يداخل القاص المصري وقائع الطفولة والصبا من خلال حدث صغير يتعلق بمشاغل تلك الفترة من العمر، فيقود الصبية لدخول بيت غامض في الحي بحثا عن كلبهم الضائع ليكتشفوا أسراره وأسرار الجسد في أول يقظته بلغة صافية شفافة تنتقل بيسر بين أزمنة السرد.

البيــتُ الضــريـــرُ

رجب سعد السيّد

كنا نعرفُ البيتَ الضريرَ جيداً جداً. كانت نوافذه مغلقة على الدوام. لم يشهدها أحدٌ من سكان المنطقة مفتوحة أبداً؛ فتهيأ لنا أنها كالعيون العمياء، وأوحى لنا اسم الشيخ (سلامة الضرير)، المقرئ، بأن نسميه (البيت الضرير)، واستحسن الكبار التسمية؛ ولم يغضب بسببها الشيخ سلامة، بل قال مازحاً: أخيراً أصبح لي أخٌ!. وكان بعيداً جداً، يبرزُ من الأرض وحده في نهاية شارعنا الطويل، عند النقطة التي كانت أمهاتنا تحذرننا من تجاوزها؛ وكنَّــا – من جانبنا – لا نجرؤ على أن نخطو بعدها خطوةً واحدة، في أرض واسعة، لا تحيطُ بنهايتها عينٌ، تنمو فيها أقصابٌ برية كثيفة، تسكنها قططٌ متوحشةٌ وكلابٌ سعرانة. وكانت الإشارةُ إليه نادراً ما تـرِدُ على ألسنتنا؛ وكان الكبارُ يتحاشون الحديثَ عنه أمامنا، وقد اطمأنوا إلى اعتيادنا على وجوده. حتى كان يومٌ جاءنا فيه "علي ابن المخبر" يصرخ، وينعي إلينا ضياع كلبه (حندوقه).

كنَّــا نلعبُ (السبع طوبات)، فقطعنا اللعب، ولبسنا قباقيبنا، والتففنا حول "علي"، نستفسرُ منه عن مصابه، وبعضنا يعزيه أو يهون عليه، وقد أحزننا أن نراه يبكي فقدان (حندوقه)، الذي جاءه به أبوه – جرواً صغيراً - من (مدرسة كلاب البوليس في سيدي بشر)، فاعتنى به "علي"، وكان يعامله كصديق. أخبرنا "علي" أنه كان يربط كلبه، كالمعتاد، بحبلٍ إلى باب مسكنه، فجاء مجهولٌ وتعمد تحرير الكلب، فلا يُعقل أن يكون (حندوقه) حرَّرَ نفسَه بنفسِـه. قال، أيضاً، إنه بحث عن كلبه في كل مكان، وساقته قدماه، وشكوكه، إلى البيت الضرير، فسمع نباحاً جاءه من داخل البيت، تعرَّفَ فيه على نباح كلبه الذي لا تخطئه أذناه، وإن الكلب المسكين لا يكفُّ عن النباح.

والحقيقة هي أن (علي ابن المُخبِـر) كان يتزعمنا؛ ليس بسبب وظيفة أبيه، ولكن لأنه فرض علينا الزعامة، بقامته التي تفوقُ امتداد قاماتنا، ولأنه كان كريماً، يقتسم معنا ما تعطيه أمُّـه من قطع حلوى وثمار فاكهة؛ وكان شجاعاً .. أشجع ولد بيننا، وإن كان بعضُ الكبار يعـدون شجاعته وقاحة. وكُنَّـــا نُشــبِّهههُ بجمال عبد الناصر؛ وقد اخترناه رئيساً لمجلسِ قيادةٍ، يجتمعُ عند الضرورة، مثل مجلس قيادة الثورة، ليتخذ قرارات نلتزم جميعاً بتنفيذها.

