مازال تراثنا يطاردنا بدلاً من أن يمشي خلفنا، ويحكمنا بدلاً من أن يعيننا علي الحكم، كنت ذات ليلة قديمة أسهر في مقهى الفيشاوي مع الشاعر أدونيس والصحفي أحمد أبوكف، ومصادفة مر علينا شاعر لبناني صديق، وجلس وتكلم وأصغينا وأحسنا الإصغاء، قال لنا بعض الكلام الشائع الذي نعرفه، قال: الرواية مستقرها ومجراها في مصر، لأن أهل مصر أهل فلاحة وزراعة وري وحصاد، وأصحاب حنين وحنو على الأرض، والرواية عميقة الصلة بهواجس الإقامة الدائمة والعيش الطويل، والشعر مستقره ومجراه في الشام والعراق، ولم يعلل، كأن الأمر بداهة، كأنه منظر طبيعي، والفكر بعثه وقيامته في المغرب، لأن بلاد المغرب بلاد أطراف وروابط، متاخمة لاسبانيا والبرتغال وفرنسا، وموصولة بمفكريها، تقرأ لهم وتنقل عنهم وتتأثر بهم، والفكر أكثر قدرة على السفر والترحال من غريمية الشعر والرواية، ولما عدت آخر الليل إلى غرفتي، لم أنم قبل التفتيش عن كتاب يتيمة الدهر لأبي منصور الثعالبي، الذي أرخ للشعر العربي في القرن الرابع الهجري وصدر القرن الخامس، وعندما عثرت عليه فتحته على الصفحة التي يقول فيها محاولاً أن يخفي عصبيته وراء ستار من العلل والأسباب، يقول الثعالبي: "لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق ومايجاورها في الجاهلية والإسلام، والسبب في تبريز القوم قديماً وحديثاً على من سواهم في الشعر، قربهم من خطط العرب ولاسيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق لمجاورة الفرس والنبط، ومداخلتهم إياها". انتهى كلام الثعالبي.
أغلقت الكتاب، وتأكدت أن عصيبة صاحبه هي ذاتها عصبية الشاعر اللبناني الصديق، وعصبية كثيرين غيره، وحاولت الانتصار عليها، فتذكرت أن الثعالبي كان معاصراً للمتنبي، ومفتوناً به، وأن وجود المتنبي في الشام كاف لتبريز المكان الذي نشأ فيه وترجيحه، دون أن تدفعه العصبية، ولو أن ثعالبي أيامنا فاضل بين الأماكن، لربما اختار الشام أيضاً، ففيها نشأ نزار قباني وأدونيس ومحمد الماغوط، دون حاجة إلى عصبية تؤيده، وربما نغص عليه ونازعه مكان وحيد آخر هو العراق كما نغص على الثعالبي القديم، ومع ذلك حاولت الانتصار على العصبية، فتذكرت أنني في كل مرة ذهبت فيها إلى المغرب، شعرت كأنني ذاهب إلى محمد بنيس وحده، في مدينة الدار البيضاء كنت أراه وأرى المحيط وأرى الشمس وأرى ظلي، ولما انصرفت معه إلى المحمدية، أحسست بظله يتسع ويحمي ظلي، وفي الرباط كان شفيعي ونصيري ومؤازري، عند زيارتي الأولى للمغرب، التفتنا نحن -حلمي سالم وأنا- إلى ذلك التنافس المحموم والناشع كالعرق من أجساد شعراء الأجيال المغربية التالية على محمد، والواصل إلى حد إنكاره، وإنكار دوره، وإغفال أهميته، والتفتنا نحن، إلى التفاف هؤلاء حولنا، حلمي وأنا، واحتفائهم بنا، فوقفنا على حقيقة كانت مثل الفريضة الغائبة، مع أنها تتكرر في كل العواصم، حقيقة تنص على أن شعراء الأجيال التالية في وطنك يجفونك ويجافونك وينصرون عليك شعراء جيلك في الأوطان النائية، يصارعونك على المكان المشترك آملين أن يصرعوك بزملائك في الأماكن الأخرى، وأدركنا أن هذه الفريضة الغائبة هكذا تحدث في كازابلانكا، هكذا في القاهرة، وفي دمشق، وفي المنامة، وهكذا في بيروت، وحظ محمد بنيس منها يشبه حظوظ قاسم حداد ونزيه أبوعفش ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع سالم وأنا، وآخرين سوانا، وفكرنا كي نتصالح مع أنفسنا ومع التالين علينا، أن هذه البغضاء ليست بغضاء المحو، كذلك غبارها، ولكنهما معاً يعملان لتأكيد الوجود.
