"لغة الطفل العربي في عصر العولمة": نحو استراتيجية لغوية للعالم العربي
رسالة فلسطين
"لا وسيلة لزعزعة أية ثقافة إنسانية إلاّ بخلخلة مرجعياتها اللغوية" د. عبد السلام الـمسدّي هل توجد استراتيجية لغوية للعالـم العربي؟ وهل يمتلك العرب أساساً مشروعاً لغوياً؟ هل تعاني لغتنا العربية في عصر العولـمة؟ وإذا سلّمنا بأنها تعاني؛ فما هي الأخطار والتحديات التي تواجه لغتنا العربية؟ وهل يمكن مقاومة التسلل اللغوي إلى اللغة العربية؟ هل يمكن ذلك في عصر العولـمة؟ ثم، ما هي العلاقة بين كلّ لغة إنسانية وهويتها الثقافية؟ وبين كلّ لغة إنسانية وإبداع أبنائها؟ وماذا عن الثنائية اللغوية للشعوب، التي تتمثل بالصراع بين اللغة الأم واللغة الوافدة؟ تدفقت الأسئلة، وامتد حوار مسؤول وخلاّق، بين مجموعة من العلـماء، والباحثين، والتربويين، والكتّاب، والإعلاميين، من تسع عشرة دولة عربية، وسبع دول أجنبية، خلال جلسات الـمؤتمر العالـمي، الذي نظّمه الـمجلس العربي للطفولة والتنمية، في 17ــ 19 شباط 2007، بمقر الأمانة العامة في جامعة الدول العربية، وجاء انعقاده، في إطار الاحتفال باليوم العالـمي للغة الأم. شارك في الـمؤتمر أربعون طفلاً، من إحدى عشرة دولة عربية، اجتمعوا لنقاش قضاياهم، في ورشة عمل، تنعقد بشكل مواز لجلسات الـمؤتمر وأبحاثه حذّر علـماء اللغة والنقاد الـمتخصصون، من كارثة تتهدد البشرية، في عصر العولـمة، فقد استيقظت الإنسانية على حقيقة مرعبة، وهي اندثار الألسنة البشرية، حيث تشير التقديرات العالـمية إلى أن عدد لغات العالـم الآن يتراوح بين 6000 إلى 7000 لغة، وأن نصف هذه اللغات مهدد بالانقراض في السنوات القادمة، وتسعين في الـمائة منها سينقرض خلال هذا القرن، نتيجة لارتباط العولـمة بالهيمنة الاقتصادية والسياسية للقوى الكبرى، التي تفرض لغتها على الدول الـمتخلّفة اقتصادياً، بالإضافة إلى عوامل التعصب العرقي أو الديني أو اللغوي. هذه الحقيقة، حدت بالأمم الـمتحدة، إلى تضمين حماية اللغات القومية، في اتفاقية حقوق الطفل، الصادرة عنها سنة 1989م، كما تضمنت الوثيقة الصادرة عن اليونيسكو سنة 2003م، فقرة كاملة عن الحقوق اللغوية، معتبرة اللغة مظهراً أساسياً للثقافة الذاتية، محذّرة من خطر انقراض لغات العالـم، داعية إلى صون التنوّع اللغوي، وإلى استخدام "اللغة الأم في التعليم". عبَّر الـمدير العام لليونيسكو، كوشيرو ماتسورا، في الرسالة التي وجهها بمناسبة اليوم الدولي للغة الأم، في 21 شباط سنة 2004، عن خشيته من سرعة اندثار بعض اللغات القومية، (لغتان كلّ شهر في الـمتوسط) ما يستوجب ضرورة حماية التراث الثقافي غير الـمادي للغات. بادر الاتحاد الأوروبي إلى إعلان عام 2001 عاماً أوروبياً للغات، وقام الفرنسيون برفع مستوى تعليم اللغة الفرنسية في الـمدارس الفرنسية، كما يعمل الألـمان على تمتين لغتهم، عبر التخلص مما لا يستعملون من ألفاظ، وتطويرها حتى تتمكن من منافسة اللغة الإنجليزية. أما في الدول العربية، فقد أعلنت الـمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو) بداية العقد العربي للتنمية الثقافية (2005 ــ 2014) الذي تتضمن مشروعاته: العمل على نشر اللغة العربية، وتأكيد حضورها