يكتب محرر (الكلمة) عما جرى للثورة المصرية خلال العامين الماضيين، وعن الفرص المضيّعة، ومؤامرات الثورة المضادة الصهيوأمريكية ضدها، وعن مصادر العنف الذي تعيشه الآن في عيدها الثاني، وكيف أن وراء هذا كله رفض الثوار سد طاقة الأمل التي فتحتها الثورة لهم، واستحالة العودة للأفق المسدود.

عامان على الثورة .. والثورة المضادة

صبري حافظ

اكتب هذا المقال احتفاءً بمناسبة  مرور عامين على الثورة المصرية النبيلة. فقد اندلعت الثورة المصرية وأنا في الهند. وكانت تلك زيارتي الأولى للهند، والتي اكتشفت بحق أنها شبه قارة كما يدعوها الانجليز. فخططت أن أزور في رحلتي الأولى لها ثلاث مدن هندية كبيرة هي دلهي، ومومباي، وبنجالور؛ لكل منها دلالاتها على حاضر الهند وماضيها، وأن أكتب عن هذه الرحلة. وبينما كنت في وسط الرحلة، وفي آخر أيامي في مومباي أتفكر، وأنا بالكاد استوعب ما رأيته في دلهي ومومباي، في كيف استطاعت الهند برغم هذا الفقر المدقع والتعداد المهول (تجاوزت المليار نسمة) أن تصبح واحدة من مجموعة البريكس (BRICS) الخمسة، أي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. وهي الدول التي استطاعت أن تتملص من أمراس التهميش التي تفرضها آليات نظام العالم الراهن، ونزح منهوباته. وهو تهميش يتحكم فيه المركز (أي أميركا والغرب الأوروبي) برأسماليته المالية وعولمته المتوحشة، ويديره بمراوغة جهنمية. وأن تحتل مكانا مرموقا في هذا العالم الصعب، وأهم من هذا كله أن تفتح أفق الأمل في التقدم ولعب دور مهم في العالم أمام مواطنيها. وقد كان المواطنون على مستوى المسؤولية بالصورة التي اصبحت معها مدينة بنجالور عاصمة البرمجيات الحديثة في العالم. ناهيك عن امتلاك الهند للقنبلة النووية، وتحقيقها لمعدلات نمو عالية ومستمرة، وهي المستعمرة السابقة التي حصلت على استقلالها عام 1947 بعد حصول مصر على استقلالها الشكلي بمعاهدة 1936 بعشرة أعوام، وقبل جلاء المستعمر عن مصر عام 1956 بسنوات قليلة.

وبينما أنتهي من أيامي في مومباي غير قادر على استيعاب مدى ما بها من فقر وشظف، واشد الرحال إلى بانجالور، وأنا أناقش مع نفسي سر تخلفنا وتقدم الهند. لأن رحلاتي دائما ما تردني لتأمل ما جرى في مصر من منظور كل جديد أراه. فثمة قواسم مشتركة كثيرة تجمعنا مع الهند هي الفقر وإرث الاستعمار الانجليزي، ومع هذا تقدمت الهند وتردت أوضاع مصر بلا انقطاع. هل لأننا ثقافة مهزومة لم نبرأ من عقابيل  الهزائم بعد؟ فما أن بدأنا نبني بلدنا بعد الاستقلال، حتى عصفت بنا هزيمة 1967 الرهيبة، وهي هزيمة فادحة لم نبرأ من عواقبها المريرة حتى الآن، ولا يستطيع شعب مهزوم أن يبني بلدا عصريا حرا وحديثا. خاصة وأن ما سمي بانتصار أكتوبر، لم يكن في حقيقة الأمر إلا تكريسا مراوغا للهزيمة حيث انتهت الحرب برفع علم العدو الصهيوني في عاصمتنا، أكبر عاصمة عربية. ارتفع العلم الصهيوني البغيض في مصر، وفرض وجوده الكريه على مثقفينا في معرض الكتاب، بينما كانت أرضنا لاتزال محتلة. وحتى حينما غادرها العدو فقد كبلها بتلك الاتفاقية المشؤومة التي لانزال نعاني من خطلها حتى اليوم. وبقيت بقية الأرض العربية محتلة حتى اليوم. أقول بينما أنا غارق في هم أثر الهزيمة المدمر على مصر، وكيف انتقل بها من هوان الهزيمة إلى التردي في مباءة التبعية الكاملة لمخططات العدو الصهيوني، بالصورة التي أصبح بها النظام المصري الذخر الاستراتيجي للعدو الصهيوني، اندلعت الثورة المصرية في 25 يناير، وأصبحت حديث العالم كله.

فتعجلت العودة إلى الدوحة، ورابطت في قناة الجزيرة التي دخلتها وقتها للمرة الأولى، أشارك عبرها يوميا وفي منبريها العربي والانجليزي، ولعدة ساعات في بعض الأيام، في الثورة الدائرة في ميدان التحرير. فقد كانت الجزيرة وقتها منبرا مغايرا لما آلت إليه الآن، حيث أصبحت بوقا فجا للإخوان، وفقدت الكثير من مهنيتها ومصداقيتها، وجمهورها. وقد ملأتني الثورة بحماس لم أعرفه منذ تدربت في شرخ الصبا على حمل السلاح إبان العدوان الثلاثي على مصر. وأحسست كلما ازداد عنفوان الثورة وتصاعد زخمها أن ساعة مصر للتخلص من عبء الهزيمة والهوان الذي أثقل كاهلها لعقود، ومرغ كرامتها في التراب قد حانت. وأننا يمكن أن نلحق بالهند، لأن مشاكلنا في حقيقة الأمر أقل من مشاكلها، وإمكانياتنا أكبر.

ولو قال لي أحد أيام احتدام هذه الثورة وتفتقها عن استراتيجيات مسيرتها الخلاقة معا، ناهيك عقب انتهائها بتنحي مبارك، وما نتج عنه من فرحة شعبية غامرة دفعت الثوار إلى تنظيف الميدان ودهان أرصفته قبل مغادرته، أن تلك الثورة العظيمة ستؤول إلى ما نعيشه الآن من تخبط الإخوان وشرههم للسيطرة دون أي تفكير فيما يريدون تحقيقه بتلك السيطرة، أو التمكين، أو التكويش، أو غيرها من المصطلحات، فليس لديهم أي مشروع يليق بتلك الثورة التي يتبجحون بالحديث باسمها، لتصورت وقتها أنها مزحة سوداء. أو أنها تكهنات كاره غبي للثورة، لا يعرف شيئا عن حركة التاريخ، ولا يدرك طبيعة ذكاء المصريين الفطري وحقيقة قدراتهم الخلاقة وتصميمهم على صياغة مستقبل أفضل. ولو قال لي أحد وقتها أن المتأسلمين والمتأسلفين حينما يصلون إلى الحكم سينسون أبسط قواعد الإسلام الذي تاجروا به، وتمسحوا بتعاليمه السمحة لعقود، وأنهم سينتهجون الكذب والتحالف مع العدو الصهيوأمريكي، وسيتفوقون على نظام مبارك المخلوع في تزوير الانتخابات، ويضيفون الجديد لبذاءاته، لتصورت أنها مبالغات كاره للإسلام السياسي.

كيف قرأ العالم الثورة والربيع العربي عقب تفجره
فقد كنت أقرأ وقتها في الصحف والدوريات الغربية المختلفة ثناء كبيرا على الثورة المصرية، وتوقعات كبيرة لها. كانت الثورة المصرية بملايينها المتدفقة كنهر بشري جارف إلى الشوارع تنادي بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية قد استطاعت بعفوية شبابها الخلاق أن تدير رأس العالم بأكمله. لأنها كانت تزلزل النموذج الذي طالما روج له نظام العولمة الوحشي الذي ساد العالم منذ ما سمي بنهاية التاريخ، على أنه النموذج المثالي لدول الهامش، نموذج الاقتصاد التابع والسياسات الذليلة، والديموقراطيات المشوهة، والنهب المستمر الذي يصب في خزائن المركز، ويضخ الدم في عروق اقتصاده. بعدما نجحت الثورة التونسية قبلها في إجبار بن علي (نموذج آخر لتبعية الهامش وفساده وانسحاق مواطنية) على الفرار ببعض منهوباته. وما أن نجحت الثورة في الإطاحة بنظام مبارك، فقد ظن الجميع مع الثوار النبلاء أن النظام الذي نادوا بإسقاطه قد سقط، وليس رأسه فقط، حتى بدأ الكثيرون من أبرز مفكري العالم المعاصرين، من سلافو جيجيك (السلوفيني) إلى أنطونيو نيجري (الإيطالي)، ومن بيري أندرسن (الانجليزي) إلى ألان باديو (الفرنسي) ومن نعوم تشومسكي إلى إيمانويل والرشتاين ومايكل هارديت (الأمريكيين) يكتبون عن أهمية هذه الثورة. وعن قدرتها الجبارة على كشف عورات النظام الراهن وبلورة رؤية بديلة، رؤية شابة تنادي بالكرامة الإنسانية، والحرية الحقيقية، والعدالة الاجتماعية، وهي كلها قيم إنسانية وأخلاقية نبيلة غائبة حتى من عالم المركز نفسه، وليس من الهامش فحسب. ولهذا كانت أصداء الثورة في قلب أميركا نفسها باعتصامات وول ستريت الشهيرة، وفي قلب أوروبا الغربية نفسها بطوفان تظاهراتها من اليونان وحتى أسبانيا.

