السجال السياسي الذي يدور في مصر الآن- على هامش اقتتال أهلي ما يزال في بداياته- لدليل على أننا سنشهد فصولاً أخرى قد تكون أكثر دموية، تدمر البنية التحية لمصر: اقتصادية واجتماعية وثقافية.. الخ، ذلك أن طرفي الصراع لا يناقشان ملفاته الأساسية، بل الموضوعات الهامشية ونقاط الضعف، لأنهما لا يخاطبان ضمير مصر المعرَّض للانهيار في هذه اللحظة الحساسة- لحظة الانتقال أو عدم الانتقال من دولة عشوائية عشائرية إلى دولة عصرية- بل يخاطبان صناديق الاقتراع، والمقترعين الذين يميلون مع الهوى، مرة هنا وأخرى هناك، حسب مصالح ضيفة تارة، وميول دينية ولا دينية تارة، وحسب تمكن هذا الطرف أو ذاك من الإمساك بنقطة ضعف لخصمه تكون مؤثرة ونافذة. هذا معناه أن أحد الطرفين يمكنه أن يحسم هذه الجولة التي بدأت قبل 25 يناير 2013 بأيام، لكن عليه أن ينتظر جولات أخرى، من المؤكد أن نتيجتها ليست مضمونة بحال.
طوال العامين الماضيين، كان الإخوان المسلمون- طرف الصراع الأول- يختالون على القوى التي تناهضهم بما يملكون من عناصر مطيعة نشطة تتحرك فور صدور الأوامر دون أن تناقش أو تتلكأ، باعتبار أن تلبية النداء فرض عين يُقصد منه إعلاء دين الله، كما يملكون فِرَقًا شبه عسكرية مدربة ومسلحة بالأسلحة اللازمة، تستطيع أن تبث الرعب في نفوس المعارضين وتجبرهم على التراجع، وبالفعل أفادت هذه الحشود المطيعة في استفتاء 19 مارس 2011، وفي الانتخابات البرلمانية، لكن الحركة الطبيعية لمجتمع حي مثل المجتمع المصري أجبر المعارضين على إنشاء تنظيمات مواجهة، بدأت بأولتراس أهلاوي، الذي له ثارات متعددة مع الشرطة المصرية تزايدت وتفاقمت باشتراكه في الثورة، وزادت التهابًا بعد مجزرة ستاد بور سعيد التي راح ضحيتها 74 شابًا من بينهم، دون أن يتفرع اهتمامه بقضايا سياسية واجتماعية بشكل واسع، ثم تنظيم البلاك بلوك الذي يتسم أداؤه بعنف أكبر تجلى في قطع الطرق وشل حركة مؤسسات عامة، بل والاعتداء أحيانًا على المعارضين، هذا التنظيم الذي أنشئ كنتيجة لاعتداء فرق الإخوان على المعتصمين السلميين أمام قصر الاتحادية يوم 5 ديسمبر 2012، منغمس أكثر في العمل السياسي، شعاراته واضحة وتهدف للأخذ بثأر شهداء ومصابي الثورة، بالقانون أو بغيره، وأتصور أن الساحة مفتوحة لظهور تنظيمات أخرى قد تكون أكثر عنفًا وتسييسًا، وهو ما يفقد جماعة الإخوان المسلمين- كطرف رئيس في الصراع- ميزتها الكبرى وسبب خيلائها.
القضية الرئيسية للصراع هي أن أحد شركاء الثورة المصرية أراد الانفراد بها، وإقصاء شركائه، وتحديد المستقبل بعيدًا عن متطلباتهم- التي دفعوا ثمنها بالفعل- فاستولى على السلطات جميعًا: تشريعية وتنفيذية وقضائية، وعلى وسائل الإعلام: مسموعة ومرئية ومقروءة، وما زاد الطين بلَّة أنه فرض دستورًا يمثل وجهة نظره هو فقط، مستندًا إلى ما يزعم أنه أغلبية انتخابية، غير عابئ بالأصوات التي تنبهه إلى أن ظروف الانتخابات لم تكن طبيعية، وأن- وهذا هو الأهم- الانتخابات ليست العامل الوحيد في تحديد مستقبل وطن ما يزال يعيش أجواء ثورة: فمازالت دماء الشهداء ساخنة لم تجف، وما يزال المصابون على أسرَّة المستشفيات يعانون ولا يجدون من يعالجهم، وما زالت أكثر من خمسة آلاف أسرة تبحث عن أبنائها المفقودين، الذين تشير دلائل لا حصر لها على أنهم قتلوا وأخفيت جثثهم.