خارج الوطن العربي، وتم الإعلان بمشاركة الـمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإسيسكو). وبالرغم من جهود الـمنظمات العربية، وبعض الدول العربية، لتمكين اللغة العربية؛ يشير الواقع إلى تراجع واضح للغة العربية بين أبنائها، في الـمدرسة وفي البيت، وفي الشارع، والجامعة، والـمعاهد العلـمية، والـمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، حتى ان خريجاً أو خريجة من مدرسة ثانوية، تعجز عن تحرير مقالة في أي موضوع باللغة العربية أو الإنجليزية، دون أخطاء، كما أكد جميع خبراء اللغة والتربية والثقافة والإعلام، ضمن جلسات الـمؤتمر. وحدد الـمؤتمر تحديات رئيسة تواجه اللغة العربية: خطر افتقارها لـمفردات العصر ومصطلحاته، وخطر اللهجات الدارجة التي طغت على الفصحى، وأصبحت تستعمل في معظم مجالات الحياة في البلاد العربية، وخطر اللغات الأجنبية، التي تنافس اللغة العربية في التعليم العالي، وفي النشاط الثقافي والإعلامي. ومن هنا جاءت جلسات الـمؤتمر لتناقش هذه التحديات والأخطار، وتدعو إلى حق الطفل العربي في امتلاك لغته القومية، وتناقش الدور الذي يمكن للطفل ان يؤديه في حماية لغته القومية، عبر تمكينه من استخدامها بكفاءة، وعن طريق تزويدها بما تحتاج إليه لتلبي حاجات الـمستقبل، كما تؤكد أن اللغة العربية هي جسر للتواصل مع الثقافات الأجنبية، ودعم للتنوع الثقافي البشري. العربية مهددة بالاندثار، وهذا ليس من كلام الأيديولوجيا، الـمطلوب حضارياً وفكرياً وسياسياً إيقاف النزيف، وأن نعجل بتشييد حصن يقي من الانزلاق التدريجي. هذا ما اكده د. عبد السلام الـمسدّي، أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، في محاضرته الـموجهة إلى سياسيي التربية ومفكريها وعلـمائها، وإلى صنّاع القرار في العالـم العربي، مذكراً بالصلة الوثيقة بين القرار السياسي ومقومات الهوية الحضارية والحقائق الثقافية والـمعرفية، منبهاً إلى الكثير من الشعارات التي يجري تشويهها، انتصاراً لتسويق فكر العولـمة. انتهى الـمؤتمر إلى مجموعة من التوصيات في مجالات: التعليم، والإعلام، وأدب الأطفال، والترجمة، فأوصى بتطوير الأنظمة التعليمية العربية، وإيلاء اهتمام خاص بمعلـمي وأساتذة اللغة العربية مادياً وأدبياً، بعد إعدادهم إعداداً جيداً، وإخضاعهم لامتحان شفاهي وكتابي، يختبر مستواهم العلـمي، والتشدّد في شروط القبول في الجامعات وكليات إعداد الـمعلـمين. بالإضافة إلى استكمال التعريب في جميع مراحل التعليم ومستوياته وتخصصاته. وركزت التوصيات على اعتماد اللغة العربية لغة لبرامج الأطفال الإذاعية والتلفازية في البلدان العربية، وتشجيع الإنتاج التعليمي والترفيهي الـموجَّه للأطفال، وإنشاء قنوات مخصّصة كلياً للأطفال، على أن يكون التداول فيها بالعربية، والطلب إلى الدول العربية سن تشريع يمنع استخدام غير اللغة العربية في الإعلانات بجميع أشكالها. وجّه علـماء اللغة نداءهم، إلى كل الغيورين على اللغة العربية، وكلّ اللغات الأم في العالـم، منبهين إلى أن اندثار اللغة العربية خسارة كبرى لا للعرب فقط؛ بل خسارة للعلـم الإنساني، علـم اللغة، "فالعلـم يكون أول الخاسرين قبل أهل اللغة". ألسنا في مرحلة يعم فيها استشراف الـمستقبل؟ الإصلاح العربي؟ ودخول الـمستقبل يكون من باب الإصلاح: الإصلاح الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي؟ لـم لا نربِّع الثالوث، ونعلن اليوم ضرورة الإصلاح اللغوي؟". الحفاظ على اللغة حفاظ على الهوية: كوريا والصين نموذجاً ضع شعباً في السلاسل/ جرِّدهم من ملابسهم/ سدّ أفواههم .. لكنهم ما زالوا أحراراً/ خذ منهم أعمالهم .. وجوازات سفرهم/ والـموائد التي يأكلون عليها/ والأسرَّة التي ينامون عليها/ لكنهم ما زالوا أغنياء/ إن الشعب يفتقر ويستعبد/ عندما يسلب اللسان الذي تركه له الأجداد/ وعندها يضيع إلى الأبد". اجنازيا بوتينا/ شاعر صقلي ما دور اللغة العربية الفصحى في البلدان الواقعة تحت الاحتلال؟ وماذا عن البلدان التي استقلّت، بعد أن أمضت فترة طويلة تحت الاحتلال، مثل الجزائر. ما علاقة اللغة العربية الفصحى باللغات الأخرى، بما فيها الأمازيغية؟ اللغة العربية الدارجة؟ الفرنسية؟ وكيف تتجسد العلاقة بين الـمستعمِر والـمستعمَر، من خلال اللغة؟ كيف تحافظ اللغة العربية على وجودها، في ظلّ هيمنة الاستعمار والاحتلال في فلسطين والعراق؟ تلاحقت الأسئلة، بينما كنت أستمع إلى تجارب عالـمية، في الحفاظ على اللغة الأمّ، ضمن جلسات مؤتمر: "لغة الطفل العربي في عصر العولـمة". شدَّتني التجربة الكورية الجنوبية، والتجربة الصينية، ووجدتني أستمع باهتمام وإعجاب كبيرين إلى تفاصيل التجربتين. أدركت كوريا الجنوبية مكانة اللغة الأم، وعلاقتها بالهوية، وخاصة بعد الاحتلال الياباني، الذي عمد إلى طمس الهوية، عبر فرض اللغة اليابانية، لتدرَّس في الـمدارس الكورية، عام 1931م؛ لذلك عمد الكوريون فور استقلالهم، بعد الحرب العالـمية الثانية 1945م، إلى الاهتمام الـمضاعف باللغة الكورية، مدركين أن استلاب اللغة يعادل ضياع الهوية. كما أدركوا أن الحفاظ على اللغة، ليس مجرد شعار، فبادروا إلى الحفاظ على لغتهم، عبر الاهتمام بالـمدرسة، والـمعلـم، والكتاب، والـمكتبة. قدّروا الـمعلـم معنوياً ومادياً، حتى أن راتب الـمعلـم في مرحلة التدريس للطفولة الـمبكرة، لا يقل عن ألفين وثلاثمائة دولار شهرياً. ولا يسمح له بتعليم دروس خصوصية؛ وإلاّ فقد عمله إلى الأبد. واستدعى هذا الاهتمام، أن يشترط فيمن يتخصص في تعليم اللغة للأطفال، اجتياز امتحان قدرات لغوية، شعراً ونثراً شفهياً وتحريرياً. اهتموا بشكل الكتاب الخارجي، بالإضافة إلى الرسوم التوضيحية الجذابة من الداخل. أما لغة الكتاب فمتناسبة مع مرحلة الطفل العمرية، من حيث التراكيب والألفاظ وطريقة التقديم. استخدم الكوريون تقنيات تربوية غير تقليدية، تعتمد الحوار، وكتابة التعبير والقصة، وتستعين بالفنون الـمتنوعة، مثل الـمسرح، والتمثيل، كما تستعين بالـمسابقات، والرّحلات العلـمية والترفيهية، وتدرب الأطفال على استخدام الحاسوب، ووسائل الـمعلومات الدولية.