نقدم للقارئ هنا جهد القاص والروائي العراقي في القصة القصيرة جدا حيث يعد من روادها وساهم بشكل فعال في إشاعتها في تاريخ القصة العراقية. خص الكلمة بمجموعته الكاملة. حيث يجد القارئ كل أنماط وأغراض القصة القصيرة جدا، اليومية والمفارقة الساخرة واللقطة الشاعرية العميقة، راصدا عذابات البشر في العراق.

ست وستون قصة قصيرة جداً

إبراهيم أحمد

قـطـن

1

تخرج كتل القطن الصغيرة من تحت غطاء التابوت بتؤدة. مثل طيور تغادر الأعشاش. تطل برؤوسها أولاً: ترتعش خيوطها الناعمة ثم تتلاحم وتعود لتنبعج وتمد حوافها مع الريح ثم تتطاير. وحين يدفعها تيار الهواء خلف السيارة كانت تتلوى كما لو مرتبطة بمغزل. وتحط على جانبي الطريق، فوق الأشواك والحجارة وأحياناً على الصوى الملونة أو تندفع إذا كانت الريح قوية إلى البساتين القريبة، وأينما حطت ترف باستمرار متكورة أو مستطيلة، كأنها مازالت على أغصانها لم تقطف بعد. عشرات ومئات من القطع القطنية تتطاير كل يوم على هذا الطريق الذي تسلكه الجنازات باتجاه النجف. في ذلك اليوم وكان الوقت عصراً كانت قطعة كبيرة من القطن متوهجة البياض بحجم الحمامة تندفع من تحت غطاء تابوت متسخ. وبدلاً من أن تأخذها الريح التي كانت قوية في ذلك اليوم باتجاه البساتين حطت بها وبشكل سريع تحت انحناءة حجر كبيرة، في تلك اللحظة بالذات كان رجلان في الباص يتحدثان عن تعليمات جديدة بشأن بناء القطع السكنية للجمعيات. ومالت امرأة فتية كانت تسوق سيارة إلى امرأة تجلس بجانبها وتحدثت معها عن نوع جديد من طرق منع الحمل.

2

كان الغسق والمصابيح مازالت مشتعلة تضفي على الطريق لوناً متموجاً. وحين تخلو الطريق من مرور سيارة مسرعة كان بالإمكان سماع أصوات الجنادب والطيور التي بدأت تزقزق، على جانبي الطريق لم يكن أحد يسير. وها هي الآن فتاة شاحبة تركب حماراً وتلكزه بعصبية وتصعد من الأرض المزروعة إلى الجانب الأيسر من الطريق. انحنت على الكيس المملوء بالبرسيم والذي يكاد يغطي نصف رقبة الحمار وعدلت من وضعه. كانت عيناها الواسعتان شبه المكحلتين تدوران باتجاه البيوت التي مازالت موصدة الأبواب. كانت قد اقتربت من الحجر الكبير عندما عاودها مغص الطمث وأحست بلزوجة تحتها ثم صار احتكاك أعلى فخذيها بجلد الحمار طرياً وناعماً. توقفت عن تحريك ساقيها وتوقف الحمار. نزلت بسرعة وجذبت من تحت الحجر قطعة القطن الكبيرة وبسرعة خاطفة وخلال اعتلائها ظهر الحمار دستها بين فخذيها وعاودت جلستها. هز الحمار برأسه وواصل مشيته مسترخياً كأنه طليق في حقل.

 

 

