رسالة الأردن

«أصل الهوى» ومحاكم التفتيش!

حين يتحول مقص الرقيب إلى مشنقة

طارق حمدان

يرى الكثير من المثقفين والصحفيين  في الأردن، أن وزارة الإعلام لم تحل فعليا في العام 2003، وإنما تفرعت إلى عدة مؤسسات، من أكثر تلك المؤسسات  تسلطا واستفزازا هي "دائرة المطبوعات والنشر"، وكباقي المؤسسات الرقابية المعروفة في بلداننا العربية، لا تختلف دائرة المطبوعات والنشر عن غيرها  في ممارسة دورها السلبي، في ما يتعلق بالمنتوج الفني والفكري والإبداعي. هل دائرة المطبوعات والنشر جهاز امني بامتياز؟ هل هي مؤسسة من وظائفها قطع الطرق على الفن والفكر الحر وأصحابه؟ هل هي بقايا أنظمة وأحكام عرفية قيل أنها انتهت؟.. مامعنى أن تمنع الكتب والمجلات في الوقت الذي نشهد فيه ثورة إعلامية ضخمة، سواء كان في الفضائيات أو في الشبكة العنكبوتية؟ وما معنى أن تشهر المؤسسات الرسمية طبولها و أبواقها للتغني ( بالديمقراطية ) وهي لاتزال تمارس أحكام بدائية عرفية، أقل مايقال عنها أنها متخلفة عن آمال الناس وطموحاتهم؟  وما معنى تلك الشعارات والدعوات بالحرية الفكرية والتنمية الثقافية في ظل مؤسسات مازالت تمارس المنع والمصادرة والإرهاب على الفن والفكر؟  الأسئلة كثيرة  وهذا جزء بسيط منها، لست أنا  من يطرحها بل العديد من المثقفين وأصحاب الأقلام الحرة في الأردن، أولائك الذين مازالوا يشعرون، بشدة  الأبخرة التي لاتزال تكتم على أنفاسهم. 

وبين الهم المضحك والهم المبكي، فالدائرة مكشوفة للجميع وسياطها بثلاث شعب، فهنالك تهم جاهزة حفظها الكتاب والناشرون عندما يتم منع ومصادرة الكتب التي لاتتماشى مع رؤية وسياسات بعض الجهات الرسمية، فالتهمة الأولى بامتياز تتعلق بالجنس وخدش الحياء العام !!!  والتهمة الثانية غالبا ما تتعلق بالمس بالدين والذات الإلهية، أما التهمة الثالثة فهي إثارة الفتن والنعرات الطائفية !!. الضحايا كثر ومن المؤكد أن  رواية "أصل الهوى" لكاتبتها الموهوبة حزامة حبايب، هي  ليست آخر تلك الضحايا. (الإباحية)  هي العباءة التي ألقتها دائرة المطبوعات والنشر  على قرار منع تداول رواية "أصل الهوى" بحجة وجود "فقرات إباحية" تخدش الحياء العام، في الوقت الذي يجمع فيه الكثير من النقاد والقراء الذين سمحت لهم الفرصة بقراءة الرواية، بأن قرار المنع كان في جوهره لأسباب سياسية، كون الرواية تتطرق إلى مواضيع تفضل بعض الجهات الرسمية في الأردن  أن تظل  طي الكتمان، وتعتبرها مواضيع  "محظورة" !!

