تفجيرات شارع المتنبي
بعد تفجير شارع المتنبي .. شارع المعرفة والثقافة
ذكريات بغدادية عتيقة
جاء في كتاب معجم الأدباء لياقوت الحموي أن الوجيه المبارك زار دار الكتب بالمأمونية، وكان خازنها أبا المعالي (أحمد بن هبة الله) فذكر المبارك شيئا عن أبي العلاء المعرِّيز.. فقال هبةُ الله للوجيه المبارك: كان عندي كتابٌ من تأليفه أي من تأليف أبي العلاء المعري فغسلته ـ أي أتلفته. فقال المبارك: في أي شيء كان هذا الكتاب؟ فرد أحمد بن هبة الله :في نقض القرآن الكريم !فقال المبارك: أخطأتَ في غسلهز.. فلا يخلو أن يكون هذا الكتاب، إما مثل القرآن أو خيرا منه، أو دونه. فإن كان مثله أو خيرا منه، وحاشا لله أن يكون، فلا يجب التفريط به. وإذا كان دونهز.. فتركُهُ معجزةٌ للقرآ ! فسكتَ ابن هبة الله (معجم الأدباء جزء 17 ص 65 ـ 66 نقلا عن توفيق أبو شومر. تثير تفجيرات شارع المتنبي في بغداد (5/3/2007) ذكريات عريقة وأحزانا عميقة، وتساؤلات تتبادر إلي الذهن المشحون بعلامات الاستفهام والتعجب والاستنكار والشجب، لا سيما وأن التفجير انتحاري متعمد لهذا المكان الذي تقدسه المعرفة ويجلله التاريخ. تـُري مَنْ هي الجهة التي تريد قتل كلمة اقرأ التي تميز بها الإسلام كأول لفظة نزلت علي محمد(ص)؟. وأول دين قال اطلبوا العلم من المهد إلي اللحد و اطلبوه ولو في الصين ؟ وإذا عدنا إلي التاريخ الأبعد لاسترعي نظرنا أن أول الكلمات التي كتبت في التاريخ البشري كانت في أرض الرافدين جنوب العراق. ويؤكد هذه الحقيقة العالم الآثاري الامريكي المتخصص في السومريات ـ سامويل نوح كريمر S.N.Kramer ـ في كتابه المتميز، التاريخ يبدأ في سومر، حيث يعدد سبعة وعشرين أولا في التاريخ البشري المعروف. وعلي رأس هذه الأوائل، الكتابة ثم يعدد: أول مدرسة، أول حكومة، أول برلمان بمجلسين، أول إصلاح اجتماعي، أول المثل الأخلاقية، أول تشريع ضرائبي، أول مكتبة، وأول قائمة بأسماء الكتب، أول الشرائع القانونية الشاملة ( قبل شريعة حمورابي بأربعة قرون تقريبا)، أول قصيدة حب، وأول الحـِكـَم والأمثال، وأول مناظرة أدبية، أول ملحمة شعرية تبحث عن الحقيقة ومصير الإنسان (ملحمة كلكامش) إلخ ... أما كاتبنا المتميز طه حسين فيشير في مطلع العدد الأول من مجلته المتميزة الكاتب المصري (تشرين الاول ـ اكتوبر 1945) إلي أن الشعب المصري أول من كتب بالقلم، واتخذ الحروف رمزا للكلام الذي يؤدي عن القلوب والنفوس والعقول وما يثور فيها من العواطف، وما يضطرب فيها من الأهواء وما يخطر لها من الآراء. وبهذه المناسبة ما زلت أحتفظ بمجموعة مجلة الكاتب المصري كاملة حتي اليوم. وكنت أشتريها بانتظام، منذ ذلك الحين، من شارع المتنبي هذا، الذي أراد أعداء العقل، وقـتـلة الكلمة الحرة، نسفه، وهيهات !. ثم حملتها معي إلي الدنيا الجديدة، مع أنني اضطررت إلي ترك الكثير من محتويات مكتبتي الكبيرة في بغداد. وعندما التقيت آخر مرة بالدكتور كلوفيس مقصود وأهديت إليه كتابي أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي، قلت له أنني قرأت كتابك أزمة اليسار العربي في مطلع الستينيات من القرن الماضي. فقال أتتذكر أننا كنا نقول سابقا أن مصر تكتب وبيروت تنشر والعراق يقرأ ؟ وهذا يصدق علي كتابي هذا الذي بيع منه في العراق أكثر من أي بلد عربي آخر. وعلي ذكر كتاب أزمة اليسار العربي وكتاب أزمة التطور الحضاري، فإننا نلاحظ أن هذه الأزمات الفكرية والمادية، التي تصيب الأمة العربية تتوالي وتزداد وتيرة وتفاقما، لا سيما منذ عام 1948 حتي يومنا هذا. وحينما كنت أستمع إلي أخبار تفجير شارع الثقافة المؤلمة، وأستعرض تاريخ العراق الحضاري العريق، أستعيد ذكريات عزيزة وشائقة تعود إلي أكثر من نصف قرن، في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، حين كنت طالبا في الصف الرابع الثانوي في المدرسة الثانوية المركزية في مركز بغداد الرسمي والتجاري. وكان شارع المتنبي لا يبعد عن مدرستنا سوي بضع دقائق تقريبا. فترة الغداء التي كانت تستغرق ساعتين، كنت أقضيها قريبا من المدرسة لأن بيتنا كان بعيدا في حي الكرادة، الذي كان حيا سكنيا هادئا، يعج بالبساتين الغناء المثمرة، ويعتبر خارج بغداد سابقا. بينما أصبح اليوم جزءا من العاصمة المترامية الأطراف، حيث تحدث فيه اليوم الكثير من التفجيرات. وفي نفس الحي و بالقرب من بيتنا الأخير في منطقة الجادرية، تقع أول واكبر جامعة عراقية جامعة بغداد. أقطع المسافة بين المدرسة و سوق الثقافة بسرعة، لأدخل أولا في سوق السراي. سمي كذلك لأنه يقع في نهاية القـُشلة من الجهة الجنوبية وهي مبني بدأه الوالي نامق باشا 1861، واستكمله مدحت باشا في عام 1870. ويقع في جنوبها السراي حيث كان مقرا للحكومة. وكان سوق السراي يعج بالكتب الرخيصة الثمن نسبيا لأن بعضها قديم أو مستعمل. فإذا عثرت علي كتاب رخيص يروقني اشتريته ولو علي حساب مصروفي اليومي. فقد كنت أقتصد من طعام غدائي ومواصلاتي لأشتري مثلا بعض كتب المنفلوطي والرافعي، وأعداداً قديمة من مجلة المقتطف والهلال. ثم تطورتْ اهتماماتي عندما وصلت الصف الخامس فاكتشفتُ مجلة علم النفس التي كانت تصدرها جماعة علم النفس التكاملي التي ترعاها الأميرة شويكار، برئاسة الدكتور يوسف مراد، الذي اقتنيت كتابه الهام مبادئ علم النفس فيما بعد. وأعترف بأنني اشتريت قبل ذلك كتب ميشيل زيفاغو المترجمة طبعا، مثل مجموعة كتب روكامبول التي كانت تلهيني عن مطالعة كتبي المدرسية المقررة. وسوق السراي سوق قديم مسقوف، يوازي نهر دجلة، ويشكل مع شارع المتنبي، الذي يربط شارع الرشيد بنهر دجلة، زاوية قائمة. وقد سمي بهذا الاسم في عام 1932 تيمنا بشاعر العرب الكبير أبي الطيب المتنبي، كما قال لي والدي وهو يبتسم فخرا بهذا الشاعر العظيم، الذي كان كثيرا ما يردد شعره. وقبل ذلك التاريخ سمي بعدة أسماء أخري منها الأكمك خانة، ويعود تاريخه إلي أواخر العصر العباسي. وأتذكر أنني كنت أتحسر عندما أعود لأستعرض الكتب المعروضة في شارع المتنبي الذي كانت تنتشر فيه المكتبات الكبيرة الحاشدة بالكتب المجلدة تجليدا أنيقا، ومنها مكتبة أمين زاهد ومكتبة عبد الكريم زاهد. ثم فـُتحت في مقدمة ذلك الشارع من جهة القشلة، مكتبة حديثة بواجهة زجاجية عريضة وباب للدخول إليها. وعرضت في واجهتها الكتب المصرية واللبنانية الأنيقة الصادرة حديثا. وأتذكر من الكتب القشيبة المرتفعة الثمن التي لم أتمكن من شرائها في ذلك الزمن: ليالي الملاح التائه و زهر وخمر. وكان ذلك قبل أن أعرف علي محمود طه وأهمية الكتاب نفسه. وعلي غير العادة سُميت هذه المكتبة بغير اسم صاحبها: المكتبة العصرية، مكتوبة علي لوحة عريضة يافطة بخط فني جميل. وبعدها تعرفت علي مكتبة المثني لصاحبها الرجل الفاضل محمد قاسم الرجب. وفيها كان يلتقي المثقفون