الرائـحة والكلـب

الكلب يسير وراء الرجل الأبرص وسط الشارع الفرعي. بعض الواقفين على أبواب المحلات يرقبونهما ويضحكون. تساءل في نفسه أيكونون قد رأوا الرجل الأبرص والكلب كثيراً ويعرفون عنهما أشياء معينة؟ الرجل الأبرص طويل يرتدي ثياب عمل رثة وبوجه مبقع محمر كأن قطعاً من جلده سلخت عنه تواً. والكلب طويل أيضاً ولكن قوائمه قصيرة فكان ممتداً كرجل مقعد يزحف بعصبية. لأول وهلة اعتقد أن الرجل الأبرص صاحب الكلب ولكن ثمة فكرة طرأت له: أن الكلب يتبع الرجل الأبرص للرائحة التي يبدو أنها لابد أن تنبعث من رجل مثله. راق له أن يتبعهما رغم أنه كان مستعجلاً. الكلب يمد رقبته الطويلة ويركض وهو يحاول اللحاق بالرجل الأبرص، كانا يستديران بهدوء مع انحناءات الشارع يواصلان سيرهما بسرعة متزايدة. انعطف الرجل الأبرص في زاوية تفضي إلى محطة صغيرة لضخ الماء. دفع بابها الحديدي نصف الموارب. توقف على مسافة منها. رأى الرجل الأبرص يلتفت ويرمق الكلب بنظرات طويلة. وقد أضيء وجهه ببريق خاطف من عينيه ثم أحنى رأسه بما يشبه الامتنان وأقفل الباب. رأى الكلب يستدير بتثاقل فأشاح بوجهه عنه وأسرع في مشيته. أحس كأن أنفاساً ثقيلة تتبعه. ألتفت إلى الوراء بارتباك، وجد أن الكلب يتبعه. تماماً بنفس الطريقة التي كان يتبع بها الرجل الأبرص. أسرع بخطواته. وأسرع الكلب أيضاً. استدار إلى زقاق يفضي إلى الشارع العام. ولكنه وجد أن الكلب ما يزال يتبعه. فكر أن ينهره إلا أنه لم يجد طريقة مناسبة. حدث نفسه: أن الكلب لن يستطيع السير على الرصيف المزدحم. ولكنه عندما سار على الرصيف الذي لم يكن مزدحماً كثيراً وجد أن الكلب مازال يلاحقه، لم يكن قد مشى سوى خطوات قليلة عندما أصبح قريباً من باب إحدى العمارات. تذكر مكتب صديق له في نفس العمارة. خطر له أن يزوره رغم أن بينهما جفوة طويلة. دلف إلى العمارة وهو يكاد يصطدم برجل قصير على عينيه نظارة طبية. ويرتدي بذلة أنيقة. وعندما اجتازه سمعه وهو يلاطف الكلب الذي مازال واقفاً عند الباب. شعر أنه صديقه. استدار وهمَّ أن يقترب منه. ولكنه رآه وهو يسير بهدوء والكلب وراءه. رجع إلى الباب ونظر جيداً تأكد له أنه صديقه: ولكن لماذا لم يقف له: أما زال حانقاً عليه ؟ أم أنه لم يتبينه وانشغل بالكلب ؟ هز رأسه ورجع في الاتجاه المعاكس. فقد كلفته زوجته بإبدال المعطف الذي اشترته ولابد أن يسرع قبل أن يغلق المحل أبوابه.

 

 

دليــل الهــاتـف

لم تمض دقائق على بدء الدوام عندما دق جرس الهاتف. وضع الموظف الشاب الأوراق التي بيده جانباً وتطلع في وجهي زميليه في الغرفة ورفع السماعة بلهفة

نعم.  دائرة الهاتف ؟  نعم دائرة الهاتف.

و همَّ أن يستطرد لكن المتكلم لم يمهله

سمعت أنكم بدأتم بتوزيع دليل الهاتف ؟  نعم بدأنا.  أريد أن أحصل على نسخة. أتسمع ؟

و لم ينتظر المتكلم جواباً بل واصل كلامه:

أفضل أن يأتي الموزع مساءاً. احذر. ينبغي أن لا يطرق الباب. يستطيع أن يناولني إيَّاه من الشباك. غرفتي إلى الجانب الأيمن من الحديقة. يستطيع الموزع أن يقطف برتقالة. برتقالة واحدة فقط.

ابتسم الموظف الشاب وكاد أن يطلق ضحكة مجلجلة ويشرك زميليه في الكلام.  لكنه أحس بشيء ما في أعماقه يرتجف فاغتنم فترة الصمت القصيرة وقال بهدوء:

نحن لا نرسله بالبريد ويمكنك أن تأتي لتستلمه.

لم يبد على المتكلم أنه سمع شيئاً بل كأنه تثاءب في لحظة توقفه عن الكلام أو أنه بلع ريقه إذ لم يلبث أن قال سريعاً:

في الواقع أنا أستفيد كثيراً من هذا الدليل. أنني كنت أنتظره منذ فترة طويلة. أتسمع ؟ فترة طويلة جداً..

قالها وكأنه يبكي. نظر الموظف الشاب إلى زميليه. كان أحدهما يقرأ في جريدة والآخر ملأ قلمه ثم واصل الإنصات.