صدرت أصل الهوى في ديسمبر الماضي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر2007  عمان- بيروت، وكما هو متبع وفقا للقانون فعلى الناشر أن يقدم  طلب إدخال الكتاب مرفق بنسخة من الكتاب إلى دائرة المطبوعات والنشر، وذلك للسماح بإدخال الرواية وتداولها. تحولت القضية  إلى ملعب تنس بين الناشر و دائرة المطبوعات والنشر، أما الكرة فكانت  "أصل الهوى"، فبعد مداولات استمرت لأكثر من  أسبوع، وبعد تفحص بعض المقاطع في الرواية، وافقت الرقابة على إدخال الكتاب وتداوله، وعند الاتصال مع الكاتبة حزامة أكدت لنا بأنها تسلمت نسخة من القرار يؤكد موافقة الرقابة على إدخال الكتاب، ولكن الغريب في الأمر انه في اليوم التالي لصدور قرار الموافقة، تم صدور قرار آخر بإلغاء  الموافقة ومنع الكتاب!  مما يدل على التخبط  والاعتباطية الشديدة التي يتم التعامل بها من قبل هذه المؤسسات الرقابية  مع تلك الأمور، تقول حزامة  حبايب " المفاجأة، أن الناشر اتصل بي في اليوم التالي لصدور قرار الإجازة، يخبرني بأسى أنه تم استدعاؤه من قبل دائرة المطبوعات، وإبلاغه رسمياً بسحب قرار إجازة (أصل الهوى)،  وصدور قرار آخر بمنع بيعها وتداولها في الأردن! إن هذه سابقة من نوعها؛ بمعنى أنه لم يحدث أبداً وأن أجيز كتاب ثم منع خلال أقل من يومين! ".

لم يكن موضوع الجنس في  "أصل الهوى" هو الموضوع الرئيس ولم تكن الكتابة عنه لغرض إثارة الغرائز، ولم تكن "أصل الهوى" من نوعية الكتب التي تستغل موضوع الجنس لتثير القارئ، ولا هي من الكتب التي تمتاز بفقرها الفني والفكري، بل هنا نجد نصا مختلفا خارجا عن القوالب والكتابات التقليدية، ونمطا جديدا من السرد والرواية، يوظف فيه الجنس في بعض المقاطع كأداة فنية، لايقصد بها الجنس بحد ذاته، بل يتحول الجنس إلى شاهد ومبرر حقيقي  لكتابة حقيقية ذات مستوى فني عال. لم يكن  الجنس هو السبب الحقيقي  لمنع الرواية، بل أن الرقيب أبدى اعتراضه على فقرات وجد بأنها تمس بعض الرموز في البلاد، حيث يضع الرقيب خطاً اعتراضياً على جملة تصف مبنى المخابرات القديم بأنه  "أشبه بخنجر صدئ مغروس في خاصرة المدينة" ! وهذا حسب النسخة الاصلية التي ارسلت للرقابة.

 كتبت إحدى الكاتبات في صحيفة عربية تقول "كتبت حزامة حبايب رواية سياسية بدون أن تخط حرفاً في السياسة، ومن هنا ينبع جمال هذا النص الغارق في غوايات الجسد وفي التفاصيل الحياتية لرجال لم تصف لنا الكاتبة ملامحهم الخارجية، مكتفية بتحديد أعمارهم تحت العناوين التي تحمل أسماءهم، تاركة لسيرة كل منهم أن ترسم لنا شكله الذي صاغته به التجربة بالتواطؤ مع مخيلة كل قارئ ".

بالنسبة لقرار المنع فبحسب دائرة المطبوعات والنشر، ثمة سببان الأول وجود "فقرات إباحية" وهذا حسب تقدير الكثير فهو سبب واه، أما السبب الثاني فهو "المساس ببعض الرموز في البلاد والتعرض لها بالإساءة" ويبدو أن المقصود من ذلك هو إشارة الكاتبة إلى مبني المخابرات (القديم) بوصفه "أشبه بخنجر صدئ مغروز في خاصرة المدينة"، والغريب أن هذا المبنى الضخم قد هدم منذ عدة سنوات، وتحولت قطعة الأرض إلى مشروع ضخم سيحوي فنادق وشقق فارهة ومحلات تجارية لأثرياء عمان!. تساؤلات مريرة تطرح من قبل المثقفين : كيف بالإمكان العمل على خطط ومشاريع ترقى بالثقافة في الأردن، في ظل وجود مؤسسات تمارس وصايتها و سطوتها على الثقافة والفن والفكر؟ كيف يكون هناك ديمقراطية وحكومات تقول بأنها ستعززها، في ظل هذه التصرفات العرفية؟. ويعتقد الكثير بأن تصرفات دائرة المطبوعات والنشر لن تتسبب إلا في تشويه الثقافة وصورتها في الأردن، وذلك من خلال ممارساتها التي تشكل استفزازا صارخا لكل أصحاب الأقلام الحرة، الذين يتساءلون في كل لحظة عن الديمقراطية التي يتم الحديث عنها في الإعلام الرسمي.