والأدباء، حيث اشتريت أعمال نازك الملائكة عاشقة الليل وشظايا ورماد وغيرها من الكتب التي بنيت منها مكتبتي التي نمت بمرور الوقت. أما بقية المكتبات في سوق السراي فكانت أشبه بدكاكين كبيرة أو صغيرة، تعرف باسم أصحابها. وكان والدي، الذي كان يعشق الكتب ويقتني مجموعة كبيرة منها، يعرف معظم أصحابها لا سيما من كبار السن الذين يلبسون الجـُبـَّة العريضة والطربوش الخمري الذي تحيط به من الجزء الأسفل قطعة قماش خضراء اللون، ويسمي هذا الطربوش بـ السيدية. ومنذ نعومة أظفاري كان أبي يصطحبني إلي تلك السوق أحيانا فيستقبله بعض أصحاب المكتبات بحفاوة ويخاطبونه بلقب سيدنا. ويجلس طويلا لدي أحدهم السيد (فلان) الحيدري ويجاذبه أطراف الحديث، سائلا عن الأحوال والأولاد والأحفاد. فيقول له الحيدري باللهجة العراقية: سيدنا الدنيا تبدلت؛ ابني دَخـلْ بنته مدرسة البنات، يقول لازم تتعلم، هذا بيا (في أيّ) زمان البنات صاروا يتعلمون مثل الولد (بكسر الواو ومعناها الأولاد الذكور)، إنتَ شتكول، (ماذا تقول) سيدنا؟ فيقول له والدي تتغير الأحكام بتغير الأزمان وقال الله تعالي (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). ولم يميز بين الذكر والأنثي، فيجب أن تتعلم المرأة لتكون أما ًصالحة. ويستمر الحديث ويطول، حتي يقاطعهما رجل قصير القامة أشعث الرأس فقير الهيئة يحمل بعض المجلدات العتيقة يسلمها إلي صاحب المكتبة قائلا باللهجة العراقية: سيد احمد، عندي خوش مجموعة حوالي أربعين مجلد، تفيدك، منها القاموس للفيروزابادي ومجموعة أبو العلاء، وتفسير ابن كثير، وهاي مقدمة ابن خلدون و فقه اللغة للثعالبي وغيرها، شوفها، وصْلتْ خمس دنانير، عندك زايد؟ كان ذلك في يوم الجمعة حين تباع بعض المجموعات من الكتب بالمزاد العلني، وهذا سمسار (دَلال) يقوم بعملية البيع، ويعرض نماذج من المجموعة، وقد تعلمت أسماء بعض المؤلفين لتكرارها أمامي منذ كنت في الصف الرابع أو الخامس الابتدائي. وكنت أكره معظم هذه الكتب الصفراء. ولكن السيد الحيدري أهدي إليَّ طبعة جديدة من كتاب كليلة ودمنة، بعد أن اشتري منه أبي كتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري بثلاثة عشر جزءا، حملناها بمشقة. بكيت مرتين عندما عدت في عام 2001 إلي زيارة بغداد، بعد غياب عشرين عاما، وتفقدت شارع المتنبي ؛ فقد بكيت مرة حينما علمت أن مكتبة المثني، لصاحبها قاسم الرجب، قد احترقت، ومرة عندما رأيت بسطات الكتب الكثيرة المفروشة علي رصيف الشارع، وبعضها ثمين ولكنه بسعر التراب، لأنني كنت أعلم أن الكثير منها يمثل فلذات أكباد أصحابها من المثقفين العراقيين الذين باعوا مكتباتهم العامرة مقابل الحصول علي الغذاء أو الدواء، أثناء الحصار الظالم الذي استمر 13عاما. ومع ذلك اشتريت عدة كتب منها مجلدان من مجموعة مجلة لغة العرب البغدادية المعروفة النادرة، التي كانت تصدر في مطلع القرن الماضي ( 1911ـ 1913)، وكان يصدرها الأب أنستاس ماري الكرملي، بالاشتراك مع الشيخ كاظم الدجيلي، مدير التحرير، وهي مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية، كما تقول. ومن كتـّابها الذين كنت أعرفهم شخصيا عن طريق والدي، الشيخ باقر الشبيبي و الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي أصبح فيما بعد وزيرا للمعارف ثم رئيسا للمجمع العلمي العراقي. وأخيرا نذكر بعضا من