يرى الباحث المغربي في كتابة محمد زهير المغايرة مقاربة للذات، فهي محكيات استرجاعية أوتوبيوغرافية تخييلية، يتزود فيها الراوي بضمير المتكلم ليقتحم فضاء حساساً في التجربة الأكثر سرية وحميمية، في الآن الذي يلثم فعله السارد بقناع الأنا الآخر وبأجواء الغرابة.

أصوات الهوية المضاعفة في قصص محمد زهير

حسن المودن

             «فالكتابة نداء من الأعماق، وليس مجرد عقد كلام»(ص 77).

             «أنا لم أقرأ الشعر... الشعر هو الذي قرأني..»(ص91).

 

بدأ محمد زهير الكتابة القصصية منذ عقود غير قليلة، ونصوصه القصصية متفرقة بين العديد من المجلات والصحف، أصدر بعضها مؤخراً في مجموعة قصصية تحت عنوان "أصوات لم أسمعها"(1). وانطلاقاً من هذا العنوان، يمكن أن نتقدم ببعض الملاحظات والفرضيات:

يبدو من خلال العنوان أن لضمير المتكلم مكانة مركزية في نصوص المجموعة، وبما أن الأمر يتعلق بقصص، فلذلك نفترض أننا أمام محكيات أوتوبيوغرافية تخييلية، ونعني بذلك أننا أمام محكيات استرجاعية استذكارية تركز على الحياة الفردية للراوي، فالأنا هنا لا تحيل إلا على هوية الراوي في عمل إبداعي تخييلي(2). وانطلاقاً من العنوان، يبدو أن الأنا تتحدد من خلال علاقتها بأشياء أخرى (أنا/ أصوات)، بشكل يجعلنا نفترض أن قصص محمد زهير لن تحدثنا عن الأنا على طريقة الأتوبيوغرافيات التقليدية، بل هي ستحدثنا عن آخر الأنا، فالأنا هي آخر(3)، أي أن الذاتية لا تتحدد إلا من خلال الغيرية، أي من خلال الأصوات التي تسكنها، الأصوات التي سمعها الراوي والتي لم يسمعها.

وبما أن الأنا هي الآخر، أو هي مثل الآخر، فلذلك لا يمكننا أن نكون أمام محكيات أوتوبيوغرافية تقريرية تحقيقية قدر ما سنجد أنفسنا أمام محكيات شعرية، ذلك لأنه في افتراضنا لا يمكن استجلاء صور تلك الأنا الأخرى إلا من خلال التشبيهات والاستعارات والرموز والمرايا والتضعيفات التخييلية. وحتى المحكيات البيوغرافية التي لها مكان أيضاً داخل هذه المجموعة القصصية، يمكن اعتبارها مرايا تحاول أن تصور الأنا من خلال الهو، أي من خلال القرين والضعف والرديف.

ومن خلال هذه الملاحظات الأولية، يمكن أن نفترض أن المحكي الأوتوبيوغرافي التخييلي في هذه القصص لا يرمي الى بناء صورة مطابقة منسجمة للأنا كما في الأوتوبيوغرافيات التقليدية، بل على العكس تماماً، فنحن أمام محكي يحاول تصوير ما في هوية الأنا من غرابة مقلقة، بالمعنى الفرويدي(4): شخوص غريبة غير عائلية هي التي ظلت حاضرة في أعماق الروح من ذلك الزمن البعيد الى اليوم؟ أصوات من الزمن الماضي لم تسمعها الأنا إلا في الوقت الحاضر بعد فوات الأوان؟

1- يحدث كل شيء في قصص محمد زهير كأن الانسان، كما يقول بول ريكور، لا ينفذ الى أعماقه الخاصة إلا عبر الطريق الملكي للمماثلة والمشابهة، ففي الوقت نفسه نجد معجماً تكثيفياً من أجل كتابة الذات، وبلاغة للهوية تنكشف من خلال الرمز والتشبيه والاستعارة(5).