أيام عمان المسرحية و الحلقة الضائعة

كثيرا ما يتساءل المرء عند حضور أمسية ثقافية أو عند حضور مهرجان أو ما شابه ذلك، كثيرا مايتساءل عن قلة الحضور وشحه، و عدم اكتراث الجماهير لتلك الأنشطة، وهذا من شأنه أن يطرح تساؤلات كثيرة حول أسباب هذا العزوف من قبل الناس عن متابعة تلك الأنشطة والفعاليات.  الأمر الذي يطرح أيضا  عدة تساؤلات حول مدى نجاح أو فشل تلك الأنشطة  في مد جسر التواصل بينها وبين المتلقي.  

هنالك أزمة حقيقية في العلاقة مابين المسرح والمتلقي، حيث يغيب الجمهور  عن المسرح  ويقتصر الحضور  في اغلب الأحيان على  المشاركين  في فعاليات المهرجان والمسرحيين أنفسهم، وعلى بعض الصحفيين الذين كلفوا بالمتابعة،  فيكون أشبه بحفل زفاف لايحضره إلا أقرباء العروس والعريس، وتكون المشكلة كبيرة في بعض الأحيان  إن كان  العريس والعروس بلا أقرباء، فتجدهم أجهدوا أنفسهم في إقامة المراسم، ليتفاجئوا عند إقامة الحفل   بأنهم لم يحتفلوا إلا بأنفسهم. هل العولمة وما أطلقته من سينما وأنظمة إرسال  وتلفزة هي السبب في فقدان المسرح لجمهوره؟   هل كان للمسرح العربي الجاد  في يوم من الأيام جمهور؟ هل الأزمة هي أزمة وضع ثقافي عام ومجتمع تنخره الأمية من جهة وإرهاصات الحياة من جهة أخرى؟ هل أسباب تلك الأزمة هي غياب هامش الحرية والمنع التي تفرضه السلطات الرقابية، وغياب الدعم والتمويل من قبل الجهات الرسمية؟  هل المسؤولية تقع على المسرحيين ووقوعهم في الروتينية والتقليد وغياب الخيال المسرحي الخلاق؟ أم أن الانبطاح الذي تمارسه العديد من الفرق المسرحية لمنطق السوق وإسرافها في السطحية والإسفاف وإضاعة وقت الناس هو المسؤول عن فقدان الحلقة التي تربط المسرح بالمتلقي...؟.

مهرجان أيام عمان المسرحية حدث سنوي، تجهد فرقة الفوانيس كل عام  في إيجاد الدعم والتمويل الكافي لإقامته، أقيم هذه السنة بمشاركة فرق محلية وعربية، حيث شهدت عمان من 26 آذار وحتى 4  ابريل فعاليات دورته الثالثة عشر، حيث شهدت هذه الدورة ثلاث عروض محلية هي "لا علي الترتيب أو الخبز اليومي" من تأليف وإخراج سوسن دروزة – الأردن،، "نيجاتيف "  من تأليف وإخراج أشرف العوضي –الأردن،"   ذكريات"  نص و إخراج نادرة عمران- الأردن،  أما العروض المسرحية العربية فقد جاءت من العراق وفلسطين وتونس وسوريا، وهي" حظر تجوال" تأليف وإخراج مهند هادي- العراق، "المحطة" نص وإخراج سامح حجازي- فلسطين، "الظل " إخراج يعقوب إسماعيل – فلسطين، "شوكولا" تأليف رغدا الشعراني وإخراج رغدا الشعراني – سورية، "حكاية علاء الدين"  إخراج أسامة حلال – سورية،" امرأة "  إخراج زهيرة بن عمار – تونس،" هدايا الحرب"  إخراج فابيو توليدو- إيطاليا - الأردن.  بالإضافة إلى عروض أفلام جاءت من مصر وسوريا وإيران و هي "يوم حلو يوم مر " من إخراج خيري بشارة - مصر، "البشرة المالحة "  إخراج نضال حسن - سورية،" صندوق الدنيا "  إخراج أسامة محمد - سورية،  "القدر" إخراج فرحناز شريفي – إيران،" تحت السقف"  إخراج نضال الدبس - سورية.