وبدا من أطروحات هؤلاء المفكرين المختلفة أن الثورة لا تتيح لمصر فرصة النهوض واللحاق بمجموعة «البريكس» فحسب، بل فرصة ذهبية بفضل بلورتها للموقف الأخلاقي الأعلى أن تقود حركة تغيير هذا النظام الجائر في القرن الجديد، وأن تنتشل مصر من وهدة الفساد والهوان والتخلف والتبعية. كما كان ظاهرا لكل ذي عينين أن الثورة قادرة على تحقيق هذا كله، من استشراء القلق في الدوائر الصهيوأمريكية والتخطيط المحموم فيها ضد الثورة. وبدلا من ان تتضافر كل القوى المصرية من أجل دفع الثورة في طريق بلورة إسهامها للعالم، ولعب دور أساسي فيه من ناحية، والتخطيط لمشروع جدير بمصر الجديدة التي ثارت واستيقظت من ناحية أخرى، بدأت لمرارة المفارقة مؤامرات القوى المصرية ضدها، مدعومة بمراكز الثورة المضادة الرئيسية (في الولايات المتحدة الأمريكية) التي اجتمع مجلس أمنها القومي 21 مرة طوال أيام الثورة الثمانية عشر للعمل على إجهاضها وإفراغها من محتواها. فبينما كان الثوار يضحّون بدمائهم وعيونهم في ميادين الثورة، كان المجلس العسكري يتلقى مكالمات يومية من البيت الأبيض والبنتاجون للتنسيق من أجل إجهاض الثورة ومحاصرتها.

الفرص التي ضيعها العسكر وبددها الإخوان:
وبدلا من أن ينتهز المجلس العسكري فرصة الثورة، والتفاف المتظاهرين حوله، تحت شعار «الجيش والشعب إيد واحدة» للتخلص من عار التبعية للمخطط الأميركي، أو الالتزام بالاتفاقات الصهيوأمريكية الجائرة، ويقف مع الثورة يعزز مشروعها ويسترد بها ومعها استقلاله وكرامته، تآمر عليها وشارك من جديد في سفك دماء المزيد من شبابها الأبرار من البالون إلى ماسبيرو إلى محمد محمود والقصر العيني/ مجلس الوزراء. وضيع المجلس العسكري الفرصة على نفسه، وعلى الثورة معا. ودفعت الثورة ثمنا فادحا، كما دفع المجلس الثمن.

وبدأت مؤامرات الثورة المضادة تؤتي أكلها، بتخليق شرعية انتخابية لنظام من الإخوان المتأسلمين الشرهين للسلطة والنهب، يحل محل نظام مبارك المخلوع، دون أن يغير شيئا من توجهاته أو سياساته الاقتصادية منها والخارجية والداخلية على السواء. وأخذت تلك القوى المتأسلمة والمتأسلفة تسير على خطى المجلس العسكري في تضييع فرصة مصر في مستقبل افضل، وتنهال على الثورة تدميرا، وعلى الثوار قتلا وتشويها. وما أحداث سيناء ومحمد محمود الثانية وقصر الاتحادية في زمن محمد مرسي إلا تكرارا لنفس منهج مبارك/ المجلس العسكري. وما استحكام الأزمة الاقتصادية الخانقة التي نعيشها اليوم واستجداء القروض، والانصياع لشروطها، إلا برهانا على أننا ضيعنا فرصة الثورة الثمينة لاسترداد استقلالنا الاقتصادي، وهو العماد الأول لأي استقلال سياسي. بل إن ما تكشف من استراتيجيات الإخوان بعد وصولهم للسلطة، سواء في تعاملهم مع أصدقاء محمد مرسي الحميمين مرة، واليهود الملاعين أخرى، من أعدائنا الصهاينة، أو في انصياعهم لشروط صندوق النقد المجحفة، والميسرة لعمليات النهب المستقبلية التي ستتم على أيدي رجال أعمال الإخوان هذه المرة بعد التمكين، أو في تشويه كل من يعارض سياساتهم من الثوار الحقيقيين، أو في تزوير الاستفتاء على الدستور الباطل، أقول إن ما تكشف عنه سياسات الإخوان في هذه المجالات يؤكد أن نظام مبارك لايزال يحكم مصر برغم الثورة، مرة في زي المجلس العسكري، وأخرى من وراء اللحى الإخوانية الكذوب.

فما يشترك فيه حكم الإخوان مع المجلس العسكري هو العجز عن رؤية عظمة هذه الثورة ونبلها واحتلالها للموقف الأخلاقي الأعلى، وقدرتها على أن تكسب لنا في العالم أنصارا غير انصار نظام مبارك الذين يتحالف الإخوان معهم كي تبقى مصر مهانة وتابعة ومهيضة. وما يشتركون مع المجلس العسكري فيه أيضا هو ما أدعوه بالعمى التاريخي والرغبة في إعادة عجلة الزمن للوراء، أو في تكرار ما جرى في إيران وسيطرة الملالي على ثورتها في مصر. والتاريخ يعلمنا أن عجلة الزمن لا تعود إلى الوراء أبدا، وأن التاريخ لا يكرر نفسه، وإن فعل فإن الدورة المأساوية الأولى تتحول إلى مهزلة. والمهزلة هي العنوان الوحيد الذي ينطبق على ما يفعله الإخوان بمصر. فهل قدر على مصر أن تعود بهذه السرعة إلى الوضع الذي ثارت عليه؟ وهل سنرى في العام التالي النهاية الكاملة للثورة؟ أم أننا سنشهد بداية الثورة الثانية؟ هذا هو السؤال الذي ستجيب عليه مظاهرات عيد الثورة الثاني.

وقد أخذت الأيام القليلة التي انصرمت منذ مظاهرات الاحتفال بعيد الثورة المصرية الثاني تقدم لنا بوادر الجواب على هذين السؤالين. حيث انتفض القلب، قلب مصر الدامي والمحبط على مدار عامين من التخبط والتآمر على الثورة والثوار، في ميدان التحرير وميادين التحرير المختلفة بالمدن. وانفجر خط الدفاع الأول عن جسد مصر في مدن القناة الباسلة والإسكندرية. ومع الانتفاضات والانفجارات، وبسبب العنف الذي يقمع به الأمن المتظاهرين، وبوتائر تتسارع وتتصاعد في قسوتها، بسبب المحاولات الجارية لأخونة وزارة الداخلية، يبرز سؤال جوهري جديد: لماذا يختلف مشهد اليوم بعنفه وإحباطاته، عن المشاهد الحضارية الباهرة التي تجلت في أيام الثورة الثمانية عشر؟

