اليوم كما بالأمس، كان هنا يجالس الناس ليروي حكاياته الجميع يتحمل انفعاله الزائد لكنه ظل هنا عاشقا للرحيل والتجوال وفي اللحظة التي يحن فيها إلى المدينة ودروبها وأمكنتها يركن سيارته بالمرآب ويغدو بعد ظهر يوم الحنين جيئة وذهاباً يخطو وبسرعة قاطعا الأزقة والدروب وكما بالأمس اختار اليوم التوقف على مشارق قبر جندي مجهول اختاروا دفنه على قارعة الطريق ولوقوفه طقس خاص يجعل الناظر يتمنى أن يعيش معه استرجاعه الخاص وداخل ذاكرته الخصبة المتقدة والتي لم تخنه قط كنا ندرك جميعا نحن مريديه أنها تمده بأدق التفاصيل حتى في لحظات حكيه المسترسل جميع جولاته كانت تنطلق من محطة الحافلة رقم سبعة وتنتهي به جالسا على كرسي المحطة الرئيسية يترقب وصول الحافلة التي ستقله إلى بيته خارج المدينة لدا كان يحرص على عدم إنهاك سيارته القديمة إذ تشكل له قارب نجاة يحمله لأمكنته الحالمة..كلما حن الفؤاد جلس على الكرسي يرقب من بعيد حيطان الكنيسة المقابلة لجهة جلوسه أما المرأة العجوز المتسولة فإنها تغادر مكانها المعتاد على الساعة السابعة وخمس وأربعين دقيقة أي أن خمسة دقائق تفصله عن لحظة وصول حافلته التي ستقله إلى المنزل ولأن الزمن امتداد فيه، فبالأمس كما اليوم كان يركض خلف براءة سنه متخطيا الأزقة لازال رأسه حاملا لأثار حلاقة اليوم الأربعين من عمره كان العرف والحوش والزريبة والذاكرة المتقدة لهذه التفاصيل الغرة والتي تشكل دائما ترياق جلسة شرب الشاي حينما تكون رغبته الكبرى في تنويم ثورته الزائدة وغضبه الكبير ولأن استرجاعه عتبة خاصة فقد كان يبدأ حكيه بأنا "لم أفارق ثدي أمي إلا بعد سن الخامسة" يقولها بمباهاة ويزيد من تلقاء نفسه بحثا وتنقيبا في التفاصيل لدا كانت اللحظة، لحظة ولوجه الثكنة بطعم خاص.." في اليوم الثاني من ولوجي الثكنة العسكرية وبعدما اختارتني أحد لجنها كمتطوع من المتطوعين في "لالجيون إترانجير" اكتشفت رجولتي الحقة ولأن العبور والرحيل تفاصيل أشد إيلاما ومرة للحد الذي يجعله يفكر في الهنالك حيث ازداد فراش زوجته الألمانية الأصل والفرنسية الجنسية باثني عشر مولودا في مرحلة زمنية قصيرة هو "الأنديجين" ..
لا زال اسمي محمد بن بوشعيب جندي فرنسي حاصل على وسام الشرف، الهارب من بلدته حيث لا زالت صرخة الأطلس المدوية تهز أركانه ..
في صمته هدوء غريب، بالأمس كانت الأيدي تتقاذف تابوتا، نعش محمول أمام مسجد مدينة "كان" الفرنسية النعش يثير لديه أسئلة الولادة والموت كيف يمسي الجسد كالريشة محمولا وسط هذا القداس بين دفتي الخشب "لويزا" و"فاطمة" والبقية من الأولاد جميعهم يحملون وصيته الشفوية لحظة علاجه بالمستشفى الجامعي للمدينة وصيته التي هي الآن محطة لنقاش وتداول بين الألسن ولأنه تعود ترديد القسم بالشكل الذي أملي عليه فقد كان يسرد قسمه بلغة فرنسية تتبع إيقاعا لا يجعله يدرك كنهه ولا معانيه ..
الأوامر لا تناقش سأحملها معي إلى القبر ..
في مثواه الأخير الذي رآه بأم عينيه كانت تستريح روحه من معاناة أبدية وأنا هنا الآن أراه راقدا كما هو وكأمثاله من العديدين الذين ساقوهم صنف لفحل من الثيران الآدمية وصورته كصورة علي ابن بلدة الأوراس الذي شاءت ظروفه أن يزور أرضا شبيهة بموطنه، وقف أمام بائع الحمص المسلوق "طايب هاري" اشترى كفايته تحرك بخطوتين وسالت دموعه أجهش بالبكاء حاولنا إسكاته بالمواساة وكالطائر الجريح حرك شفتيه ..
هو آخر ما أكلت ببلادي منذ أكثر من خمسين عاما يوم هربت من قريتي بالجنوب قاصدا العاصمة دون سروال ، بفوقيتي فقط حافي القدمين وجدت باخرة راسية بميناء العاصمة سرقت قليلا من الحمص المسلوق تسللت للباخرة نمت تاركا الحمص المسلوق في جيب فوقيتي، حين وصلت الباخرة لميناء مارسيليا، تحول الحمص المسلوق إلى درر سوداء شبيهة بقلبي..
كلاهما ينام في قبره تاركين للويزا وفاطمة والآخرين حق تقرير سلوك الزيارة، قبر مجهول لمن عبروا اتجاه أرض أخرى كي يحررونها ليست أرضهم لكنهم حرروها ، الآن وبالأمس دون أن تكون لهم الفرصة سانحة كي يعيدوا للحكايات تفاصيلها المرة تلك التفاصيل التي لا زالت أعيد تخطيطها عبثا دون جدوى ، هنا أمام قبري المجهول.