نال الشاعر المغربي مراد القادري على درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع توصية بطبع أطروحته، التي حضرها في موضوع " جمالية الكتابة في القصيدة الزجلية المغربية الحديثة، الممارسة النصية عند أحمد لمسيح ". وقد كانت لجنة المناقشة مكونة من الأساتذة : الدكتور عبد الإلاه قايدي (رئيسا)، الدكتور عبد الرحمان طنكول (مقررا ومشرفا)، الدكتور أحمد شراك، والدكتور جمـــال بوطيب ( أعضاء).
وفيما يلي كلمة الباحث مراد القادري التي ألقاها أمام لجنة المناقشة صباح يوم 7 دجنبر 2012 بقاعة المحاضرات بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس:
إنه لمن دواعي اعتزازي وسروري أنْ أمثلَ اليوم بين يديْ لجنتكم الموقرة؛ وفي هذا المحفل الجامعي والأكاديمي لأحظى بشرف مناقشتكم للأطروحة التي حضّرتها عن شعر الزجل في المغرب، تحت عنوان " جمالية الكتابة في القصيدة الزجلية المغربية الحديثة، الممارسة النصية عند أحمد لمسيّح"
ثمة العديد من العوامل الذاتية والموضوعية، التي جعلتني أختار هذا الموضوع للدراسة والبحث، فعلاوة على كونه يلتقي مع اهتماماتي الشعرية، فهو يستجيبُ للأسئلة الثقافيــة والشعرية التي أخذت تلحّ علي منذ أنِ انتسبت، في أواسط الثمانينيات من القرن المنصرم، إلى مجال القصيدة الزجلية، وصرتُ واحدًا ممن ساهموا في كتابتها إلى جانب ثلة من الشعراء المغاربة الآخرين، وعلى رأسهم الشاعر أحمد لمسيّح، الذي اخترت متنه الشعري للدراسة والقراءة.
منذ ذلك التاريخ البعيد، تعاقبتِ الأسئلة وتناسلت. تعدّدت وتشعّبت. وإذا كنتُ قد حاولتُ، عبر الكتابة الشعرية، أنْ أجيبَ عن بعضها للـتأكيد على حيوية قصيدة الزجل وقدرتِها على أنْ تكون رافداً من روافد شعرنا المغربي المعاصر، ما جسدته ثلاثة عـناوين شعرية؛ هي : " حروف الكف"، " غزيل لبنات" و " طير الله" ، فإنّ ذلك وحده لم يكنْ كافياً ... وبدا من اللازم أنْ ينهضَ البحث العلمي والأكاديمي، بدوره في استجلاء الخصائص الفنية والجمالية لهذه القصيدة وذلك من داخل الأسئلة النظرية والمعرفية التي سيّجت شعرنا المغربي والعربي على حدّ سواء.
ويجبُ الاعتراف أنّ الأسئلة التي راودتني،كانت من الكثرة والوفرة لدرجة أنها أعاقت، في أكثر من مناسبة،خطوتي الأولى وهدّدت حماسي لمواصلة البحث، فقد كانت تفِدُ من أماكنَ مختلفةٍ ومتنوعة، يشتبكُ فيها الثقافي والشعري واللغوي، هذا عِلاوة على ما كانت تطرحُه عليّ من قضايا تمـَسّ إنتاجية القصيدة الزجلية وتلقّيها ونقدها. رغم ذلك، فقد ظلت الرغبة في استدراج هذه الأسئلة إلى المحفل الجامعي والدرس الأكاديمي، محمومة... متـّقدة، هاجسُها الأوّل إعادة الاعتبار للقصيدة الزجلية من داخل الشّعر ذاتِه، وذلك عبر تحويلها إلى مادّة مُهيئة للأسئلة الأكاديمية، أيْ الأسئلة النظرية والمعرفية، التي تُضيءُ إشكالات الممارسة النصية الزجلية.
هي لحظةٌ رمزية. بلوغُها والوصولُ إليها، اليوم، مثـّل لي الدّافعَ المركزي لاشتغالي على هذا الموضوع. وذلك بعد أن بداَ لي استيفاءُ القصيدة الزجلية لكامل العناصر الشعرية والجمالية والتداولية، ما يؤهلها لتحظى بمثل هذه اللحظة العلمية الرفيعة، حيث تخضعُ فيها للقراءة النقدية، والمساءلةِ النظرية والمعرفية، بهدف الكشفِ عن قواعد انبنائها وكتابتها.