لكن قل لي. كم الساعة الآن ؟

ثم توقف قليلاً كأنه يتذكر شيئاً ولم ينتظر جواباً كما أن الموظف الشاب نظر إلى الساعة المعلقة أمامه وابتسم دون أن يجيبه.

بهذه المناسبة. أمي تحتفظ بساعتي في الثلاجة. ساعتي التي حصلت عليها هدية في سباق الموانع. قل لي هل يحبون السجائر المثلجة. هل سيردون علي. هل سيستمعون جيداً ؟ من هم ؟ تسألني أنا من هم ؟ ألستم أنتم الذين تدونون أرقام هواتفهم. أمر عجيب حقاً. كيف تعرفوننا عليهم إذن ؟ اسمع، يبدو لي أنك لم تفهمني. أنني لا أصدق أنكم أدرجتم رقم هاتفي في الدليل. إن أحداً لم يطلبني منذ فترة طويلة. طويلة جداً. أتعرف كم هو لذيذ أن يدق الهاتف. حتى حينما يظهر أن المتكلم لا يقصدك بالذات. تتحدثان معاً. أو تسمع صوته فقط. ربما كانت آخر مرة سمعت فيها جرس الهاتف عندما كنت في بطن أمي. كانت تتحدث به كثيراً. ومع هذا أحس بنشوة غامرة كلما وقع بصري على الهاتف. تصور. أنني أحتضنه أحياناً. وأضغط عليه وأعصره. وكل ما أتمناه أن يدق مرة واحدة.. أتسمع هذه أصوات الطبول ؟

جاءت الكلمة الأخيرة خافتة كأن فم المتكلم قد ابتعد عن السماعة. ثم أعقبتها أصوات متقطعة. وكأن بالإمكان سماع قرقعة السماعة وهي تصطدم بشيء. وبدا أن الشخص الذي كان يتكلم يسقط. ويسقط معه كرسي أو منضدة وفجأة جاء صوت امرأة:

عفواً. نحن آسفون. أنه لم يكن يقصد ذلك.

ثم توقفت قليلاً

عفواً من المتكلم ؟ لقد كنت مشغولة في المطبخ.

قال الموظف الشاب:

هذه دائرة.

ثم أعقب:

دائرة الهاتف

قالت المرأة:

دائرة الهاتف ؟ وتريثت قليلاً

بخصوص الأجور. اليوم وصلتنا القائمة. هناك خطأ في الحساب. أننا لا نستعمل الهاتف كثيراً. أراد الموظف الشاب أن يقول لها أنه لم يطلبهم لكنه قال بسرعة:

تستطيعين مراجعة الدائرة.

بعد لحظة صمت قال للمرأة:

نريد أن نحصل على دليل الهاتف. في الواقع أننا تسلمنا نسخة وقد أتلفت. ثم تهدج صوتها وقالت:  تصور أنه هو الذي أتلفها. من ؟ قالها الموظف بسرعة.

الشاب الذي كان يتكلم معك. إنه ينزع أوراق الدليل ويصنع منها زوارق صغيرة ويطٌوفها في المغسلة.. أبداً. نحن لا نسمح له بالاقتراب من حوض الحديقة. آسفة. لا أدري كيف خرج من غرفته.

هو مريض إذن ؟

قالها الموظف الشاب بلهجة مواسية.

نعم.

ردت المرأة بسرعة ثم تلكأت.

مريض. تشويه. أقصد أننا منذ ولادته. عرضناه على أطباء كثيرين. اسمع هو الآن يفتح حنفية المغسلة. إنه يريد أن يغرقنا. اسمح لي بغلق الهاتف. لقد فتح حنفيتين. اسمع إنه الآن يصرخ.

و أغلقت الهاتف.

