يسائل الباحث القدر الأعمى الذي أودى برأس تمثالي طه حسين والمعري دون أن يتطرق مباشرة للموضوع. كما ويستبين الطبيعة الفلسفية لزيارة حسين لأبي العلاء في سجنه" كاشفاً عن خفايا الصلة المعرفية بينهما وكيفية استبصار كل منهما للذاكرة الفردية والجمعية والتاريخية، وعن مفارقة زحف الظلام مع الربيع العربية وعليه.

طه حسين: مع المعريّ

عقيل عبد الحسين

قليلون هم الذين يحاولون المقاومة وصناعة أقدارهم الشخصية؟ إنهم لا يكادون يذكرون إلّا بوصفهم اشباهاً لأبطال أو لمارقين سابقين. هذا ما يعبر عنه بورخس قائلاً: إن ّ كلّ شيءٍ يمكن القيام به أو التفكير فيه أو قوله سبقت كتابته في الماضي. ويبدو بورخس ساخراً كعادته من قوانين الحياة البشريّة الأزليّة تلك التي حاول الفلاسفة تفنيدها وفضح تواطئاتها القاتلة مع السلطة ومع القوة. فنحن لا نحيا حياتنا الخاصة وتجربتنا، ولا نشيد أسطورتنا الشخصيّة ولكنّنا ننتمي إلى ما سبق أن قيل وكتب وسُطّر في أحد كتب المكتبة. وهو ما سينتهي بنا إلى قبول التراث الذي يعني قبول الموت كما يقول بورخس!

هل يسخر صديقنا من طريقة تفكير الغالبيّة من البشر في مجتمع من المجتمعات، فهم يضعون المختلفين كلّهم في سلة واحدة كأن تكون سلة الزنادقة بالنسبة لمجتمعاتنا؟ أو لعلّه يسخر من محاولات المفكرين والكتّاب العبثية للنجاة من أسر كتب المكتبة التي لا تنتهي إلى نتيجة؟ أعتقد، مبدئياً، إنني أميل إلى الرأي الثاني، وسأثبته من خلال الحديث عن علاقة طه حسين بالمعريّ.

(1)

يقول جان بيرك (طه حسين والبحث عن الحداثة، مقال للمستشرق الفرنسيّ ضمن كتاب يحتفل بمئوية طه حسين): إن طه حسين قدم في "الأيام" وعيا بالعالم المحليّ الذي كان يتحرك فيه طفلٌ بين قرية نائية عن المدنية ومدينة لم تكتمل ملامحها الفكرية تماماّ، فهي تعيش تناحراً حادّاً بين قيم تقليديّة وقيم جديدة وافدة يبشر بها كتّاب ومثقفون مثل لطفي السيد.

وعلى الرغم من ميل الفتى الصغير الى المغايرة والتصادم الصريح مع المعتقدات القديمة (خرافات القرية) أو مع الافكار البالية في الأزهر، فأن ذلك لم يكن سوى محاولة دؤوبة للفت الإنتباه اإليه والتذكير بوجوده بعد أن وصل أهماله من أهله حدّ نسيانه بينما يغادرون القطار. فهو يواجه أهل القرية بسذاجة اعتقاداتهم فينكرون ذلك ويشتكون منه ولكنهم سيتذكرون الفتى حتماً. وهو يواجه شيوخه في الأزهر بالتغليط والشك في كلامهم فيلوحون له بعاهته عارية قائلين: يا أعمى! ولكنّهم لن ينسوه.

يبنى السرد في الأيام على مقاومة النسيان الذي يقع فيه طه حسين بسبب عماه وهو يتخذ شكلين الأوّل: المجاهر بالإختلاف والمُعلِن له. والثاني هو المنتمي ضمناً إلى سلالة من المختلفين وأصحاب العقول الفذة من العميان كالمعريّ أو من المبصرين كمحمد عبده. ولكن في حالة المعريّ، يتخذ الإنتماء إليه بعداً نفسيّاً، فهو يرى فيه أحد المقاومين الكبار للنسيان، ولكن بطريقة سوف يتخطاها طه حسين الذي وُجِد في عصر مختلف فكرياً وعلميّاً عن عصر المعريّ. فبينما يتمسك المعريّ بحضوره من خلال حبّه للمتنبيّ ودفاعه عنه الأمر الذي ييغضب الشريف الرضي فيأمر بطرده من مجلسه، فان طه حسين يسعى إلى الإختلاف عن المعريّ وإظهار التفوق عليه، ولكن بطرق عصريّة.

(2)

راهن طه حسين كثيراً على الجامعة وعلى المنهج وعلى العقل، فهذه من شأنها أن تساعد الفرد ذا القدرات الفذة على التميّز، وعلى الشخوص في الذاكرة مع الانسلاخ عن الانتماء للغير. وهو ما عده ميزة عصره دون العصور السابقة ولذا سيتجه طه حسين إلى البحث العلمي بديلاً عن الرواية. وإلى البحث العلميّ المحايد بدل السرد الذاتي، وإلى النسيان (نسيان بداية الذات الاولى وازماتها النفسية وعلاقتها بالماضي) بدلاً من الذاكرة التي تستعيد وتروي وتصل الذات في تأزمها واضطرابها وضعفها بالعقلانيين كمحمد عبده في "الأيام" او بالشعراء الجبارين من ذوي العاهات كالمعريّ كما في "أديب".