التمييز بين أيام الثورة الأولى وما جرى بعدها:
ولابد هنا من التفريق بين ثورة 25 يناير وسياقاتها، وكيف أن الطاقات الشبابية المتحضرة التي فجرتها ورعت خطواتها وصاغت شعاراتها العريضة «كرامة، حرية، عدالة اجتماعية» أو في تنويع آخر «عيش، حرية، كرامة إنسانية» استطاعت أن تجمع كل شرائح الشعب الواعية حولها، وتنمي زخمها واستجاباتها التلقائية لمتغيرات الأحداث إبان أيام الثورة الثمانية عشر، وبين كل ما يدور الآن بعد عامين من مؤامرات الثورة المضادة عليها. فقد كانت الثورة التي فجرها الشباب، وعارضها الإخوان المسلمون في أيامها الأولى، بنت سنوات طويلة من الغضب الكظيم وانسداد الأفق في وجه الشباب. وكان تراكم الكثير من ممارسات نظام مبارك المخلوع قد وسع الهوة بين طبقة من الأثرياء بسفه، وملايين يرزحون تحت خط الفقر الثقيل. وجعل حياة جيلين متعاقبين من شباب مصر، ومن المتعلمين منهم خاصة، لا تطاق ولا تسمح لهم بالحلم بأي مستقبل. وقد انعكس هذا بوضوح في شعارات الثورة التي عبرت عن رغبة الشعب في إسقاط النظام، من أجل نظام أكثر عدلا يتيح لهم العيش الكريم، والحرية الحقيقية لا الزائفة، والتمتع بالكرامة في وطنهم. فلا أمل لأي إنسان في الشعور بالكرامة الحقيقية ما لم تتحقق له تلك الكرامة في وطنه. لأن المهاجر من وطن تابع ومهان، يظل هوان وطنه يلاحقه حتى في مهجره. وكلنا نعرف كيف أن كثيرا من هؤلاء الشبان الذين انسد الأفق أمامهم، كانوا يغامرون بالسفر في قوارب الموت لعبور البحر الأبيض المتوسط، هربا من هذا الهوان، الذي يكتشف القليلون الذين ينجحون في الوصول إلى الشاطئ الآخر منهم، وينجون من الموت غرقا، أنه يلاحقهم في مهاجرهم غير الشرعية.

وقد كان نظام مبارك المراوغ، وحرصه على توفير الكثير من منافذ التنفيس عن الغضب المتراكم الناجم عن انسداد الأفق، ونشره لأوهام النمو والرخاء، وتطويره لآليات جهنمية في القمع والاحتواء، وتعامله الأمني مع التظاهرات التي بدأت مع حركة «كفاية» عام 2004، وتنامت مع «حركة 6 أبريل»، ولم يكن للإخوان ولا لحلفائهم من المتأسلفين أي دور في تلك المسيرة التي امتدت لسبعة أعوام. كان لهذا كله دور في طبيعة ثورة 25 يناير حينما اندلعت شرارتها الأولى، وفي تنامي زخمها، وتعزيز سلمية مساراتها، والتفاف الطبقة الوسطى وبقية الطبقات الشعبية العريضة حولها. كما أن بناء تلك الثورة على تاريخ طويل من المعارضة المدنية والخطاب العقلي الرافض للفساد والهوان والتبعية والذي بلورته كتابات مجموعة من كتاب مصر الشرفاء الذين رفضوا دخول الحظيرة الشهيرة التي رعاها فاروق حسني وبطانته من المثقفين التابعين، ساهم بدوره في سلميتها وتحضرها وما انطوت عليه مساراتها من حدوس خلّاقة.

فقد استطاعت الثورة بحق أن تعبر عن بنية المشاعر الوطنية والثقافية التي بنتها مسيرة النهضة المصرية منذ رفاعة الطهطاوي وحتى أحدث كتاب مصر الشرفاء الذين رفضوا دخول حظيرة النظام الفاسد الذي كانت شرعيته تتآكل في نظر الشعب المصري كل يوم. وأن تضمّن في شعاراتها البسيطة توقا مضمرا إلى استقلال الوطن، وإنقاذه من هوان التعبية للمخططات الصهيوأمريكية في المنطقة. ولهذا كله كان للثورة المصرية هذا التأثير الكبير، بل الطاغي على العالم، والذي تناولت بعض تجلياته في مقال الأسبوع الماضي. لأن أهم ما فعلته هي إحياء الأمل في نفوس الشباب، في أنهم بجسارة ثورتهم، وبما قدموه فيها من تضحيات قد فتحوا طاقة لهم على المستقبل. وأنهم قادرون عبر هذا الأمل على إنقاذ مصر من وهاد الفساد والتردي والهوان. ولا شيء يدفع طاقات الشباب إلى الفعل والخلق والإبداع قدر انفساح الأمل أمامهم وانفتاحه على المستقبل.

سد طاقة الأمل وتفجر العنف والتخبط:
أما ما نشاهده الآن من تخبط وعنف فهو نتيجة مسيرة أخرى جرت على مد العامين الماضيين، وأدت إلى تحطيم هذا الأمل وسد الطريق أمام المستقبل الذي رآه الشباب، وشاهده العالم معهم. مسيرة مغايرة لتلك التي كانت الثورة ذروة التعبير عنها. لأن نبل الثورة، وعفوية الثوار وبراءتهم، اصطدمت بعد أن سلمت الأمر إلى المجلس العسكري بمكيافيلية الثورة المضادة، ونذالاتها، وكل صنوف مؤامراتها، التي حيكت، ولاتزال تحاك في دهاليز السياسات الصهيوأمريكية. وقد بدأ الأمر بتصور غبي من المجلس العسكري، ومن ورائه رعاة الثورة المضادة في البيت الأبيض، بأنه من الممكن إعادة عملاق الثورة الذي انطلق من قمقمه إلى القمقم مرة أخرى. وسد طاقة الأمل التي بزغ نورها فارتعدت له فرائص أعدائها، واستبشر به خيرا شعب مصر بأكمله. وإجهاض الثورة التي نضجت على نيران عقلية هادئة لعقدين من الزمان. ثم تشويه الثوار بعدما تركوا الميادين عقب سقوط رأس النظام، وسلموا إدارة شؤون البلاد ومستقبلها لغيرهم.

ولما وجد الثوار أن المجلس العسكري لا ينفذ أيا من أهداف الثورة، ولا يسعى إلى القصاص لشهدائها، ولا يقوم بتغيير النظام الذي نادت الثورة بإسقاطه، بل يحافظ على أسسه ومرتكزاته، مكتفيا بنفي رأسه إلى شرم الشيخ، اندلعت المليونيات التي أجبرت المجلس العسكري على وضع مبارك وراء القضبان ومحاكمته، وإن شهد جنرالاته ببراءته من التهم الموجهة له أثناء المحاكمة. وبدأ عمل المجلس العسكري بتوجيهات صهيوأمريكية واضحة، وبالتنسيق مع البديل الذي اختارته تلك التوجهات وواصلت التنسيق معه، وهو الإخوان المسلمين، على محورين: أولهما تشويه الثورة والثوار الحقيقيين، وبلورة مسار يمكنهم من إحكام قبضتهم على السلطة، والزعم بأنهم يمثلون الثورة، بينما يحافظون في حقيقة الأمر على كل السياسات التي ثار الشعب عليها. وثانيهما سد طاقة الأمل التي انفتحت أمام الشباب، والشعب والوطن كله في الاستقلال الحقيقي والعدل الاجتماعي.

ومن يراجع كتابات نوح فيلدمان Noah Feldman الذي نبهت المستشارة نهى الزيني إلى أهميتها في حديث أخير معها، يدرك حقيقة مخطط هذه الثورة المضادة، وكيف يتم تنفيذه في مصر، وكيف يعتمد على الإخوان. ونوح فيلدمان أستاذ شاب بمدرسة الحقوق في جامعة هارفارد، وناشط يهودي صهيوني فاعل في دوائر المحافظين الجدد. فقد رشحوه للعمل مع بول بريمير بعد غزو العراق، ويقال أنه لعب دورا بارزا في كتابة الدستور العراقي الذي قنن للطائفية وتفتيت العراق على أسس إسلامية. لأنه خبير في الشؤون الإسلامية التي حصل على الدكتوراه فيها من جامعة أكسفورد عام 1994، كما أن له أكثر من كتاب في الموضوع  مثل «مابعد الجهاد: أميركا والصراع من أجل ديموقراطية إسلامية After Jihad: America and the Struggle for Islamic Democracy» 2003 و«ما ندين به للعراق: الحرب وأخلاقيات بناء الأمة What We Owe Iraq: War and the Ethics of Nation Building» 2004 و«سقوط وصعود الدولة الإسلامية The Fall and Rise of the Islamic State» 2008 الذي يرسم خطة إحياء دولة إسلامية تكرس تبعية المنطقة برمتها للسياسات الصهيوأمريكية المراد تحقيقها، كي تستمر سيطرة أميركا على منطقة الشرق الأوسط كلها، وتأمين هيمنة دولة الاستيطان الصهيوني بفلسطين عليها.