 

 

إنفـجـارات

كان الطفل على صدر أمه يحتضن نفاخة زرقاء متوسطة الحجم. عمره حوالي السنتين. إلا أنه يبدو أكبر من سنه بوجهه البيضوي الأسمر وعينيه الواسعتين. كان شعاع الغروب ينعكس على فمه الرطب وهو ينزلق على جوانب النفاخة. رقيقاً خافتاً كانعكاس البرق على زهرة توشك أن تنعقد. ازدادت ابتسامته اتساعاً عندما وقفت أمه قريبة من المصاطب القائمة على رصيف النهر.  ربتت على ذقنه تلفت نظره. وتوقف والده الذي كان يمشي قريباً منهما وتمتم للمرأة يستحثها مواصلة السير. خفتت قليلاً أصوات المارة والباعة المتجولين، وانتظمت أكثر أصوات مسجلات الصوت. كانت هناك حركة غامضة في الجانب الآخر من النهر.  كان الطفل يلغو بأصوات متقطعة وكانت أمه مستغرقة تحاوره وهي تبتسم.  بغتة دوى صوت هائل. ارتجت له جوانب الرصيف وبدا الجسر القريب يهتز وأرجعت البنايات الضخمة على الجهة المقابلة الصدى بموجات متعاقبة.  تراجعت الأم إلى الوراء. صرخ الطفل وتعالى بكاؤه بشهقات حادة. اضطرب الأب قليلاً ومد يده إلى كتف المرأة ودفعها أمامه.  قال بائع السجائر: أنه مدفع الإفطار.  و قال بعض المارة الذين تجمعوا على شكل حلقات:

اطلاقة واحدة.

سارت الأم بسرعة وهي تضم الطفل إلى صدرها. وارتفع صوت الأب وهو يؤنبها. ثم لم يلبث أن سار بجانبها واجماً.  كان الطفل ما يزال يبكي، ممسكاً بالنفاخة، توقف لهما شيخ يبيع الحلوى.  تلكئا قليلاً ثم أشاحا عنه وسارا مسرعين.  عندما وصلا إلى جانب من الشارع خال من المقاهي. كان بكاء الطفل قد خفت  وتحول إلى نشيج مكتوم.  .. فجأة انطلق صوت انفجار. توقف الأب متلفتاً وأبطأت الأم في مشيتها. ارتفع صوت الطفل. كان يضحك. وقد تعالت قهقهاته. وهو يحرك يديه الغضتين بمزق النفاخة.  ابتسمت الأم. وضمته إلى وجهها بقبلة طويلة. و لما غمرتها أضواء المقاهي وهي ما تزال تقبل الطفل ابتسم بعض الجالسين. وقطب البعض الآخر: وعادوا ينظرون إلى التلفزيون الذي كان يعرض فلماً للكارتون وقد انبعث منه أصوات الطلقات الرشاشة.

 

 

الرجل الذي حاول قتل الصرصر

كان الرجل الواقف وراء الآلة الحاسبة يناول زجاجة مشروب لفتاة أجنبية تقف أمامه عندما لمح شيئاً يتحرك على الأرض قريباً من صناديق علب القهوة الفارغة. دس الورقة النقدية فئة الخمسة دنانير في الآلة الحاسبة وأرجع للفتاة قطعة نقدية فئة نصف دينار. وانعطف وراء الحاجز وركض مسرعاً.

كان ثمة صرصرٌ يدب قريباً من صندوق طويل.

عندما أحس الصرصر بحركة الرجل أسرع في دبيبه باتجاه آخر.  استدار الرجل إليه. ولكنه زاغ عنه وأسرع صوب الباب وكأنه يطير. ركض الرجل خلفه وهو يرفع حمالتي بنطلونه بصعوبة. اقترب منه وألقى قدمه اليمنى عليه وهو يصر  بأسنانه. لم يصبه. إذ ابتعد الصرصر مرة أخرى. كان في كل مرة يلقي قدمه، تقع قريباً منه حيث يزوغ مسرعاً. أحدث صوت ارتطام حذائه بالأرض جلبة في المحل انتبه لها العاملون الذين تطل رؤوسهم من وراء صفوف الحاجيات بمرح ظاهر، بينما وقفت الفتاة الأجنبية ترقبه باهتمام.  أخذت رقبته وساقاه ترتعشان وأنفاسه تتلاحق لاهثة وهو يحاول اللحاق بالصرصر الذي اجتاز عتبة المحل.  توقف الرجل قليلاً واعتمد بيده على عمود الشارع الكبير. ركز نظره على الصرصر وأنزل قدمه بقوة. أعتقد أنه يدوس الصرصر فسحب يده عن العمود وأخذ يحرك جسمه بشكل نصف دائري وبدا يتنفس بارتياح.  لما لمح الصرصر يدب مسرعاً ويختفي تحت كتب منشورة عند أسفل الجدار. ركض بهلع إليه فزلت قدمه وسقط إلى الخلف. ركض العامل مبتسماً من داخل المحل وأنهضه. حاول أن يقوده ويدخل به المحل ولكن الرجل مال عنه وأخذ يدوس الكتب ويصرخ بوجه الصبي الجالس بجانبها.