رواد هذا الشارع ومنهم المستشرقان الفرنسيان لوي ماسينيون (1883 ـ 1962) وجاك بيرك (1910 ـ 1995) والاديب المصري زكي مبارك (1891 ـ1952 ) الذي سكن فترة في منطقة الحيدرخانة القريبة من الشارع، والشاعر السوداني محمد الفيتوري. ومن الأدباء والمثقفين العراقيين الذين كانوا من رواد شارع المتنبي، نذكر: محمد مهدي الجواهري (1899 ـ 1998) وبدر شاكر السياب (1926 ـ 1964) وعبد الوهاب البياتي (1926 ـ 1999)، وبلند الحيدري، وعلي الوردي وعبد الرزاق الحسني مؤلف كتب تاريخ العراق الحديث وتاريخ الوزارات. لكل هذه الأسباب مجتمعة، بالإضافة إلي وجوب الحفاظ علي البقية الباقية من الثقافة العربية حيـّة وعاملة في العراق، مهد الحضارات الأولي، ليس فقط من اجل العراق نفسه وحسب، بل من أجل الأمة العربية جمعاء التي تـُعتبر اللغة العربية والثقافة العربية أهم مقوماتها وأبرز معالمها الباقية؛ أقول لكل تلك الأسباب وغيرها الكثير، نضم صوتنا إلي أصوات المطالبين بإعادة بناء هذا الشارع، شارع الثقافة العربية والأجنبية المتنوعة، والكلمة الحرة والتاريخ العريق. وآمل أن يبادر جميع المثقفين العرب إلي دعم هذا المطلب المشروع، إذ ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان. كاتب من العراق يقيم في نيويورك
جاء في كتاب معجم الأدباء لياقوت الحموي أن الوجيه المبارك زار دار الكتب بالمأمونية، وكان خازنها أبا المعالي (أحمد بن هبة الله) فذكر المبارك شيئا عن أبي العلاء المعرِّيز.. فقال هبةُ الله للوجيه المبارك: كان عندي كتابٌ من تأليفه أي من تأليف أبي العلاء المعري فغسلته ـ أي أتلفته. فقال المبارك: في أي شيء كان هذا الكتاب؟ فرد أحمد بن هبة الله :في نقض القرآن الكريم !فقال المبارك: أخطأتَ في غسلهز.. فلا يخلو أن يكون هذا الكتاب، إما مثل القرآن أو خيرا منه، أو دونه. فإن كان مثله أو خيرا منه، وحاشا لله أن يكون، فلا يجب التفريط به. وإذا كان دونهز.. فتركُهُ معجزةٌ للقرآ ! فسكتَ ابن هبة الله (معجم الأدباء جزء 17 ص 65 ـ 66 نقلا عن توفيق أبو شومر.
تثير تفجيرات شارع المتنبي في بغداد (5/3/2007) ذكريات عريقة وأحزانا عميقة، وتساؤلات تتبادر إلي الذهن المشحون بعلامات الاستفهام والتعجب والاستنكار والشجب، لا سيما وأن التفجير انتحاري متعمد لهذا المكان الذي تقدسه المعرفة ويجلله التاريخ. تـُري مَنْ هي الجهة التي تريد قتل كلمة اقرأ التي تميز بها الإسلام كأول لفظة نزلت علي محمد(ص)؟. وأول دين قال اطلبوا العلم من المهد إلي اللحد و اطلبوه ولو في الصين ؟ وإذا عدنا إلي التاريخ الأبعد لاسترعي نظرنا أن أول الكلمات التي كتبت في التاريخ البشري كانت في أرض الرافدين جنوب العراق. ويؤكد هذه الحقيقة العالم الآثاري الامريكي المتخصص في السومريات ـ سامويل نوح كريمر S.N.Kramer ـ في كتابه المتميز، التاريخ يبدأ في سومر، حيث يعدد سبعة وعشرين أولا في التاريخ البشري المعروف. وعلي رأس هذه الأوائل، الكتابة ثم يعدد: أول مدرسة، أول حكومة، أول برلمان بمجلسين، أول إصلاح اجتماعي، أول المثل الأخلاقية، أول تشريع ضرائبي، أول مكتبة، وأول قائمة بأسماء الكتب، أول الشرائع القانونية الشاملة ( قبل شريعة حمورابي بأربعة قرون تقريبا)، أول قصيدة حب، وأول الحـِكـَم والأمثال، وأول مناظرة أدبية، أول ملحمة شعرية تبحث عن الحقيقة ومصير الإنسان (ملحمة كلكامش) إلخ ...