لحظةٌ هي ما اعتبرته ينقصُ سجّل القصيدة الزجلية الحديثة، وذلك بعد أن أضحت مُعطى شعرياً لا يمكنُ إغفاله أو تجاهله بفعل تراكم المتن واطراد إنتاجه من عقد إلى آخر وازدياد عدد أسمائه، ذكوراً وإناثًا، القادمة إليه من مختلف الأجيال والمرجعيات الجمالية والفنية. وتكفي هنا الإشارة إلى بعض عناصر هذه الدينامية :
فعلى مستوى النشر، ارتفعت وتيرة نشرِ الديوان الزجلي بنسبٍ لافتة للنظر. حيث انتقلت من ثلاثة دواوين، خلال عقد السبعينيات من القرن المنصرم، إلى ما يربو عن 40 ديواناً خلال التسعينيات، ليتضاعف هذا العدد خلال العقْد المُوالي ويقارب المئة ديوان.
وإذا كانت وتيرة النشر، قد شهدت ديناميةً ملحوظة ابتداءً من أواسط التسعينيات، فإنّ هذه الفترة ستعرفُ إقدامَ مجموعة من الزجالين المغاربة على تأسيس رابطة مغربية للزجل، ثم اتحاد مغربي للزجل، فيما ستستفيد قصيدة الزجل لاحقا من الطّفرة الهامة التي أتاحتها شبكة الأنترنيت، حيث تمّ إحداثُ الكثير من المواقع الإلكترونية المهتمة بترويج الزجل وتعزيز حضوره ضمن فضائها العام.
وعلى مستوى الفعاليات الشعرية، وقبل أن تُقدِم وزارة الثقافة ابتداء من سنة 2006 على إحداث مهرجان وطني سنوي للزجل بمدينة ابن سليمان،كان اتحاد كتاب المغرب قد اتخذ سنة 1990 مبادرة ثقافية دالة، بتنظيمه لملتقى القصيدة الزجلية الحديثة بمدينة مكناس، عقد منه ثلاث دورات، كان من إيجابياتها تخصيصُ مجلة آفاق، لأحدِ أعدادِها لملف عن قصيدة الزجل في المغرب، أشرف عليه وقدّم له الشاعر أحمد لمسيّح.
من جهة أخرى، حظِيت قصيدة الزجل بعناية الأنطولوجيات الشعرية التي أنجزت عن الشعر المغربي في العديد من مناطق العالم، وعلى الرغم من تنوّع مستويات الإعداد والرؤية التي حملتها هذه الأنطولوجيات عن واقع هذا الشعر، فإنّ ما يُسجّلُ لها هو سعيُها نحو إبرازه في تعدّده وتنوع حساسياته اللغوية والفنية والجمالية. هذا دون الإشارة إلى عبور العديد من الدواوين الزجلية إلى اللغات العالمية وحضور شعراء القصيدة الزجلية في الكثير من المهرجانات الشعرية الدولية.
كل ذلك أشـّر على وجود إبدال كبير أكّد على انخراط القصيدة الزجلية، ليس في الانشغالات الجمالية والفنية والرؤيوية لقصيدتنا المغربية فحسب، بل وفي الإشكالات التي تمسّ بنيات إنتاج ونشر وتداول الشعر في المشهد الثقافي والأدبي المغربي.