كتبك التي تجلب الحشرات.

ولكن الصبي بائع الكتب الذي لمح الصرصر يخرج من تحت الكتب. داس على الصرصر، وبهدوء أخذ ينضد كتبه وهو يفكر بمكان آخر يبيع فيه. عندما رأى الرجل الفتاة الأجنبية مازالت تقف قريباً من الباب.  حاول أن ينحني أكثر ويبتسم لها وكأنه يعتذر.

 

 

رغـبة في شـراء البيـض

أشار الرجل النحيف الذي يحمل طبقتي بيض ويضمهما إلى صدره لسيارة الأجرة الصغيرة، ولما اقتربت منه مال جسمه قليلاً عن حاجز الرصيف وهبط إلى قارعة الشارع فأحدثت السيارة صوتاً عنيفاً وهي تتوقف قريباً منه. تلفت المارة وخرج البعض من المحلات المجاورة. لم يستطع الرجل النحيف لارتباكه ولكونه يقف بين مقدمة السيارة سارية الوقوف أن يفتح باب السيارة. كان السائق حانقاً والركاب داخل السيارة يلغطون. في تلك اللحظة تقدمت امرأة بدينة من الرجل النحيف. توقف السائق عن الكلام وتعلقت بها أنظار الراكبين. بدا أن المرأة البدينة تريد أن تصفع الرجل النحيف أو تؤنبه ولكنها مطت رقبتها وسألته بصوت رطب:

من أين اشتريت البيض ؟

قال الرجل النحيف:

من هناك.

و مد يده برفق يزيحها عن طريقه.  انحنت المرأة البدينة وأسندت إلى سارية الوقوف سلة بلاستيكية مملوءة باللحم والقرنابيط وأمسكت بيد الرجل النحيف:

تبيعني طبقة ؟

قال الرجل النحيف:

لا.

ثم أردف وهو يشير إلى الشارع المقابل:

هناك بيض كثير.

أخذ السائق يرجع سيارته إلى الوراء ويهم بالسير عندما أخرج شاب رأسه من نافذة السيارة وقال معابثاً للمرأة البدينة والتي مازالت تحمل رواء الشباب:

تعالى أدلك على البيض.

قال الرجل متوسط العمر يجلس في مقدمة السيارة وكان جاداً:

لقد وصلت كميات كبيرة من البيض.

قال رجل يجلس بينه وبين السائق وكأنه يصحح كلامه.

من بلغاريا.

لم يظهر على المرأة البدينة أنها فهمت شيئاً إذ اندفعت وهزت يد الرجل النحيف بقوة فانزلقت الطبقتان من يده وتناثر البيض أمام السيارة. انتفض الرجل النحيف وأمسك بيد المرأة البدينة بكلتي يديه ولواها بحركة خاطفة فهوت من على الرصيف وانكفأت على وجهها في الشارع.  تقدم رجل وهو يصرخ بوجه الرجل النحيف وحاول إنهاضها:  رفعت المرأة البدينة وجهها الملطخ بصفار وقشور البيض، ثم عادت وانكفأت، كانت تبدو وكأنها تنحني على بركة وتشرب، هادئة وكأنها تغط في حلم. وثمة فقاعات حول فمها من السائل الأصفر.

        هم الرجل النحيف بركوب السيارة ولكنها انطلقت مسرعة.

 

 

الصيـد

توقف شرطي المرور على الرصيف. وبطرف عينيه نظر إلى المارة على الجهة المقابلة. عندما عبرت مجموعة منهم على الخطوط البيض اشرأب وأخذ يرقبهم. كان الرصيف يمتد مكشوفاً لا تقف في نهايته سوى دائرة البريد الكبيرة.  في الجهة المقابلة يقوم العديد من العمارات الواطئة. فنادق متلاصقة. مطاعم. دكاكين. واجهات زجاجية لمحلات. وسقيفة لسوق ينعطف إلى الداخل.  خلف الرصيف وتحت منحدر عريض يجري النهر بطيئاً. وقد رست على ضفته زوارق شراعية وقوارب صيد وثمة رجل كهل يجلس ممسكاً بطرف خيط في النهر.  على الضفة الأخرى: تقوم تجمعات من النخيل على شكل باقات.  سار شرطي المرور خطوات بطيئة وتوقف قريباً من الخطوط البيض، كان الشارع مترباً وبعض أجزائه مغطاة بطبقة من الوحل.  نهض الرجل الذي يصطاد السمك وسحب الخيط. وضع في الشص شيئاً. ثم رماه في عرض النهر.

