُ ليسَ أقوى
وروحيَ يُدرِكُ ضَعْفَ الحياةِ
وجسميَ يَعْشَقُ ضَعْفَ الحياةِ
وقلبيَ يهوى. ويهوى. ويهوى..
قويٌّ هو الموْتُ
لكنَّ ضَعْفَ الحياةِ
يظلُّ أعزَّ وأغلى وأحلى.. وأقوى! (كولاج3 ص54-55) 

اقتنع الشاعر من خلال تجربته مع الموت أنّ أفضلَ ما يُواجه به الموت هو تجاهل الموت وعدم التفكير فيه أو الاكتراث به، وذلك مطابقا لقول اسبينوزا: "إنّ الانسانَ الحرّ لا يُفكر في الموت إلا أقلّ القليل، لأنّ حكمته في الحياة وليس الموت" فالتفكير في الموت يُولّد الخوفَ والرَّهبة ويُثقل الحياة ويُحطمُها، وكما قال أبيقور: "الموتُ لا يكونُ مؤلما حين يحلّ وإنّما توقّعه هو المؤلم". فهو لا يعني شيئا بالنسبة لنا، حيث أنّه طالما كنّا موجودين فإنّه غير موجود، وإذا رغبنا في العيش الهادئ البعيد عن القلق والخوف والرّهبة وجَبَ علينا تناسي وجود الموت وعَدَم التفكير فيه.

أَنْسَنَة الموت ومُواجَهة الشاعر له
يجدُ الإنسانُ نفسَه في مُواجهته للموت، كما يرى فيليب أرياس، بين خيارَين لا ثالثَ لهما:
الأوّل: رفض صفة الفضيحة في الموت والتّكتّم عليها بالصّمت، ولا شيءَ عَدا الصّمت.
الثاني: استخدام وسائل علاجيّة جديدة قَصْدَ التّخفيف من الألم وإنهائه تماما لإفراغ الموت من معنى الألم والشقاء  بمزيد تأنيسه.
(أرياس ص324)
وهذا ما توصّل إليه الشاعرُ في مُواجهته الحادّة للموت في الأشهر الأخيرة، فقد أدركَ أنّ لحظة الموت مجهولة تماما إذْ لا يُمكنُ حَدّها مُسْبَقًا، وآمن أنّ للموت ساعة مُحدّدة لا يقدرُ عليها مَرضٌ ولا أيّة قوّة بشرية أو غير بشريّة، وحتى إذا حدَث وجاءت الساعة فليست إلا لحظة انتقال من مَكان إلى مَكان، ومن جسَد لآخر لتبدأ حياةٌ جديدةٌ قد تكونُ أكثرَ سَعادةً وجمالا وأمْنًا وقيمَة. وليس عليه الآن إلا مُواجهة المرض بالعلاج الذي يُخَفّفُ الألم، ويعمل على هزيمته والقضاء عليه. وفي الوقت نفسه تَناسِي الموت وتحاشيه والانغماس في الحياة ومُتطلباتها اليوميّة، وعدم الرّضوخ له إذا ما عاد ليُهدّدَ بالتّصدّي له ومُواجهته بقوّة:
يُشاكسني الموتُ،
في لُعْبةِ الموتِ، لا بأسَ فالموْتُ يعلمُ
أنّي صديقٌ مُشاكسٌ
ويفقهُ أنّ طريقَ الحياةِ،
طريقي الطويلُ العريضُ.. المُعاكسْ (كولاج3 ص49)

ولم يعُد الموتُ في مفهوم الشاعر ذلك العدو الرّهيب المفزع الذي ننهارُ أمامه ونستسلم، وإنّما تحوّلَ ليكونَ الشخصَ الذي له وجودُهُ وكيانُه، ويمكنُ التّعاملُ معه بنِدّيّة كاملة، مُشاكستُه ومُواجهتُه ومُنازلتُه والسخرية من قوّته وعَقْدُ الاتّفاقيات والوُعود معه، وفي بعض الحالات رَفضُهُ وطردُهُ.
أيّها الموتُ لا أخافُك
سأمسحُ بك الأرضَ
مُرتجفًا هلعًا
وأجعلكَ عبرَة للأموات! (كولاج2 ص103-104)

رغم كل ذلك فالشاعرُ على يَقين أنّ الموتَ آتٍ، والسّؤالُ متى؟:
بلا موعدٍ سابقٍ سوف تأتي
ستأتي
بأيّة أرضٍ. وفي أيّ وقتِ
على ساعدَيْكَ زهورٌ جَليليّةٌ من جبالي
وسرُّ جبينكَ نورٌ يشعُّ
بأسْرارِ زيتي
ستأتي
بكلّ الجلالِ وكلِّ الوقارِ وكلّ الجمالِ.. ستأتي
لأنّكَ مَوْتي
ولن تُشبهَ الموتَ في أيّ شيءٍ
لأنّكَ موتي الخصوصيُّ. موتي الفريدُ الوحيدُ
صفاتُك بعضُ صفاتي
وسَمتُكَ سَمْتي
وتأتي.(كولاج2 ص107)

