تغور الكاتبة العراقية في شؤون الشيخوخة والحب الضائع في وطن مزقته الحروب المستمرة من خلال تناوب السرد بالضمير الثالث عن قصة حب بين امرأة ورجل بلغا الشيخوخة وسط الخراب العراقي الذي جعل الزوجة الحبيبة تغادر إلى المجهول وتتركه يحلم بخاطرها ورائحتها وحلم طرقها الباب.

إضمامة الترانيم

لمياء الآلوسي

أحبَّ صياح الديكة، والنافذة، والغرفة الضائعة في عتمة الليل ، وموسيقى الحب، لا يدري كيف يسير العمر معه، مع إن الشيخوخة لا تهمه كثيراً، لكن لا يمكنه نكران تراكم الهموم والتي بدأت تأكل لحمه، يبحث عن وقتهِ المهدر في أزقة عرف عريها، سكونها، وضجيجها. أزقة عرفت طفولته وشبابه، يتوكأ بصمتها على أبواب شيخوخته، وحيداً، مسكوناً بأصوات يألفها، أو يتخيل ألفتها فقد كانت ارتواءه، وصوته، دهشته ، وقراراته ، وعفته، وطيشه.
نباح الكلاب المعاشر وحدته كان جارحاً هذه الليلة. نباح يسمعهُ كل يوم، يجتاز النافذة ويملأ  الغرفة هو وضوء القمر الفضي، فتضج روحه المنشدّة سكون الليل.
المرأة في عمق قلبه، تحمل رعشات الرغبة في عروقها، صرخت بصوت أجش أعياه النواح والفقدان ومهانة الزمن. لم تفلت حنينها المشتعل في دقائق حياتها وأشواقها منساقة إلى آخر ما في العمر من رجاء. كانت تكدس البنات والأبناء صغاراً وكباراً في حفر أعدتها سلفا. لم يسعفها سوى شجاعتها رغم حزنها المقيم فيها أبدا. لم ينجدها أحدٌ، لم يقف معها في محنتها أحدٌ. الكل كان يهرب عندما يمر ظلها على التلال عبر كل الفجوات.

- أنا لا أبحث عن نفسي، بل عن الآخر المهمل، عن ذاتي المبهمة، دقائق عشق تبهرني، توتر مثير يحفزني إلى النقاء، أو حلم يلغي اغترابي عن ذاتي الجافلة أبدا.
العواطف المراقة كلمات، بحث عنها في أعماق روحه. في هدأة الغفوة المملة التي يعيشها، تعويذة الآمال المؤلمة،
- حياتي ليست رهاناً لأحد، محتجزاً ربما، أو متبوعاً بافتراضات لا معنى لها، موعوداً بالتغيير بعد خطوات قليلة، لكنها حياتي أنا، أنا وحدي المعني بها.

- سيكون لك عالمك الذي تريده، مهلا، أتريد تغيير القواعد؟ تتسكع طوال الوقت في مرايا القلب، تبحث عن تلك الشرفات التي تحاول أن تفتحها في أشد حالات الظلمة حلكة، لكنها نافذتك التي كنت تفتحها على كل الاحتمالات مهما كانت ضئيلة، كنت تراها بحجم فرحتها التي تجعلها منتشية بك، راغبة، غارقة حد الوله بكل ما يمكن أن يمنح، وأنت الذائب في عواطفك.
لن يتغير هذا الشعور مهما كانت تلك اللحظات المبتسرة، لكنه يقول لها، وهي تلح في السؤال، يضجر من وجودها الفتي، يشعرها بتسلطه على حياتها، لكن برضاها، ما الضرر في ذلك .
- أشعر أني لا اكبر أبدا رغم كل التغيرات الواضحة على الجسد فروحي الروح صافية رائقة.

- مهما يكن .. ولكن .. متى سيكون لك يوم لا تفزع به من صياح الديكة.
يجذبها إليه، يجلسها كالطفلة الصغيرة على ركبتيه، تحتمي في صدره، يشعر أنها لصيقة روحه، أنثى وديعة سكبت فيه وله عذب منهمر من وجودها، همسها. كانت خمرته المعتقة، تتلصص على حياتهما حراب بلون النار، هو يدرك أن هناك مئات الغربان تحلق وتحوم حول شرفتهما. غربان لم تتذوق لحمهما إلى هذه اللحظة، رغم نظرات التشفي التي ترمقهما بها.