        رفع الشرطي يده وأشار لمجموعة من العابرين.

و لما تعالى زعيق السيارات، نظر بحدة في وجوه المارة وحثهم على السير. مشى بتثاقل إلى طرف الرصيف وأطل على النهر، كان وجهه إلى النهر وبين فينة وأخرى يختلس نظرة إلى الجهة المقابلة. لمح شاباً يقف على مسافة من الخطوط البيض ويهم بالعبور، ألقى إليه نظرة سريعة ثم عاد ينظر باتجاه النهر.  عندما وصل الشاب إلى الرصيف، كان الصياد يرمي الخيط للمرة الثانية.  اتجه الشرطي إلى الشاب، وعلى وجهه ابتسامة وأمسك بيده.  قال الشاب:

لقد رأيتني عندما هممت بالعبور.

لماذا لم تنبهني ؟ لم يحر الشرطي جواباً.  قال الشاب مرة أخرى بلهجة بطيئة:

لكن الخطوط لا تبين. الشارع موحل.

دفعه الشرطي أمامه ثم اقتاده إلى الساحة الدائرية المشجرة:

عندما كان الشرطي يسلم الشاب إلى الضابط الجالس في الغرفة الزجاجية.  كان الصياد يسحب الخيط ويستدير خلف الزوارق وهو مازال يحاول أن يصطاد.

 

 

