تشير الكاتبة إلى أن قيام الثورات العربية تزامن مع خروج المواطن من هيمنة الفرجة على شاشات الاستبداد المخدرة وثقافة الاسترخاء والقبول بالنصيب، فأسس بذلك فعل انزياحه عن النص التلقيني، وأضحى بطل المشهد وهو يقتحم الميدان كي يحدد أولويات جديدة مغايرة.

الثورات وسينما الشوارع

ليانة بدر

صارت مراقبة الثورات العربية على الشاشات عملية مشاهدة مضادة لما اعتاد عليه المشاهد في الحياة الاعتيادية عبر سنوات طويلة. فهذه الحشود المؤلفة التي ينتمي لها المواطن العربي والتي قامت بهذه الثورات إنما عملت على فعل هو بمثابة خروج عن النص الذي لقنته الشاشات للمواطنين. خروج عن النص لأنها تأخذ بيد المشاهد ذاته كي يصير بطل الصورة، وكي يقتحم ميدان التحرير أو الحارات العربية لكي يحدد أولويات جديدة تختلف عن قناعة أبطال الأفلام أو مسلسلات التلفزة السابقة بالقدر والنصيب والأوامر العليا مثل "باب الحارة" أو غيرها. غيرت الثورات من موقع المشاهد وجعلته بطلاً فعلياً يأمل بتغيير واقعه الشخصي عبر سيطرته على المكان والزمان. وجعلت منه مواطناً جديداً يحلم بتغيير موقعه المشلول والجامد قبلها. رغم كل شيء، ورغم الانتقادات فقد أخرجت الثورات المواطن من ميكانيكية الرياضيات البسيطة التي جعلت منه عبداً مأموراً، وطرحت عليه أفكاراً واقتراحات أخرى جعلته على مفرق طرق لخيارات جديدة أولها حريته السليبة.هل يمكننا أن نعتبر أن الثورات العربية قد برمجت وعياً جديداً في عالم المواطن الاعتيادي رغم ما نراه من ردات أصولية تحلم بأن تستعبد الحياة في العصور الوسطى؟ نتساءل ونحن نرى إلى الأفلام العربية الجديدة وما تطرحه تساؤلاتها القلقة. فلقد غطس الانتاج السينمائي العربي الحديث في الحضيض ولم يعد يخرج في السنوات الأخيرة التي سبقت الثورات العربية إلا بأفلام مزورة تبيع الفكاهة والرعب والحماقات السطحية دون أن تهتز شعرة في أبدان منتجيها وصانعيها. وهكذا رأينا كيف تضيع امكانات المخرجين الجدد عبر سنوات طويلة تنفق في تسول الميزانيات لأن أقل من القليل كان يدعمهم.كانت الأفلام السابقة وبرامج الفضائيات النمطية والمسلسلات المستهلكة قد أدخلت المواطن إلى حالة من الخدر العقلي والتكاسل الفكري، بحيث صارت الحياة العربية اليومية مزيجاً غريبا من اللامبالاة والانزواء وتقبل كل ما تجود به وسائل الاعلام هذه تحت حجة التاريخ والحقيقة. وما زلنا نذكر كيف سطا أبطال مسلسلات مثل "باب الحارة" و"الحج متولي" على أذهان الجماهير التي كانت تحلم بأن يحقق لها القدر عودة نهائية على زمن وهمي آخر يصول فيه الفرد ويجول مؤكداً سلطته الأسرية أو العشائرية في زمن حرمت عليه السلطات فيه حرية الاختيار والمساءلة.من الذي حلم فينا بأن تعود الحشود إلى ميدان التحرير كي تشكل سابقة جديدة في بحث الجماهير عن قراراتها وخياراتها بدلاً من الاستسلام لقرارات لا تريدها ؟من الذي تصور بأن تنتشر الجماهير في الميادين والساحات، في المدن العربية، هاتفة صارخة وهي تطالب بالمحاسبة والخلاص من الديكتاتوريات رغم تهديدات القصف الأرضي والجوي ؟أشياء كثيرة حدثت حاملة معها التغييرات الايجابية أحياناً والسلبية أحياناً أخرى، لكن العملية انطلقت، ولن تتوقف حتى تكتمل الدائرة مهما جرفت معها من أوضاع وأنظمة.لهذا سوف تتغير الأفلام تباعاً حاملة معها وجه المكاشفة الجديدة، ومتجنبة الزيف والخداع لأن الجماهير لم تعد "عايزة كده" كما كان يردد أساطين الانتاج في الماضي. ولهذا ستدور معارك صغيرة أو كبيرة في أبهاء المهرجانات العربية وأماكن العرض على مستويات الوعي التي يعكسها الفيلم بما يعكس حياة أبطاله.ربما لهذا احتل المواطن الثائر ضد الظلم موقع بطل الشاشة كي يدافع عن انجازاته الأولى حين تأخذ الثورات أشكالاً كاذبة تدعي الثورة وهي براء منها. ربما لهذا كف كثيرون عن مراقبة المسلسلات التي انخفض عدد مشاهديها بما يفوق التصور، وصاروا يشاهدون بدلاً منها المواطنين الذين يشابهونهم في مصر وسورية وتونس يديرون احتجاجاتهم في مسيرات حاشدة التي لا تخلو من العواقب الخطيرة على المشاركين فيها. ربما كان هذا تكريساً من جيل الآباء لصرخة الوعي الأخيرة حين وجد أنه استسلم لدول عسكرية ادعت الوطنية وسرقت منه الحياة، وكسرة الخبز والكرامة تحت حجة محاربة اسرائيل والامبريالية. ربما لهذا أراد المواطن المسحوق في هذه المرة احتلال الشاشة بالطول والعرض، بالجد والسخرية، بالعمل والتضحية، وبالموت والحياة مزيحاً بالأيدي المتقشفة الزيف والكذب وعالم المتاجرة بحياته المستقبلية.تحيا شعوب ثوراتنا الجديدة التي نزلت إلى الشوارع كي ترسم الشاشة الجديدة بفنون أخرى وبكل ما وصلت اليه أياديها. يحيا الشارع العربي، فمنه نستمد السينما الجديدة التي طمحنا اليها دوماً قبلها.