ويبدو كأنما هناك هوية لا يمكن بلوغها إلا ببناء صور ومرايا استعارية ورمزية للذات. فأول ملاحظة تستوقف القارئ هي هذه التشابيه الوافرة التي تزخر بها النصوص، كأنما لا يمكن أخذ فكرة عن الأنا أو بناء صورة عنها إلا من خلال تشبيهها بشيء آخر، كأنما الذات لا تتحدد إلا من خلال شيء آخر، كما يتضح ذلك من خلال هذه الأمثلة:

-      "وأنا كالمجنون الذي يريد ملء خابية مثقوبة"(ص88).

-      "كأنني كائن خرافي يبحث عن اسمه المخبأ في نداوة الروح"(ص 93).

-      "عدت طائراً أبيض يخفي عن لفح الشمس جناحيه الشمعيين"(ص 104).

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فلا يمكن للصورة أن تكتمل اذا لم نأخذ بعين الاعتبار هذا العدد الوافر من الاستعارات والرموز التي تتكرر في أكثر من نص (الشمس، البرد، النار، الماء، الريح، الرماد...)، وهذا العدد اللافت من الاستعارات المرئية، إلى حدّ يمكن معه اعتبار القصة الأولى من المجموعة نصاً استعارياً في كليته، يبدو كأنه يصف أشياء تقع في العالم الخارجي، لكنه في الواقع يصف هذا الذي يتراءى للذات وله علاقة وثيقة بدواخلها، دون انفصال عما يحدث فعلاً في الخارج. ولنتأمل، مثلاً، كيف تتراءى لوحة الرسم للرائي:

-      "لكنني تقدمت حتى واجهت اللوحة مباشرة، فاذا بها فارغة كصحراء قاحلة، مساحة قماش صلعاء على مسند أصم، وأوعية الأصباغ مسجاة على الأرض تحتها كالأصابع المقطوعة. فراغ مهول في اللوحة، ووحشة متعرشة في القلب، كالوحشة التي تنتاب غبّ انطفاء طقس باذخ.."(ص16).

وهكذا، تبدو المحكيات الاستعارية، في قصص محمد زهير، كأنها من أنجع المناهج السردية التي تسمح بالوصول إلى المناطق الأكثر عمقاً في العالم النفسي، وخاصة عندما يستعين هذا المحكي بالاستعارات المرئية الداخلية، ويتضح ذلك أكثر في القصة الأولى من المجموعة، قصد إبراز ما تسمّيه دوريت كوهن "لحظات الرؤية"(6).

ولن تكتمل الصورة اذا لم نأخذ بعين الاعتبار قرين الأنا وضعفها ورديفها، اذ يمكن اعتبار الكثير من الشخوص مرايا من خلالها تكتب الذات ذاتها(يوسف الطيفي، ابن زريق، ايكاروس، فاضل المطري...). ففي قصة "أنوار الشموس" لا يمكن النظر إلى شيء ما إلا من خلال رؤى مختلفة وبواسطة أصوات متعددة، ولا يمكن "للمخطوط"، كأحد موضوعات هذه القصة الأساس، إلا أن يكون بهوية مضاعفة: "سرب إلى المنسوخ ما في ذاته، فكتب عن ذاته بين مسارب مكتوب الرملي...، مازج ذاته بذات الرملي...، مازج الكتابة بالكتابة"(ص76). والأمر كما هو واضح هنا لا يهمّ الذات فحسب، بل إنه يعني الكتابة أيضاً، وهو ما يسمح لنا بأن نفترض بأن الكتابة عند محمد زهير لم تعد سجينة الشروط الجمالية التقليدية (وحدة الذات، وحدة النص..)، بل إنها تنتسب إلى هذا النوع من الكتابة الذي يقوم على مبدأ الازدواج والتضعيف والتعدد، فالكتابة لا يمكن أن تكون إلا كتابة على كتابة، وقراءة على قراءة.

ويكفي أن نستحضر قصة أخرى، كقصة "ألوان الطيف"، حجة على هذا النوع من الكتابة: في هذه القصة، قد لا نؤلف فكرة عن الحكاية العائلية للأنا إلا من جهتين: من جهة أننا أمام حكاية عائلية استعارية، والاستعارة هي التي تمنح الحكاية أكثر من وجه وأكثر من معنى، ومن جهة أننا أمام حكاية محكية من منظورات متعددة، أبطالها ورواتها هم: الشمس والبحر وعباد الشمس، هذا الأخير، الابن الذي يرى صورته المضاعفة في الشمس، الأم، هذه التي تنام كل مساء في حضن البحر، الأب...