مُقـعَـدْ في باص مزدحــم

كلما ركبت هذا الباص ذا الطابق الواحد أجده مزدحماً. لم يصدف أن خلا مقعد بجانبي حيث أقف رغم أن بعض المقاعد تخلو فجأة فيشغلها أشخاص يقفون قريباً منها. لم يكن الأمر يسترعى انتباهي كثيراً إلا أنني - وأعترف أن ذلك حدث ببطء، وجدت أن أشخاصاً أصبحت وجوههم مألوفة لدي يحظون بهذه المقاعد. وفي هذه المرة قررت أن أدقق بالأمر جيداً.  هذا رجل أشيب الفودين ضخم البطن يصعد الباص في المنطقة التي تلي منطقة صعودي. أنه لا يقف في المكان الخالي في وسط الباص. ويبقى يشق طريقه بين الأجسام المتراصة وهو يجول بعينيه الضيقتين حتى يقف قريباً من رجل ضئيل الجسم يعتمر سدارة بنية. وهذا شاب قصير ممتلئ الجسم بشاربين أصفرين يصعد الباص. من المنطقة التالية ويتسلل بهدوء بطيء وحثيث حتى يقف قرب امرأة موشحة الرأس بفوطة بيضاء. وثمة رجل طويل القامة حتى ليكاد رأسه يمس سقف الباص يدير عينيه عبر زجاج النوافذ قبل أن يصعد ثم يقف في كل مرة قريباً من مقعد لا يلبث الشخص الجالس عليه أن ينزل بعد أن يسير الباص مسافة قصيرة. كان هذا الرجل على ما يظهر أكثرهم اتقاناً للعبة. إذ كان من خلال نظراته عبر النوافذ والتي يواصلها بنهم أشد، بعد أن يصعد يدرك أي الركاب على وشك النزول. أستطيع أن أجزم أن هؤلاء الثلاثة يحظون بمقاعد في الباص بعد صعودهم إليه بدقائق أو لنقل أنهم أكثر الركاب توفيقاً في ذلك. وفي هذا اليوم قررت أن أدخل معهم اللعبة بعد أن فهمتها بعض الشيء فالرجل ضخم البطن كان قد عرف أن الرجل ذا السدارة البنية يعمل دلالاً لبيع الأراضي ومحله يقع في منعطف الشارع.  و الشاب ذو الشوارب الصفراء يعرف أن المرأة ذات الفوطة البيضاء تعمل معينة في المستشفى القائم على مسافة قصيرة ولابد أن تنزل هناك. أما الرجل الذي يكاد رأسه يمس سقف الباص فكان أمره يحيرني إذ كان أكثرهم اتقاناً لخطته. إذ يخمن بطريقة عجيبة الركاب الذين على وشك النزول ويقف في كل مرة قريباً من أحدهم حيث يرمقه بعينين متلهفتين وبما أنني مكتشف هذه اللعبة فلماذا لا أبدأ من أكثر جوانبها تطوراً ؟  هناك على ذلك المقعد يجلس رجل كثير الالتفات إنه يتململ ويكاد ينهض في كل مرة يوشك فيها الباص أن يقف. إذن لأشق طريقي بين الركاب المجتمعين وأحاذر أن أصطدم بأكياس اللبن والدجاجات المربوطة بخيط حيث تجلس مجموعة من القرويات على أرضية الباص، لا يهمني الآن ما تثيره الدجاجات وانتفاضاتها بين قدمي. بعد قليل سينهض هذا الرجل وأجلس. الآن جلس الثلاثة. أحدهم اعتدل في جلسته ورفع رأسه كأنه يمارس عملاً وراء مكتب بينما راح الآخر يرمق الواقفين من تحت جفنيه بخدر واضح والآخر أطرق وهو يحدج السيارات الخاصة إذ تمرق من جانب الباص.  مازال الرجل الذي أقف بجانبه يلتفت ويتململ وفي كل مرة يلوح كأنه سينهض ولكنه لا يبرح مكانه. نزل كثير من الركاب واستطاع بعضهم الجلوس على مقاعد بعيدة عني.  لكني مازلت واقفاً قريباً من الرجل الذي كلما أبدأ بالابتعاد عن مقعده تململ وتحفز رأسه كأنه سينهض الآن. في الحقيقة لم تعد لي نفس الرغبة للحصول على مقعد. فها قد قارب الباص بلوغ نهاية السير. لم تعد لي رغبة بالجلوس رغم أن بعض المقاعد أصبحت خالية. ها هو الباص يتوقف دون أن يبطئ من سيره. انتفض الرجل وقبل أن ينهض انحنى قليلاً وسحب عكازته التي رأيتها لدهشتي لأول مرة قائمة فوق رأسه كالصليب.  عندما توقف قليلاً ليدس العكازة تحت أبطه مال فجأة وكاد يسقط لكنه تشبث بي واستند بكتفه إلى صدري أسندته بيدي بينما بقي جسمه متأرجحاً بثقله على يدي وهو يحاول أن يقف. لم يكن يبدو عليه ارتباك بل كان هادئاً كأنه ما زال بمثل اتكاءته على المقعد. قال وهو يقف.

        "آسف نادراً ما أحظى بمقعد. قليلون يقدرون حالتي"      جر عكازته ونزل ببطء شديد. نزلت خلفه. وكنت آخر من يترك الباص.

 

 

بـاتـا في خـدمتـكم

"أنا جويسم ابن الملا حمادي. سكنة محلة الفحامة. تبعة المختار عكرة الفاضل. انتهيت هذا اليوم من علاقة غرامية فاشلة. وبهذه المناسبة لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل لكل من شاركني قضيتي وأخص منهم بالذكر أصدقائي الذين استمعوا إلى أحاديثي الطويلة ونقلوا لي الأخبار وأبدوا آرائهم السديدة، وأشكر أيضاً والدي الذي انتقل إلى رحمته تعالى منذ تسع سنوات أي قبل سنتين من بدء العلاقة. وقد خفف إلى حدٍ ما من التأثيرات العائلية والعشائرية. وأشكر الاسكافي الذي طوَّل باله معي وأبدل كعب حذائي مرات عديدة. وأشكر والدتي التي سمحت لي كثيراً بالبكاء على صدرها (و أعتقد أنها مرة شاركتني البكاء). كما وأشكر سائقي باصات مصلحة نقل الركاب والجباة وبائعي سجائر المفرد.. كذلك أشكر الصحف اليومية لما نقلت من الأخبار العالمية والمحلية. وأشكر (نادلي) البارات والعجوز العمياء التي تسكن غرفة في بيتها فقد زودتني بنصائحها القيمة، وأشكر أيضاً كافة مغني الإذاعة والتلفزيون وعمال التليفونات والموسيقيين، وأشكر الشخص الذي كان طرفاً ثالثاً في القضية وأتمنى له حياة زوجية (هانئة) وأبتهل إلى المولى القدير أن لا يرينا وأياهم مكروهاً". كانت الكلمات مكتوبة على ورقة ملقاة مع طابعين ماليين غير مستعملين فئة 50 فلساً ودفاع وطني عند عتبة طبيب على واجهتها لافتة "اختصاصي الأمراض الجلدية والزهرية".  كانت تبدو وكأنها قصاصة من جريدة قديمة. أو مسودة من ورق الجرائد جاهزة للطبع.. بل كانت تبدو إذا ما نظر إليها بتدقيق كثير مثل طير سحق بعجلة سيارة وتيبست بقاياه على الأسفلت. لم يفكر الرجل الذي قرأ الورقة فيما إذا كان الذي كتبها جاداً أو مهلوساً إلا أنه في الواقع ابتسم وهو يدس الطابعين الماليين في جيبه ويضغط الورقة التي تمزقت بيده ويضعها في صندوق صغير مثبت على عمود الشارع مكتوب عليه "باتا في خدمتكم".