وإذا كانت هذه هي الدوافع الموضوعية، التي ساهمت في اختياري لقصيدة الزجل مادّة للبحــث والدرس، فإنّ ملازمتي وارتباطي بهذه القصيدة منذ ما يزيد عن ربع قرن من الزمن، شكّل حافزًا لي ومُعيناً على ولـُوج عوالم هذه القصيدة من خلال تجربة الشاعر المغربي الكبير السي أحمد لمسيّح، الذي ساهمت الصّلات التي ربطتني به إنسانيًا وشعريًا في تشجيعي على اتخاذ تجربته الشعرية المديدة نموذجاً للبحث. فصِلتي بالشاعر أحمد لمسيح تعودُ لأواسط الثمانينيات من القرن المنصرم عندما سقطت في يدي قصيدته " بلادي يالمزوقا من برا... أش اخبارك من الداخل"، التي فتحت عيني على القصيدة الزجلية وعلى الثراء الذي تختزنـُه التعابير الشعرية القادمة من عامية أخرى، ليست هي عامية التخاطُب والتواصُل اليومي، كما اعتدتها في الشارع والحياة، فقد وجدتُ كلماتها وألفاظـَها تتشبّع بدلالاتٍ سياقية مُخالفة لدلالاتها المعجمية، ما يجعلـُها من ثمّ عامّيةً إيحائية ًمنذورة لتقديم رؤية الشاعر للذات وللعالم ولحالاتٍ جمالية معبّرة عن الزمان والمكان التاريخيين. تلك كانت صِلتي الشعرية بقصيدة لمسيّح، أما صلتي النقدية بها، فقد كانت، خلال نفس الفترة، عندما كتبتُ دراسة نقدية متواضعة عن ديوانه الزجلي الوحيد آنئذ؛ "رياح... التي ستأتي"، والتي نُشرت بصفحة "على الطريق" بتشجيع من الأخ الشاعر الصديق حسن نجمي، الذي كان حينها مسؤولا عن هذه الصفحة الثقافية والإبداعية.
لستُ في حاجة لتبرير سببِ اتخاذي قصيدة لمسيح نموذجاً لاستجلاء جمالية الكتابة في ممارسته النصية، ومع ذلك، يمكنُ لي القول إن الشاعر أحمد لمسيح، يعد أحدَ أهمّ أصوات القصيدة الزجلية الحديثة بالمغـرب وأكثرها لفتـًا للانتبـاه والاهتمام. فهو أوّلُ شاعر يــصدر مجموعة شعرية في تاريخ هذه القصيدة؛ هي: رياح ...التي ستأتي، وكان ذلك سنة 1976، مُعلناً بذلك انتقالَ القصيدة الزجلية المغربية من الشفوي إلى الكتابي، مع مايستتبع هذا الانتقال من قضايا وأسئلة نظرية جديدة، جعلت المفاهيم القديمة محط نظر وتساؤل. ذاك أن الكتابة وهي تنتقل من مقام الكتابي إلى مقام الشفوي لاتغير، فقط مقاما بمقام. ولكنها تصوغ معنى جديدا للقول الشعري لم يعهده من قبل.
اخترت لمسيّح كذلك لاعتقدي بأنّه توفرت لديه، خلال ما يقرب من أربعة عقود من الكتابة الشعرية تجربةٌ شعرية جديرة بالقراءة والكشف النقدي. قراءةٌ من شأنها أنْ تقودَنا لمعرفة، ليس مسار أهمّ تجربة زجلية في المغرب فحسب، بل وأنْ تسعفَنا على فهم مسار الحداثة في شعر الزّجل، لكوْن الشاعر موضوع البحث، تجذّرت إقامتهُ في أرضية الشعر مُدةً زمنية طويلة، واخترقت تجربتُه أجيالاً شعرية، عاش وقصيدته معها تحولاتٍ وإبدالات عميقة مسّت استراتيجية الكتابة الشعرية بالدارجة المغربية وغيرت درجات الوعي بها كخيار شعري وفني و جمالي.
هنا تكمنُ أهمية الشاعر أحمد لمسيح، وتتجلّى قيمة تجربته الشعرية، كلحظةٍ تاريخية ونقطــة انعطاف، استطاعت فيها القصيدة العامية المغربية أن تتطلع لأفق جديد، وتقيم مسافة، من جهة، مع القصيدة الزجلية الكلاسيكية المسماة الملحون، ومن جهة ثانية، مع القصيدة الموجّهة للغناء، ليكتب قصيدة زجلية جديدة لها طموحُ الانتماء إلى مدارات الحداثة الشعرية.
لقد يسّرتِ الصّلاتُ الإنسانية، التي جمعتني بالشاعر أحمد لمسيّح، السّبـُلَ نحو إنجاز هذا البحث. فقد توافقنا دون أن نصرّح بذلك، على انتظام التواصل المنتج والحوار المضيء، المسعِف على النهوض بشروط تحسين إنتاجية وتلقّي وتداول قصيدة الزجل وتعزيز حضورها الشعري الإيجابي داخل الحقل الأدبي المغربي. وقد تمت لنا، في هذا الصدد، المشاركة في العديد من اللقاءات الشعرية داخل المغرب وخارجه، ما عزّز صِلتي بقصيدته وفتحَ ذاكرتي ووعيي على أسئلة نظرية جديدة.
