من زار نينوى في الماضي.. سيحاول دائما تكرار هذه الزيارة. لخصوصية هذه المدينة من حيث تاريخها وحضارتها المميزة وحاضرها الذي لا نستطيع تشبيهه بأية مدينة أخرى سوى.. نينوى. أول ما يلفت نظرك عند دخولك نينوى هي شساعتها وانفتاحها على السماء وكأنما سماء أخرى هناك على الأرض مرادفة للسماء في الفضاء. وما كان يستقطب المثقفين في هذه المدينة هي المكتبات العديدة المنتشرة فيها ومن أهمها المكتبة المركزية في جامعة الموصل والتي تعتبر من اكبر المراجع الموجودة في المدينة للباحثين والطلبة وكذلك المكتبة المركزية التي تقع قرب مسرح ابن الأثير الذي طالما شهد فعاليات ثقافية عديدة وعزف فيه كبار الموسيقيين الذين لهم شأنهم عربيا وعالميا الآن، وإقامة حفلات لكبار الفنانين العراقيين ممن يعتبرون الآن من اكبر الفنانين العرب أمثال المطرب المبدع كاظم الساهر وغيره. إضافة إلى بعض المكتبات النادرة الموجودة في الأديرة والكنائس المنتشرة في أرجاء المدينة والتي كانت تحتوي على مخطوطات نادرة جدا على رفوفها. ومن أهم المناطق التي كان يرتادها المثقفون لاقتناء الكتب والمصادر في بحوثهم هي منطقة تسمى بـ( شارع النجفي) نسبة لعائلة النجفي العريقة في الموصل مركز محافظة نينوى. ماذا تريدوني أن أحدثكم عن هذا الشارع وأنا أيضا افتقده الآن مثل من رآه من قبل. وما هو حال هذا الشارع وهذه المكتبات الآن.
في سبيل التأكد بعد سماعي لما آلت إليها هذه المرافق الثقافية ذهبت بنفسي لأتفقد هذه الأماكن بعد سنة من الاحتلال. وجدت المكتبة المركزية المجاورة لمسرح ابن الأثير مغلقة تماما وحارساً وحيداً في يده خرطوم الماء يغسل باحة الدخول فبادرت بسؤاله:
ـ متى مواعيد فتح المكتبة؟
وابتسم بسخرية واضحة وأجاب بكل لطف:
ـ المكتبة مغلقة ولا نفتح. لم يعد فيها ما يقرأ كل شيء نهب وسلب ولا يوجد موظفين مختصين لإدارة المكتبة!
لم يكن جوابه صاعقا لي بل استقبلت الجواب ببرود أعصابن لانه لدي خلفية حول الموضوع. وكنت أظن إن هذا الأمر حدث فقط مع المؤسسات الحكومية ولهذا قصدت (شارع النجفي) لأبحث عن بعض الكتب التي احتاجها. عندما دخلت السوق الخاص بالكتب والقرطاسية وكل لوازم المكتبة تفاجأت بالتطور الهائل الذي حصل للمحلات من ديكور وتراكم هذه البضائع الجذابة من قرطاسية ومكتبيات وهدايا جميلة جدا تنفع للمثقفين والطبقة الموظفة، فتفاءلت في أني سأجد ما أريد، كانت هناك مكتبة قديمة وكبيرة جدا أرتادها في سبيل البحث عن مصادر قديمة لا أجدها إلاّ في هذه المكتبة. عبرت الأزقة الضيقة لأصل إلى هذه المكتبة المتوارية خلف العمارات الضخمة والمحلات المبهرجة وأثناء عبوري زقاقا تلو الآخر كنت أتفحص ما حولي من مكتبات صغيرة منتشرة على ضفتي الأزقة. وكنت أقف بين الحين والآخر للمشاهدة وكذلك سؤال صاحب المحل عن الكتاب الفلاني وكنت أرى نفس ردة الفعل على وجوههم ما أن طلبت إحدى كتب ماركيز إلا وتجهم وجه البائع وكأني نطقت بالكفر. ولكن بعد إطلاعي على بضاعته من الكتب لم استغرب تجهمه.95% من كتبه دينية ومذهبية بحتة و 5% هي كتب ذات علاقة بالحاسوب والانترنيت ورسائل الموبايل!
