نفترض في هذه القراءة النقدية للمدونة الإبداعية للقاص والصحفي السوري جميل حتمل الذي رأى النور بدمشق عام 1956 وتوفي في باريس عام 1994 تعبيرها القوي عن الارتباط الوثيق بالتجربة الحياتية للكاتب الراحل وخصوصاً فيما له تعلق بترسبات رحيل أمه وهو طفل صغير، ثم دخوله المعتقل بسبب معارضته للنظام البعثي في سورية واغترابه في فرنسا، وانفصاله عن زوجته، ووفاة أبيه الفنان التشكيلي ألفريد حتمل، ثم معاناته مع داء القلب الذي سوف يودي أخيراً بحياته عام 1994. وييدو من خلال القراءة العميقة لتحققات هذه التجربة قي المجاميع القصصية الخمسة: "الطفلة ذات القبعة البيضاء"، "انفعالات"، "حين لا بلاد"، "قصص المرض قصص الجنون"، "سأقول لهم" التي خلفها الكاتب والتي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1998، وبتقديم رائع ومؤثر للروائي الراحل عبد الرحمان منيف، أنها شكلت في المقام الأول والأخير انعكاساً لهاته التجربة بمختلف تمرحلاتها أو حالات بوح شفيف عن الألم وصوره.
تتأطر جلّ النصوص المشكلة لهذه العوالم السردية في سياق تحكمه الكوابيس ومظاهر الإخفاق والألم والفقد والخوف من المجهول بمختلف تمثيلاته من مرض وسجن وتشاؤم واستعادة مؤسية ولحوحة للماضي وصوره التي تغلب عليها الوحشة والارتياب في المستقبل. وفي غمرة هاته الاستعادة السردية يبدو السارد أسير عالم مغلق لا يستطيع الفكاك منه ويكتفي بالتعبير السردي عن سماته المائزة. ويمكننا أن نستخلص من خلال القراءة المتأنية للتحققات النصية لهاته المجاميع الحضور القوي لثيمة العجز عن التغيير والتي يضاعفها افتقار إلى المبادرة والفعل. تحتفظ الشخوص المؤثثة للنصوص ولحالة هاته بوشائج قربى قوية بالسارد، الذي يتحدث باطراد بصيغة ضمير الغائب، وهو ما يضفي على دينامية السرد طابع الاستعادة الدرامية التي تغلب عليها الفجائعيّة والتحسر والخوف من الحاضر والمستقبل وترقب الخلاص المستحيل.
وعلى الرغم من قوة السرد وسحر اللغة الموحية والشفافة، فإن تمثيل "الكابوس" يلقي بظلاله على النصوص، ويزج بالقارئ المفترض في غمرة عوالم تتلاحق داخلها هواجس ومخاوف ذات ساردة مغلولة إلى الماضي بجدرانه الكالحة ووجوهه البغيضة والمخيفة وساعات الترقب غير المجدي لوصول يبقى مؤجلا باطراد. يتقدم فعل السرد والحالة هاته باعتباره جسرا يصل الذوات بقوة القسر والإكراه بالماضي ويشل حركتها، ومن ثم قدرتها على التغيير واستشراف المستقبل. يمكننا أن نمثل لهذا الافتراض بنص "السير بخطوات بطيئة" الذي استهلت به مجموعة "الطفلة ذات القبعة البيضاء". نلفي ذواتنا مشدودين إلى هذا المقطع الدال: "وها أنا منتظر أيتها الأنثى، ممتلئ بالغضب المستسلم، والألم، وتلال الحزن، أفكر بتلك المخلوقات الرمادية المصنوعة من الحزن، والتي سأزرعها فيك لو حصل شيء. وها أنا أتفتت من التعب، ومن هذي الأيام المرة، والطقس الملعون..." (المجموعة ص8).
سوف نستشف في غمرة تتابع الأحداث ارتباط هذا الاستهلال السردي بموضوعة "التعب" التي تشكل في حد ذاتها قناعاً جمالياً للعجز والخوف وأيقوناتهما. وربما تشكل وقفة الباص غير المبالية وحالة انتظار المرأة والأسئلة المستنكرة التي تناسلت حالات تمثيل لسطوة الماضي وهشاشة الحاضر. يشكل التعب الذي تعبر عنه الذات الساردة في الظاهر محصلة موضوعية لاعتقال "الرفيق السابع"، لكننا لا نعدم في السياق ذاته التشديد على حضور تمثيل "الاستبداد" الذي يغتال الحرية ويحول الحب حسب تعبير السارد إلى "هم يقيدنا". وفي الوقت الذي كنا نترقب باعتبارنا ذواتا متلقية من خلال هذا اللقاء بين السارد والمرأة دينامية تشرع الأبواب أمام التعدد والخصوبة في تخييل الحالات والمواقف، فإننا نكتفي بسرد أحادي ورتيب يكرس للجاهزية والسلب واقتضاءاتهما.