تلك هي القضية الرئيسية التي تجعل الصراع مفتوحًا باستمرار، وتنذر بجولات أكثر دموية منه، إذا لم يتم حلها بشكل يرضي جميع شركاء الميدان، فالتغافل عنها لا يعني إقصاءها كليًّا، ولكن فقط ترحيلها إلى وقت آخر، تكون فيه موازين القوى قد استقرت بشكلها الطبيعي الذي تستطيع فيه كل القوى الوصول إلى قواعدها والتفاعل معها، بعيدًا عن التأثيرات العاطفية والدينية والاقتصادية الحادثة الآن.
المشكلة الكبرى التي سيواجهها هذا الصراع في فصوله المتلاحقة، أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة متكلسة متصلبة لا ينتظر منها أن تفهم حدود الصراع ومقتضياته أولاً، فضلاً عن التعامل معه والتفاعل بشكل إيجابي مع مقدماته ونتائجه، لأنها محكومة بنقطتين أساسيتين يصعب معهما التراجع، حتى تكتيكيًّا: الأولى أنها دفعت ثمنًا غاليًا طوال ثمانين عامًا من سجن واعتقال وتعذيب.. الخ، لكي تصل إلى هذه المرحلة، والثانية أن الفرصة المواتية الآن قد لا تأتي بهذا الشكل مرة أخرى، وبالتالي وجب اغتنامها والإمساك بها حتى لا تفلت، وهي تعتمد على تكتيكات الحزب الوطني ونظام حسني مبارك من أن التهاب الشارع مؤقت، وأن امتصاصه ليس بالعمل الصعب، فالمسألة تحتاج فقط إلى بعض الصبر والوقت. مشكلة هذه الفكرة أنها تغفل التغيرات التي حدثت في بنية المواطن المصري في الفترة الأخيرة، فقد زال الخوف إلى حد كبير، والشباب أيضًا يرون أن ما يحدث فرصة لانتقال مصر إلى دولة عصرية حرة ديمقراطية تشارك في صناعة الحضارة، لا العودة إلى الوراء ألف وخمسمائة سنة كما يريد لها الإسلاميون، كما أن طرف الصراع الآخر ليس مسئولاً عن معاناة الإخوان المسلمين، بل إنه كثيرًا ما دافع عنهم.
إذن، نحن أمام صراع قوى لا شك فيه، وأن هذا الصراع يتدرج من قمة السلمية- يوم 25 يناير 2011- إلى العنف، وربما إلى العنف المفرط، كما أننا أمام صراع طويل قد نعرف بداياته لكننا بالتأكيد لا يمكن أن نتوقع نتائجه، ولا نرى أفقًا قريبًا لنهايته، وما يعضد هذه النظرة أن ملفات حالَّة ستفتح في القريب العاجل رغم أنف الطرفين، بل إن الصراع الحادث على الأرض الآن يعجل بفتحها، وأهمها المسألة الاقتصادية التي أثرت وسوف تؤثر بشكل أكبر على فئات كثيرة من الشعب المصري، أتوقع أنها ستطال كل الطبقة الوسطى حتى العليا منها، فسوف يضطر النظام إلى فرض ضرائب قاسية تلبية لشروط صندوق النقد الدولي، ووقتها لا أظن أنه سيكون هناك وجود لهذه الأشكال السياسية المعروفة، أو أن يجد أحد أحدًا ليتفاوض معه حول أي شيء، وسوف تتراجع الخطابات الدينية التي تدغدغ العواطف وتلهب الحماس، فانتفاضة الجوعى لن تبقي ولن تذر، أو هكذا أتخيل، وأتمنى ألا نصل إلى هذه النقطة أبدًا.
الحل في رأيي واضح، فقط يحتاج إلى فهم أعمق لحدود المشكلة، ووطنية تقدم مصر على المصالح الضيقة والآنية، وإرادة للتنفيذ، وهو أن تفهم جماعة الإخوان المسلمين أن انهيار مصر لن يدع لها ما تحكمه وتتحكم فيه، وبالتالي فهدف بناء مصر مقدم على ما عداه، وبناء مصر لن يكون إلا بتضافر كل الجهود من كل أبنائها على اختلاف انتماءاتهم، فهذا ليس وقت الإقصاء بل التضافر.
مدوا أيديكم وافتحوا صدوركم وعقولكم قبل أن يأتي يوم لا يكون هذا ممكنًا!