كان محمد كما رأيناه بعيوننا كثيف الوجود في المدن التي قصدناها وذهبنا إليها، لأنه مثير لغبار الذين يريدون أن يتحرروا من كثافة حضوره، الذين يحلمون بتجلية حضورهم، ويظنونه مشروطاً بغيابه، لكنني وياللتعاسة تذكرت ثانية عصبية الثعالبي، وعصبية خليفته الشاعر اللبناني الصديق، وحاولت ثانية الانتصار عليها، فرأيتني في القاهرة ومعي محمد بنيس وآخرون بينهم أحياناً محمد سليمان وسعيد الكفراوي وعبداللطيف اللعبي وبهجت عثمان، رأيت كيف ذهبنا إلى الهرم مرتين، في زيارتين متباعدتين، إحداهما تمت في غبش الفجر، حيث صار محمد بنيس مثل أمير مغربي تائه تحت الغبش، وفي مشهد آخر صار مثل حطاب تطارده الأشجار الواقفة، والثانية كانت في الظهيرة، أثناءها جادلته وزعمت أن للهرم ثلاثة وجوه، فجادلني وأكد أن للهرم أربعة، ثم حاولنا الدخول إلى قلب الهرم من فتحته العارية، بغية الصعود إلى أعلى، لكننا بعد ارتقاء درجات قليلة أجبرتنا على الانحناء، انقطعت أنفاسنا، فتراجعنا وعرفنا أنه ليس لشاعر ولا لنبي الحق في الصعود على أكتاف هرم.
في تلك الزيارات الأولى حدثنا محمد عن رسالته العلمية المعقودة حول الشعر العربي المعاصر، والتي جزؤها الأول عن التقليدية، والثاني عن الرومانسية، والثالث عن الشعر المعاصر، وهناك جزء رابع، لعله الجزء الرخو جداً، أو الجزء المشدود جداً، كنت أنا ونفر من زملائي مستغربين بسبب أسماء الشعراء المختارين لتمثيل أطواره الثلاثة، عمد محمد أن يختار لكل طور أربعة شعراء، أحدهم مغربي، في التقليدية اختار البارودي وأحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري ومحمد بن ابراهيم، وفي الرومانسية كانوا هكذا خليل مطران وجبران خليل جبران وأبوالقاسم الشابي وعبدالكريم بن ثابت، وفي الشعر المعاصر بدر شاكر السياب وأدونيس ومحمود درويش ومحمد الخمار الكنوني، أظن أننا أغتظنا لأن محمد ملأ دبر التقليدية بالمصريين وحشر شاعرين، ثم حرم المصريين من الوجود في الرومانسية، والمعاصرة، خاصة أننا لم نعتبر خليل مطران لبنانياً مصرياً، اعتبرناه لبنانياً فقط، مازلت أنا وهؤلاء النفر نظن أن الانجاز المصري في إلا رومانسية لايعادله في الرتبة والمقام الرومانسية المهجر، وأن مقام صلاح عبدالصبور من حيث الرؤيا والتأسيس قد يفوق، بل يفوق مقام آخرين اختارهم في طور الشعر المعاصر، ربما بسبب تقدمهم في الصنعة والتجويد دون التأسيس والرؤيا، وهكذا، وتحت مظلة هذا الكتاب الرسالة، وبدلاً من أن أنتصر على العصبية، وجدتني أستعيد ما كتبه ابن خلدون في مقدمته، عن أثر مناخ مصر على أهلها، قال عبدالرحمن: "كيف غلب الفرح عليهم والخفة والغفلة من العواقب، حتى أنهم لايدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة مآكلهم من أسواقهم" واستعدت أيضاً ما كتبه عن أثر برودة فاس على أهل فاس، قال عبدالرحمن: "كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب، حتى أن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة، ويباكر الاسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره".