مع إطلالة الفجر في تلك الليلة، وانعكاسات ضوئه الرائق على تلك البقعة الملغزة بالسحر/ الذعر/الظلمة/الألم/الخوف/القلق/الموت/الحماقة/الفشل/الأنانية/النخوة/النبل/التعصب/الطائفية/ /التحزب/القتل.
قطعة ارض صغيرة، صغيرة إلى درجة التلاشي، ربما لا ترى عبر ذلك الموغل في المكان، مع اندفاع الضوء الفضي المعتم للفجر، تنهمر معه آلاف الحكايات. 
الضوء يهبط أبيض مخلوط ببرتقالي شاحب، يهبط أكثر، يتهادى في تلك الأزقة الموحشة، الني أغلقت بسواتر من الحجارة، وجذوع النخيل، والأسلاك الشائكة، وإطارات السيارات، وبعض الخردة التي تعيق مرور العربات، لكنها لا تعيق الموت من التنزه في الأجساد، ينعكس على وجوه شباب الحي الشاحبة، وهم يتهامسون منهكين.
- من يمكنه العيش بهذا الشكل؟.
هم يلتحفون حراسة زمن لا يملكونه، قلقون، يتحلقون حول علم غدا لونه بلون الأرض المتربة. علمٌ ركزت ساريته في صفيحة ملئت بالحصى، يحملون أرواحهم المتدفقة باللامبالاة وشعارات أحزاب انبثقت من باطن التاريخ، مثقلين بالهم، يتحسسون قدوم المساء، والموت الرابض في الوجوه المتسربلة بالظلام، الخطر المتفاقم مع انقطاع الكهرباء، مجهدون، يقاومون الذعر، بحرق علب الكارتون، والصناديق الخشبية الفارغة لتنير المكان وتشيع الدفء في أجسادهم الفتية.
- لا تخطط لأي شيء، لا تعلن عن بقاءك متقداً، حولك كل الأشياء تشي بأنها ضدك، تراخت كل أجنحة الرحمة، وجن أولئك القادمون من الغمام، فلا تحكم الغفلة حولك.
إدراكه الوحيد والعصي على الفهم، أنه لا يمكن درء الموت، إلا برغبة ملحة في اقتطاف متعة صغيرة، مهما كانت الحياة ضيقة مضجرة، جزء من السعادة الصوفية، لكنها مشبعة برائحة الأرض.
يمتزج اللون البنفسجي الزاهي بلون البرتقال البهي، فتتفتح الحياة، يتنفس الحالمون آخر زفرات الألم الغريب، تصبح العتمة حلماً مزعجا مرَ منذ البارحة، تمد الأمهات رؤوسهن القلقة عبر فرجة الأبواب، يبحثن عن أجساد أولادهن المرهقة.
يدخل الضوء الذي غدا هفهافاً مشعاً.

 يخرجان معاً، هما فقط من يخترقان ذلك الزقاق الضيق، يتعالى عواء الكلاب في باحات البيوت المهجورة، يسيران معاً، ترافقه منهكة قليلا، تتلفت متوجسة، خائفة، ترشق الزقاق وبيوته، وأرصفته المهملة، أبواب البيوت الموصدة، النوافذ المسدلة الستائر.
تلهث وراء خطواته المتقاربة، شبحان يتأرجحان بتؤدة، متباطئين، فما زالت الطرق أمامهما، مقطعة تعيق وصولهما، إلى أين؟ هل يعلم احدهما إلى أين؟ .
(أتراهم يتذكرون هذه المرأة، يسامحون خوفها، وهروبها، ألا يجدر بها أن تركن إلى رفقتهم الموسومة على جلدها، على آخر شرايينها، في كل قطرة من روحها،)
مع توقف هدير المولدة في نهاية الشارع، يسود الصمت، يوقظ صوراً لا تفارقها، وكأن للضوضاء معنىً مؤنساً، يمنحها الوقت لتريح جسدها المتعب على أريكة الصالون، لكن إغفاءتها تلك تكون آخر اللحظات الآمنة، عندها يبدأ المأزق.
طوال الوقت تحلم بوصول رد على رسائلها الكثيرة التي أرسلتها إلى كل من تعرفهم في هذا الوطن وخارجه، لأول مرة تجد روحها خاوية، غارقة في زاوية الترقب والخشية.