أما كاتبنا المتميز طه حسين فيشير في مطلع العدد الأول من مجلته المتميزة الكاتب المصري (تشرين الاول ـ اكتوبر 1945) إلي أن الشعب المصري أول من كتب بالقلم، واتخذ الحروف رمزا للكلام الذي يؤدي عن القلوب والنفوس والعقول وما يثور فيها من العواطف، وما يضطرب فيها من الأهواء وما يخطر لها من الآراء. وبهذه المناسبة ما زلت أحتفظ بمجموعة مجلة الكاتب المصري كاملة حتي اليوم. وكنت أشتريها بانتظام، منذ ذلك الحين، من شارع المتنبي هذا، الذي أراد أعداء العقل، وقـتـلة الكلمة الحرة، نسفه، وهيهات !. ثم حملتها معي إلي الدنيا الجديدة، مع أنني اضطررت إلي ترك الكثير من محتويات مكتبتي الكبيرة في بغداد. وعندما التقيت آخر مرة بالدكتور كلوفيس مقصود وأهديت إليه كتابي أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي، قلت له أنني قرأت كتابك أزمة اليسار العربي في مطلع الستينيات من القرن الماضي. فقال أتتذكر أننا كنا نقول سابقا أن مصر تكتب وبيروت تنشر والعراق يقرأ ؟ وهذا يصدق علي كتابي هذا الذي بيع منه في العراق أكثر من أي بلد عربي آخر. وعلي ذكر كتاب أزمة اليسار العربي وكتاب أزمة التطور الحضاري، فإننا نلاحظ أن هذه الأزمات الفكرية والمادية، التي تصيب الأمة العربية تتوالي وتزداد وتيرة وتفاقما، لا سيما منذ عام 1948 حتي يومنا هذا.
وحينما كنت أستمع إلي أخبار تفجير شارع الثقافة المؤلمة، وأستعرض تاريخ العراق الحضاري العريق، أستعيد ذكريات عزيزة وشائقة تعود إلي أكثر من نصف قرن، في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، حين كنت طالبا في الصف الرابع الثانوي في المدرسة الثانوية المركزية في مركز بغداد الرسمي والتجاري. وكان شارع المتنبي لا يبعد عن مدرستنا سوي بضع دقائق تقريبا. فترة الغداء التي كانت تستغرق ساعتين، كنت أقضيها قريبا من المدرسة لأن بيتنا كان بعيدا في حي الكرادة، الذي كان حيا سكنيا هادئا، يعج بالبساتين الغناء المثمرة، ويعتبر خارج بغداد سابقا. بينما أصبح اليوم جزءا من العاصمة المترامية الأطراف، حيث تحدث فيه اليوم الكثير من التفجيرات. وفي نفس الحي و بالقرب من بيتنا الأخير في منطقة الجادرية، تقع أول واكبر جامعة عراقية جامعة بغداد.