وأولى الكوريون أهمية خاصة للقنوات التلفزيونية، فخصّصوا خمس قنوات منها للأطفال، كما خُصص في القنوات الأخرى وقت محدّد لبرامج الأطفال، وكلّها تبث باللغة الكورية الفصحى. أولى الكوريون اهتماماً بالتأليف والترجمة للطفل، حتى أن ما يؤلّف ويترجم في جميع فروع الـمعرفة، يخصّ الطفل منه 37%. ومن أجمل ما سمعت حول سبل تشجيع الأطفال على القراءة؛ اعتبار قراءة الكتب مجانياً، في الـمكتبات العامة والخاصة، حقّا للأطفال على مجتمعهم. أنشأوا ركناً خاصاً بالأطفال، مجهزاً بمقاعد ومكاتب، حيث يتاح لهم قراءة ما يشاؤون، دون أي إزعاج من صاحب الـمكتبة. أما عن اللغة الأجنبية، وهي الإنجليزية، فهي تدرَّس منذ الصف الثالث الابتدائي، حتى مراحل الدراسة كافة، كمادة إجبارية. وفي الثانوية العامة، يتمكن الطالب من اختيار لغة أخرى من بين اللغات: اليابانية، والصينية، والفرنسية، والإسبانية، والروسية، والعربية، والألـمانية. لو كانت اللغة فحماً؛ لكان الشاعر هو الشخص الذي يوقد هذا الفحم، ولكان الضياء في ألسنة اللهب، هو الشعر الذي يضيء القلوب". هان زو رونج/ شاعر صيني آمن الشعب الصيني بأن الشعر هو فنّ اللغة، الأمر الذي جعل تجربتهم تعتمد بشكل أساس على تعليم الشعر، طريقاً للحفاظ على هوية الأمة، لأن الشعر يعبِّر عند الصينيين عن عزيمة الشعب، وعن الأمل. وطالـما شكَّل الشعر القديم عموداً أساساً في الثقافة التقليدية الصينية، حتى أن كتابة الشعر شكَّلت ميزة للـمواطنين الصينيين، وسبباً لاختيارهم للوظيفة الحكومية. يبدأ الطفل تعلـم الشعر منذ الطفولة الـمبكرة، ومع تعلـم أحرفه الأولى، يمكنه حفظ ما يزيد على مائة قصيدة، كما يؤكد الصينيون؛ لأن الذاكرة قبل سن الثالثة عشرة تكون الأقوى، فيكون الطفل أقدر على التعلـم والحفظ والاستيعاب. فالشعر يمكن أن يحوِّل الحجر إلى ذهب، كما يؤمن الصينيون. وفي مرحلة الشباب، تحرص الصين على رفع أهمية تعليم الثقافة القومية، من خلال الـمدارس والجامعات. تعنى كل مدرسة، ليس فقط بتعليم اللغة الأم، بل بإتقانها أيضاً. وهناك معاهد أسست خصيصاً داخل الجامعات من أجل ترسيخ الثقافة القومية. وتعقد أنشطة لإلقاء الشعر، وتنظيم الـمسابقات الشعرية، بين الشباب بشكل واسع، وبإشراف متخصصين. هل هناك شعب ينتقص من قدر لغته، قدر الشعب العربي؟ هزَّني السؤال، وانتابني شعور بالأسى، واختلط بمشاعر الإعجاب والتقدير للتجربتين: الكورية والصينية. ها هي الشعوب التي تحترم لغتها الأم؛ تعيد الاعتبار لهويتها وكيانها، وتكتسب احترام العالـم. اليابان مثلاً، ورغم تفوّقها التقني، لـم تعمل على رفع مستوى اللغة الأجنبية في بلدها، على حساب لغتها الأم؛ بل حافظت على لغتها، وأتاحت لقلة من مواطنيها إتقان اللغة الأجنبية، حتى تنقل التقدم التكنولوجي إلى اللغة اليابانية، ضمن استراتيجية مدروسة جيداً. متى نعيد الاعتبار إلى لغتنا العربية؟ متى نكفّ عن التباهي بإجادة أولادنا أكثر من لغة أجنبية، مقابل عدم اكتراثنا بضعفهم في اللغة العربية؟ كيف يمكن زيادة كفاءة مدرِّسي اللغة العربية؟ وهل يمكن زيادة مخصصاتهم الـمادية، وتكريمهم معنوياً؟ حتى يجدوا الوقت الكافي للحوار مع الأطفال، ولتنظيم نشاطات طوعية، مثل مسابقات الكتابة الإبداعية، وإحياء تقاليد قديمة مثل: "سوق عكاظ"؟ ألا يجب أن نمنع السخرية من العربية، وخصوصاً في مجال الإعلام؟ وهلاً نهتمّ بكل ما يؤلف للطفل، وبما يترجم له، ونزيد البرامج الـموجهة إلى الأطفال، التي تستخدم الفصحى، بشكل يجمع بين الفائدة والإمتاع؟ ولـماذا لا نطالب بقانون يوجب كتابة الإعلانات باللغة العربية؟ متى نُخلِص للغتنا، ونُخَلِّصها من شعور أبنائها باحتقار الذات. ولـماذا لا نثبِّت لغة الطفل الأم أولاً، ثم نفتح أمام أطفالنا أبواب الـمعرفة الإنسانية على اتساعها؛ الأمر الذي يتيح لهم أن يبدعوا بلغتهم، ويضيفوا إلى التراث الإنساني؟ faihaab@gmail.com