تنسحب حالة التعب ومرادفاتها على حضور الجسد في الفضاء العام. وسوف نكتشف أن تمثيل "الاستبداد" لا يلقي بظلاله فقط على ما يهم لجم حرية التعبير "السياسي"، وإنما يطول الجسد في بعده الحسي والشهوي ويحول الفضاء إلى سجن "رمزي" يراقب ويعاقب ويحظر الحق في المتعة ويرغم الذوات على اللياذ بالعتمة والهامش. ويكفي أن نقرأ نص "برد الأيام الماضية، برد الأيام الآتية" كي نحيط علماً بالحقيقة التي مؤداها إن موضوعة "العجز" تتحول إلى محفز يؤطر دينامية السرد ويكيف بطريقة غير إرادية انتظارات القراء. يدخل السارد الذي يحضر دائماً بصيغة ضمير الغائب صحبة صديقه إلى ماخور بغية اقتناص أويقات من اللذة. ويبدو من خلال سيرورة الأحداث في هذا النص أن "المتعة الجنسية" لا تحضر بوصفها تمثيلاً لغريزة الحياة والحضور الفاعل في الحاضر، وإنما استعادة مؤسية لأعطاب الماضي وتأثيراتها على الذات. وفي غمرة اللهاث والانتشاء تتساقط الدموع ويتعاظم الشعور بالحزن في دخيلة الفتى الذي لا يتجاوز السابعة عشرة والذي لا نعدم استكشاف وجود شبه بينه وبين الكاتب وخصوصاً فيما يتعلق بتلكم الإشارة إلى فقد الأب وآثاره الكريهة.
تتقدم العزلة باعتبارها سمة مميزة للسارد وقرينة دالة على المسافة التي تفصله عن الحاضر والمستقبل. ويمكننا أن نتمثل حضور هذه الموضوعة الرئيسة من خلال النصوص التي تهتم بانتقال الشخوص من الضيعة إلى المدينة أو من سورية إلى فرنسا بالإضافة إلى تلكم الحالات الإنسانية التي تصور بنوع من الغنائية الكثيفة تبعات الطلاق. ويمكن أن نعثر في مجموعة "انفعالات" على تمثيل نكثف لاشتغال هذه الثيمة. تبدو الشخوص محكومة بمكابدة ويلات وعقابيل العزلة الموحشة داخل أمكنة مغلقة من قبيل "الزنزانة"، "الغرفة"، "موقف الباص"، إلخ، وتتجلى المرأة من خلال ثنائية الحضور والغياب باعتبارها قرينة دالة على سطوة العزلة ومضاعفة لوحشتها وقسوتها: "أنا وحيد أيتها الآنسة، وأريد فقط أن نجلس معاً في مكان ما، فقط نجلس معاً ولو قليلا... أنا أيتها الآنسة التي تطل من بعيد، حاملة كتاباً مليئاً بالـ... ثم وجد نفسه بهدوء شديد، يفتح باب غرفته الرمادية يدخل متراخياً، يرتمي على السرير القديم، يسند رأسه إلى ذراعيه النحيلتين، ويهتز في نشيج متواصل" (مجموعة انفعالات. انفعال 1 غرفة، ص74).
يتعالق التعبير السردي عن العزلة بما سبق أن عرضنا له في خصوص هيمنة التمثيل السلبي للحضور في العالم. ويمكننا من هذا المنظور أن نستنتج ارتباط الكتابة الإبداعية عند جميل حتمل بسيرته الشخصية إلى درجة يمكن وصفها بالتماهي شبه المطلق. وعلى الرغم من ركون الذات الكاتبة إلى توظيف خطة في السرد تعتمد بكثافة ضمير الغائب وتعدداً في الشخوص والأمكنة، فإن التجربة الذاتية تعلن عن حضورها باعتبارها نموذجاً متعالياً يلقي بظلاله على دينامية التخييل ومساراته. تتكرر الإشارات الدالة على غياب/ حضور الأب والمرأة الهاربة علاوة على الصور الفظيعة للاعتقال والاستنطاق والتعذيب في مخافر الشرطة، وما يستتبعها من هواجس وأسئلة معلقة وقلق مرضي يؤشر على العجز والانتظار غير المجدي. تتقلص مساحة الفرح والتفاؤل في غمرة هذا السرد السوداوي لتفسح المجال أمام سرد يعتمد أساساً على مقوم الاستعادة التي تطابق بين الماضي والحاضر وتعجز عن استشراف المستقبل.