أقول أن من يراجع كتابات فيلدمان، ويتأمل ما دار على مدى العامين الماضيين والمهارة الجهنمية التي أدارت بها الثورة المضادة، في «أقبح صورها» حسب تعبير عزيز على محمد مرسي، مسيرة المرحلة الانتقالية، أو بالأحرى الانتقامية كما يصفها الشباب، يدرك أن البديل الذي يزعم الآن أنه يحكم باسم الثورة، التي انضم إليها متأخرا وتخلى عنها مبكرا، ليس إلا التجلي الكامل لتحقق الثورة المضادة. فقد أبدى هذا البديل الإخواني مبكرا استعداده للقيام بالدور الذي كان يلعبه مبارك المخلوع، وأن يكون الذخر الاستراتيجي الجديد للعدو الصهيوني وللسياسات الصهيوأمريكية في المنطقة، بعد أن يسربله بغطاء ديني، والدين منه براء. وقد سبق أن بينت أن سياسات الإخوان في الفترة القصيرة التي قفزوا فيها على الحكم لا تختلف من حيث موقفها من العدو الصهيوني، أو من سياسات التبعية الاقتصادية وتكبيل مصر بالديون ونهب أصولها، أو تزييف إرادة الشعب في استفتاء مغشوش على دستور باطل، عن سياسات مبارك المخلوع. كما أن موقفها من تجاهل قضية العدل الاجتماعي، وتقاعسها عن بناء دولة مصرية قوية ذات إرادة مستقلة، قادرة على النهوض بالشعب المصري وتحقيق آماله، لا يختلف في شيء عن تلك التي كان يمارسها النظام الذي نادت الثورة بسقوطه. وهذا هو السر في دعم أميركا الواضح للإخوان الآن، وفي ما صدر عنها من تصريحات مؤيدة لهم تعد تدخلا سافرا في شؤون مصر الداخلية.

هذه المسيرة التي وصلت بنا إلى تبديد كامل للأمل الذي ولدته ثورة 25 يناير 2011 في نفوس الشعب المصري عامة، وشبابه الباسل خاصة، هي التي جعلت اليوم مغايرا للبارحة. فنحن أمام شباب يدركون أن أيا من أهداف ثورتهم لم يتحقق. وأن النظام الذي يحكم في مصر منذ الثورة، سواء أكان المجلس العسكري أو الإخوان، يعمل لأميركا وللمصالح الصهيوأمريكية ألف حساب، ولا يعمل لشعبه الذي يعيش على خيراته، ويكتسب شرعيته بادعاء أنه يحكم باسمه، أي حساب. وطوال العامين الماضيين اتفق كل من المجلس العسكري والإخوان، على شيطنة الثورة واستنزاف جهود الثوار، والتنكيل بهم. ولم يخلق أي منهما أية قنوات فعالة لمعرفة رأي الناس عامة، والثوار خاصة، فيما يقومون به باسمهم وباسم الثورة. بصورة لم تترك للثوار أي وسيلة فعالة للتعبير إلا التظاهر، وكلما تباطأت الاستجابة للتظاهر، كلما تصاعدت حدة عنفه. خاصة وأن ميل الإخوان بطبيعة تنظيمهم الفاشية لاستخدام العنف أكثر حدة من كل ممارسات المجلس العسكري، وما أحداث قصر الاتحادية ومحمد محمود الثانية وحصار المحكمة الدستورية ومدينة الانتاج الإعلامي ببعيدة عن الأذهان. وها هي أحداث العيد الثاني للثورة توجع قلب مصر وتشعل النيران في مدن خط دفاعها الأول على القناة. فهل سيعود الإخوان لرشدهم، ويستمعون لما يريده شعبهم؟ أم سيكتفون هم وحلفاؤهم من السلفيين بإطالة لحاهم، كي تصبح أطول من لحية أبي لهب «تبت يداه»، وأغزر من لحية الوليد بن المغيرة «العتل الزنيم»، ويستمرئون التمرغ في هوان السياسات الصهيوأمريكية ومخطط فيلدمان، وسد طاقة الأمل التي انفتحت أمام شباب مصر وفقرائها؟ هل سيدركون أن سد طاقة الأمل التي فتحتها الثورة أمام مصر، وأمام شبابها الذي يمثل نصف عدد سكانها، لن يجر عليهم وعلى مصر إلا الوبال؟ أرجو أن يدركوا ذلك قبل فوات الأوان من أجل مصر، لأن الثورة الثانية لن تبقي ولن تذر، ولأن من أراد مصر بسوء قصمه الله!

الإخوان والمؤامرة الصهيوأمريكية على مصر

والواقع أن الحديث عن المؤامرة الصهيوأمريكية على مصر، قد طرحه الإخوان أنفسهم. فأثناء احتدام الجدل حول الدستور الباطل، الذي كتبته جمعية تأسيسية باطلة، ولم يصوت له إلا أقل من خمس المقترعين في مصر، ومع ذلك انطلقت الاحتفالات البلهاء بانتصاره، وصدرت المراسيم لتنفيذه، أخذ الإخوان وحلفاؤهم من المتأسلفين يتحدثون لوسائل الإعلام عن المؤامرة الصهيوأمريكية التي تشارك فيها كل أطياف المعارضة لمشروعهم البائس في الاستئثار بالسلطة، وفرض هذا الدستور الباطل بتلك الأقلية البائسة على الشعب المصري وثورته العظيمة. وكنت كلما سمعت كتيبتهم الإعلامية التي انتشرت كالجراد على مد الفضائيات العربية والمصرية خاصة، تهرف بما لا تعرف، وتمارس الكذب والتزييف وتشويه الحقائق، تذكرت المثل العربي القديم: «يكاد المريب يقول خذوني». وهو مثل يتحدث عمن يرتكب جريمة شنعاء، ثم يؤكد من خلال الإفراط في إنكاره لها، وإسقاطها على الآخرين، شبهاتها عليه. خاصة وأنني كنت أتابع في الوقت نفسه الموقف الأمريكي الداعم لهم، والثناء الصهيوني عليهم في مختلف وسائل الإعلام الأمريكية منها والغربية.

لأن المتابع عن بعد لما يدور في مصر، وخاصة موقف أمريكا ودولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين مما دار في مصر منذ صعود محمد مرسي للسلطة فيها، وخاصة منذ إعلانه الدستوري المشؤوم في نوفمبر، يدرك مدى سعادة المعسكر الصهيوأمريكي بحكم الإخوان، وبما حققوه لهذا المعسكر في الفترة القصيرة التي تولوا فيها الحكم. ويدرك أن هناك بالفعل مؤامرة صهيوأمريكية على الثورة المصرية. فقد فاجأت هذه الثورة النبيلة صناع القرار الصهيوأمريكي وزلزلت حساباتهم وقد استناموا إلى دعة تحقيق نظام مبارك البغيض لها، وتحوله إلى الذخر الاستراتيجي للمصالح الصهيوأمريكية في مصر. ولذلك فإن من تابع أحداث هذه الثورة العظيمة ووقائعها، يدرك كيف أنها فاجأتهما، ومدى انهماك الإدارتين الأمريكية والصهيونية في العمل على احتوائها منذ لحظة اندلاعها الأولى. فقد اجتمع مجلس الأمن القومي الأمريكي 21 مرة أثناء أيام الثورة الثمانية عشرة، ولم تتوقف الاتصالات اليومية بين الإدارتين الأمريكية والصهيونية طوال أيامها. كما لم تتوقف اتصالات الإدارتين الأمريكية والصهيونية بمبارك، ثم الأمريكية بالمجلس العسكري طوال أيامها، وبعدها.

ومع أنني لا أميل كثيرا للحديث عن المؤامرات، لأنني أدرك أن في السياسة حسابات ومصالح، أكثر مما فيها من مؤامرات ودسائس، وأن الحديث عن المكائد والمؤامرات كثيرا ما يخفي نقص المعرفة أو الافتقار للمعلومات، أو في حالتنا هذه الرغبة في رد التهمة عن النفس، وإبعاد الشبهات عنها، أو ما يعرف في علم النفس بالإسقاط (إسقاط ما في الذات على الآخر). فإنني على يقين من أن مصالح مصر الوطنية في الاستقلال والازدهار والتقدم تتناقض جذريا مع المصالح الصهيوأمريكية في المنطقة. وأن كلا من الولايات المتحدة وحليفتيها الأساسيتين في المنطقة: دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، والمملكة السعودية في الجزيرة العربية، يعملون بدأب على احتواء هذه الثورة والإجهاز عليها، والعودة من جديد إلى الوضع الذي كان فيه النظام المصري الحاكم ذخرا استراتيجيا للعدو الصهيوني، وتابعا أمينا للنظام السعودي، ومنفذا دقيقا لكل السياسات الأمريكية في المنطقة.