ارتفع قرص الشمس، فتسللت أشعتها بين جدران البيوت، خلال أغصان الأشجار المتدلية على أسوار المنازل، ما زال يمشي أمامها مثقلاً، أصوات القاطنين يغرزها في الزقاق، لكنها تجرجر قدميها، وارتعاش الحنين يهزها منذ هذه اللحظة.
يتحمل وحدته هذه المرة، ينتظر معلقاً بأهداب سنواته، مذبوحاً بالخوف من أن لا يسمح له العمر بحمايتها، يحتضن يديها التي غدت ناحلة بين يديه، يقودها إلى كل مكان يذهب إليه، لكن الأماكن ما عادت تطمئنها، وحتى وجوده معها أصبح شاحبا.
من جديد يحلم بحماية الشاطئ المتموج كسحاب الربيع في عينيها، كترنيمة أم غافيةٍ على ذراع الليل، يتكور معها يحاول أن يكون العشق المسمى والمستور والمتدفق كحلاوة أيام العيد.
منذ زمن بعيد فقد الثقة بكل شيء، إلا من يقين ثابت في داخله، آمن به بصمت، أنهما بخير إلى هذه اللحظة فقط، رغم كل شيء، لا تزعزعه إلا تلك النظرة العجيبة التي تطالعه بها، كلما دوى انفجار، وكأنها تعاتبه على بقائهما تحت رحمة القدر.
مكبلان في مكانهما، لا يملكان إلا انتظار القسوة التي نمت بشكل مفجع على أرصفة الشوارع وبين عيون المارة.
كوابيسه تغادره والصمت يحمله على تأجيل مشاريعه في البحث عن وسيلة للخلاص من القنوط، كان من الممكن أن ينهض، ويترك البيت، وفراشه، وجلده، وأحلامه المؤجلة، لكنه يداري حزنه، وفشله في احتواء الوقت الذي يحاصره، ويظل محدودب الظهر، مشدوداً بألف حكاية، كلما دخل عليها تتلبسها ارتعاشه، يحسبها نفوراً، فتتحير أشواقه ، يقف مشدوها، خجلا من سيل وجده الذي يحمله لها، لكنه يدرك أن القلب المتألم يمكنه أن يكون قاسيا.

- أخشى عليها كثيراً من الارتطام بالأثاث، أتمنى لو أغفو عندما تغدو حركتها هفهافة كنسيم

كان يترك فراشه، مرتجفاً حينما يسمع حركة، كان موقنا أنها لن تعاود النوم إلى جواره، يتتبع شعاع مصباحها اليدوي، فيجدها في تلك الزاوية التي اختارتها وهي تقف في كامل أناقتها، تقف مولية ظهرها للوجود كله، لوجوده هو، منغمسة تماما في مناجاة شعاع تراه وحدها، تتربع أمامه خاشعة، تسترق السمع إلى تلك الأصوات المرتفعة في رأسها مع السكون.
يضع رأسها على صدره، يحيطها بين ذراعيه، يقبل شعرها السارح على كتفيها، يرتشف دمعها كله، يقبل شفتيها الباردتين، تجلس أمامه، ثم تضع رأسه في حجرها. تمسّد شعره الرمادي، حاجبيه، رموشه، تلامس شفتيه.
- كانت أمي تجلس طوال الليل حتى الفجر، تنتظر قدوم أخوتي من الجبهة، أي جبهة، لم أعد أعرف، وكم استمر ذلك، أيضا ما عدت اذكر..
كنت أتوسل إليها كي تريح جسدها قليلا لكنها كانت تهز رأسها، لا تبكي أبداً، هل تدرك ماذا يعني أن تكون عيون الأمهات قاحلة؟ إنها كالأرض التي تغادرها الأمطار إلى غير رجعة، كنت أدرك كم كانت تتعذب، تخشى أن تصحو ذات يوم وفي حضنها جثث الأحبة، كنت أخشى عليها من الجنون، ولكن خلال كل ذلك الزمن، كنت أتمنى أن تجن كي لا تشعر بالحزن.