الشاعر الذي استسلم للموت، وهيّأ نفسَه لاستقباله بعد حادث الطرق ووَهَنِ الجسَد، انتفضَ يتعلّقُ بالحياة التي يُحبّ، وأعلن رفضَه لاستقبال الموت، مع تأكّده من جَبَروت الموت وقُدرته على نَيْل مَنْ يُريد:

وتأتي
ولن تتوقّعَ منّي انتظارَكَ في باب بيتي
ولن تتوقّعَ "أهلا وسهلا. تفضّلْ
على الرّحبِ. نَوَّرْتَ يا صاحبي. كيفَ حالُكَ؟
شَرّفْتَ. يا مَرْحبًا. زارني في الصلاة النبيُّ.
وهلّ هلالُكَ. أنتَ تأخّرْتَ أنتَ تخلّيْتَ عنّي طويلا.
هلا. يا هلا بالصّديقِ العزيزِ"..
فلستَ صديقا. ولستَ عزيزا. ولكن ستأتي
وتغرقُ حولي ضفافُكْ
وتُدركُ أنّيَ لا. لا أحبّكَ
لكن ستُدْركُ أنّيَ.. لا. لا أخافُكْ
ولا. لا أخافُكْ! (كولاج2 ص107- 108)

ويقول له مضيفًا:
لكنّ روحي ما رأتْكَ
ولا تراكَ ولا تُريدُ ولا تُحاولُ أنْ تراكْ.( كولاج2 ص123)
ويُهدّدُه ويتوعدُه:
 ستنالُ منّي ذاتَ موتٍ قادمٍ يا موتُ.(كولاج2 ص123)

ويطرده بقوّة:
يا موتُ اتركني الآنَ. تفضّلْ
وارحَلْ (كولاج2 ص125)

ويُعلنها صريحة:
أنا لا أحبّكَ يا موتُ!
لكنّني لا أخافُكْ!
وأنتَ صغيرٌ علَيْ
وبحري تضيقُ عليه ضفافُكْ
وتغرقُ يا موتُ فِيْ
ستغرقُ يا موتُ فِيْ
وسوفَ تموتُ اشتياقًا إلَيْ
سريرُكَ جسمي
وروحي لحافُكْ
تفضّلْ.. أنا.. لا.. أخافُكْ
أنا.. لا.. أخافُكْ!! (كولاج2 ص158-159)

لم يكتف الشاعر بمواجهة الموت بأنّه لا يخافه ولن يستقبله، وإنما يَلتقيه في لعبة التّحدّي والانتصار:
لعبةُ تِنِسِ الطاولة ابتدأتْ
أعصابٌ تتوفَّزُ
قبضاتٌ. أقدامٌ. وعيونٌ تتحفّزُ
لا نعلمُ مَنْ ينتصرُ.. أنا أم بَطلُ اللعبة في كلّ زمانٍ ومكانٍ
المحترفُ الأزَليّ الأبَديّ.. الموتْ
لعبةُ تِنِسِ الطاولةِ ابتدأتْ
أضربُ وأردُّ وخصمي المُدهشُ يضربُ ويَصُدُّ
ونلعبُ نلعبُ.. والحَكَمُ الدّوليُّ الوقتْ
ووصل إلى نتيجة أنّ المنتصرَ الحقيقي هو الوقت، فلكلّ أجله، ولا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون:
لا أنتصرُ. ولا ينتصرُ الموتْ
ينتصرُ الحَكَمُ الدّوليُّ.. الوقتْ
في لعبتنا
ينتصرُ.. الوقتْ.. (كولاج2 ص117-118)

ويفرد فرشتَه، وبهدوء كامل يدعو مرضَ السرطان لمجالسته ومشاركته في شرب القهوة، لعلّه يجدُ في فنجان السرطان ما يُشير إلى هزيمته واندحاره وتراجعه أمامَ الشاعر:
إشرَبْ فنجانَ القهوةِ،ّ
يا مَرَضَ السّرطانْ
كي أقرأَ بخْتَكَ في الفنجانْ
إشْرَ بْ. (كولاج3 ص85
(

جَماليّة القصائد وتميّزها:
عرفنا قصائدَ الشاعر سميح القاسم الطِّوال التي تحدّث فيها عن الموت وواجَهَ الموتَ وتغنّى به، واتّخذه غاية ثوريّة مُفجّرَة لطاقات البطل الثوريّ الفدائي ليكونَ استشهادُه في أرض القتال والمواجَهة دربَ النصر وتحقيق الآمال. وقرأنا قصائده التي تحدّث فيها عن الموت وحتميّته وقيمته لاستمراريّة الحياة وبنائها ورفاهيّة أهلها. وقرأنا له قصائده الطويلة في رثاء وذكرى ونَدْب الأصدقاء والرفاق والزملاء والأحبّاء مثل قصائده في حافظ الأسد وياسر عرفات وإسماعيل شموط. وقصائده المميّزة في رثاء جمال عبد الناصر ومحمود درويش وتوفيق زيّاد ومعين بسيسو، هذه القصائد الطويلة التي تميّزت بنَفَسِها الملحَميّ وزَخَمها العاطفي وإيقاعها المثير لمكامن الحزن والألم.