لذلك فقد أزعجت الموجة الثانية من الثورة المصرية التي اندلعت منذ الإعلان الدستوري المشؤوم، والتي عاد بها زخم ثورة يناير من جديد، الدوائر الصهيوأمريكية. وهذا هو سر الصمت الأمريكي الكريه على كل ما قام به الحكم المصري من تجاوزات مريعة، تجلت في الاعتداء على القضاء، والزراية بالحريات، وإطلاق الميليشيات على المتظاهرين السلميين وغير ذلك. وهذا أيضا هو سر سعادة الخارجية الأمريكية في آخر تصريحاتها بنتائج هذه التجاوزات التي أسفرت عن تمرير دستور المتأسلمين الباطل. وحتى نعرف حقيقة ما دعي بالمؤامرة الصهيوأمريكية التي صدع بها الإخوان وأنصارهم رؤوسنا، علينا أن نتعرف حقيقة على الركائز الأساسية للسياسة أو ما يدعونه بالمؤامرة الصهيوأمريكية في المنطقة، ومراميها. خاصة لأنني أتفق معهم في أن هناك بالفعل ما يسمونه مؤامرة صهيوأمريكية على مصر، وأدعوها بالأهداف الاستراتيجية للسياسة الصهيوأمريكية في المنطقة وضرورة السيطرة على سياسات مصر من أجل تمريرها. وأن هدف هذه المؤامرة هو بحق الإجهاز على الثورة المصرية وعلى أهدافها النبيلة في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. ووضع نظام يحكم ظاهريا باسم الثورة، وينفذ في حقيقة الأمر كل السياسات العميلة والقذرة التي كان ينفذها نظام مبارك، والتي جعلته الذخر الاستراتيجي للعدو الصهيوني.

فقد نجحت أميركا، ومعها دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، في استغلال شبق الإخوان وشرههم المرضي للسلطة في تمرير كل سياساتها الرديئة التي كان يقوم بها مبارك في المنطقة. وللسياسة الأمريكية في المنطقة ثلاث ركائز على أي نظام يسعى لكسب التأييد الأميركي أن يتبناها كلية: وهي أولا المشروع الصهيوني الذي يقوم بدور القاعدة العسكرية المتقدمة لها والذي يدعمه «الإيباك» أقوى لوبي سياسي في الولايات المتحدة؛ وثانيا السيطرة على مقدرات اقتصاد مصر (كنموذج للمنطقة) والتي تكفل تبعية اقتصادها، وتدفق منهوباته للغرب، دون تحقيق تنمية حقيقية تمكنها من الاستقلال الاقتصادي وهو عماد أي استقلال سياسي. وثالثا تدفق النفط، الذي أصبح الغطاء الجديد للعملة الأمريكية التي استمرأت التيسير الكمي حلا لمعضلاتها، بعد تحررها من غطاء الذهب، واستبدال الذهب العربي الأسود به، والقدرة على التحكم بأسعاره. وهذه الركيزة الثالثة هي ما تجعل المملكة السعودية ركنا أساسيا في السياسة الصهيوأمريكية في المنطقة. وإذا ما تأملنا هذه الركائز الثلاثة سنجد أن من ينفذها هو من ينفذ المؤامرة الصهيوأمريكية على مصر في حقيقة الأمر.

ركائز السياسة الصهيوأمريكية في المنطقة:
وقبل أن نتناول تلك الركائز بالترتيب لنرى من الذي ينفذها، لابد من الإشارة إلى أمرين: أولهما أن السياسة كلعبة الشطرنج لا تعرف المصادفات أو التحركات العرضية، وإنما لكل حركة فيها عواقبها. وثانيهما أن أتهام أي فريق بالانخراط في أي مؤامرة لتحقيق مصالح الآخر لابد أن يقوم على برهان بوجود قنوات اتصال مفتوحة مع هذا الآخر. والواقع أن الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل قد أشار في أحاديثه التليفزيونية الأخيرة إلى أن الإخوان قد حافظوا على قنوات اتصالاتهم المفتوحة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأساسيين طوال سنوات عديدة، وبشكل دوري ومنتظم منذ عام 2007. وأشار في هذا المجال إلى كتاب (العلاقات الخفية لمارك كيرتس، Secret Affairs, By Mark Curtis). ومارك كيرتس، لمن لا يعرفه باحث بريطاني متميز وقريب من دوائر الخارجية والمخابرات البريطانية والأمريكية، تتسم معلوماته بالدقة والمصداقية. وقد رصد في كتابه هذا، والذي يقع في أكثر من 400 صفحة، تاريخ  التواصل المستمر بين هذه الدوائر والإخوان في مصر، حيث يتناول الإخوان فيه أكثر من 40 مرة. كما أنه ليس من باب المصادفة، فقد أكدت أن السياسة لا تعرف المصادفات، أنه أثناء إلقاء هذه الاتهامات في وجه المعارضة، كان الرئيس محمد مرسي قد بعث أمين سر مكتبه، حسين القزاز، ومساعده للشؤون الخارجية، عصام الحداد، إلى أميركا، ثم سرعان ما لحق بهم عصام العريان.

بعد هاتين الإشارتين علينا أن نبدأ بالركيزة الأولى، فقد كان على الرئيس الإخواني، وقد تاجر الإخوان كثيرا طوال ستين عاما بالقضية الفلسطينية، أن يقدم أوراق اعتماده للعدو الصهيوني، الذي لا تقنعه عبارات الود الحارة التي كتبها لصديقه الحميم شمعون بيريز، لأنه لا يعترف إلا بالأفعال والبراهين العملية. وقد قدمت لهم أفعاله ثلاث مرات، على مد الفترة القصيرة التي أمضاها في الحكم، البراهين على أنه سيقوم بنفس دور الذخر الاستراتيجي للعدو الصهيوني والذي ضمن لمبارك التأييد الأمريكي لسنوات طويلة. كان أولها في اختبار العملية نسر الصعب، والأمر بإيقافها وإبقاء سيناء رهينة لدي العدو الصهيوني، وسحب كل القوى والمعدات التي أدخلها الجيش المصري في فورة العملية، حينما صدرت له الأوامر من أورشليم وواشنطون. مما أغضب بعض قطاعات الجيش وأحدث شرخا بينه وبين الحاكم الجديد. وثمة تقارير غربية تقول إن تنفيذ مرسي للأوامر الأمريكية والصهيونية ضد ردود فعل الجيش المصري الوطنية بطبيعتها، وإيقافه الحاسم للعملية نسر، هو ما دفع أميركا للوقوف بجانبه في عملية التخلص من المجلس العسكري الذي أخذته العزة الوطنية بالإثم فخرج عن الدور.

وكان ثانيها حينما وقع بإمضائه، حسب التعبير البليغ للأستاذ محمد حسنين هيكل، على هامش معاهدة كامب ديفيد في استعراض الاستاد الشهير في 6 أكتوبر، بتكريم السادات صاحب المعاهدة المشؤومة، فقد كان تكريم السادات رسالة موجهة بالدرجة الأولى لدولة الاستيطان الصهيوني. لكن توقعيه على هامش كامب ديفيد لم يخل من «جليطة» إخوانية معهودة، حيث توهم أن تكريم السادات في حضور من اغتالوه، سيمرر المسألة على الشعب المصري، وخاصة أن الأمر كان مصحوبا باستعراض القوة الإخواني الخارج من كتالوج العرض الهتلري في ميونخ كما كتبت من قبل. لكن المهم أن الرسالة الحقيقة وصلت، وتلقى العدو الصهيوني أوراق اعتماد مرسي للمرة الثانية.

