الكتَّابُ المصريون والعرب الذين كتبوا ويكتبون بغير اللغة العربية أمثال: مالك حدَّاد ومحمد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري والطاهر بن جلون وأهداف سويف وأمين معلوف وأندريه شديد وجورج حنين وألبير قُصيري وحسن مظهر وفوزية أسعد ...، وغيرهم وغيرهن، هُم في نظري كُتَّابُنا، وهُم جزءٌ من الكتابة والثقافة العربية، وحسبي في ذلك أن فرنسيةَ مالك حدَّاد أو ألبير قُصيري أو إنجليزيةَ أهداف سويف مثلاً هي لغات أوروبية، لكنها منذ أنْ أُبدِعتْ بتلك الأقلام العربية قد باتت على أتمِّ استعدادٍ للترجمة إلى اللغة العربية وكأن ما عليكَ سوى أن تقشطَ هذه اللغات، كقشرةٍ، فتجد النصوصَ تحتها مكتوبةً باللغة العربية بعمقٍ وأصالةٍ وثراءٍ وفن، حسبَ مقام كلٍّ منهم على حِدة.
الكِتابُ العظيمُ؛ هذه الصفة يجب مراعاة البُخلَ والحرص الشديديْن في إطلاقها، ويمكن حسبَ رأيي منحَها لكتابٍ مثل "الجريمة والعقاب" لـ"دوستويفسكي" وبالدرجة نفسِها يُمكنُ منحَها لكتابٍ مثل "الأمير الصغير" أو "أرض البشر" لـ"أنطوان ده سانت إكسوبيري" أو لكتاب "هاكلبري فن" لـ"مارك توين" أو "وردة لإميلي" (القصة القصيرة) لـ"وليم فوكنر" أو لرواية "التفاحة والجمجمة" لـ"محمد عفيفي". ما أريدُ قولَهُ هو إن الكتابة ليست واحدة، وإن الكتابات العظيمة تتجاور دون أن تتشابه، ولكنها جميعاً لا تتنازل عن ثلاثة عناصر هي بمثابة الروح؛ الفن والفلسفة والموسيقى.
لستُ أقبلُ أن يُطلَبَ أو يُتوقَّع من الأدب القيام بخدمات سياسية أو اجتماعية أو وجودية أو نفسية أو غيرها أيَّاً كانت. الأدب بالضرورة يمنحُ من تلقائِهِ مُتعةً وخدمةً ومنفعةً، لك أن تقبلها أو تعافَّها، لكن ليس لك أن تشترط على الأدب مُسبَّقا الوفاء بها وتلبيتها. ثمة كتب لا أحبها رغم كوْنها تحوي أفكاراً أحبُّها أو أناصِرها ولكن تورُّطَ الكاتب في القيام بالخدمة يلغي كتابَهُ حالاً، وبلا مزيدٍ من التعليلات. الخدمة الوحيدة التي بمقدوره الإنعام بها هي أن يعلو على تقديم خدمات؛ أن يعلو، في تواضعٍ، عن أن يكونَ مُرَوِّجاً، حتى وإنْ كانت ترويجاته بداعي الخير أو الضرورة، ذلك أنها تكونُ بلا حياء.
الكتابةُ تبرِّرُ اللغةَ، والعكسُ غيرُ صحيح. فرقٌ كبير بين الكتابة الرفيعة واللغة الرفيعة ؛ فاللغة الجميلة الرفيعة لا يمكن أن تبرر نفسَها أو أن تُستهدَف لِذاتِها، وإنَّ حدوثَ ذلك يكونُ حماقةً أو أكثر. لكن الكتابة الرفيعة تلزمُها في معظم الأحوال لغة رفيعة لا تبينُ ولا تخدمُ نفسَها، لكنها تغدو مشروعةً في حنايا هذه الكتابة.
يبدو لي أن الكُتَّابَ يمثِّلونَ سُلالات كأنواع البذور والنُّطف، سواء جرى ذلك بانتباههم أو بدونه. ويبدو لي، مثلاً، أن "نيكوس كازنتزاكيس" هو الـمُريدُ النابِهُ لـ"دوستويفسكي" حتى لو ناحَ "هنري ميللر"! وأظنُّ أن كتابَ "كازنتزاكيس" الصغير "تصوُّف" هو بمثابة خطابه "البوشكيني"، لكأنه كان بذلك الكتاب يتراسلُ مع "دوستويفسكي" بخطابه في تأبين "بوشكين". و"فيرجينيا وُولف"، فيرجينيا ليزلي ستيفن، وُلِدت حين كان "رامبو"، جان آرتور رامبو، قد عَمَّرَ وصار مُسِنَّاً في الثامنة و العشرين. ويبدو لي كأني رأيتُ الطفلةَ تسترقُ السمْعَ إلى شاعرٍ بدا صَمُوتاً. "لم يصمت" لطالما قالت فيرجينيا الصغيرة ذلك عن "رامبو" لِـمُربيتِها، حسبما أظنُّ. وفي التاسعة من عمرها، أحسبُها قد همست: "مات. اليومُ، مات". ومبكراً، في سنتِها التاسعة تلك، حَاضت الصغيرةُ فيرجينيا لَكأنها كانت تُعَمِّدُ نفسَها بدمٍ من لَدُنها.