ومن خلال هذه الأمثلة، وغيرها كثير، يمكن أن نفترض أننا أمام محكي شعري بوليفوني، لا يسمح بالنفاذ إلى البنيات التحتية للذاتية إلا من خلال التشبيهات والاستعارات، ولا يكشف النقاب عن ذات تبحث عن ذاتها إلا من خلال المرايا والانعكاسات والتضعيفات التخييلية، ولا يتحدث عن شيء ما إلا من منظورات مختلفة وبأصوات متعددة، بالشكل الذي يكشف قلقاً وغرابة في الهوية التي لا يمكن تحديدها إلا بتشبيهها بشيء اخر، أي بتحريك حوافز المخيلة لتبدع المعادلات الجمالية لما يساكن الذات.

وبعبارة أخرى، مع نصوص محمد زهير، نكتشف إلى أيّ حد تتضاعف الهوية من أجل أن تنجح في اسماع تلك الروح الرثائية المؤثرة التي تعود بنا إلى تلك الطبيعة التي لا تزال وحدها البريئة، بل هي وحدها التي تعود بنا إلى البراءة الأولى، هذه التي تعتبر، بالنسبة إلى الأرواح الطيبة، "طبيعة مفقودة"(7). وتلك "الطبيعة المفقودة" هي التي سنحاول أن نلامس بعض ملامحها من خلال حكايات "مترعة بشجو الفقدان"، لكنها تبقى "روحاً أبدية حيّة".

2- تستحضر الكتابة عند محمد زهير أوقاتاً قديمة بحثاً عن آثار ماض اختفى وطاله المحو، بحيث يبدو الأمر كأنما شيئاً لم يعرف كماله واكتماله، وهو يطارد، في ألم ومعاناة، أوقات الحاضر. ففي آخر قصة: "أصوات لم أسمعها" (وعنوان هذه القصة هو عنوان المجموعة، ولابد أن لذلك دلالة)، نجد الأمر يتعلق بأصوات لم تسمعها الأنا، إلا بعد فوات الأوان: هي أصوات من الماضي البعيد، لم تحسن الأنا سماعها في حينها، ولم تسمعها بالطريقة الملائمة، إلا في الوقت الحاضر، فجاء الاستماع متأخراً بعد أن لم يعد ممكناً استعادة ذلك الزمن، ولم يعد ممكناً أن يعود ذلك الحوار، ذلك الحب، تلك الحياة.

كان الراوي شاباً يشتغل معلماً بالقرية، ولكنه مشدود إلى إغواء المدينة التي كبر فيها ويحلم بالانتقال إليها، فكان يختصر الزمن في العطل، حيث يعود إلى المدينة، فيجري وراء الرغبات والأوهام، وتنتهي العطلة فيعود إلى القرية برغبة العودة الى المدينة، "ذاهلاً عن سموق الشجر في القرية، واخضراره، وجريان الماء وصفائه، وانفتاح الطبيعة، وأصوات الحياة التي تدعوني اليها، وأنا متصامم عنها..."(ص109).

هبط من مسكنه إلى النبع ليشرب ويغتسل، تعرف لأول مرة إلى صفية، دعته إلى الشرب من وعائها، ودار بينهما حوار، وكان كلامها كله رمز وتلميح (أخي أحمد يحبك/ هل ترى زهر اللوز المتفتح؟..)، و"كمغفل راسخ"، يردّ المعلم على كلامها بكلام بارد مسكوك (أخوك أحمد تلميذ مجتهد..)، بحيث لم يكن ردّه أبداً في مستوى تلك الأصوات الرمزية التي تقول شيئاً آخر غير ما يبدو أنها تقوله.

في الغد، جاءت صفية بأخيها أحمد الى المدرسة. كانت أجمل من الأمس. بعد تحية الصباح، قالت: "قلت لأخي أحمد انك تحبه ففرح كثيراً". ربت المعلم على رأس الطفل ولم يقل شيئاً. كانت "كلماتها فصيحة كجمالها" تنتظر رداً من قبيل: "أنا فرح أيضاً بمن يحبني، أو أنا أحبّ من يحبّني". لكن المعلم، "كمغفل راسخ"، لاذ بالصمت، فذبلت بسمتها وانصرفت عنه.