أما ثالثها فجاء أثناء قيامه بكل ما هو مطلوب منه أمريكيا وصهيونيا أثناء حرب غزة الأخيرة. ولا يزال ما جرى أثناء حرب غزة وفصم عرى علاقات حماس بإيران التي زودتها بالصواريخ التي حققت بها إنجازها، محفوفا بالأسرار. ولاتزال هناك الكثير من الروابط بين ما جرى، وبين قرار وزير الدفاع الأخير بعدم التملك في سيناء من ناحية، ومادتين معيبتين في الدستور الباطل الذي مر تتعلقان باللجوء السياسي وتملك الأراضي من ناحية أخرى لم تتكشف مضمراتها بعد. لكن ما نعرفه بالتأكيد هو أن ما جرى حقق غايات الصهيونية، إلى الحد الذي نال معه الرئيس الإخواني ثناء أبشع رموز العدو الصهيوني وأشدها بلطجة (ليبرمان) ورعاته الأمريكيين. وهذا الثناء هو الذي أدار رأسه كما يقول التعبير الانجليزي، فأصدر إعلانه الدستوري التعيس، وأحدث به شرخا أكبر مع الشعب المصري كله، من ذلك الذي أحدثه البرهان الأول مع الجيش. ثم جاء أخيرا تدعيم رابع لما ذكرته، بتصريح عصام العريان الأرعن، ودعوته لعودة يهود مصر. ولم تكن مصادفة أن يجيء هذا التصريح عقب عودته هو من رحلة تطمين أمريكية، إبان أزمة تمرير الإخوان بالبلطجة والإرهاب السياسي لدستورهم الباطل والذي صوت له أقل من 20% من الناخبين، وإرسالهم لوفد من قياداتهم، بقيادة عصام آخر هو عصام الحداد، للتفاوض مع مسئولي الأمن القومي واستجداء المباركة الأمريكية له. هذا هو بلاء الإخوان الحسن مع الركيزة الأولى للمؤامرة الصهيوأمريكية على مصر.

المؤامرة الصهيوأمريكية والاقتصاد التابع
بعد تسليم الإخوان الكامل بالركيزة الأولى للسياسة الصهيوأمريكية في المنطقة، ولحسهم لكل ما سبق لهم أن تشدقوا به حول العداء للصهيونية التي تواصل ابتزازهم للتكفير عن خطابهم القديم «خيبر خيبر يا يهود .. جيش محمد سوف يعود»، وعن معارضتهم لاتفاقية كامب دافيد التي وقع مرسي على هامشها مؤخرا . وما تصريح العريان الأرعن إلا آخر فصول الاستجابة لهذا الابتزاز ولن يكون آخرها. سأتناول هنا طبيعة سياسات الإخوان الاقتصادية وموقفها من الركيزة الثانية وهي الاقتصاد، بالصورة التي تؤكد ضلوعهم في المؤامرة الصهيوأمريكية على مصر. فلم يكشف الإخوان عن أي توجه اقتصادي مغاير لذلك الذي انتهجه نظام مبارك المخلوع، وأدى إلى تفاقم السخط عليه وتنامي الفقر والبطالة وانسداد الأفق أمام الشباب، والثورة ضده في نهاية المطاف. كما أن أهم ملامح الاقتصاد الذي يسعون لتطبيقه في مصر هي نفسها تلك التي قام عليها اقتصاد نظام مبارك المخلوع، والذي أدى إلى استشراء الفساد في كل موقع، وازدياد معدلات النهب وتحويل ثروات مصر للخارج. وأهم من هذا كله الإبقاء على الاقتصاد المصري تابعا، والحيلولة دون حدوث أي تنمية اقتصادية حقيقية، تكفل لمصر العودة للعب دورها الجديرة به.

ذلك لأن أهداف السياسة الصهيوأمريكية تعتمد على إبقاء الاقتصاد المصري في حظيرة التبعية لعدة أسباب: أولها ضرورة أن يبقى اقتصاد مصر نموذجا لما تريد لاقتصاديات المنطقة برمتها. لأن مصر هي النموذج الذي يلعب دورا أساسيا فيها. وثانيها ضرورة تبعية هذا الاقتصاد للمركز، من خلال أمراس القيود المتينة، والتي تتيح تدفق منهوباته للغرب، دون تحقيق تنمية حقيقية تمكنها من الاستقلال الاقتصادي، وهو عماد أي استقلال سياسي. وثالثها الحيلولة دون تحقيق نمو حقيقي في مصر يؤهلها للنهوض لأن أي نهوض لها يشكل خطرا على العدو الصهيوني، ركيزة السياسة الصهيوأمريكية الأولى. ورابعها يتعلق بضرورة أن تبقى مصر ضمن النظام العالمي الأوسع في الهامش الذي أبقته فيها سياسات السادات ومبارك الرعناء، وألا تتيح لها العودة من جديد إلى دور اللاعب الوسيط بين المركز والهامش الذي كانت عليه من قبل، والذي تلعبه الآن بلدان ما يسمى بمجموعة البركس BRICS الخمسة: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. لأن تحركها صوب هذا المكان سيعزز قدرتها على الاستقلال، وبالتالي على لعب دور مغاير قد يزعزع أركان السياسة الصهيوأمريكية في المنطقة.

وحتى أبين للقارئ حقيقة ما أعنيه، والدلالات الخطيرة لإبقاء مصر في دائرة القروض الجهنمية علينا الإشارة العابرة، لواحد من أهم الأعمال الفكرية في نصف القرن الأخير. وأعني بذلك كتاب إيمانيويل واليرشتاين الضخم (نظام العالم الحديث The Modern World-System) والذي يقع في أربعة مجلدات. وقبل الحديث عن هذا المشروع لابد من الإشارة إلى أن واليرشتاين قد نشر أكثر من عمل مع المفكر المصري الكبير سمير أمين، كما انه استفاد من كثير من استقصاءاته في سفره الكبير ذاك من أعماله التي يمكن أن تساعدنا في الخروج من أزمتنا الاقتصادية والسياسية الراهنة. ويسعى هذا السفر الذي يمتزج فيه التاريخ بالاقتصاد بالعلوم الاجتماعية إلى تقديم أشمل دراسة للعالم منذ بداية التحديث وحتى تخلق العولمة وتطورها وسيطرتها عليه. وكيف أن عملية تطور العالم الحديث قد أدت لاتساع الفجوة بين الشمال والجنوب وبروز هيمنة الولايات المتحدة وتعاظم دور الرأسمالية المتوحشة على حساب بقية العناصر الصانعة للقيمة، وإلى جنايته المتنامية على بقية سكان العالم.

ويقدم والرشتاين في سفره الضخم أطروحته التي يطلق عليها نظرية نظام العالم World-systems theory وتنهض على أن نظام العالم الحديث، يتميز عن النظام الاستعماري القديم بأنه نظام واحد كامل وشديد الترابط. نظام تتحكم فيه مجموعة متراكبة ومعقدة من أدوات التحكم وعلاقات التبادل الاقتصادية والسياسية والثقافية جميعا. نظام قائم على مركز وهوامش: مركز ينهض بدور التحكم الاقتصادي، وهيمنة رأس المال العالمية الكبرى سياسيا واقتصاديا على المناطق الهامشية أو شبه الهامشية في هذا النظام، والتي تسعى حركية النظام الداخلية إلى إبقائها على حالها، لأنه أمر يحقق توازن النظام الداخلي.

ومن خصائص هذا النظام الواحد تسليع كل شيء، بما في ذلك قوة العمل والإنسان بالضرورة، وتوسيع رقعة السوق وتعزيز سطوة هيمنته كي تكسب قوانينه فاعلية أكبر. في هذا النظام يصبح من صالح النظام لا أن يحافظ على نفسه فقط، حيث تتحكم مراكزه في كل شيء، وتسعى دوما إلى إخضاع هوامشه، ولكن أيضا أن يعيد أنتاج نفسه في الهوامش نفسها. بالصورة التي تتسع فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء حتى في أكثر بلدان العالم فقرا. لأنه بدون إعادة الانتاج تلك لا يتسنى للمركز في النظام الأكبر أن ينزح ثروات الهوامش، وأن يبقيها في الوقت نفسه رازحة تحت وطأة هامشيتها. ولذلك يعادي هذا النظام العالمي أي حديث عن العدالة الاجتماعية أو التوزيع العادل للناتج القومي. لأن هذا الأمر يصطدم مباشرة بآليات نهب ثروات الهامش، ونزحها إلى المركز كي يظل المركز مزدهرا برغم أزماته الكثيرة.