بدأتُ الكتابةَ منذ الطفولة، كتبتُ كمحاكاةٍ لبعض قصص الأطفال التي أُتيحَ لي أن أقرأها في تلك الأثناء، وكنتُ أحياناً أنسخُ القصصَ كما هي، ولكن دون رسوماتها، في كشكولٍ لتبقى في حوزتي بعد ما أُعيدُ الكتابَ إلى مكتبة المدرسة. حلمتُ باقتناء الكتاب – كلِّ كتاب – كاملاً، وبدأتُ أحلُمُ بأن أقدرَ على عملِ كتاب. أحسستُ بفتنة الكتب وخضعتُ لها، وتمنيتُ أن أكونَ صانعاً لكتابٍ ذي فتنة، ولا زلتُ أتمنى ذلك وأسعى إليه، ولا زلتُ مفتوناً بما قرأت. كتبتُ أثناء المراهقة وحتى بدايات الدراسة الجامعية نوعاً من القصائد الغنائية ولكني ابتعدتُ عن كتابة القصائد بعد ما بانَ لي أن الغشَّ في القصائد (لاحظ أنني لم أذكر كلمة شعر) ممكن، وإلى أقصى درجة، خاصةً في ظل حالة التساهل النقدي، وفي ظل تخوُّفٍ (مفهومٍ) من الاتهام بالتخلُّف عن "المستجدات" الفنية. الغش في "القصائد" وارد وممكن وكثير، ولكن ليست كل قصيدة هي شِعر بالتلازُّم. من غير الممكن أبداً أن يشوبَ الشعرَ غشٌ، حتى أكاذيب الشعر لا يطالها الغشُّ.
لا أحبُ ولا أوافقُ على وضْع اسمي في أية زُمرة أو قائمة أسماء – ليس تطاولاً ولا تعفُّفاً – ولكن لأن التفرُّد في الفن هو الأصل. ورأيي أن وضْعَ أسماء بجانب بعضها يجب ألاَّ يحدث إلاَّ لضرورة بحثية، ولمدة لحظة واحدة معيَّنة، يُعتَقُ ويعودُ كلُّ واحدٍ منهم بعدها إلى الخروج من القائمة أو الزُمرة أو الجماعة.
أتمتَّعُ بالقراءة أكثر من الكتابة ؛ وهذا لا يُعني أنني لا أتحصَّلُ من الكتابة على لحظات مَسرَّة عزيزة، ولكني أتشكَّى من نفسي لأنني أقدِّمُ، عن طِيب خاطر، للقراءة أوقاتاً مأخوذةً من وقت الكتابة أو من وقت التهيُّؤ لها. أنا قارئ أساساً، وكاتب. كقارئٍ قد يعجبني كتابٌ ليس يعجبني ككاتب، والعكسُ غيرُ صحيح ؛ فإنَّ ما يعجبني ككاتب يعجبني كقارئ أيضاً. وأظنُّ أني كقارئ أكون أكثر حرية وانطلاقاً أو أقل تَزَمُّتاً مني ككاتب.
أكتبُ من أجل تواصُلٍ مع أشباهي، ماضين وقادمين وحاضرين. أشباهي هم عائلتي المبعثرة وسطَ البشر عبر كل الحِقب وفي مختلف الأنحاء والبِقاع، وما سعيي إلا لاستعمال نغمتي وتردُّد موجتي من أجل أقصى حَدٍّ للتعرُّف والتواصل معهم ومعهن، ولقد تلقيتُ القليلَ من رسائلهم، بما يكفيني، وأحاولُ بالكتابة إيصالَ ردِّي إليهم وإعلامهم وإخبارهم بوجودي.
أحبُ أن أتفكَّر بشأن الصفِّ الأول (الطبقة الأولى) من كُتَّاب العالم في كلِّ العصور ؛ وأرى – مع من يرون ذلك، إنْ كان ثمة منْ يرون ذلك – إنهم، هؤلاء وأولئك، الذين قاوموا شهوةَ الكتابة، بإدراكٍ وفطنةٍ، رغم عظمة جداراتهم ومواهبهم، ولكنهم كتبوا بالصمت تَفضُّلاً وتَرفُّعاً، ولم يحدِثوا أيةَ ضجةٍ، على الإطلاق، احتراماً لموسيقى الكوْن التي عرفوها أو حدسوا بوجودها. ومضى ويمضي أولئك الكُتَّابُ، الذين لم يكتبوا أبداً ولم يتركوا أيَّ أثرٍ ماديٍّ في هذا الصدد، ولكن ذلك لا يُعني انعدامَ كلِّ أثرٍ لهم ذي صلة بالكتابة الرفيعة.
كاتب مصري
atif_sol@yahoo.com
(نُشَرت في جريدة "القدس العربي"، العدد 7338، بتاريخ 22 يناير 2013 )