ولا غرابة اليوم، أنْ تحوزَ القصيدة الزجلية شرعيتـَها العلمية والجامعية من داخل جامعة سيدي محمد بن عبد الله، وبين مدرّجات ِكلية الآداب ظهر المهراز ، التي درس فيها الشاعر أحمد لمسيّح، رفقة ثلة من شعراء جيله كمحمد بنطلحة، ومحمد بنيس و عبد الله راحع و أحمد بلبداوي و علال الحجام وأحمد بنميمون وسواهم ممن نجحوا في تحديث قصيدتنا المغربية، وتطوير أبنيتها اللغوية والتخييلية ما أعلنَ تأسيسَ بدايةٍ جدّيةٍ لشعريّة مغربية مستقلة ومتميّزة. فعقد السبعينيات، الذي اختارت هذه الدراسة أحد شعرائه البارزين للقراءة ، يمثـّلُ لحظة هامة في مسار شعرنا المغربي. فقد صدر خلاله مايقرب من 70 مجموعة شعرية، قياساً لعقد الستينيات الذي صدرت خلاله عشرون مجموعة فقط. وقد شكّل هذا التطوّر تكريسًا لسيادة الإنتاج الشعري كجنسٍ أدبيّ مركزي داخلَ حقلِ الإنتاج الأدبي.
لقد حَظِي هذا الجيلُ الشعري بدِراسة نقدية وافية، استهدفَ فيها الشاعر عبد الله راجع القيام بمحاولةٍ لقراءة المتن الشعري السبعيني انطلاقاً من مكوناته اللغوية والإيقاعية والمعمارية والتخييلية وذلك في علاقة بالمجال الثقافي والنفسي والاجتماعي. غير أنّ راجع، رحمة الله عليه، سيعلنُ منذ البداية في دراسته الموسومة ب " القصيدة المغربية المعاصرة، بنية الشهادة والاستشهاد" أنه حدّد نفسه بدراسة القصيدة المكتوبة بالعربية، والقائمة على النظام التفعيلي خلال السنوات العشر المسماة بسنوات السبعينيات. لقد جعل هذا التسييجُ الذي سنّه راجع، القصيدة الزجلية خارجَ نطاق دراسته .غير أنّني وفي أكثر من مَوضعٍ من هذا البحث، آثرت الاستشهاد بعبد الله راجع وبدراسته لنُعيدَ التأكيد على انتماءِ قصيدة أحمد لمسيح إلى متنِ القصيدة المغربية السبعينية، وأنّ رؤيته الشعرية تتعالقُ في صَميم بنيتها مع رؤية هذا المتن. وقد استندَ هذا الإجراءُ النظري والمنهجي إلى الاستلهامات المشتركة والفاعلية التناصية المتشابهة، التي وحـّدت بين شُعراء القصيدة الفصيحة، الذين خصّهم راجع بالدرس والقراءة، وشاعرٍ مجايلٍ لهم، هو أحمد لمسيح، الذي اتّجه لكتابة قصيدة محكومة بنفس الأجواء التخييلية والدلالية، لكنّ مادّتها اللغوية تمّت بالدارجة المغربية.
فإذا كانت دراسة راجع قد خلصت إلى كون القصيدة السبعينية مسكونة بروح بروميثيوسية، ومحكومة ببنية الشهادة والاستشهاد، فإنّ دراستنا أثبتت، هي الأخرى، أنّ الشاعر أحمد لمسيّح اختار َ بدوره الانتماء لهذه البنية عبر استثماره للمُعادل الموضوعي لبروميثيوس الموجودِ في الحكاية والخرافة الشعبية المغربية، وإلحاحِه على استنباته وزرعه داخل متن قصيدته الزجلية. ذلك ما عزّز رأينا في أن هذه القصيدة سعَتْ، وهي تقيمُ الوشائجَ والصّلاتِ مع نسبـِها الممتـدّ في الشعر المغربي المعاصر، إلى اكتسابِ هويّتها الخاصة وتغذيةِ متخيّلها الفردي.