بعد غياب، التقى الراوي صفية، قريباً من مسكنه، وكان على وشك السفر في عطلة. فطلبت منه أن يشتري لها قلادة وعطراً ومشبك شعر من المدينة. لكنه عاد من عطلته ناسياً كل شيء. وجدها عند النبع، نظرت في عينيه، فوجدتهما فارغتين، لم تسأله، وعادت بجرتها فارغة. غابت، ولم يعد يراها إلا نادراً. وآخر مرة لمحها كانت في بداية الصيف لما جمع متاعه ليرحل عن القرية.

واليوم بعد أن عاد المعلم إلى المدينة فوجدها "كزواج رتيب"(ص113)، وبعد أن تقلصت الأوهام، وبعد أن ذهبت رياح الشباب، بدأ الراوي يستحضر ما أضاعه حالة حالة، ويحصي خساراته، وأكثر ما يتمناه أن بعود ذلك الزمن، وأن يحضر لصفية كل ما تطلبه، وأن يقدم كل الاعتذارات .. ولأن ذلك مستحيل، ولأن ما يستحضره ويتذكره، سرداً وكتابة، لا يعرف ما يفعل به، ولأن الاعتذارات ليست سوى "كتابة على صفحة الريح"(ص107)، فإنه لا يجني سوى مضاعفة الحسرة، فالذي مضى قد مضى، ولم يعد ممكناً أن يتعلم المعلم من فتاة القرية، صفية، كيف يفتح قلبه للحياة، فحسن انصاته لتلك الأصوات، أصوات الحب والحياة، قد جاء متأخراً.

في هذه القصة، لا يكفّ المحكي عن توسيع الفجوة بين الأحداث والوعي بالأحداث، ويجري كل شيء كأن معاني تلك الأصوات قد وصلت متأخرة بعد أن تقلصت الأوهام وتبخرت الوقائع. وبهذا، فالأمر يتعلق بمحكي يقسم الذات إلى كينونة ومعرفة، إلى وجود ووعي، وهذان لا يتقدمان في هذا المحكي الأوتوبيوغرافي التخييلي متلائمين متطابقين، كما في المحكيات الأوتوبيوغرافية التقليدية، لأن الغاية هي كشف ما يدرج داخل وجود الذات تمزقاً لا يمكن إصلاحه(8).

ويبدو الأمر كأننا أمام محكي دائري يقوم برحلات دائرية: في الماضي، كانت هناك رحلة من المدينة إلى القرية، لكن التعلق بالمدينة كان أشدّ وأقوى، فالذات لا تفوت أية فرصة للعودة إلى المدينة (العطل) إلى أن تحققت أمنيتها (العودة نهائياً إلى المدينة). لكن الذات، في الزمن الحاضر، وبعد ما أصابها من احباط في المدينة، وبعد رحيل الشباب وأوهامه، تأسف على رحيلها من القرية، كأنها تطلب العودة اليها مرة أخرى، وهو الطلب الذي يستحيل أن يتحقق اليوم، لكن الواقع النفسي لا يزال يعتبر ذلك الماضي كأنه لم يمض، تمضي السنوات لكن ذلك الزمن البعيد لم يمض، وربما لن يمضي أبداً، فهو ما يحدد أو ما ينبغي له أن يحدد الحاضر، وإن كان ذلك يبدو غريباً ومقلقاً، ذلك لأن ذلك الزمن يبقى كالجمرة الحية تحت الرماد.