قال "علي": (إجتمــاع). قال ولدٌ آخر، لا أتذكرُ اسمه: (ضياع حندوقه مسألة تخصك وحدك!). وكان ذلك الولد مناوئا دائما لعلي، تشاركه "عزيزة"، البنت الوحيدة في المجلس. ناصرتُ "علي"، فانعقد المجلس، وقرر ترتيب اقتحام للبيت الضرير واستعادة حندوقه.

وضعنا خطة محكمة؛ فتسللنا من بيوتنا – سِـــرَّاَ – عند مغرب الشمس؛ وانطلقنا – فرادى – باتجاه البيت المنعزل، محاولين التخفي قدر استطاعتنا. كانت قوة الاقتحام مكونة من أربعة، أنا و"علي" واثنين آخرين، رحنا نلف وندور حول المبنى الذي لم يحدث أن رأينا نافذة فيه مفتوحة. كان يلفه صمت مطبق، بل إننا لم نسمع صوت الكلب. كان بابُه الكبير موصداً كعادته دائماً؛ لكننا اكتشفنا في الجهة الخلفية للمبنى ثلاث درجات نازلة تحت مستوى سطح الأرض، تنتهي ببابٍ منخفض، عالجناه، فاستجاب وانفتح للداخل.

دخل "علي"، فتبعناه متماسكي الأيدي، كما تقضي الخطة؛ واضطررنا – برغم قصر قاماتنا – للانحناء ونحن نمضي للداخل فوق أرض منحدرة، تتحسسُ أقدامُنا الأرضَ، خشية التعثر؛ فلم نكن نرى شيئا، لشدة الظلام. ثم لاح لنا، بعد أمتار قليلة، ضوءٌ شاحب، فتيسر لنا أن نرى أنفسنا في مدخل مساحة متسعة، تبدو كمخزن مُكـدَّس، في غير نظام، بأغراضٍ عديدة. همس أحدُنا: "أيمكنُ أن نجد الكلبَ هنــا؟".

لم يرد عليه أحدٌ منَّــا، إذ فوجئنا بإضاءة المكان تزيدُ، وبأصوات أقدام تقترب، وأفراد يدخلون من بابٍ آخر، استطعنا أن نميز هيئاتهم، وكانوا ثلاثة من الشباب في جلابيب رمادية، رؤوسهم حليقة مغطاة بطواقي رمادية، ولهم لحى سوداء صغيرة؛ وكانوا يحملون لفائف قماشية، يقودُهم رجلٌ في جلبابٍ قصير، ملامحه مألوفة لنا، فقد كنا نراه من حين لآخر، وكنا نطلق عليه فيما بيننا اسم (أحمر اللحية)، أمرهم بأن يضعوا ما يحملون على الأرض وينصرفوا، ففعلوا.

وأخذ أحمرُ اللحية يفُـضُّ اللفافات ويقذفُ بمحتوياتها على الأرض بعنف. كانت لوحات مرسومة، ومنحوتات خزفية وخشبية. ثم اختفى الرجل لأقل من دقيقة، وعاد يحملُ ســيفاً، راح يضربُ به اللوحات والتماثيل فيدمرها، وهو يزمجر على نحو أوقع الرعب في قلوبنا، فقد كانت أيادينا المتماسكة ترتعشُ. ثم توقف فجأةً، ورأيناه يتقدمُ من لوحة كبيرة مستندة إلى جدار؛ وقد أدهشتنا اللوحة، لأنها كانت لامرأة عارية، وتفاصيل جسدها واضحة. ألجمتنا المفاجأة؛ لكن المفاجأة الأكبر كانت عندما رأينا أحمر اللحية يضع سيفه جانباً، ويقفُ قبالة اللوحة، وقد انفرجت شفتاه، وتدلت السفلى منهما، وحجظت عيناه؛ وكنا نسمعُ صوت أنفاسه اللاهثة؛ ثم أنزل سروالاً يرتديه تحت جلبابه القصير، وراح جســدُه يأتي بحركات غير مألوفة، وكان يئـن.