أما عن سبب انضواء هذا البحث تحت عنوان " جمالية الكتابة في القصيدة الزجلية المغربية الحديثة"، فيرجعُ إلى رغبتنا في التأكيد على القيمة النّوعية التي اكتسبتـْها قصيدةُ الزجل وذلك عبر انتصارها للبعد الجمالي والفني وانصرافِها عن البعد الاجتماعي والإيديولوجي الذي رهنـَها لفترة طويلة، ووسمها بالخطابية والمنبرية والشعارية. تحوّلٌ يقتضي، منهجيّاً، إبدالَ الرؤية إلى المتن، وهو مايُضمره اختيارُ العنوان.
لقد نجح لمسيّح في أنْ يعْبـُر بقصيدته من الممارسة الشعرية المحكومة بالرؤية الاجتماعية والسياسية، حيث جمالياتُ التعبير الفنيّ تفسحُ المكانَ للشعار بدلَ الشعر، نحو الكتابة المسكونة بقلق التجريب والسؤال، حيث الهاجس الجمالي والفني لا يكفّ عن الحضور من خلال المستويات اللغوية والإيقاعية والتركيبية والدلالية.
أصّلت تجربة الشاعر لمسيح العديدَ من العناصر الجمالية داخل القصيدة الزجلية، التي لم يعدْ يـُنظر إليها كقصيدة عمومية أو شعبية بما تحمله هاتان الكلمتان من شحنة قدحية وتحقيرية، بل بما هي قصيدة مبنية، تتغذّى من مصادر شعرية وثقافية واسعة، يتشابكُ داخلها الفكر واللغة والبناء الفنيّ بهدف التعبير عن رؤيا شعرية مُكثفة، تعلنُ موقفَ الشاعر من الذات والآخر وتكشفُ عن نظرته للوجــود و للعالم .
تلك المظاهر الجمالية، التي سعَت قصيدة لمسيّح إلى ترسيخِ جذورها في تربة الشعر المغربي، هي ما تطمحُ هذه الدراسة إلى إبرازه والتفكير فيه اعتماداً على خلفية منهجية ونظرية، واستناداً إلى قراءة معرفية؛ استحضرت البنُى الكلية للمتن الشعري منذ ديوان الشاعر الأول : رياح .. التي ستأتي، (1976) إلى غاية ديوانه ريحة لكلام (2007 ).
وقد كان من اللازم أن يصوغَ البحثُ سؤالاً أو أسئلة نظرية ومعرفية، ليختبرَ في ضوْءها الإشكالية المركزية للبحث؛ ألا وهي جمالية الكتابة في القصيدة الزجلية المغربية الحديثة. وقد كانت الأسئلة؛ كالتالي:
- مدى انتماءِ القصيدة الزجلية إلى الكتابة وانفصالُها عن الحمولة الشفوية؛
- مدى نسبِها إلى المتن الشعري المغربي؛
- مدى انخراطِها في مشروع التحديث الذي انتمت إلى أفقه القصيدة المغربية المكتوبة بالفصحى؛
لم يكن البناء العام للدراسة منفصلاً عن هذه الأسئلة وعن الإشكالية المركزية المشار إليها، وهكذا توزّع هذا البناء إلى أربعة فصول، هي: الخطاب الموازي، التناص، السخرية وبنية اللغة الشعرية. وقد أطّرنا كلّ واحد منها بإضاءةٍ نقدية، تكشفُ عن زاوية النظر التي نقترحُ من خلالها معالجة موضوع الفصل. على أنّ وِجْهتنا داخل الفصول الأربعة كانت تتغيّا معرفةَ مدى انشدادِ القصيدة الزجلية إلى البـُعد الكتابي وانفصالها عن البعْد الشفوي، ودرجة العلاقة التي تقيمُها مع الشعر المغربي المعاصر ومع الحداثة الشعرية التي انخرط فيها شعراؤه منذ منتصف الستينيات من القرن المنصرم.