وفي هذه القصة، يحاول المحكي أن يمارس نوعاً من الحفر الأركيولوجي في بئر الزمن، وأن ينفض الغبار عن خزائن الذاكرة ونفائسها، وأن يعيد الاعتبار، ولو متأخراً، لامرأة استثنائية، بحيث تعود صورتها من النفي إلى الاثبات، من التجاهل إلى الاعتراف، من الاهمال إلى التقدير، من النسيان إلى التذكر. ذلك لأن "ما بقي غير مفهوم لابد له أن يعود..."(9). فتلك الأصوات التي لم تحسن الذات الانصات اليها، أي فهمها والتجاوب معها، كان لابد أن تعود، لسبب أساس هو أن تلك الأصوات (أصوات الجمال والحب والحياة) هي ما يشكل هوية الذات الأكثر حميمية، وذلك الماضي البعيد هو الذي يناسب الحميمية الأكثر عمقاً. فبعد أن انهارت أوهام المدنية والحداثة، وبعد أن تقلصت أوهام الشباب، وبعد أن صار الحاضر محبطاً وبخيلاً، كان لابد من استعادة مجوهرات الماضي النفيسة، كان لابد من استعادة الصفاء، وكان لابد للمحكي الأتوبيوغرافي أن يستعيد الاسم الشخصي الأكثر رسوخاً في الأعماق: صفية، فهي رمز الصفاء الطبيعي، رمز النبع المائي الأصلي، رمز الجمال والحب والحياة، رمز الفضاء الذي لم تلوثه بعد أوهام المدينة. ولكن لا يخفى ما في هذه الاستعادة المتأخرة من غرابة مقلقة، إذ هي بحث عن مفقود ربما لم يبق له من ملاذ سوى الكتابة.

نفترض أن محمد زهير، من خلال كل ذلك، يحاول التعبير عن القلق الداخلي الذي هيمن على الإنسان المغربي بعد انكسار خطابات الحداثة والمدنية وانكشاف أوهامها، وعلى الوضعية الغريبة المقلقة التي يعيشها الفرد المغربي: كيف يبني له هوية مدنية حداثية دون أن يضحي بهويته الأصلية الراسخة؟ ولهذا، يمكن اعتبار كتابة الغرابة المقلقة نقداً لحالة الاغتراب والإحساس بالعزلة التي يستشعرها الفرد في عالم المدينة الذي يفتقر الى حيوية العوالم الطبيعية الأصلية وحميميتها. وبهذا يكون لهذا النوع من الكتابة القصصية بعد إنساني، لأنها، من جهة أولى، صرخة احتجاج ضد النظام المديني الذي يسلب الإنسان طبيعيته وحميميته، ولأنها، من جهة ثانية، محاولة في فهم العلاقة الملتبسة الغامضة التي تتأسس بين الأنا والآخر، بين الذات والذاكرة، بين الحاضر والماضي، ولأنها، من جهة ثالثة، شهادة على قلق من الماضي الموروث: هناك أشياء عزيزة نفيسة لكنها مبعدة ومنسية، فكيف تعود الذات إلى الارتباط بتلك الأشياء الخاصة؟

3- في قصة "شرفة على الماء"، نلمس مفارقة عائلية تتجلى في تعلق الراوي في صباه بامرأة أخرى، للا حليمة، غير أمه، إلى حد يجعلنا نشعر بأنه كان يتمنى "لو كان المحفوف بحضن للا حليمة الوارف الدافئ"(ص24)، أي لو كانت تلك المرأة الغريبة هي أمه. ويعني ذلك أن الغريب قد صار مألوفاً، بحيث يكاد يحل محلّ عنصر عائلي أساس: الأم. فالوجه الأمومي المألوف قد صار غريباً، وخاصة بعد أن صارت الأم أكثر عناية ببنتها الرضيعة، منشغلة عن ابنها البكر المدلل. والوجه الأمومي الغريب، الذي تمثله للا حليمة، قد عاد مألوفاً، بحيث يتبادل المألوف والغريب الأدوار، بشكل أحدث اضطراباً كبيراً في نفسية الراوي وهو طفل.

والأكثر من ذلك أن ما بقي في الروح إلى الآن، إلى الوقت الحاضر، هو ذلك الوجه الأمومي الذي تمثله للا حليمة لا الأم الأصلية، بشكل يدفع إلى الإحساس بانتساب عائلي غريب مقلق: "قل لي بربك لماذا يستمر حضورها في روحي رغم الأهواء والأنواء والإيغال في المسافات غدواً ورواحاً؟ قل لي بربك لماذا توغل في أعماقنا علاقات ولحظات بأعيانها، فلا يقوى الزمن على محوها، كلحظة مجيء للا حليمة إلى جيرتنا، وما أسبغته على حياتنا، وعليّ أنا بالذات من دفء عذب كنت في حاجة إليه"(ص22).