"لا وسيلة لزعزعة أية ثقافة إنسانية إلاّ بخلخلة مرجعياتها اللغوية" د. عبد السلام الـمسدّي
هل توجد استراتيجية لغوية للعالـم العربي؟ وهل يمتلك العرب أساساً مشروعاً لغوياً؟ هل تعاني لغتنا العربية في عصر العولـمة؟ وإذا سلّمنا بأنها تعاني؛ فما هي الأخطار والتحديات التي تواجه لغتنا العربية؟ وهل يمكن مقاومة التسلل اللغوي إلى اللغة العربية؟ هل يمكن ذلك في عصر العولـمة؟ ثم، ما هي العلاقة بين كلّ لغة إنسانية وهويتها الثقافية؟ وبين كلّ لغة إنسانية وإبداع أبنائها؟ وماذا عن الثنائية اللغوية للشعوب، التي تتمثل بالصراع بين اللغة الأم واللغة الوافدة؟
تدفقت الأسئلة، وامتد حوار مسؤول وخلاّق، بين مجموعة من العلـماء، والباحثين، والتربويين، والكتّاب، والإعلاميين، من تسع عشرة دولة عربية، وسبع دول أجنبية، خلال جلسات الـمؤتمر العالـمي، الذي نظّمه الـمجلس العربي للطفولة والتنمية، في 17ــ 19 شباط 2007، بمقر الأمانة العامة في جامعة الدول العربية، وجاء انعقاده، في إطار الاحتفال باليوم العالـمي للغة الأم. شارك في الـمؤتمر أربعون طفلاً، من إحدى عشرة دولة عربية، اجتمعوا لنقاش قضاياهم، في ورشة عمل، تنعقد بشكل مواز لجلسات الـمؤتمر وأبحاثه
حذّر علـماء اللغة والنقاد الـمتخصصون، من كارثة تتهدد البشرية، في عصر العولـمة، فقد استيقظت الإنسانية على حقيقة مرعبة، وهي اندثار الألسنة البشرية، حيث تشير التقديرات العالـمية إلى أن عدد لغات العالـم الآن يتراوح بين 6000 إلى 7000 لغة، وأن نصف هذه اللغات مهدد بالانقراض في السنوات القادمة، وتسعين في الـمائة منها سينقرض خلال هذا القرن، نتيجة لارتباط العولـمة بالهيمنة الاقتصادية والسياسية للقوى الكبرى، التي تفرض لغتها على الدول الـمتخلّفة اقتصادياً، بالإضافة إلى عوامل التعصب العرقي أو الديني أو اللغوي. هذه الحقيقة، حدت بالأمم الـمتحدة، إلى تضمين حماية اللغات القومية، في اتفاقية حقوق الطفل، الصادرة عنها سنة 1989م، كما تضمنت الوثيقة الصادرة عن اليونيسكو سنة 2003م، فقرة كاملة عن الحقوق اللغوية، معتبرة اللغة مظهراً أساسياً للثقافة الذاتية، محذّرة من خطر انقراض لغات العالـم، داعية إلى صون التنوّع اللغوي، وإلى استخدام "اللغة الأم في التعليم".
عبَّر الـمدير العام لليونيسكو، كوشيرو ماتسورا، في الرسالة التي وجهها بمناسبة اليوم الدولي للغة الأم، في 21 شباط سنة 2004، عن خشيته من سرعة اندثار بعض اللغات القومية، (لغتان كلّ شهر في الـمتوسط) ما يستوجب ضرورة حماية التراث الثقافي غير الـمادي للغات. بادر الاتحاد الأوروبي إلى إعلان عام 2001 عاماً أوروبياً للغات، وقام الفرنسيون برفع مستوى تعليم اللغة الفرنسية في الـمدارس الفرنسية، كما يعمل الألـمان على تمتين لغتهم، عبر التخلص مما لا يستعملون من ألفاظ، وتطويرها حتى تتمكن من منافسة اللغة الإنجليزية.