لكنّ جَماليّة قصائد الموت في كولاج سميح القاسم أنّها ليست كالقصائد القديمة التي عرفناها لدى الشاعر، قد تكون أقلّ منها فنيّة وإثارة وشاعريّة، ولكنها تمتلك خصوصيّة مميزة أنّ الشاعر يتحدّث فيها عن مَوْته هو، عن الأيام والأسابيع والأشهر التي عايَشَ فيها الموتَ وتوقّعه في كلّ لحظة، عن دموع الأهل التي لم يستطع رؤيتها، وعن القبْر الذي انشغل في الترتيب له وتحديد مكانه وشكله، وعن الوصيّة التي اهتم أنْ تكونَ جاهزة.

صحيح أنّ الشاعر ذاق ألمَ وحسرةَ موت الأب والأم والأخ والأخت وابن الأخت والعمّ والخال وابن العم والجدّ والجدّة، وكانت قصائدُه فيهم تندفُ حزنا وألما وشوقا.

لكنّ سميح القاسم في كلّ قصائد الموت هذه كان يتكلم عن الموت، عن موت الآخر، عن أنتَ و هوَ، وتأثير هذا الموت عليه في دَرَجات مُتفاوتة.

أمّا في قصائد الموت الأخيرة، بعد تعرّضه لحادث الطرق، وبعد إصابته بمرض السّرطان، ونجدُها في مجموعات كولاج، فالكلامُ صار في الموت وليس عن الموت، والموتُ هو موت الأنا، الموت الذاتي، وليس موت الآخر مهما كانت مَعزّته ودرجَة قَرابته.

لهذا جاءت هذه القصائد مُتميّزة في عفويّتها وبَساطة وسهولة وانسياب كلماتها وتعابيرها، وفي اقترابها كثيرا من لغة النثر العاديّ اليوميّ، حتى لتكاد تتساءل في بعضها: هل هذا شعر أم نثر عادي مثل:
إلتهاب اللثّة المزمن. رنتجن. تصلّب الشّرايين
الأوداج. الجهاز التنفسيّ الموصد. النّوبة القلبية
الحادّة. يسمّونه الدّاء الخبيت واسمه السرطان.
لن أقاضي شركات التّبغ. ليس لديّ مَنْ
أقاضيه سوى.. موتي، موتي الدَّخِن الهادئ. (كولاج2 ص73)

هذه النثريّة العفويّة، كانت الأكثرَ صدقا وأمانة في نَقل الصورة لحالات التغيّر التي تبدو على وجه االمريض ولتفوّهه الكاشف عن عُمْق الألم  والاعتراف بالذنب.
كما نجد جماليّة الإيقاع وتوافقه مع الحالة التي يصفُها، في معظم القصائد، والحوار النديّ ورسم الصورة المجسّدة للمشهد:
واحكِ عن حيرةِ القبر،
من مَوقع أنتَ مَهّدتَه
ثمّ بدّلتَه
ثمّ غيّرتَه
ثمّ حيّرتَه (كولاج3 ص24)

ويظل التميّز الأكبر هذا الحديث في الموت الذاتي، موت الأنا مع كلّ ما فيه من ألم وحزن وتمزّق ورغبة في إظهار عفويّة التصرّف وطبيعيّة الكلام،  والاجتهاد في تقزيم الموت وتجسيده وجعله خَصْما يُمكن التصدّي له، ومنازلته وحتى التغلّب عليه وطرده من ساحة النزال.

 

المراجع:

*القاسم، سميح. كولاج2. شعر. منشورات إضاءات 2009.

*القاسم، سميح. كولاج3. شعر. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ومكتبة كل شيء حيفا. 2012

* القاسم، سميح. سأخرج من صورتي ذات يوم. منشورات الأسوار، عكا 2000

* القاسم، سميح  و درويش، محمود. الرسائل. منشورات عربسك، حيفا 1989

*الرحبي، سيف. حول الموت والزمن.. والغياب. جريدة المستقبل ، عدد 3475. يوم 6 تشرين الثاني 2009.

*زبيدات، ابتهاج. سميح القاسم: أطالب بالعودة إلى الخلافة الفاطميّة شَرط أنْ تتمّ مُبايعتي خليفة للعرب. جريدة الشرق الأوسط، عدد 9829 يوم 26 أكتوبر 2005.

*الكيالي، مصطفى. كتابة الموتى في الفكر الغربي. مجلة نزوى عدد52 /2009

*المسيري، عبد الوهاب. الإنسان والموت في الشعر العالمي. جريدة أخبار الأدب يوم 19/3/2006.

*مهدي، سامي. الموت وما بعد الموت في الشعر الجاهلي. القدس العربي 1/7/2009            

Vladimir Janklévitch, ((La mort)), Flammarion, 1977,*