الراوي طفل صغير انشغلت عنه أمه، أما أبوه فيخرج باكراً إلى عمله. الراوي جسد صغير يرتعش من البرد (والارتعاش من البرد تتكرر في قصص أخرى ملازمة للرجال صغاراً وكباراً)، ينتظر أن تصل الشمس إلى جسده الصغير فتدفئه. وكانت المفاجأة أن خرجت للا حليمة، الجارة الجديدة، قبل أن تصل الشمس: "شمس صباح أخرى أطلت على الطفل من حيث لا يحتسب، في كامل بهائها وكامل رونقها ومهابتها، شمس تتضوع ابتسامة ورهافة"(ص19).

للا حليمة هي تلك الأم الغريبة التي حلت محل الأم المألوفة، فهي أم فوق كل الأوصاف، تستنفذ كل الصور والاستعارات: إذا أردت أن تنطق باسمها، فاملأ فمك عسلاً ومحبة ومهابة، فهي ضوء الصبا، وهي امرأة ظليلة ترتبط في فضاء الروح باشراقة شمس بهية، وهي جوهر الكينونة، فوقع كلامها غض حلو في الفم حتى الآن، وكفها ناعمة دافئة حنون، وهي المرأة البهية كالرحمة، محبتها غائرة في النفس.

يتعلق الأمر بألفة غريبة، وبشيء غير مفهوم: "قل بربك أي جاذبية سحرية للا حليمة، تشد اليها بآصرة محبة لطيفة، فتجعل الطفل الذي كنته، قريباً منها في اليقظة وفي الحلم، يحب أن يراها في كل لحظة، وبقضي أجمل أوقاته قريباً منها.."(ص25). لكن ما يبقى واضحاً أن الذات لا يمكنها أن تدرك ذاتها إلا في إعادة الاتصال بتلك الأم الأخرى الغريبة، "لأن محبة للا حليمة، يقول الراوي، غائرة في نفسي.."(ص28).

نحن أمام محكي يحفر عميقاً في الماضي، ذلك الماضي الذي لم يمض بعد، إذ بقي راسخاً في الأعماق بشكل هو في الوقت نفسه: غريب مقلق، وعجيب مدهش. فنحن أمام محكي أوتوبيوغرافي تخييلي لا يتصف بالخطية الكرونولوجية، ولا ينطلق من الطفولة صعوداً إلى مراحل العمر بعدها، ولا ينطلق من الماضي إلى الحاضر، بل هو ينطلق من الحاضر صعوداً نحو الماضي أو نفاذاً في ذاكرته، بحثاً عن تلك الوجوه النفائس، التي من دونها لن تعرف الذات كيف تحدد هويتها، فالهوية لا تتحدد إلا من خلال الغيرية، وهو ما يبدو غريباً ومقلقاً خارج مساحات الابداع. فوحده الراوي، المطبوع جوهرياً بكل ثقل فترات من ماضيه البعيد، كـ"كائن خرافي يبحث عن اسمه المخبأ في نداوة" روح أخرى، يمكنه أن يكون جديراً بكسر كرونولوجية الزمن، والعودة إلى فترات محددة واستثنائية من الماضي، تثير المتخيل، فيحررها من سلاسل النسيان، ويفتح أمامها أبواب الانصات والاستماع. ووحده الراوي الرسام، لنلاحظ العلاقة الوثيقة بين الكتابة والرسم عند محمد زهير، من يستطيع أن ينتهك إكراهات الحاضر ليرسم تلك الذكريات، اللوحات الملحاحة القارة التي ظلت حاضرة تتحدى الزمن، مشكّـلة ما يسميه فرويد بـ"الذكرى/ الشاشة"(10) التي تفتح عيوننا على جوهر الكينونة أو روحها الأخرى المبعدة والمنسية، لكن التي تظل دوما حاضرة.