في الفصل الأول، اقترحتِ الدراسة ثلاث عتبات؛ هي: العنوان والخطاب المقدماتي والاسم الشخصي، وذلك بهدف الكشف، من خلالها، عن الوعي الشعري والنظري وتحولاتهما الفنية والجمالية ضمن سيرورة الكتابة والانتماء إليها في الممارسة النصية عند لمسيح. ويعودُ اختيارُنا لهذه العتبات باعتبارها الأمكنة الأولى التي يلتقي فيها الكاتب والقارئ، فيما هي تندرجُ ضمن الاعتبار الذي صارت توليه الدراسات والمقاربات النقدية لها، ضِمن توجّه نظري ومعرفي يرى فيها جانبًا أساسياً من المقاصد الدلالية التي يستشرفـُها النص. وقد حاولنا، في هذا الفصل، أنْ نستنطقَ هذه العتبات بما يجعلُها مؤهلةً للكشفِ عن نـَسَبِها إلى الكتابي في الممارسة النصيّة، وتهييء شروط الولوج إلى المتن، واستجلاء خصائصه الكتابية التي بها بنى الشاعر رؤيته الوجودية، ومنها صاغ أسئلة الذات في علاقاتها بالعالم والكون.
وفي الفصل الثاني، الخاص ببنية التناص، سعتِ الدراسة إلى البحث في التعالقات التي أقامَها المتن المدروس مع المدونة الشعبية والروافد الدينية والتاريخية والأسطورية والشعرية والصوفية، وفي الصّلات التي نسجَها مع أجواء هذه الروافد وتعــبيراتها وإيقاعاتها المختلفة والمتنوعة، كما حرصَت على استنباط آليات التناص، لمعرفة أشكال التحاور التي ميّزت المتن والنصوص المحاوَرة والاقتراب من طرقِ إدماجها. وقد كانت غايتنا من ذلك الإمساكُ بملامِح النص المرجعي المتواري داخلَ القصيدة الزجلية ومدى تشابهِه أو اختلافِه عن النصوص المرجعية الأخرى، التي استدْعتها القصيدة المغربية المكتوبة بالعربية الفصحى.
وسواءٌ في استلهامه للأدب الشعبي أو محاورته للروافد الدينية والثقافية والشعرية الأخرى، سيبدُو لمسيّح شديدَ الشّبه مع ثلة من شعراء جيله الشعري السبعيني ما عزّز الافتراض الضمني الموجّه للبحث، أيْ انتماء القصيدة الزجلية، في لحظة من وجودِها، إلى نفس البنية التي صدرَ عنها جيلُ الشعراء السبعينيين. بعد هذه اللحظة، شقّتْ قصيدة أحمد لمسيّح أفقـَها ، من غير أن تتخلّى عن وشائِجها مع الشعر المغربي الفصيح ، مواصِلة رحلتها ومغامرتها الكتابية عبر الانخراط في مدارات ثقافية وشعرية جديدة، مثلت التجربة الصوفية أحدَ روافدها الهامة، ما أتاح لها صوْغ متخيّل شعري جديد، ينطوي على إمكانات استعاريّة تسعفها في بناءِ جسرٍ يصلُ الزجلَ المغربي الحديث بتجاربَ شعريةٍ ووجودية باذخة.
ولم يغب عنّا، في مختلف أطوارِ هذا الفصل، البعدَ الجمالي الموجّه لعنصر التناص، بما هو خصِيصَة بنائية تُسهمُ في إرساء هذه الجمالية.
أمّا الفصل الثالث، فقد خصّصناه للسخرية، التي اخترناها، ليس بسبب الحضور الدّال والمُـُهيمن الذي تتحقّق به داخل المتن، محط الدراسة، بل بغاية فهْمِ الاستراتيجية الموجّهة للشاعر في تشغيله النصّي لها، بهدف الاقتراب من وظائفها الفنية والبنائية، التي نهضتَ بها في تجربة الشاعر. وقد توجّه اهتمامـُنا بهذا العنصر البنائي إلى كيفية عبور الشاعر به من منطقة الشفوية نحو المممارسة الكتابية وتعيينِ بعض خصائصه الجمالية، بما كشفَ عن السّمات التحديثية المضمَرة في الاشتغال النصّي للسخرية. هكذا لم يكن هذا العنصر رؤية دلالية متحكّمة في نماء ِالمعنى وحسب، بل أيضاً رهاناً كِتابياً وجمالياً .