أما في الدول العربية، فقد أعلنت الـمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو) بداية العقد العربي للتنمية الثقافية (2005 ــ 2014) الذي تتضمن مشروعاته: العمل على نشر اللغة العربية، وتأكيد حضورها خارج الوطن العربي، وتم الإعلان بمشاركة الـمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإسيسكو). وبالرغم من جهود الـمنظمات العربية، وبعض الدول العربية، لتمكين اللغة العربية؛ يشير الواقع إلى تراجع واضح للغة العربية بين أبنائها، في الـمدرسة وفي البيت، وفي الشارع، والجامعة، والـمعاهد العلـمية، والـمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، حتى ان خريجاً أو خريجة من مدرسة ثانوية، تعجز عن تحرير مقالة في أي موضوع باللغة العربية أو الإنجليزية، دون أخطاء، كما أكد جميع خبراء اللغة والتربية والثقافة والإعلام، ضمن جلسات الـمؤتمر. وحدد الـمؤتمر تحديات رئيسة تواجه اللغة العربية: خطر افتقارها لـمفردات العصر ومصطلحاته، وخطر اللهجات الدارجة التي طغت على الفصحى، وأصبحت تستعمل في معظم مجالات الحياة في البلاد العربية، وخطر اللغات الأجنبية، التي تنافس اللغة العربية في التعليم العالي، وفي النشاط الثقافي والإعلامي.
ومن هنا جاءت جلسات الـمؤتمر لتناقش هذه التحديات والأخطار، وتدعو إلى حق الطفل العربي في امتلاك لغته القومية، وتناقش الدور الذي يمكن للطفل ان يؤديه في حماية لغته القومية، عبر تمكينه من استخدامها بكفاءة، وعن طريق تزويدها بما تحتاج إليه لتلبي حاجات الـمستقبل، كما تؤكد أن اللغة العربية هي جسر للتواصل مع الثقافات الأجنبية، ودعم للتنوع الثقافي البشري. العربية مهددة بالاندثار، وهذا ليس من كلام الأيديولوجيا، الـمطلوب حضارياً وفكرياً وسياسياً إيقاف النزيف، وأن نعجل بتشييد حصن يقي من الانزلاق التدريجي. هذا ما اكده د. عبد السلام الـمسدّي، أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، في محاضرته الـموجهة إلى سياسيي التربية ومفكريها وعلـمائها، وإلى صنّاع القرار في العالـم العربي، مذكراً بالصلة الوثيقة بين القرار السياسي ومقومات الهوية الحضارية والحقائق الثقافية والـمعرفية، منبهاً إلى الكثير من الشعارات التي يجري تشويهها، انتصاراً لتسويق فكر العولـمة.
انتهى الـمؤتمر إلى مجموعة من التوصيات في مجالات: التعليم، والإعلام، وأدب الأطفال، والترجمة، فأوصى بتطوير الأنظمة التعليمية العربية، وإيلاء اهتمام خاص بمعلـمي وأساتذة اللغة العربية مادياً وأدبياً، بعد إعدادهم إعداداً جيداً، وإخضاعهم لامتحان شفاهي وكتابي، يختبر مستواهم العلـمي، والتشدّد في شروط القبول في الجامعات وكليات إعداد الـمعلـمين. بالإضافة إلى استكمال التعريب في جميع مراحل التعليم ومستوياته وتخصصاته. وركزت التوصيات على اعتماد اللغة العربية لغة لبرامج الأطفال الإذاعية والتلفازية في البلدان العربية، وتشجيع الإنتاج التعليمي والترفيهي الـموجَّه للأطفال، وإنشاء قنوات مخصّصة كلياً للأطفال، على أن يكون التداول فيها بالعربية، والطلب إلى الدول العربية سن تشريع يمنع استخدام غير اللغة العربية في الإعلانات بجميع أشكالها.
وجّه علـماء اللغة نداءهم، إلى كل الغيورين على اللغة العربية، وكلّ اللغات الأم في العالـم، منبهين إلى أن اندثار اللغة العربية خسارة كبرى لا للعرب فقط؛ بل خسارة للعلـم الإنساني، علـم اللغة، "فالعلـم يكون أول الخاسرين قبل أهل اللغة". ألسنا في مرحلة يعم فيها استشراف الـمستقبل؟ الإصلاح العربي؟ ودخول الـمستقبل يكون من باب الإصلاح: الإصلاح الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي؟ لـم لا نربِّع الثالوث، ونعلن اليوم ضرورة الإصلاح اللغوي؟".