لذلك ترتبط عمليات الإقراض، وفي مقدمتها قرض صندوق النقد الدولي الذي تسعى حكومة قنديل جاهدة لإبرامه، بفرض الشروط التي تبقي على الاقتصاد المصري تابعا، وتحول دون أن يقوم بأي تنمية حقيقية تمكنه من تحقيق استقلاله. فلا يشترط صندوق النقد مثلا إنفاق القرض في مشاريع تخفض نسبة البطالة، أو تعزز معدلات النمو الاقتصادي. وإنما يشترط رفع الدعم، بالصورة التي يزداد معها التضخم، فيحكم الخناق على الفقراء كي يزدادوا فقرا. ويتيح في الوقت نفسه الفرصة لشره الفئة الثرية القليلة، ومعها المستثمرين الأجانب بالطبع، كي تزداد غنى، وتبعث بفوائض منهوباتها إلى خزائن الغرب، وتدعم دوران آلته الاقتصادية وتعزز الاستثمار فيها، دون أن يتحولوا إلى شريك حقيقي في آلة المركز الجبارة، لأنها لا تقدم لهم غير التأمين الوهمي لمسروقاتهم.

ولذلك كان طبيعيا أن يتراجع الصندوق في التصديق على القرض الكارثي، حتى تطبق قرارات رفع الأسعار التي جمدها محمد مرسي عقب نشرها في الجريدة الرسمية قبيل الاستفتاء على الدستور. وأن يبدأ رفع الدعم، لا برفعه عن الصهاينة الذين يتلقون أربعة مليارات منه لدعم الصادرات بسبب اتفاقية الكويز، أو عن كبار الأثرياء المصريين منهم والأجانب والذين يبلغ دعم الطاقة لمصانعهم أكثر من 75 مليار، وإنما عن الفقراء الذين لايزيد دعم ما يستهلكونه من طاقة عن 20 مليار، ودعم خبزهم وموادهم التموينية عن 20 مليار أخرى. أي أن قرارات الإخوان الكارثية تبدأ برفع 40 مليار من الدعم عن الفقراء والطبقة الوسطى، بينما لا تمد يدها إلى ما يقرب من 80 مليار من الدعم الذي يذهب للأثرياء والأجانب والصهاينة.

إن سياسة الإخوان الاقتصادية، سواء فيما يتعلق بالشره إلى الاقتراض، من صندوق النقد الدولي 4,8 مليار والبنك الأوروبي 6,4 مليار)، والاقتراض أداة أساسية من أدوات سيطرة هذا النظام العالمي على الهوامش. أو بالصكوك الإسلامية المشبوهة التي ستفتح باب جهنميا للنهب والتبعية وبيع مصر، سيصبح معه ما فعله نظام مبارك من خصخصة القطاع العام لعبة بالمقارنة لما سيدور. هذه السياسات الاقتصادية لن تحقق أي رخاء لمصر، ولن تتيح أي فرصة لتحقيق أي نوع من العدالة الاجتماعية. ولكنها ستضيف المزيد من قيود التبعية الاقتصادية الخانقة، وستبقي مصر في حظيرة التهميش والهوان الصهيوأمريكية، بدلا من البحث عن سياسات بديلة تؤدي لتحرر الاقتصاد المصري، تمهيدا لتحرير السياسة المصرية نفسها من استعمار إرادتها من أجل استرداد استقلالها المفقود. فسياسات الإخوان الاقتصادية ستواصل سياسات نظام مبارك المخلوع، وتكرس اقتصادا يعتمد على الفساد وييسر نزح كل فائض ممكن للثروة من مصر إلى حواضر النظام الكبرى، حيث يشعر الأثرياء وناهبو المال العم فيها بالأمان، وهو وهم لو يعرفون، أكثر مما يشعرون به في بلادهم. وهذا هو السر في أن إيداعات الطبقة الغنية في مصر في بنوك الغرب (أي المركز) هي ستة أضعاف ديون مصر. لأن الديون ليست في جانب من جوانبها إلا الخميرة التي تستقطب هذه الثروات وتنزحها كي تبقي على نظام رأس المال المالي الغربي مزدهرا. لأن الهدف الاساسي للتبعية الاقتصادية ليس توفير نزح الثروات في نظام والريستين فحسب، وإنما الإبقاء على مصر بلا تنمية، كتي يتم تآكل كل منجزاتها الحضارية التي وضعتها على طريق التقدم، من تحرير للمرأة والارتداد لتحجيبها، إلى اكتساب العقلانية رأس مال رمزي رائد بدلا من الارتداد للخرافة وفتاوى شرب بول الرسول وإرضاع الكبير، إلى الهجمة الشرسة على الطبقة الوسطى، مستودع القيم الحضارية والاخلاقية

الهجمة الوهابية وعواقبها الكارثية على مصر
وقد
انشغلت القاهرة مؤخرا بما يمكن دعوته بظاهرة الشيخ محمد العريفي، وخطبته الحاشدة في جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة. وهو شيخ فاره الطول، ممشوق القامة، في الثالثة والأربعين من عمره، عف اللسان، حلو الكلام، لا تشوه جبينه زبيبة قبيحة ككثير من أقرانه من السلفيين في مصر، بالرغم من أنه لا يقل عنهم تدينا أو سلفية أو صلاة. وكشفت معظم التعليقات على زيارته، والإقبال المتزايد على الصلاة خلفه في جامع عمر بن العاص، عن أنه قد هزم أقرانه في عقر دارهم، وكسب قلوب المصريين الذين ينفر الكثير منهم من فظاظة أقرانه من سلفيي مصر. لأنه آثر أن يحتل المكان الأخلاقي الأعلى في خطاب التأسلف. فإين خطاب محمد العريفي عفيف الألفاظ الذي يتغزل بفضائل مصر وتسامحها وأفضالها على جيرانها، من بذاءات وسخائم أدعياء يسمون أنفسهم دعاة لمجرد أنهم أطلقوا لحاهم، وتمادوا في حك جباههم كي يسموها بزبية فاشية لا علاقة لها بورع الصلاة، ولا بطهارة المصلين؟ أين طلاوة حديث العريفي وهدهدته لعواطف سامعيه وتذكيرهم بما لهم من ماضٍ عريق وسؤدد، من سوء ملافظ أقرانه من سلفيي مصر وركاكة خطابهم، وتكفيرهم لكل من لا يسلم بجهلهم أو تفسيراتهم المختلة للدين؟

لكن الطريف في الأمر وكنت قد تناولت دور السعودية فيما يسمى بالمؤامرة الصهيوأمريكية على مصر باعتبارها الركيزة الثالثة للمخطط الأمريكي، وكيف أن هذه الركيزة تعتمد على إبراز دور السعودية وتكريس مكانتها على حساب دور مصر ومكانتها في المنطقة) أن ما قام به العريفي وما دفع الكثيرون للثناء عليه، لا ينفصل عن هذا المخطط، بل يصب فيه. فها هو داعية سلفي سعودي ينجح فيما فشل فيه أدعياء يسمون أنفسهم دعاة في مصر. ويثبت فضل السعودية على مصر لأنه يعرف أن خير سبيل إلى قلوب سامعيه هو التغني بأمجادهم القديمة، شريطة أن يؤكد لهم أنها أمجاد قديمة، لا وجود لها في حاضرهم التعيس. وإلا فلماذا يحتفون بسلفي سعودي، لا يختلف خطابه من حيث الجوهر عن خطابات السلفيين المصريين، بينما تمتلئ الصحف بالشكوى من سلاطة ألسنة جل السلفيين المصريين وضيق أفقهم وتآمرهم على المصريين؟ وقد تجلت آخر تلك المؤامرات في نجاحهم في تمرير خططهم المسمومة في الدستور كما كشف ياسر برهامي في حديث أخير.

فالشيخ العريفي ليس بأي حال من الأحوال صوتا للعقل في عالم يتفشى فيه الخبل والجهل. وليس لديه مشروع مغاير ينقذ به مصر من محنتها، أو يخلصها من شراك تلك المؤامرة الصهيوأمريكية التي ينفذها الإخوان فيها. ولكنه الوجه المضيء لنفس الخطاب السلفي الظلامي الذي يدعو إلى تغييب العقل. أو هو التجسيد الحي لما يعرف في السياسة الأمريكية بالشرطي الطيب، في التعامل مع الأمور أو الأزمات من خلال ثنائية Good cop/ Bad cop الشرطي العنيف والشرطي الطيب. وهو منهج أمريكي واضح يوشك أن يكون النظير الأميركي للمنهج الانجليزي الشهير في الحكم من خلال شعار فرق تسد. حيث يتم فيه التعامل مع أي موقف صعب من خلال توزيع الأدوار، فيقوم أولهم بالتهجم الشرس على الخصم والعنف معه حتى يزعزع ثقته بنفسه، بينما يلجأ الآخر إلى اللطف والملاينة من أجل تحقيق الغاية نفسها. فلا تلجأ الشرطة الأمريكية، والسياسية الأمريكية عموما من ورائها، إلى الشرطي اللطيف الطيب، إلا بعد أن يكون الشرطي الرديء الشرس قد قام بالدور العنيف الذي يجعل نجاح الشرطي الطيب مضمونا.