يحبل نص "فستان أزرق" الذي يستهل مجموعة "حين لا بلاد" والمهدى إلى أبيه ألفرد حتمل بقرائن نصية دالة على فواصل من سيرته الشخصية وخصوصاً فيما له تعلق بطلاقه من زوجته وما ترتب عليه من وحدة موحشة ومرض. يختزل هذا النص في حد ذاته الرؤية التي هيمنت على تجربته الإبداعيّة والتي أشرنا إلى بعض سماتها القوية. يستعيد السارد تفاصيل ذلك الصباح الذي أقدمت فيه زوجته على مغادرة البيت تاركة إياه نهباً للانتظار السلبي وتبعاته الثقيلة: "ما الذي سيحدث لو صادفها؟ .. ما الذي سيقوله بعد تلك الحدة، أو تلك القسوة التي قدمتها له؟ بتركه وحيداً؟ كان يخاف الأجوبة، فيتجنب وجودها، يتجنب مصادفتها، رغم تلهفه المشتاق لأخبارها.." (فستان أزرق. مجموعة حين لا بلاد، ص132).
تؤشر نصوص مجموعة "قصص المرض، قصص الجنون" التي تتوزع زمنيا بين 1992 و1993، وجغرافياً بين باريس وعمان على تجربة العزلة بكوابيسها والمرض الذي سوف يودي بحياته. ويمكن من خلال القراءة الدقيقة لتحققات هذه المجموعة استجابتها لتلك الرغبة اللحوحة في الاعتراف وصوغ شهادة عن مرحلة. ولئن كان القسم الأول من المجموعة والذي اختار له الكاتب عنوان "حكايات الأهل" موصولاً بتلكم الرغبة في التصادي مع مرحلة الطفولة وبعض فواصلها الحميمة ربما بتأثير وطأة المرض والإحساس بقرب النهاية، فإن القسم الثاني والذي اختار له وسم "قصص المرض، قصص الجنون" يوشك أن يكون توثيقاً سردياً يتاخم في بعض الحالات طابع الوصف التسجيلي الحابل بالمرارة والألم. يبدو دالاً في هذا الخصوص حرص الذات الكاتبة على الركون إلى الإيجاز والتكثيف واختيار أسلوب في السرد يعتمد بالأساس على الصورة. ويكفي أن نشير في هذا السياق إلى نص "آخر الصبح" الذي أهداه إلى أبيه ألــفرد حتمل والذي يستهله كما يلي: "سأستيقظ هذا الصباح ليس صباحاً تماماً، بل يقارب منتصف النهار-سأستيقظ لأجد رجلاً في بيتي. رجلاً شبه نائم. سأهزه لأكتشف رجلاً ميتا". (النص. ص210).
يبدو السارد الذي يتحدث هذه المرة بضمير الأنا مسكوناً بهاجس الموت والذي يجد تمثيله في هذا الإلحاح المقصود على وجود جثة رجل ميت في منزله. وبمعزل عن الاقتراب الحرفي أو السطحي من الصورة واستلزاماتها، فإن ارتباطها بصورة الأب الغائب على حين غرة والذي خلف فراغاً مهولاً في حياة الكاتب يبقى حابلاً بالدلالات. وتفترض هذه الصورة الكابوسية بطريقة جدلية ثيمة العزلة التي سبق أن أشرنا إليها والتي تلقي بظلالها الثقيلة على اليومي الذي تحياه الذات الساردة. وعلى الرغم من إلحاحها على الأصدقاء كي يبقوا، فإن صورة الجثة تمارس سطوتها وتنتهي بأن تطمس أي أثر للحياة بما هي فرح وشهوة.