على أية حال لم آبه لما رأيت. لأني كنت مطمئنة بأني سوف أجد ما أريده في المكتبة التي سأقصدها. دخلت المكتبة بعد عبوري عدة أزقة ضيقة، وبدأت التجوال في رحابها التي أخذتني رائحتها مثلما أخذتني الأتربة المتراكمة على الكتب، منها الجديدة ومنها المستعملة ومنها القديمة جدا. سألت صاحب المكتبة عن بعض المصادر التي لم أجدها في تجوالي واخبرني انه ليس لديه غير المعروض ثم استفسرت عن آخر إصدارات دار الشؤون الثقافية، وكنت سأعمل على رصد بعض الإصدارات الشعرية الصادرة عن هذه الدار لصالح إحدى المجلات الدورية، إلا انه أجابني بتجهم وتهجم بعض الشيء وأشار بحاجبيه نفيا مباغتا:
ـ نحن لا نتعامل مع هذه الكتب أو هذه الجهات.
هنا استغربت جوابه وردة فعله، انه نفس الشخص ونفس المكتبة التي كنت ابتاع منها كتبا لماركيز وسيجموند فرويد وفوكنر ومجاميع شعرية لكبار الشعراء الذين لا أجد لهم أثرا الآن في هذه المكتبة وكان يهتم بإصدارات دار الشؤون الثقافية، ما الذي حدث إذا؟
منذ بداية الاحتلال ومدينة نينوى تعيش عزلة ثقافية وعلمية ومنطوية على نفسها في تدبير أمورها الثقافية التي لا يظهر أثرها سوى في بعض القصبات والأقضية والنواحي الآمنة أما في مركز المدينة (الموصل) تكاد المظاهر الثقافية معدومة بالمرة. بإستثناء بعض البهجة التي تضفيها جامعة الموصل بين الحين والآخر من خلال طلبتها المتحمسين للفن والإبداع وإقامة بعض المهرجانات مثل مهرجان المسرح التجريبي الذي يقام سنويا على شرف الطلبة المتخرجين. وهي عبارة عن عرض مشاريع تخرجهم في احتفالية تستمر لأسبوعين تقريبا ترى فيها اللافتات الملونة التي تعلن عن أسماء المسرحيات التي ستعرض في مسرح جامعة الموصل؛ وهو مسرح عريق شهد الكثير من الإبداع الفني أيضا، ولا ادري إن كان هذا المهرجان سيقام هذا العام أيضا أم لا. ولكني تفاجأت إن الأدوار النسائية قليلة جدا وإذا وجدت فمن يؤديها هم من الطلبة الذكور متنكرين بزي نسائي، إلا ممثلة واحدة ولا اعرف كيف صمدت حتى نهاية العرض!!
وعلى صعيد دور النشر فتكاد تكون معدومة واثناء تجوالي بين المكتبات التي تحولت الى معرض للزهور والهدايا والقرطاسية غالية الثمن لفت نظري كتاب جديد يظهر على اطرافه قص المقص الرديء بعنوان (الإغتراب) ولم يتسن لي حفظ اسم صاحب الكتاب الا اني علمت من خلال تصفحي السريع انه استاذ جامعي مهتم بالثقافة. وقدم هذا الكتاب الذي يتناول الاغتراب الداخلي للمبدع على مر التاريخ ليكون في متناول المثقف داخل المدينة في ظل غياب الكتب المستوردة. وعلمت ان الكتاب طبع في احد مطابع المدينة وبنسخ محدودة على نفقة المؤلف. لو كان كل مثقف متمكن حذا حذو هذا الاستاذ لما خليت ساحتنا من المظاهر الثقافية.