أقطع المسافة بين المدرسة و سوق الثقافة بسرعة، لأدخل أولا في سوق السراي. سمي كذلك لأنه يقع في نهاية القـُشلة من الجهة الجنوبية وهي مبني بدأه الوالي نامق باشا 1861، واستكمله مدحت باشا في عام 1870. ويقع في جنوبها السراي حيث كان مقرا للحكومة. وكان سوق السراي يعج بالكتب الرخيصة الثمن نسبيا لأن بعضها قديم أو مستعمل. فإذا عثرت علي كتاب رخيص يروقني اشتريته ولو علي حساب مصروفي اليومي. فقد كنت أقتصد من طعام غدائي ومواصلاتي لأشتري مثلا بعض كتب المنفلوطي والرافعي، وأعداداً قديمة من مجلة المقتطف والهلال. ثم تطورتْ اهتماماتي عندما وصلت الصف الخامس فاكتشفتُ مجلة علم النفس التي كانت تصدرها جماعة علم النفس التكاملي التي ترعاها الأميرة شويكار، برئاسة الدكتور يوسف مراد، الذي اقتنيت كتابه الهام مبادئ علم النفس فيما بعد. وأعترف بأنني اشتريت قبل ذلك كتب ميشيل زيفاغو المترجمة طبعا، مثل مجموعة كتب روكامبول التي كانت تلهيني عن مطالعة كتبي المدرسية المقررة. وسوق السراي سوق قديم مسقوف، يوازي نهر دجلة، ويشكل مع شارع المتنبي، الذي يربط شارع الرشيد بنهر دجلة، زاوية قائمة. وقد سمي بهذا الاسم في عام 1932 تيمنا بشاعر العرب الكبير أبي الطيب المتنبي، كما قال لي والدي وهو يبتسم فخرا بهذا الشاعر العظيم، الذي كان كثيرا ما يردد شعره. وقبل ذلك التاريخ سمي بعدة أسماء أخري منها الأكمك خانة، ويعود تاريخه إلي أواخر العصر العباسي.
وأتذكر أنني كنت أتحسر عندما أعود لأستعرض الكتب المعروضة في شارع المتنبي الذي كانت تنتشر فيه المكتبات الكبيرة الحاشدة بالكتب المجلدة تجليدا أنيقا، ومنها مكتبة أمين زاهد ومكتبة عبد الكريم زاهد. ثم فـُتحت في مقدمة ذلك الشارع من جهة القشلة، مكتبة حديثة بواجهة زجاجية عريضة وباب للدخول إليها. وعرضت في واجهتها الكتب المصرية واللبنانية الأنيقة الصادرة حديثا. وأتذكر من الكتب القشيبة المرتفعة الثمن التي لم أتمكن من شرائها في ذلك الزمن: ليالي الملاح التائه و زهر وخمر. وكان ذلك قبل أن أعرف علي محمود طه وأهمية الكتاب نفسه. وعلي غير العادة سُميت هذه المكتبة بغير اسم صاحبها: المكتبة العصرية، مكتوبة علي لوحة عريضة يافطة بخط فني جميل. وبعدها تعرفت علي مكتبة المثني لصاحبها الرجل الفاضل محمد قاسم الرجب. وفيها كان يلتقي المثقفون والأدباء، حيث اشتريت أعمال نازك الملائكة عاشقة الليل وشظايا ورماد وغيرها من الكتب التي بنيت منها مكتبتي التي نمت بمرور الوقت. أما بقية المكتبات في سوق السراي فكانت أشبه بدكاكين كبيرة أو صغيرة، تعرف باسم أصحابها. وكان والدي، الذي كان يعشق الكتب ويقتني مجموعة كبيرة منها، يعرف معظم أصحابها لا سيما من كبار السن الذين يلبسون الجـُبـَّة العريضة والطربوش الخمري الذي تحيط به من الجزء الأسفل قطعة قماش خضراء اللون، ويسمي هذا الطربوش بـ السيدية.