الحفاظ على اللغة حفاظ على الهوية: كوريا والصين نموذجاً ضع شعباً في السلاسل/ جرِّدهم من ملابسهم/ سدّ أفواههم .. لكنهم ما زالوا أحراراً/ خذ منهم أعمالهم .. وجوازات سفرهم/ والـموائد التي يأكلون عليها/ والأسرَّة التي ينامون عليها/ لكنهم ما زالوا أغنياء/ إن الشعب يفتقر ويستعبد/ عندما يسلب اللسان الذي تركه له الأجداد/ وعندها يضيع إلى الأبد". اجنازيا بوتينا/ شاعر صقلي
ما دور اللغة العربية الفصحى في البلدان الواقعة تحت الاحتلال؟ وماذا عن البلدان التي استقلّت، بعد أن أمضت فترة طويلة تحت الاحتلال، مثل الجزائر. ما علاقة اللغة العربية الفصحى باللغات الأخرى، بما فيها الأمازيغية؟ اللغة العربية الدارجة؟ الفرنسية؟ وكيف تتجسد العلاقة بين الـمستعمِر والـمستعمَر، من خلال اللغة؟ كيف تحافظ اللغة العربية على وجودها، في ظلّ هيمنة الاستعمار والاحتلال في فلسطين والعراق؟ تلاحقت الأسئلة، بينما كنت أستمع إلى تجارب عالـمية، في الحفاظ على اللغة الأمّ، ضمن جلسات مؤتمر: "لغة الطفل العربي في عصر العولـمة". شدَّتني التجربة الكورية الجنوبية، والتجربة الصينية، ووجدتني أستمع باهتمام وإعجاب كبيرين إلى تفاصيل التجربتين.
أدركت كوريا الجنوبية مكانة اللغة الأم، وعلاقتها بالهوية، وخاصة بعد الاحتلال الياباني، الذي عمد إلى طمس الهوية، عبر فرض اللغة اليابانية، لتدرَّس في الـمدارس الكورية، عام 1931م؛ لذلك عمد الكوريون فور استقلالهم، بعد الحرب العالـمية الثانية 1945م، إلى الاهتمام الـمضاعف باللغة الكورية، مدركين أن استلاب اللغة يعادل ضياع الهوية. كما أدركوا أن الحفاظ على اللغة، ليس مجرد شعار، فبادروا إلى الحفاظ على لغتهم، عبر الاهتمام بالـمدرسة، والـمعلـم، والكتاب، والـمكتبة. قدّروا الـمعلـم معنوياً ومادياً، حتى أن راتب الـمعلـم في مرحلة التدريس للطفولة الـمبكرة، لا يقل عن ألفين وثلاثمائة دولار شهرياً. ولا يسمح له بتعليم دروس خصوصية؛ وإلاّ فقد عمله إلى الأبد. واستدعى هذا الاهتمام، أن يشترط فيمن يتخصص في تعليم اللغة للأطفال، اجتياز امتحان قدرات لغوية، شعراً ونثراً شفهياً وتحريرياً. اهتموا بشكل الكتاب الخارجي، بالإضافة إلى الرسوم التوضيحية الجذابة من الداخل. أما لغة الكتاب فمتناسبة مع مرحلة الطفل العمرية، من حيث التراكيب والألفاظ وطريقة التقديم. استخدم الكوريون تقنيات تربوية غير تقليدية، تعتمد الحوار، وكتابة التعبير والقصة، وتستعين بالفنون الـمتنوعة، مثل الـمسرح، والتمثيل، كما تستعين بالـمسابقات، والرّحلات العلـمية والترفيهية، وتدرب الأطفال على استخدام الحاسوب، ووسائل الـمعلومات الدولية.وأولى الكوريون أهمية خاصة للقنوات التلفزيونية، فخصّصوا خمس قنوات منها للأطفال، كما خُصص في القنوات الأخرى وقت محدّد لبرامج الأطفال، وكلّها تبث باللغة الكورية الفصحى. أولى الكوريون اهتماماً بالتأليف والترجمة للطفل، حتى أن ما يؤلّف ويترجم في جميع فروع الـمعرفة، يخصّ الطفل منه 37%. ومن أجمل ما سمعت حول سبل تشجيع الأطفال على القراءة؛ اعتبار قراءة الكتب مجانياً، في الـمكتبات العامة والخاصة، حقّا للأطفال على مجتمعهم. أنشأوا ركناً خاصاً بالأطفال، مجهزاً بمقاعد ومكاتب، حيث يتاح لهم قراءة ما يشاؤون، دون أي إزعاج من صاحب الـمكتبة. أما عن اللغة الأجنبية، وهي الإنجليزية، فهي تدرَّس منذ الصف الثالث الابتدائي، حتى مراحل الدراسة كافة، كمادة إجبارية. وفي الثانوية العامة، يتمكن الطالب من اختيار لغة أخرى من بين اللغات: اليابانية، والصينية، والفرنسية، والإسبانية، والروسية، والعربية، والألـمانية.