أما المهرجانات الشعرية التي كانت تشتهر بها المدينة فيما مضى فلم يعد لها وجود حتى على النطاق الضيق وكأن الشعر بات ضربا من ضروب الكفر والضلال، وإن كان، فأين كانت هذه العقول حينها ولمَ لمْ تمنع ذلك في وقتها. كيف يحدث هذا لمدينة الأنبياء والكتب المُنزلة وأولى الحضارات البشرية المتمثلة بحضارة آشور ونمرود والتي ما أن تدخل المدينة ترى بواباتها وأسوارها ما زالت قائمة في وسط المدينة وامتداداً إلى أطرافها. حيث تدخل تحس انك في عصر آخر لا يمت صلة بعصرنا هذا. ولكن هيهات بين دخولك الآن ودخولك قبل الأحداث.
باتت المدينة مكتبة جوالة للعبوات الناسفة ومرتعا ومنتجعا للسيارات المفخخة، وترصع سمائها الأرضي الطلقات العشوائية والمختلفة المنشأ جراء مقابلات مفاجئة مع جماعات لا تعرف هويتها. كل ما تستطيع معرفته هو انك تسمع أصوات القنابل وصواريخ الكاتيوشا وتسمع وابل الرصاص. ولا تعرف ماذا يجري في الخارج. وبما إننا هنا تعلمنا كيف نخفي أنفسنا من الأحداث فلا نشاهد ما يحدث عمدا حتى لا نكون شهود على ما نرى ونضطر إلى الاستدعاء ونحتار هل نقول أم نكتم الشهادة ؟ لان في كلا الحالتين نكون مدانين.. فعدم الرؤية هي الأفضل في هذه الأحوال لأنك لا تعرف أي جهة تحدثك لحظتها! ولا أحدثكم عن المعارض التشكيلية التي صارت تجامل القائمين عليها وتتخذ أشكالا دينية بعد أن أنجبت هذه المدينة كبار الفنانين التشكيليين من التجريديين.
ولكن ما هي حال طلبة الدراسات العليا في اللغة العربية .. عندما تطلع على هذه الرسائل ستلاحظ توجها واحدا هو اتخاذ الدراسات القرآنية مادة لرسائلهم ونادرا ما تجد رسالة جريئة تتخذ من الأدب الحديث أو الحداثة مادة لها. والغريب أن الطالب دائما يحصل على درجات عالية عند اختياره للمواضيع الدينية رغم معرفتنا مدى صعوبة مثل هذه الدراسات وفي ظل غياب علماء اللغة الحقيقين بعد تهجيرهم او قتلهم !
في الآونة الأخيرة ونظرا لتواجدي على الانترنيت عبر بعض أعمالي الإبداعية في الشعر عرض علي من جهات عديدة للعمل في رصد المشهد الثقافي في المدينة لأنهم يعلمون حق اليقين أن لا وجود للمثقف المهتم بالأدب والشعر هنا وكانوا يبدون استغرابهم أحيانا لتواجدي لحد هذه اللحظة، بعد هجرة معظم المثقفين من المدينة، وكنت بدوري اعتذر في تلبية طلبهم لأني بذلك سوف ألفق الأخبار والمشهد. فلم يعد هناك مشهد ثقافي في المدينة، رغم إنها مدينة مجاورة لكوردستان العراق، وشتان ما بين المشهد الثقافي في كوردستان الذي يعمل على قدم وساق وبين المشهد في مدينة نينوى، لم يصبها غير ما أصاب بقية العراق من نكبات.
إن شئنا أم أبينا.. فهذه هي مدينة نينوى لمن كان يعرفها ولمن لا يعرفها الآن.. مدينة الأشباح والذكريات الجميلة.. وربما هذه الذكريات هي المشجع الوحيد للمثقف هنا حتى يواصل ويواصل في ظل شبح الموت.
نينوى / شمال العراق منال الشيخ