يغرقان في صمت طويلٍ، لكنه يوقظ فرحها الدافئ .
- لو تعرفين كم افتقدك!.
تستفزها عباراته، تبتسم عينيها
- كلا لا اعرف.
- تعرفين كم اشتاق إلى همسك.
تضحك
- لا اعرف ذلك أيضا!.
- هل تأتين إلى غرفتنا يا مدللتي؟!.
- أنا هنا بين يديك!.
- لو فتحت الباب لتدفق ضوئك بقوة، عندها أنزع غلالتك فيتساقط شلال الشعر على كتفيك، فتتهافت خصلاته السوداء مترنحة سكرى.
- يمكننا أن ننتزع الخوف قليلا، علينا أن نؤمن بقدرتنا على ذلك.
فرح لكلامها، وحركاتها ، وصوتها، رغم الرعشة التعبة التي فيه، وحالة الأسى التي تغشاها، لكنها لحظات صحو قليلة يتمتع فيها بلونها الرائق وعينيها الصافيتين.
احتضنت وجهه الشاحب بين يديها قالت:
- علينا أن نترك هذه المدينة .
- إلى أين؟
- أي مكان آخر في الأرض، مدينة أخرى أكثر أماناً.
- كيف يتسنى لنا تدبر حياتنا هناك؟.
أسقطت يديها في حجرها، وضاعت منها الكلمات .

لم تتمكن من إطالة النظر في عينيه، أذهلته قامتها، بفستانها النيلي، وأزهاره الصغيرة، المتناثرة حول جسدها الذي غدا هزيلاً متعباً بسبب الأرق الليلي.
دون أن تقول له كلمة، زمّت شفتيها مخفية ألمها المضني.
قال: أخشى عليك من السفر وسط هذه الفوضى، قد يخطؤك الوقت، أو لا تجدي من يستقبلك.
قالت وهي تراوح في حمل حقيبتها وفي عينيها دموع تترقرق، أحس أنها من أجله هو.
وجهها كان أكثر شحوبا:
- لن أبقى هنا، ولندع قرارات الرب له وحده.
سنوات وحدته طويلة، والكلاب، الحي الذي أضحى شبه فارغ ممن يعرفهم، أو موبوء بحياة أخرى لا يعرفها، مهزوم من الداخل وسط غربته، رسالة واحدة منها تكفي لإلغاء حالة الهلع، التي تدفعه للتفكير بألف احتمال لما أصابها.

بين يقظته والحلم، سمع طرقا خفيفا على الباب الخارجي، ونباح الكلاب غدا أكثر إيلاماً لكنه في لحظة يقظته الممزوجة بالقلق، أقنع روحه بأنه غير معني بذلك كله.
أصوات البلابل على شجرة النارنج تأتي من نافذة الغرفة، تعانق الفجر الذي عاد من جديد.
خرج متلمسا طريقه وسط الضوء الشاحب، اجتاحته رائحة القداح، ممزوجا برائحة الخبز من المنازل المجاورة، صفق يدي أم محمد على قرص العجين وصوت ارتطام غطاء تنورها الغازي، مع رائحة الخبز الأثيرة، تبقى يداه ممدودتان إليها، وعيناه تترقبان قدومها، محملة بقوارير الغواية، الغربة المفرغة من الحنين، وهو المسروق من أروقة النور، خبير غدا بالألم والتشكي، لكن قطرات الندى تبقى ترجرج عشقه.
هذه المرة، قرر بشكل نهائي أن ينهي هذا الشغف، والوحدة التي تشغله بما خلف الأبواب الموصدة.
عندما فتح الباب الخارجي.
وجد امرأة متكورة على عتبة الباب، دثارها الأسود يخفي جسدها، ترمقه بنظرة أصابته برعشة باردة، لكنها اقتربت منه، ألجمته بطوق جلدي، قيض شجاعته، واحتماله، جعلته مشتتاً، تنتابه حالة من التلاشي وفمه مطبق، ونواجذه تنغرز في لسانه الذي تيبس، حاول أن يتمالك نفسه، انحنى ليلم يديها بين يديه، ليضم جسدها الناحل إلى صدره، لكنه عندما رفعها عن الأرض، أدرك أن الحد الفاصل بين جسدها وجسده أميال من الشك الذي غدا أقوى من إحساسه بجسدها الذي يضوع بطيب يعرفه.