ومحمد بنيس فاسي له طباع، فتشت في طباعة عما ذكره ابن خلدون فوجدته فاسياً من طراز فريد، وَلِيَ التدريس بمدينة الرباط، وأتقن إلى جانب لغته العربية، لغة أعجمية أخرى على الأقل، وألم بأطراف ثالثة، وزار الأزمنة الأولى والأمكنة الأولى، وترك أنفاسه على الجدران، وابن خلدون اشبيلي الأصل، تونسي، وَلِيَ كتابة السر بمدينة فاس، وتنقلت به الأحوال، ورجع إلى تونس، ثم فر إلى الشرق، وولي قضاء المالكية بالقاهرة، وتوفي بها، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر، الاثنان التونسي ابن خلدون، والفاسي محمد بنيس، تآمرا دون قصد على قلبي، وامتلكاه، ومكرمة ابن خلدون تغمرني بعد أن تسيل من مقدمته، كأنها مياه نهر قديم، ومكارم محمد تغمرني، وتلبي أحياناً احتياجاتي دون أن أطلبها، السخي أدنى مرتبة من الكريم، لأن السخي يعطي سائله الذي طالبه بالعطاء، أما الكريم فيعطي دون طلب، ومحمد يتمتع بأنه يعطي ككريم، كنت بعدما قرأت ترجمات الشعر الفرنسي المختلفة والعديدة، كنت أشعر بالحاجة إلى قراءة شاعرين أغفل المترجمون تقديمهما تقديماً وافياً، وهكذا ظللت أطلب شعر بول ڤيرلين، هل هناك ترجمة رديئة صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة، لا أذكر، المهم أنني ظللت أطلبه ولا أجده، وأيضاً ظللت أطلب شعر ستيفان مالارميه دون رد حتي فعلها بنيس، فعلها برمية نرد وبطبعة باذخة وقراءات وافية أفراد النخبة المتكلمة الذين سوف ينصرفون عما أطلبه وكأنه عارض مرض، هم أنفسهم من يعترضون على الشعر المغربي والمغاربي انسجاماً مع أفكار سائدة.
في كل مرة جلست فيها أمام شعر محمد أو شعر غيره من مواطنيه، تخيلت أننا نقرأ بأجهزة استقبال غير مضبوطة على أجهزة الإرسال المغربية، فتأتي قراءاتنا مشوشة، ومحرومة من نعمتي التذوق والعدالة، دون أن نكتشف أنها مشوشة ومحرومة، تخيلت أننا في المشرق نقرأ بوجدان معصوب، نقرأ مثل ثيران أو مثل أسرى، ومنذ زمان قديم واعتياداتنا اللغوية المألوفة في المشرق، مألوفة أيضاً في المغرب، غير أن الاعتيادات اللغوية المغربية مازالت غريبة على المشارقة وغير مألوفة لديهم، ومازال المشارقة غير حريصين على التعرف العميق عليها، مما يجعل بوصلة التلقي مهزوزة كأنها شبه عاطلة، فنحكم على ما نقرأه من الآداب المغربية أحكاماً جائرة، مادامت قراءة الأدب ومعاينة الفن لاتستغنيان عن الألفة والخبرة، واختلاف الاعتيادات اللغوية وعدم إدراك ذلك الاختلاف فقدان للخبرة، وتفريط في الالفة، وخروج على التعاطف وكلها شروط أساسية للقراءة الجمالية، بتصور البعض ومنهم محمد بنيس نفسه، أن الشعر المغربي المكتوب بالفرنسية له أهمية تاريخية كبيرة من حيث كونه وعياً تاريخياً لفئة من الشعراء الذين تلقوا تعليمهم في شروط استعمارية، أو راجعة لمخلفات الاستعمار الجديد، وقد حقق هذا الشعر على يد أصحابه المعروفين تطوراً خلاقاً، لم تستطع الممارسة الشعرية باللغة العربية الفصحى أن تصل إليه، ويتصور البعض