كما وشهدت فعاليات المهرجان ن ثلاث ندوات واحدة جاءت بعنوان " التجريب على النص الكلاسيكي في المسرح الأردني " قدمها جمال عياد، والثانية محاضرة جاءت بعنوان " مرحبا عزيزي بريخت: جوانب بحثية جديدة عمال بريخت المسرحية " لإيبرهارد إلمار زيك من ألمانيا، وحلقة نقاش بعنوان " الآخر/ الغرب : الاحتلال / الاحتواء " شارك فيها عدد من الباحثين والكتاب.  كما وشهدت الدورة أمسية موسيقية للفرقة الأردنية " شو هالايام "، وأمسية قصصية لمحمد طمليه، بالإضافة إلى أمسية شعرية لخيري منصور وأخرى كان من المفترض أن تكون لعباس بيضون إلا انه اعتذر عن  حضوره لأسباب صحية. 

جاءت العروض المسرحية متفاوتة في أدائها وفي مستواها الفني العام، حيث تميزت المسرحية السورية شوكولا وبدا عرضها ناجحا وموفقا من حيث الإخراج الذي استخدمت فيه مخرجة العرض ومؤلفته رغدا الشعراني  تقنية التصوير والفيديو ديجيتال، ومن حيث الأداء والممثلون الذين امتازوا بأداء مسرحي ممتاز استخدموا فيه البوح والرقص لخلق بنية مسرحية استمتع بها الجمهور، ستة أصدقاء يتلاقون بعد الاحتفال برأس السنة في صالة لعرض الأزياء والتي هي ملك لواحد منهم، يبدأ العرض بعرض الأزياء الذي هو في الحقيقة عرض للبوح وللشخصيات التي تفصح عن نفسها من خلال مشاكل صغيرة كبيرة في ذات الوقت  تمس اغلب الشباب العرب، مابين الحب والعمل والحلم والموت، ولنكتشف في نهاية العرض , بأن كل ما رأيناه هو بروفة  لعرض مسرحي.     

أما عن العروض المحلية  فقد شهد  يوم افتتاح المهرجان، عرض مسرحية " لا على الترتيب أو الخبز اليومي "  إخراج سوسن دروزة، وجاء العرض متواضعا  من ناحية الإخراج والنص والاضائة، في حين تميز فيه أداء الممثلة أمل عمران والممثل السوري أيهم آغا،  الذين أنقذوا العرض بموهبتهم في التمثيل وحسن الأداء. أما المسرحية الثانية فكانت " نيجاتف " من تأليف وإخراج اشرف العوضي، التي نجحت في إضحاك الجمهور من خلال اسكتشات و مشاهد مضحكة، وجاء ذلك على حساب الجوهر، حيث غاب عنها المضمون مقابل الضحك.  أما العرض الأردني الثالث فكان مسرحية " ذكريات " من كتابة وإخراج وتمثيل، نادرة عمران، تفاجأ فيه الحضور لقصره حين اعلن عن انتهاء العرض وكأنه رتب كيفما اتفق، حيث كان الإخراج ضعيف، بالإضافة إلى نص هش وفقير. 

أما المسرحية العراقية " حظر تجوال " تأليف وإخراج مهند هادي، فجاءت لتجسد ليلة عراقية بكل مافيها من خوف وقلق ورعب، وجاء ذلك من خلال أداء جيد للمثل رائد محسن والممثل سمر قحطان، اللذان يجسدان شخصيتي صباغ أحذية و غسال سيارات يتقاسمان غرفة واحدة ليعيشان بها ليل حظر التجوال الطويل في بغداد. وكان الملفت وجود امن مكثف وجهاز تفتيش للكشف عن المتفجرات والذخائر وضع  على مدخل المسرح، مما عكس بعض القلق على الجمهور الذي حضر لمشاهدة العرض.