وفوق ذلك، نفترض أن الخاصية الجوهرية اللافتة في قصص محمد زهير أن كتابة ما فينا من غرابة مقلقة أمر يفتح أعيننا على عالم عجائبي مدهش، يجعلنا نتساءل في تعجّب واستغراب: كيف كنّا غافلين عن أشياء عجيبة وجوهرية؟ ماذا لو انتبهنا قليلاً فتكون الحياة غير الحياة، ويكون المصير غير المصير؟ هل يمكن لتلك الأزمنة الاستثنائية أن تعود؟ ماذا عن هذه الذكريات التي تفرض نفسها باستمرار وطيلة العمر؟

وبهذه الأسئلة نجد أنفسنا أمام المستحيل: مستحيل أن تجد جواباً، مستحيل أن يعود ذلك الزمن، مستحيل أن يعود ذلك العالم العجائبي المدهش.. ووحدها الكتابة تستطيع أن تواجه المستحيل، لأن الكتابة، أصلاً، هي تواصل مع تلك الأرواح الأخرى (روح صفية، روح للا حليمة..)، هي "نداء من الأعماق وليس مجرد عقد كلام"(ص77)، وهي وحدها القادرة على غزل جسور التواصل مع تلك الروح الأخرى بخيوط عشق غائر في النفس. وبما أن الأمر كذلك، فان هوية الكتابة نفسها هي الموضوعة موضع سؤال، فالكتابة ليست مجرد ميثاق تواصلي نفعي لقضاء الأغراض والحاجات، بل انها لن تستوفي معناها الجوهري إلا إذا كانت لوحة فنية أو مجازاً تخييليا بكل ذلك العمق البوليفوني الذي يسمح لنا بأن نسمع أصواتنا الأخرى، وأن نرى وجوهنا الأخرى، تلك الغائرة في النفس، التي تعيد للكينونة جواهرها ونفائسها وأرواحها الأصلية. والكتابة، بهذا المعنى، لن تكون هي الأخرى إلا بهوية مضاعفة متعددة، بحيث يصعب التمييز فيها بين الحكي والشعر والرسم، وطموحها أن تعطي فعل الكتابة قوته الانفعالية، وحافزها الدائم إنسانية لا تستكين.

وبهذا المعنى، نفترض أن الكتابة عند محمد زهير هي مغامرة مغايرة للمغامرات التي ألفناها في العديد من القصص والروايات، ذلك لأنها مغامرة تقول أشياءنا المبعدة والمنفية، وتبحث في الخبايا الخفية للذاكرة، في الطبيعة الأولى للكينونة، وترسم ملامح تلك الذات الأخرى المغيبة والمنسية، وتسمعنا تلك الأصوات الدفينة في أعماق الروح، وتقول الحميميّ، لأنه لا ذات من دون حميمية، وتبوح بالسريّ، "فالحكاية دون أسرار ليست حكاية.."(ص64).

وبعبارة واحدة، تكمن أهمية الكتابة عند محمد زهير في اعتبارها مقاربة للذات، مغايرة ومختلفة، فهي تقتحم فضاء لطيفاً ودقيقاً في التجربة الفردية الحميمية، وتركز على تلك "الصور النفيسة العزيزة جداً" التي يحتفظ بها كل فرد لنفسه، وقلّما يخرجها إلى العلن. والكاتب الحقيقي، كما سجّلSir Arthur Quiller-Couch في كتابه: فــنّ الــكـتـابــةOn Art of writing هو الذي يجعلنا نشعر أكثر، نحن القراء، بأننا في أوطاننا الخاصة، في بيوتنا الأكثر سرية وحميمية.

 

الهوامش:
1- محمد زهير: أصوات لم أسمعها، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2011.
2-
Philippe Gasparini, Est – il je?, Seuil, Paris, 2004, p20.
هذا من أحدث الكتب التي تناولت مسألة الفصل بين الراوي والكاتب بوضوح وعمق كبيرين.
3-
Philippe Lejeune, Je est un autre, Seuil, Paris, 1980.
4-
Sigmund Freud, L’inquiétante étrangeté et autres essais, Gallimard, Paris, 1985.
5-
Paul Ricœur, Finitude et culpabilité, Aubier, Paris, 1988, p 11.
6-
Dorrit Cohn, La transparence intérieure, Trad. Par Alain Bony, Seuil, Paris, 1981, p62.
7-
J. Starobinski, Jean–Jacques Rousseau? La transparence et l’obstacle, Gallimard, Paris, 1971, p114.
8-
Laurent Demanze, Encres orphelines, José Corti, 2008, p 199.
9-
Sigmund Freud, Cinq psychanalyses, PUF, Paris, 1954, p 180.
10-
Guy Rosolato, Souvenir–écran, Communications, N23, 1975, pp 79–87.