ومنهم محمد بنيس نفسه أن تأخر ظهور القصيدة المعاصرة بالمغرب عنها في المشرق، قد عمق الإحساس بالتأخر المغاربة والمشارقة معاً، أقول قد عمق الإحساس بالتأر تجاه المشرق، وأصبحت معه القصيدة في المشرق العربي هي القصيدة الأصل، القصيدة النموذج التي يجب أن يقاس عليها كل نص شعري مغربي، بلغة أخرى ظلت القصيدة المشرقية في المخيال المغاربي شاغلة لمكانها باعتبارها التحفة الفنية أو الأيقونة أو الوثن أو الأب الحاضر، وعانى الشاعر المغربي، وعانى قراؤه، وعاين معهما الشعر المغربي من الفكرتين الباردتين، تأخر ظهور القصيدة المعاصرة المغربية، والارتباط غير المتكافىء بالشعر المعاصر في الشرق العربي، وفي أحيان كثيرة أصبحت الظاهرة الشعرية المغربية المعاصرة تحسب، وتحب أن تحسب أنها مجرد تكرار لما أنجزه ثم سقط فيه شعراء المشرق المعاصرون، وعلى الرغم من التماسك الظاهر لتلك التصورات، إلا أنني مازلت أميل إلى أن تفضيل الاداب المغاربية المكتوبة بالفرنسية على نظيرتها المكتوبة بالعربية هو تفضيل استشراقي أحياناً، ينسجم مع كوننا أسرى التقدير البالغ لمركزية الغرب، ومع كون هذه الآداب المغتربة تعود إلينا غالباً عبر ترجمات مشرقية أي تكتسب مبررين لتفضيلها وربما ثلاثة مبررات، أولها مركزية اللغة الفرنسية بما تمتلكه من الحريات المفترضة والمأمولة، وثانيها الأخذ بفكرة أن الأدب الفرنسي أكثر تقدماً من نظيره العربي، وأن حفاوة النقاد الفرنسيين بما يكتبه المغاربة في لغتهم الفرنسية لابد أن تساوي تقدماً يجاري تقدم الأدب الفرنسي على نظيره حتى ولو كانت الحفاوة تهليلة استشراق وفضول، وثالثها عودة نصوصنا المغتربة إلى لغتنا عن طريق اعتياداتنا اللغوية المشرقية، في أحد دواوينه عصر محمد بنيس الخط العربي بأشكاله حتى خرج منها بالخط المغربي الذي به يناهض ويستحضر مواسم الشرق، وعصر الأشكال الطبوغرافية حتى خرج منها بشكل دائري يناسب طبعه في رفض الاستقامة اللغوية، ودرس على يدي عبدالكبير الخطيبي، العلامة الذي نجهل ما يعرفه، فنجهل ما نعرفه وكذا في الفصل الأخير من مقدمة ابن خلدون، يمكن أن نستل من احدى فقراته ما يصح أن يصبح عصا الراعي، عصاه القديمة، يقول عبدالرحمن: "واعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة انما تحصل لمن خالط تلك اللغة، وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية، فلا الأندلسي شعر بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب ولا المغربي شعر بالبلاغة التي في شعر أهل الاندلس والمشرق، ولا المشرقي شعر بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب، لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم، وكل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته وذائق محاسن الشعر من أهل بلدته". مشيت مع ابن خلدون ومحمد نيس في شوارع الوديڤ بالجنوب الفرنسي، ولما آثر ابن خلدون العزلة وانسحب رايت محمد بنيس يتحمس عندما قابل شاعرتين