ومنذ نعومة أظفاري كان أبي يصطحبني إلي تلك السوق أحيانا فيستقبله بعض أصحاب المكتبات بحفاوة ويخاطبونه بلقب سيدنا. ويجلس طويلا لدي أحدهم السيد (فلان) الحيدري ويجاذبه أطراف الحديث، سائلا عن الأحوال والأولاد والأحفاد. فيقول له الحيدري باللهجة العراقية: سيدنا الدنيا تبدلت؛ ابني دَخـلْ بنته مدرسة البنات، يقول لازم تتعلم، هذا بيا (في أيّ) زمان البنات صاروا يتعلمون مثل الولد (بكسر الواو ومعناها الأولاد الذكور)، إنتَ شتكول، (ماذا تقول) سيدنا؟ فيقول له والدي تتغير الأحكام بتغير الأزمان وقال الله تعالي (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). ولم يميز بين الذكر والأنثي، فيجب أن تتعلم المرأة لتكون أما ًصالحة. ويستمر الحديث ويطول، حتي يقاطعهما رجل قصير القامة أشعث الرأس فقير الهيئة يحمل بعض المجلدات العتيقة يسلمها إلي صاحب المكتبة قائلا باللهجة العراقية: سيد احمد، عندي خوش مجموعة حوالي أربعين مجلد، تفيدك، منها القاموس للفيروزابادي ومجموعة أبو العلاء، وتفسير ابن كثير، وهاي مقدمة ابن خلدون و فقه اللغة للثعالبي وغيرها، شوفها، وصْلتْ خمس دنانير، عندك زايد؟ كان ذلك في يوم الجمعة حين تباع بعض المجموعات من الكتب بالمزاد العلني، وهذا سمسار (دَلال) يقوم بعملية البيع، ويعرض نماذج من المجموعة، وقد تعلمت أسماء بعض المؤلفين لتكرارها أمامي منذ كنت في الصف الرابع أو الخامس الابتدائي. وكنت أكره معظم هذه الكتب الصفراء. ولكن السيد الحيدري أهدي إليَّ طبعة جديدة من كتاب كليلة ودمنة، بعد أن اشتري منه أبي كتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري بثلاثة عشر جزءا، حملناها بمشقة.
بكيت مرتين عندما عدت في عام 2001 إلي زيارة بغداد، بعد غياب عشرين عاما، وتفقدت شارع المتنبي ؛ فقد بكيت مرة حينما علمت أن مكتبة المثني، لصاحبها قاسم الرجب، قد احترقت، ومرة عندما رأيت بسطات الكتب الكثيرة المفروشة علي رصيف الشارع، وبعضها ثمين ولكنه بسعر التراب، لأنني كنت أعلم أن الكثير منها يمثل فلذات أكباد أصحابها من المثقفين العراقيين الذين باعوا مكتباتهم العامرة مقابل الحصول علي الغذاء أو الدواء، أثناء الحصار الظالم الذي استمر 13عاما. ومع ذلك اشتريت عدة كتب منها مجلدان من مجموعة مجلة لغة العرب البغدادية المعروفة النادرة، التي كانت تصدر في مطلع القرن الماضي ( 1911ـ 1913)، وكان يصدرها الأب أنستاس ماري الكرملي، بالاشتراك مع الشيخ كاظم الدجيلي، مدير التحرير، وهي مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية، كما تقول. ومن كتـّابها الذين كنت أعرفهم شخصيا عن طريق والدي، الشيخ باقر الشبيبي و الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي أصبح فيما بعد وزيرا للمعارف ثم رئيسا للمجمع العلمي العراقي.
وأخيرا نذكر بعضا من رواد هذا الشارع ومنهم المستشرقان الفرنسيان لوي ماسينيون (1883 ـ 1962) وجاك بيرك (1910 ـ 1995) والاديب المصري زكي مبارك (1891 ـ1952 ) الذي سكن فترة في منطقة الحيدرخانة القريبة من الشارع، والشاعر السوداني محمد الفيتوري. ومن الأدباء والمثقفين العراقيين الذين كانوا من رواد شارع المتنبي، نذكر: محمد مهدي الجواهري (1899 ـ 1998) وبدر شاكر السياب (1926 ـ 1964) وعبد الوهاب البياتي (1926 ـ 1999)، وبلند الحيدري، وعلي الوردي وعبد الرزاق الحسني مؤلف كتب تاريخ العراق الحديث وتاريخ الوزارات.
لكل هذه الأسباب مجتمعة، بالإضافة إلي وجوب الحفاظ علي البقية الباقية من الثقافة العربية حيـّة وعاملة في العراق، مهد الحضارات الأولي، ليس فقط من اجل العراق نفسه وحسب، بل من أجل الأمة العربية جمعاء التي تـُعتبر اللغة العربية والثقافة العربية أهم مقوماتها وأبرز معالمها الباقية؛ أقول لكل تلك الأسباب وغيرها الكثير، نضم صوتنا إلي أصوات المطالبين بإعادة بناء هذا الشارع، شارع الثقافة العربية والأجنبية المتنوعة، والكلمة الحرة والتاريخ العريق. وآمل أن يبادر جميع المثقفين العرب إلي دعم هذا المطلب المشروع، إذ ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان.
كاتب من العراق يقيم في نيويورك