سمعنا "علي" يقول: (يا ابن الكلب! .. إنه يستمني!).

حاول أحدُنا أن يستفسر من "علي"، الذي غفل عن خفض صوته، فالتقطته أُذُنا أحمر اللحية، فالتفــت باتجاهنا، تكاد عيناه تتفجران شرراً، وراح يصيح ويشتم كالمجنون، فهرولنا إلى طريقنا السردابي عائدين إلى خارج البيت الضرير.

استقبلتنا أســرُنا التي أزعجها اختفاؤنا في نهاية النهار، وعلمت بما جرى. أبلغ أبو علي الجهات الأمنية، التي عثرت في سراديب المنزل الضرير وحجراته على مخزون هائل من اللوحات والتماثيل، بعضها أثري، وبعضها لفنانين عالميين، وكان كثير منها مسجلاً في بلاغات سرقة حررها أصحاب مراسم ومسئولون في متاحف تابعة للدولة، في أقسام الشرطة، ضد مجهول. وذاع صيت أبي علي، وتمت ترقيته من (عريف) في البوليس السري إلى (رقيب).

استعدت مع "علي" كل هذه التفاصيل، وأكثر منها، صباح يوم، بعد ما يزيد على أربعين سنة، وكنتُ أستقلُّ القطـارَ، فإذا بي أُفاجأ به يطلبُ مراجعة بطاقة السفر، وعلى صدره بطاقة الهوية، وبها اسمه الذي أتذكره تماماً (علي علي خـلاّف)، وصفته كرئيس للقطار.

كان من الصعب عليَّ أن أتعرفَ على هيئته، وقد نالَ منه الزمنُ كثيراً، أما هو فلم يلبث أن نطق اسمي فور أن رفعتُ إليه رأسي، وفي يدي بطاقة السفر. وقضينا بقية الرحلة، بعد أن انتهى من عمله في القطار، في استعادة ذكريات طفولتنا، وفي القلب منها الذكرى الرهيبة لمغامرة التسلل عبر سراديب البيت الضرير. وقرب نهاية الرحلة، قلت له: " علي .. نسيت أن أسألك، وقتها، كيف عرفت أن ما كان يقوم به ذلك المخبول أحمر اللحية هو الاستمناء؟!". قهقه بنفس طريقته القديمة، فرفع رأسه، وأطلق ضحكاته العالية. قال، غير مبالٍ بالآذان المحيطة بنا في عربة القطار، والتي اجتذبها حوارُنا: "هل نسيت أنني كنت أكبركم بسنتين أو أكثر، وكنتُ – بالتالي – أسبقكم إلى ممارسته!" وواصل ضحكاته العالية، وأنا معه. ثم أردف: "علمتُ فيما بعد أن له اسماً اصطلاحياً في الموروث الأدبي، هو (جَلْـــدُ عُميْــرة)!".

وقد تعددت لقاءاتنا في القطار، فأنا كثير السفر لدواعي وظيفتي، وكان يمرُّ بي، فيسأل: "هل تعلم عُميرةُ الأدبَ، أو نعود فنجلده؟!"؛ ويقهقه.

ثم انقطعت لقاءاتنا سنوات، فاستنتجتُ أن "علي" قد أُحيل للتقاعد، مثلي. ولكني فوجئتُ به، قبل أيامٍ، يسألني وأنا جالسٌ في مقعدي بالقطار، عن بطاقة السفر. كان صوتُه الذي تحتفظ به ذاكرتي ولا تُخطئه.

رفعتُ رأسي، فاستقبلني وجهٌ شــابُّ القسمات، تميزه لحية حمراء كثة!.

راجع بطاقتى، وأنا أتعجبُ من درجة التشابه الكبيرة، إلاَّ أن عينيَّ التقطتا اسمه في بطاقة هويته المتدلية من رقبته. قرأتُ، أغالبُ دهشةً استبدت بي: (علي علي علي – مساعد رئيس قطــار).

 

                                      "انتهت"