لقد حل النسيان محل الذاكرة تماما ودون أن يدري طه حسين كيف حصل هذا، فهو عاجز أن يتذكر كيف استحالت الحال (الايام 1/16) والنسيان سيفتح الباب أمام صاحبنا للاختلاف وللإفلات من المصير المسطور في كتاب بورخس. فالنسيان هذا يبرره العقل والنظرة الموضوعية إلى التاريخ العام وفصله عن التجربة الذاتية بكلّ آلامها، وهو يُوجِد القدرة الضروريّة للتفاهم مع العصر ومتغيراته. وبتعبير ريكور فان ذلك سيؤدي إلى إقامة ذاكرة عادلة ومتوازنة تستطيع أن تخرج من الحزن ومن التاريخ الشقيّ (التاريخ الذاكرة النسيان، 18).

إن الخروج من الذاكرة الجماعيّة بكلّ إحباطاتها وإخفاقاتها وتماثلاتها المقيتة، التي تؤدي بالضرورة إلى إعادة انتاج المشكلات ذاتها عبر الزمن واستنساخها، هو ما يسعى إليه طه حسين من خلال تبنيه المنهج بكلّ ما قد يسببه له من رفض وتكفير. فهو يرى فيه على المستوى الشخصيّ وسيلة لفك التماثل الظالم الذي أوجده السرد بينه وبين المعريّ، وعلى المستوى الجمعيّ وسيلة لا بدّ منها للإنسلاخ من الماضي المتأخر والإندماج في الحاضر العقلانيّ والمُتقدم، أي انه وسيلة لتجاوز آثار عاهته الفردية أو عماه، ووسيلة للخروج بالأمة من العمى إلى النور.

(3)

أتخيل كتاب طه حسين "مع أبي العلاء في سجنه" زيارة من أعمى تماثل للشفاء، لأعمى لا شفاء له. زيارة لا تخلو من شماتة. فأبو العلاء –حسب طه حسين- يستكثر من السجون ويرتاح إليها ولا يريد ان يتخلص منها بينما طه حسين لم يكن سوى ناقم على أي سجن أو قيد سواء كان عاهة أم تخلفاً فرديّاً أم جماعيّا، وهو في هذا لا يشبه المعري الذي استسلم لعاهته ولاحزانه فلم يخرج عن ذاته فظل شاعراً فيما تخطى طه حسين الكتابة الشعرية والسيرية. وفيما اتخذ المعريّ من التآليف اللغوية والادبية صورة لذاته المعقدة فجاءت معقدة متكلفة لا تفيد في تطوير الآخرين، صار طه حسين إلى النقد والتنظير في الادب والحياة والسياسة والتحديث. والمعريّ في كل هذا وذاك رجل عاجز (مع ابي العلاء 190) أكثر منه عالم أو عبقري وبالنتيجة فقد ذاب في سيرة غيره وانتمى إليها. لا كطه حسين الذي اختار أن يسلك مسلكاً غير المألوف (سا 99). وأن يصير هو ذاته وأسطورته الشخصية.

(4)

كان طه حسين مشغولاً ككثيرين بالخروج على قدره المكتوب وعلى ما سبق أن قيل أو كُتب وكنت أظن أنه أفلح، إلى أن وضع أحدهم السيف في رأس تمثاله في مصر، فأرداه، مقلداُ صنيع آخر فعل الشيء ذاته مع تمثال المعريّ في معرة النعمان، مؤكداُ عبثية ما أفنى فيه طه حسين عمره. فعلى المستوى الفرديّ لم يخرج طه حسين من مأزق التشابه مع المعريّ، وعلى المستوى الجمعيّ لم تقدم مقولات التنوير والحداثة والمنهج التي تبناها وبشر بها للإنسان العربيّ أيّ شيء يُذكر، فهو ابن الذاكرة ذاتها يأتمر بأمرها ويعيد إنتاج أفعاله ومواقفه العنيفة من خلالها.

لقد اكد قاطعا رأس طه حسين والمعريّ على عبثية الفعل الذي يقوم به المثقف العربيّ ولا جدواه وانهياره، ولو بعد حين، أمام ذاكرة تتصالب مع تقادم الزمن وتزيد حضوراً وعنفاً مع تعاظم الحضور الغربيّ تقنياً وعلمياً ومعلوماتياً.

هي ذاكرة تقطع الطريق أمام أيّ نسيان محتمل قد يُولِّد تسامحاً وتحاوراً وقبولاً بالآخر.

وإذا كان الفلاسفة والمفكرون ومعهم طه حسين ومنهم ريكور قد آمنوا بذاكرة تنسى، أي تعي تماماً إنتماءها وماضيها وتجد الوسائل العصرية الملائمة للتعايش والتفاهم وتخطي حالة العنف التي تطبع الوجود البدائي من أجل التحديث والحداثة وإضافة نهايات مختلفة للحياة وكتب جديدة إلى المكتبة.. فإن الأدباء ومعهم المعريّ ومنهم بورخس قد آمنوا بقدرهم وبانتمائهم إلى الذاكرة وإلى ما قد خُطّ مسبقاً وتم تثبيته في أحد كتب المكتبة التي لن يطالها التغيير أو الإضافة.

 

(باحث وأكاديمي/ العراق)