من فلسطين جاءت مسرحية "الظل " إعداد وإخراج يعقوب اسماعيل، التي عرضت مفهوم الفصام الذي يتجسد في شخصية منفصمة يعج فيها الكثير من العوالم، جاء العرض مقنعا من ناحية النص والإخراج والإضاءة، في الوقت الذي لم يساعد التمثيل في دعم العرض، حيث جاء الأداء ضعيفا وتبين ذلك من عدة أخطاء  واضحة   وقع بها الممثلين في النص وفي الأداء. أما المسرحية الثانية " المحطة " من إخراج سامح حجازي، بدت وكأنها جاءت مباشرة أكثر من اللازم  وكان النص مثقل بالإنشائية التي كان يبوح بها بطل المسرحية مثل " إحنا محتاجين لعالم يكون إلنا.. ونقدر نعيش فيه بحدود بسيطة من الحرية, العدالة.. وشو عندنا..!!؟ أنا بقولك إشبعت أكون مليان فضيلة وخذلان, وبديش أكون نبي وبطل ".
من تونس جاءت  مسرحية "امرأة " من اخرج زهيرة بن عمار، وجاء العرض انعكاسا لشخصية شجرة الدرّ التاريخية على وضع المرأة العربية الراهن ومنزلتها في المجتمع، ومدى تمتعها بحريتها وحقوقها الطبيعية، وكان الاخراج متقشفا امام نص مكثف  استند على الموروث التراثي العربي  لاغناء العرض.

أما حفل الختام الذي أقيم في آخر أيام المهرجان فكان يشكوا من قلة الحضور الذي لم يحتل  جزء بسيط من المقاعد التي رتبت في المركز الثقافي الملكي، واقتصر الحضور على منظمي المهرجان وعدد قليل من المعنيين بالأمر، وما لفت النظر في كلمة الختام التي ألقاها مدير المهرجان نادر عمران، هو عتبه على بعض الجهات الرسمية التي لم تتجاوب بشكل مناسب لدعم المهرجان، ومنها رفض  وزارة السياحة منح الفرق المشاركة في المهرجان  تذاكر مجانية لزيارة البتراء الأثرية !!.  

التفرغ  و التفرج

رحب الكثير من الفنانين والمثقفين بالانجاز الذي تحقق بإقرار نظام  " التفرغ الإبداعي  " واعتبره الكثير خطوة هامة في بناء حركة ثقافية جادة وسليمة، ولكن كان هناك أيضا خيبة أمل كبيرة من قبل الكثير، عند قراءة القوانين والتعليمات المتعلقة بنظام التفرغ الإبداعي. وعززت خيبة الأمل تلك من موقف الكثير ممن كانوا يشككون بجدية الجهات الرسمية، في تعزيز وتطوير الحركة الثقافية في الأردن. لم أصاب بدهشة عندما سألت احد الكتاب الأردنيين عن انطباعه عن نظام التفرغ الإبداعي حين قال لي بأن " هذا نظام تفرج وليس تفرغ !!، هنالك الكثير من المبدعين الذين كانوا ينتظرون هذا القرار، والذين كانوا في اشد الحماس للتقدم والتفاعل معه، كونهم أحسوا ولو لبرهة قصيرة أن الدولة والجهات الرسمية قد بدأت بالتفكير بجدية  في أمرهم، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل كبيرة، عند قراءة شروط التقدم، وهم وبكل بساطة سيتحولوا إلى متفرجين بامتياز، فالأمر بالنسبة لهم صار تفرج وليس تفرغ "، وجاءت تلك الخيبة عند الاطلاع على التعليمات التنفيذية لنظام التفرغ الإبداعي، والتي ستحرم الجزء الأكبر والأقدر إبداعيا من التقدم والاستفادة من نظام التفرغ الإبداعي،  وبحسب رأي الكثيرين  جاءت تلك التعليمات (الشروط ) بشكل ارتجالي غير مدروس دراسة معمقة وجادة، وكان من أكثر تلك الشروط استغرابا وإثارة للجدل، بأن النظام يشترط على المتقدم أن لا يقل عمره عن أربعين سنة !! وان يكون لديه ما لا يقل عن أربعة مؤلفات فردية منشورة في حقل التفرغ الأدبي أو الفكري المطلوب وأربعة معارض فردية معلنة في حقل التفرغ التشكيلي المطلوب، وأربعة مؤلفات مؤداة علنا في حقل الموسيقى أو المسرح أو الأفلام القصيرة !!.