لو كانت اللغة فحماً؛ لكان الشاعر هو الشخص الذي يوقد هذا الفحم، ولكان الضياء في ألسنة اللهب، هو الشعر الذي يضيء القلوب". هان زو رونج/ شاعر صيني
آمن الشعب الصيني بأن الشعر هو فنّ اللغة، الأمر الذي جعل تجربتهم تعتمد بشكل أساس على تعليم الشعر، طريقاً للحفاظ على هوية الأمة، لأن الشعر يعبِّر عند الصينيين عن عزيمة الشعب، وعن الأمل. وطالـما شكَّل الشعر القديم عموداً أساساً في الثقافة التقليدية الصينية، حتى أن كتابة الشعر شكَّلت ميزة للـمواطنين الصينيين، وسبباً لاختيارهم للوظيفة الحكومية. يبدأ الطفل تعلـم الشعر منذ الطفولة الـمبكرة، ومع تعلـم أحرفه الأولى، يمكنه حفظ ما يزيد على مائة قصيدة، كما يؤكد الصينيون؛ لأن الذاكرة قبل سن الثالثة عشرة تكون الأقوى، فيكون الطفل أقدر على التعلـم والحفظ والاستيعاب. فالشعر يمكن أن يحوِّل الحجر إلى ذهب، كما يؤمن الصينيون. وفي مرحلة الشباب، تحرص الصين على رفع أهمية تعليم الثقافة القومية، من خلال الـمدارس والجامعات. تعنى كل مدرسة، ليس فقط بتعليم اللغة الأم، بل بإتقانها أيضاً. وهناك معاهد أسست خصيصاً داخل الجامعات من أجل ترسيخ الثقافة القومية. وتعقد أنشطة لإلقاء الشعر، وتنظيم الـمسابقات الشعرية، بين الشباب بشكل واسع، وبإشراف متخصصين.
هل هناك شعب ينتقص من قدر لغته، قدر الشعب العربي؟ هزَّني السؤال، وانتابني شعور بالأسى، واختلط بمشاعر الإعجاب والتقدير للتجربتين: الكورية والصينية. ها هي الشعوب التي تحترم لغتها الأم؛ تعيد الاعتبار لهويتها وكيانها، وتكتسب احترام العالـم. اليابان مثلاً، ورغم تفوّقها التقني، لـم تعمل على رفع مستوى اللغة الأجنبية في بلدها، على حساب لغتها الأم؛ بل حافظت على لغتها، وأتاحت لقلة من مواطنيها إتقان اللغة الأجنبية، حتى تنقل التقدم التكنولوجي إلى اللغة اليابانية، ضمن استراتيجية مدروسة جيداً. متى نعيد الاعتبار إلى لغتنا العربية؟ متى نكفّ عن التباهي بإجادة أولادنا أكثر من لغة أجنبية، مقابل عدم اكتراثنا بضعفهم في اللغة العربية؟ كيف يمكن زيادة كفاءة مدرِّسي اللغة العربية؟ وهل يمكن زيادة مخصصاتهم الـمادية، وتكريمهم معنوياً؟ حتى يجدوا الوقت الكافي للحوار مع الأطفال، ولتنظيم نشاطات طوعية، مثل مسابقات الكتابة الإبداعية، وإحياء تقاليد قديمة مثل: "سوق عكاظ"؟ ألا يجب أن نمنع السخرية من العربية، وخصوصاً في مجال الإعلام؟ وهلاً نهتمّ بكل ما يؤلف للطفل، وبما يترجم له، ونزيد البرامج الـموجهة إلى الأطفال، التي تستخدم الفصحى، بشكل يجمع بين الفائدة والإمتاع؟ ولـماذا لا نطالب بقانون يوجب كتابة الإعلانات باللغة العربية؟ متى نُخلِص للغتنا، ونُخَلِّصها من شعور أبنائها باحتقار الذات. ولـماذا لا نثبِّت لغة الطفل الأم أولاً، ثم نفتح أمام أطفالنا أبواب الـمعرفة الإنسانية على اتساعها؛ الأمر الذي يتيح لهم أن يبدعوا بلغتهم، ويضيفوا إلى التراث الإنساني؟
faihaab@gmail.com