وهذا بالفعل ما حدث في حالتنا هذه، حيث قام سلفيو مصر بدور الشرطي الرديء، الذي تمادى في عنفه ورداءته حتى ضاق به الجميع منذ بداية الثورة، حيث لم يكن يسمع لأي منهم صوت قبلها اللهم إلا تحريم الخروج على أولي الأمر، وحتى الآن. وانهالت القضايا والأحكام على قنوات التأسلف الرديئة بعدما ورطت مصر ابتداءا في أحداث الفيلم التافه المسيء للرسول الكريم في ذكرى أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، وليس انتهاء بكشف تآمرهم على الدستور الباطل الركيك في اعترافات برهامي الأخيرة. وقبل أن تؤدي تصرفاتهم إلى نزع شرعيتهم وتشويه سمعة التأسلف كلية، ها هو الشرطي الطيب يتقدم ببسالة لإنقاذ الموقف. فمن هو إذن هذا الداعية السلفي الجديد الذي نجح في ضرب عصفورين بحجر واحد؟ انقاذ سمعة السلفية من براثن الدبة التي قتلت صاحبها، بالقيام بدور الشرطي الطيب، والمساهمة في تأكيد المقولة المغلوطة المراد ترسيخها، بأن يد السعودية هي العليا، على الأقل في مجال الدين بطبعته الوهابية التي يروج لها السلفيون في مصر.

هو حسب «الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالرحمن العريفي» ابن جامعة الإمام محمد بن سعود، معقل الوهابية الحصين. فيها درس ومنها تخرج (1991) وحصل على الماجستير (1996)، ثم الدكتوراه برسالة عنوانها «آراء شيخ الإسلام ابن تيمية في الصوفية، جمع ودراسة» عام 2001، ويعمل بالتدريس بها منذ عام 1993 وحتى الآن. وابن تيميه الذي تخصص فيه هو شيخ ابن عبدالوهاب، ومصدر الكثير من أفكار الوهابية. والعريفي فيما يبدو شيخ سلفي عصري، فله موقع على الإنترنت، أي أنه يتعامل مع رجس التكنولوجيا الغربية ويستفيد منه إلى أقصى حد، بما في ذلك خدمة الجوال التي تجمع له الأموال. ومن آيات عصريته أيضا أنه كتب رواية بعنوان (صرخة في مطعم الجامعة: رواية حول الحجاب وأدلته) طبع منها كما يقول الموقع أكثر من مليون نسخة. كما أنه عضو في المنظمة المسماة بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وهي كلها مؤهلات تجعله جديرا بلعب دور الشرطي الطيب، بعد أن ضاقت مصر بجهالات فيالق من الشرطة السلفية الرديئة من عينة عبدالله بدر، ودعوات أمثال مرجان الجوهري المخبولة لهدم الأهرام وأبي الهول.

نحن إذن بإزاء الوجه الآخر لنفس العملة. وقد كشف إبراهيم عيسى في برنامجه الشهير «هنا القاهرة» بالصوت والصورة، عن أن منهج نفاق المستمعين ودغدغة عواطفهم الوطنية، ليس أمرا خص به محمد العريفي مصر، ولكنه أسلوبه المعهود يستخدمه في مغازلة مشاعر اليمنيين حينما يخطب في اليمن، أو الشوام حينما يخطب في سوريا. فالهدف الأساسي الذي يريد كل من الشرطي الرديء والشرطي الطيب معا تحقيقه هو نشر تلك الدعوة الوهابية التي جاء العريفي من قلعتها الحصينة، والتي تكون فيها فكرا وممارسة. ولهذه الهجمة الوهابية المستمرة على مصر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، عدة أهداف وثيقة الصلة بالمؤامرة الصهيوأمريكية على مصر، وبما يدور في مصر ويحاك ضدها في هذه الأيام. فحتى تتخلى مصر عن دورها القيادي في المنطقة كي تنهض به السعودية كان لابد من تحقيق من الخطوات التي تهدف في مجموعها إلى خلق حالة من التردي في مصر، وسياق من التقدم في السعودية تمكن هذا الوضع المقلوب، أن يصبح أمرا طبيعيا ومقبولا. لذلك بدأت هذه الهجمة، وقد دعمتها قفزة أسعار النفط الجبارة عقب حرب أكتوبر 1973 بمجموعة من الإجراءات التي ترتب عليها عدد من الظواهر التي نعاني منها حتى اليوم.

بدأت بتفريغ مؤسسة الجامعة المصرية من أفضل عقولها وخير أساتذتها، وفتح بال العمل أمامهم في مختلف جامعات الجزيرة العربية والخليج، بعدما تكفل انفتاح السادات المشؤوم بخلق آليات تضخم مسعور تدفع كل إنسان للبحث عن النجاة الفردية. وقد تواقت تفريغ الجامعة من عقلها مع آليات المناخ الطارد الذي ضيق الخناق على قطاع كبير من المثقفين، ودفعهم إلى الهجرة بحثا عن العمل أو الرزق. لأن حجر الزاوية في كل تلك الخطوات كان تغييب العقل النقدي الحر، كي يفسح المجال مع تبني شعار «دولة العلم والإيمان» لإحلال التدين الغيبي المشغول بسفاسف الأمور مكان التدين العقلي الذي ينهض بالإنسان والمجتمع معا. وبدأت موجة التأسلم بنشر الحجاب الذي لم يكن له أي وجود يذكر في مصر حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، مع ظهور رأس حربة التأسلف محمد متولى الشعراوي، وتمكينه من منابر الإذاعة والتليفزيون، التي كانت تخضع لقدر كبير من التحكم السياسي، وتزايد نفوذه بعد نجاحه في تحجيب عدد من الفنانات الشهيرات.

وكانت غاية تلك الهجمة الأولى والتي تواصلت فصولها لأربعة عقود هي القضاء على الطبقة الوسطى المصرية، لأنها هي الطبقة الحاضنة لمجموعة القيم العقلية والأخلاقية، والمستفيدة من مسيرة الإصلاح والتقدم والدافعة له. كما تم الإجهاز على جل مكتسبات المرأة التي حققتها عبر مسيرة طويلة من النضال من أجل التحديث والحرية. وقد ساهمت سياسات الانفتاح «السداح مداح» في تآكل مكتسبات هذه الطبقة الوسطى بوتائر متسارعة، في عهد مبارك، خاصة مع تنامي معدلات الهجرة من الريف للمدينة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وظهور كل أشكال الإسكان العشوائي، مما أدى إلى عملية ترييف المدينة في ظل غياب التنمية المتوازنة التي تأخذ في اعتبارها كل الجوانب الاقتصادية والتعليمية والثقافية في مصر لسنوات طويلة. وقد تضافرت الهجمة الشرسة على الطبقة الوسطى، والإجهاز على مكتسبات المرأة، وترييف المدينة لخلق مناخ ملائم لازدهار الأفكار الوهابية، وتدعيم عملية التصحير العقلي في مصر، كجزء من مؤامرة إحلال المملكة السعودية محل مصر كقائدة للعالم العربي، وكنموذج له، فيما عرف باسم الحقبة السعودية.

خاصة وقد رافق غياب أي تنمية في مصر تسارع معدلات التنمية في السعودية نتيجة لتدفق عوائد النفط بمعدلات غير مسبوقة. في عملية استبدال الثروة النفطية بالثروة العقلية التي مثلتها مصر عبر تاريخها الطويل، فبينما كانت ترتفع أسعار كل شيء كانت قيمة العمل العقلي، وخاصة ثمار العقل النقدي تحاصر وتتدنى باستمرار. في الوقت الذي كانت تتدفق فيها الأموال على دعاة تغييب العقل ونشر الفكر والممارسات الوهابية. وحينما بدا أخيرا مع الثورة المصرية أنه قد آن الأوان للتغيير، ضاعفت الهجمة الوهابية من شراستها، وزودت أدعيائها بالفضائيات المتعددة، وهذا هو سر تصاعد تلك الهجمة من ناحية، وتنويع خطاباتها بما في ذلك تزويده بشرطي جيد حلو الحديث، كي تبقى مصر مكبلة بسفاسفها، وغير قادرة على التخلص من مباءة المكان الذي تريده لها السياسة الصهيوأمريكية في المنطقة.