وهنا نقفز إلى مفهوم الإبداع عند وزارة الثقافة الأردنية  وعلاقته بعقدة  (الرقم 4 )، فما معنى أن يقتصر نظام التفرغ على سن الأربعين، وكلنا يعلم أن التوهج الفكري و الإبداعي يكون غالبا في مرحلة الشباب، والتاريخ اكبر مثال على ذلك حين نجد أن الكثير من المبدعين الذين أحدثوا ثورة في الأدب والفكر كانوا في مقتبل العمر، كرامبو الذي كتب فصل في الجحيم واحدث ثورة في الشعر الفرنسي والعالمي  وهو لايزال في الثامنة عشر، وكولن ولسون الذي كتب اللامنتمي وهو لايزال في الثانية والعشرين، أو  تيسير سبول الذي كتب "أنت منذ اليوم " ومات في 33، أو موزارت الذي ألف أجمل المقطوعات الموسيقية ومات وهو لايزال في الخامسة والثلاثين، وغيرهم  الكثير الكثير من الذين قد تعتبرهم وزارة الثقافة بشكل أو بآخر، بأنهم لم يصلوا إلى مرحلة النضج الكافي إبداعيا. وهنا سؤال يطرحه الفنان والمثقف الأردني " ماعلاقة السن بالإبداع  أيتها الوزارة...؟! ".

أما الشرط التعجيزي الثاني وهو وللصدفة يتعلق أيضا ( بالرقم 4 ) فعلى المتقدم أن يكون له  " أربع مؤلفات في مجال تخصصه "،ويبدو أيضا أن المستفيد من هذا النظام هم الأشخاص الذين وضعوا عشرات الكتب دون أن يدري بهم احد،ودون أن يتركوا أي تأثير يذكر، علما بأن الساحة في الأردن مليئة بهم، وهم وليس من قبيل الصدفة  معظمهم قد تجاوز (الأربعين) !. احد الكتاب الأردنيين وهو مثقف مشهود له يقول في تعليقه  على التعليمات  " إنَّ التفكير الذي أنتج هذه التعليمات هو تفكير يقدِّس الشكل على حساب المضمون ويقدِّس الكم على حساب النوع. إنَّه يجهل أو يتجاهل أنَّ الزمن ليس كمّاً ولا عدداً، بل هو قبل كلّ شيء محتوى اجتماعيّ وحياتيّ وثقافيّ ومعرفيّ. فقد يعيش الإنسان أربعين سنة (وأكثر) ولكنَّ حياته تكون في المحصِّلة خاوية، وخبرته محدودة، ومعرفته ضئيلة؛ بينما قد لا يتجاوز عمر إنسان آخر العشرين سنة ومع ذلك تكون حياته غنيَّة بالخبرات والمعارف والتجارب "، والمضحك في الأمر أن الوزارة ردت عليه في نفس الصحيفة تقول  " قد كان لا بد من تحديد سن معينة في التعليمات، أما اختيار سن الأربعين فقد بني على اعتبارات مدروسة من قبل لجنة صياغة مسودة التعليمات التي ارتأت أن سن الأربعين يمثل سن النضوج في التجربة الإنسانية بعامة، والإبداعية بخاصة " وفي  مقطع آخر من المقال تقول الوزارة ردا على الكاتب أن " رامبو وبوشكين وماياكوفسكي وغيرهم من الشباب هم ليسوا حالات عادية "  وكأنهم خوارق جاءوا من كوكب آخر، والكثير يتساءل من هو هذا (المثقف) الذي يعتبر أن أولائك المبدعين الشباب "هم حالات غير عادية " !! إلا إذا كان هذا الموظف او (المثقف)  معتاد فعلا على اللا إنتاج وعلى تردي المستوى الفني والفكري.
الحقيقة المعروفة لدى الجميع الآن، أن هذه الشروط خيبة أمل الكثير ممن كانوا قد بدءوا الإحساس بانفراج ما على الصعيد الثقافي،  جاءت خيبة الأمل تلك  من خلال السطحية والارتجالية التي تم التعامل فيها مع نظام التفرغ الإبداعي.

  

tarikil@yahoo.com