ونظرًا لتشعّب أسئلة هذا الفصل، والمرتبطة بالسخرية كمُمارسة ممتدة في التاريخ البعيد والحديث، من غير أنْ تحظى بإشاراتٍ لها في راهن الأدب المغربي، فقد ارتأتِ الدراسة أن تقسّم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث، حاولت أنْ تربطَ السخرية بجذورها المعرفية عبر مسارات تاريخية بعيدة و قريبة، وتبحثَ لها عن تربة في الأدب المغربي قبل أنْ تكشف عن تجلياتها في الشعر المغربي، فصيحِه وزجله.
ولعلّ الحرص على تفكيك موجّهات اختزال القصيدة الزجلية في الهزل، هو ما اقتضى إعادة النظر في مفهوم السخرية والكشف عن أبعادها البنائية والتخييلية، ممّا جعل هذا الفصل يبدو أكثر طولا من باقي الفصول الأخرى.
في الفصل الرابع، انصبّ اهتمام الدراسة على الكشف عن طبيعة اللغة الشعرية التي تشكّل منها المتن المدروس، وذلك في ارتباط مع لغة المتون الشعرية السابقة على أحمد لمسيّح، كلغة القصيدة التقليدية المسمّاة الملحون ولغة القصيدة الوجدانية الغنائية، التي رصدنا منجزها اللغوي، من خلال تجربة الشاعر حسن المفتي، الذي حقّق ما أسميناه الخروج الأول، الذي سيثمّنه لمسيّح ويعزّزه بخروج ثانٍ، يربط فيه بين التحوّل الشكلي وطبيعة اللغة الموظفة داخل القصيدة.
وإذا كانت الزوايا التي اختارتها هذه الدراسة، قد وفـّرت لنا بعض الشروط لفهم مسار القصيدة الزجلية المغربية الحديثة، من خلال شاعر رائد، استطاعَ أن يعـْبـُر بقصيدته من مراحل شعرية متنوعة، ويجعلـَها تجاورُ أجيالاً وحساسياتٍ فنيةً وجماليةً مختلفة، فإنّ من شأن دراسات قادمة، وهي تختار زوايا جديدة للرؤية، أنْ تعزز ليس انتباهنا لهذا الرافد الشعري الذي يغذي المتن الشعري المغربي المعاصر فحسب، بل وأنْ تُسهمَ في تحقيق تراكمات قرائية متنوعة، وتوفرَ لقصيدة الزجل مقارباتٍ مسنودةً بخلفيات جمالية وفنية، مايسمحُ، مع الوقت، تهييءَ الشروط العلمية للتفكير في شعريتها. واستنباطَ القوانين الكبرى الناظمة لها في مختلف عناصرها البنائية.
من المعلوم أنّ النص الشعري ينفتحُ على عدد لانهائي من القراءات والمقاربات التحليلية، وذلك تبعاً لذخيرة الدارس وثقافته وخبرته بالنوع الذي ينتمي إليه المتن موضوع الدراسة. ويمكنُ لي القول إنّ المصاحبة المديدة لشعر أحمد لمسيّح، قد أتاحت لي تلقّي قصيدته من موقع القارئ الخاص، الذي يمتلكُ منظورًا للقراءة ووعياً بنشاطِها ودورها في إعادة تشكيل النص وتجديد كتابته.
وإذا كنتُ قد استثمرتُ بعضًا من تقاليد هذه القراءة في إنجاز هذا البحث، فإنّ شساعة الأسئلة النظرية والمنهجية التي حفرت مجراها داخل مفاصله وفصوله، اقتضت مني الإنصاتَ إلى منهج واضح يقودنا من التجريد النظري إلى الممارسة النصية. واعتبارًا لطبيعة الموضوع، فقد استرشدنا بالنظريات الشعرية، التي هجسَت بالنصّ واحتكمت لبنياته، وذلك بهدف استجلاء الدينامية النصيّة و إبراز الظواهر الجمالية المتجدّدة التي يحفل بها من تناص واستعارة وسخرية. وقد كان الاحتكام إلى هذه النظريات، ينطلقُ ممّا يدعُو إليه المتن، لا من المواقف الجاهزة أو المسبقة التي يمكنُ أن تعنّف النصوص بدل إضاءتها. لذا، فقد رافقنا الدراسة برؤية نسقية، تؤمنُ بتعدّد العناصر الموجّهة والمتفاعلة في ذات الآن، مع التراكم الشعري المغربي والعربي دون التفريط في الأسئلة الخاصة التي كانت تولّدُها، طيلة البحث، خصوصيةُ القصيدة الزجلية. وهي الأسئلة التي يتعيّن استثمار أفقها المعرفي والثقافي والشعري بغية تحقيق التراكم النقدي الكفيل بالكشف عن القوانين الكلية المؤطرة لجمالية وشعرية هذه القصيدة.