مصريتين، وأمامهما أعلن عن رغبته في الاعداد لمهرجان شعر نسوي تدعيان إليه، وبعد أن سمعهما تقرآن قصائدهما لم يكرر اقتراحه، وتقاليد لوديڤ تفترض اشتراك شعراء دولتين في قراءة شعرية لا تتجاوز الساعة، وكانت مصر ولبنان شريكتين، أربعة شعراء من مصر منهما الشاعرتان، وشاعران من لبنان هما صلاح ستيتيه وڤينوس خوري غاتا، الذي حدث أن احدى الشاعرتين المصريتين استهلت القراءة واستغرقت وحدها أربعين دقيقة وأن الثانية استغرقت ما يقارب ربع الساعة، ولما نودي على ڤينوس خوري غاتا اعتذرت غاضبة، ولما نودي على صلاح ستيتيه، صعد وأهدى وقته للجميلة التي استهلت القراءات، فأجهشت الجميلة بالبكاء كأنها ضحية، وقيل كأنها قربان، بعد الندوة اعتذرت لڤينوس وستيتيه عن سلوك الشاعرتين، فراجعني محمد بنيس، وهتف: لماذا تعتذر، ليس لأنك مصري وهما مصريتان تصبح شريكاً لهما في الذنب، أنت مسئول فقط عما تفعله". تخيلت محمد بنيس على هيئة حكيم لا يقع في أسر الشعور القومي الساذج، على هيئة حكيم يتنزه في حدائق روحه، عند ذاك ساورتني نفسي وخايلتني، وفكرت أن أكشف عن مخبوئي، الأصح أن اكشف عن بعض مخبوئي، قلت له: يامحمد، بمناسبة الشاعرتين، يتكون لدي إحساس ينمو مع الوقت ويطغي ويطفو، سألني: ماذا تقصد؟، قلت: يا محمد أحس أن قصيدة النثر التي يكتبها شباب الشعراء في بلادي وكأنها أدني دائما من مثيلاتها في كل الأماكن الأخري، من مثيلاتها في المغرب أيضا، وفي اليمن الخ الخ، وأرد هذا إلى أسباب ثلاثة كبيرة، وجيش عرمرم من الأسباب الصغيرة، وأسهبت في الشرح، ثم تنهدت ونظرت إليه، لا أذكر ماذا قال، يبدو أنه اكتفى بتحريك رأسه وهزها، ثم أمسك يدي وقال: أخي وحبيبي، مشيت مع ابن خلدون ومحمد بنيس في شوارع القاهرة، ولما آثر ابن خلدون العزلة وانسحب، انضم إلينا حلمي سالم وفي سيارة عبلة الرويني، انفجرت حناجرنا نحن الثلاثة محمد وحلمي وأنا، وأنشدنا بأصوات مشروخة أغاني عبدالحليم حافظ، كانت عبلة تضحك منا وعلينا، ولكنها كانت تضحك جذلانة، وكان بنيس أكثرنا حماسة، وحلمي أكثرنا استطرابا، وأمامنا كان الزمن المفقود هو الأكثر حضوراً، ولما حضرت مع محمد بنيس إحدى قراءاته الشعرية بالمسرح الصغير، وتصادف أن شريكه المصري في القراءة كان أحد هؤلاء الشعراء المشهورين بالقدرة على التهييج، لم أصدق أنه سيحزن هكذا، لمست حزنه العميق، ولمست يقينه بأنه مصاب بأمل لاشفاء منه، لذلك أرجوكم جربوا أن تقرأوا قصائد بنيس التي اختارها بنفسه، جربوا أن تقرأوها وأنتم تدركون أن العائق الدائم بين البعض وبينه ينصرف إلى إصرار هؤلاء علي الاعتيادات اللغوية المشرقية، جربوا أن تقرأوه وانتم أحرار، وأنتم جوعى إلى الحلم، وأنتم فقراء، ولاتخجلوا اذا أعطاكم قلبه، قبلوا قلبه والتهموه لأنه قلب نبيل، قلب شجاع، واذا اعطاكم أصابعه تشبثوا بها، واغرقوا معه اذا غرق، فالبحار العميقة التي يغطس فيها بحار حفرها الصوفيون ويحرسها الضائعون، يحرسونها في كل وقت، أمس اليوم وغدا.