يتقدم نص "كلاش" باعتباره قرينة على انحسار رقعة التخييل بما هو إبداع وخلق لفائدة لغة تقريرية ترصد وتسجل وتصوغ شهادة عن اللحظة الراهنة والعلائق التي تحتفظ بها مع الماضي، لكنها تعجز عن الانفتاح على المستقبل أو الحدس به. يتابع السارد من داخل غرفته أخبار المنطقة العربية والعالم ويتحاشى الوقوع على إذاعة "شالوم" الإسرائيلية. وفي غمرة البحث عن قناة عربية، يكتشف السارد عيد ميلاده واستشرافه سن الثامنة والثلاثين؛ بكل ما يستدعيه ذلك من ركون قسري إلى العزلة وتذكر مطرد للمرأة التي غادرته ذات صباح وأسئلة معلقة عن الكتابة وجدواها. يمكننا أن نتمثل هذا النص باعتباره اقتراباً من تفاصيل المعيش اليومي للسارد الذي لا يعدو كونه صورة للذات الكاتبة التي لا ترى في الحاضر غير صور السواد والشر والعزلة والتي تراودها فكرة الانتحار، ولكنها تعجز عن الإقدام على ذلك.
يبدو حضور المرأة قوياً في هذه المجموعة، ولن يعجز الذات القارئة أن تحيط علما بارتباطها في وعي السارد بنسق تمثيلات يغلب عليه السلب وتحيل بقوة إلى ما ترسب في الذاكرة من مرارة وألم تجربة غياب الأم ورحيل الزوجة ذات صباح. يؤشر تمثيل المرأة في نصوص هذه المجموعة على حالة الجدب والحرمان التي كان الكاتب يكابد مرائرها في السنوات الأخيرة من حياته. يكفي أن نقرأ نصي "سوتيان أحمر" أو "جثة خامسة" لكي نحيط علماً بارتباط صورة المرأة في وعي السارد/ الكاتب بالخيانة والغدر والمتعة الجنسية المشوهة والمعطوبة والرغبة المكبوتة في الثأر وإعادة الاعتبار للكرامة المهدورة بفعل الهجر في ذلك الصباح القديم.
يبدو دالاً في السياق نفسه الاستدعاء المكثف للأب في نصوص هذه المجموعة وأيضا في المجموعة الأخيرة "سأقول لهم". يمكننا أن نتمثل في هذا المعرض الاستثناء الذي يسم توظيف صورة الأب عند جميل حتمل عن التراكم السائد في السرد العربي والذي ينحو صوب الوصل بين الأب وصور الاستبداد والقمع والوحشية. سوف نلمس والحالة هاته كيف يتحول الأب في هاته النصوص إلى معادل جمالي للظرف والرقة والتحفيز الإيجابي على مقاومة العجز والمرض. تبدو صورة الأب علامة على اختلال وجودي فادح تنوء الذات الساردة تحت وطأته، ولعل في ذلك ما يفسر ذلكم الإلحاح السردي المطرد على دعوة الأب الغائب بفعل الموت إلى العودة. وسوف يستشرف هذا الحوار الروحي مع الأب ذروته في نص "ألوانه حقا" والذي استهله كما يلي: "عند الفجر تماماً هزني. كنت طوال الليل أتقلب، دون أن أنام، ولا أدري كيف غفوت، إلى أن هزني. لم يقل صباح الخير. ابتسم وهو يقول: سآتي في المساء. قلت له: أعرف أنك ميت، وأنك تمزح معي الآن.. هز رأسه مع نفس الابتسامة، وأكد: سآتي في المساء". ("ألوانه حقا" ضمن مجموعة "سأقول لهم"، ص287).
يتوحد السارد عبر وساطة التخييل بشخص أبيه الراحل ويؤسسان لعالم ممكن تحضر من خلاله ذكرى ولع الأب بالنساء والخمر والألوان وحاجة الابن إلى حضوره ثم، ما يلبث الانتظار أن يسفر عن الخيبة، ويقر السارد بثقل المــــوت وحـــــرقة الــــذاكرة التي يمثل لها بألوان "الأب" التي ما تزال طرية ولم تجف بعد.
يمكننا أن نقول على سبيل التركيب إن تجربة الراحل جميل حتمل بمختلف تحققاتها النصية تشكل نموذجاً معبراً بعمق عن زواج الكتابة بالحياة بمختلف حالاتها. وقد بدا لنا من خلال الإنصات العميق لهذه التجربة أنها كانت بمثابة كتابة سير ذاتية تماهت فيها الشخوص الساردة بالذات الكاتبة وأشكال المعاناة النفسية والفيزيقية التي خبرتها. كانت الكتابة في وعي جميل حتمل موصولة برؤيا الموت بما هو فقد وانتهاء والانتظار والمرض. وهي باعتبار ذلك كله فعل تطهير ركنت إليه الذات الكاتبة كي تفرغ انفعالاتها وحالات قلقها الوجودي.