واجهت هذه الدراسة بعضَ الصعوبات، التي لم تزدها إلاّ إيماناً بقيمة السبق الذي تحقّقه، بإنصاتها لمتن شعري ظلّ مُبعدًا، لسبب أو لآخر من دائرة الاهتمام النظري والنقدي. ومن أبرز هذه الصعوبات:
- غياب ذاكرة قرائية، يمكنـُها أنْ تسعفَ في مدّ البحث بما يُعينه على تجنب ارتباك لحظة البدايات؛
- سعيُ البحث إلى استجلاء العناصر الجمالية في الممارسة النصية الزجلية اعتمادا على أدوات منهجية تأسست في تربة الشعر الفصيح؛
- تناقض اختيار منطقة الكتابة لطرح إشكالية قصيدة ظلت دوماً منظورا إليها كنصّ شفوي.
وبالجملة، فقد خلص هذا البحثُ إلى مجموعة من النتائج؛ أكدت جميعها على انفتاح القصيدة الزجلية الحديثة على زمنها الشعري والثقافي، وسعْيها الدؤوب من أجل الانتساب إلى كتابة شعرية حديثة؛ تُحقّق بها الإبدالَ عمّا استقرت عليه القصيدة الزجلية التقليدية المسمّاة الملحون والقصيدة الزجلية الغنائية ذات النزوع الوجداني .
وإذا كانت الدراسة قد انتهت إلى نتائجَ ذاتِ صلةٍ بهذه الأسئلة التي اعتمدناها منطلقاً للبحث، فإنّها في المُقابل أنتجت أسئلةً شعرية وثقافية جديدة؛ من شأنها أنْ تُحفّـزَ على إعادة النظر في القضايا التي تمَسّ طبيعة وهوية الشعر المغربي المعاصر، الذي لم يعد مُجديًا، من الزاوية النظرية والمنهجية، مقاربته في واحديته وأحاديته بل في تعدّده وتنوّعه.
وبعد، ليست هذه الدراسة إلا وليدة أسئلة، لطالما واجَهتني وأنا أتابعُ المتن الزجلي الحديث في المغرب، حيث الرغبة في اسْتجـْلاءِ خصائصه الفنية واللغوية والجمالية، والسعيُ نحو إيجادِ نسبِه إلى الكتابة وإلى ما يصِله بالحداثة وبالقصيدة المغربية والعربية المكتوبة بالفصحى. لقد استهدفتِ الدراسة وهي تقرأ متنَ الشاعر أحمد لمسيّح، التأكيدَ على قيمة وشعرية قصيدة الزجل في المغرب، خاصة في اللحظة التي تنجحُ فيها هذه القصيدة في بناء ممارسة نصّية لها الغواية و قلق السؤال، وفي إثباتِ هُويتها ككتابة شعرية، وذلك بعيداً عن التراتبيات اللغوية والتصورات النقدية حول هذه القصيدة، التي لم يتم النظرُ إليها كرافدٍ شعري ينبغي إدماجُه في بنية المتن الشعري المغربي القائم بطبيعته على التعدد والتنوّع والاختلاف.
في نهاية هذه الكلمة، يطيب لي أن أتوجّه بعرفاني وشكري إلى الأستاذ الدكتور عبد الرحمان طنكول، الذي تفضّل بقبول الإشراف على هذا البحث ومنح لصاحبه الحرية ، ومحضه الثقة التي هيّأت المناخ العلمي المناسب لركوب الأسئلة الوعرة.
كما أتوجّه بشكري العميق إلى السادة أعضاء لجنة المناقشة: الأستاذ الدكتور عبد الإلاه قايدي، رئيس اللجنة، وإلى الأستاذين الدكتور أحمد شراك والدكتور جمال بوطيب وذلك على الجهد الذي بذلوه لقراءة البحث، مؤكدا لهم اعتزازي المسبق بالملاحظات التي سيبُدونها حول مضمونه وبنائه. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.