 

 

جلبة خفيفة لمكبرات الصوت

انبعثت الأغنية فجأة من الشارع صاخبة وعنيفة. أخلد إلى الصمت ثم تحرك قليلاً في مقعده واختلس نظرة من النافذة. كانت السيارة التي تحمل مكبرات الصوت على جوانبها ومقدمتها لافتات تدعو لنوع من المثلجات. استرعى انتباهه الرجل الجالس أمامه في الغرفة. ألفاه منهمكاً برفع بعض الأشياء عن مكتبه وإلقائها على مقعد صغير بجانبه. بل أنه وقف وأخذ يخرج رزماً من الأوراق المحفوظة وراءه في درج كبير ثم لا يلبث أن يعيدها. كان من الواضح أنه لا يريد شيئاً معيناً غير هذه الجلبة التي يحدثها. والتي كانت تتلاشى مع الصوت الذي يتعالى من الشارع.  وجد أن زملاءه في الغرفة ينظرون إلى الرجل. بعضهم كان يضحك بصمت والبعض الآخر كان يدندن مع اللحن.  كانت الأغنية لمطربة شعبية معروفة ماتت منذ سنوات بحادث سيارة وكان مقطعاً فيها يتردد بشجن مال إلى الرجل الجالس بجانبه والذي كان في زيارته وقال:

إنها أغنية جميلة.

أجابه الرجل:

هي كذلك.

مال مرة أخرى إليه وهمَّ بالحديث إلا أنه تردد. ثم فكر بأن ذلك قد يشوق زائره فقال وهو يشير بحركة سريعة إلى الرجل الذي ترك رزم الأوراق وأخذ يدير مقطة الأقلام ويحدث صوتاً أشبه بصوت انكسار شيء:

أتدري.. أنه شقيق المغنية.. وهو كما ترى يتحاشى أن يسمع صوتها.

ألتفت الزائر مع الحركة ثم هز رأسه وضحك قليلاً. كانت الأغنية قد أصبحت كالصدى البعيد عندما أدار بوجهه عن الرجل الذي كان في زيارته ووضع منديله على عينيه.

 

 

البصــمات

نظر مرة أخرى من الشباك المطل على قاعة العمل. وسار في الغرفة جيئة وذهاباً. وهز رأسه. وعندما قرر أن يستدعيه اتجه إلى زاوية في الغرفة. ثم نظر في مرآة المغسلة وعدل من ربطة عنقه.  جلس إلى المكتب وقرع الجرس.  دخل الشاب. كان مرتدياً بدلة من الخاكي. وحذاءاً مطاطياً.  و قد برز نصف قدمه ملفوفاً بالشاش.  قال الرجل دون أن يرد تحية الشاب:

عدت مرة أخرى؟

قال الشاب:

إلى ماذا ؟

قال الرجل وهو يتلمس زراً في قميصه:

تتجاهل الأمر؟

رفع نبرة صوته قليلاً وأردف:

متى تتوقف عن الحديث معهم ؟

قال الشاب دون أن تتغير لهجته.

مع من ؟

نهض الرجل وتحول صوته إلى صراخ وهو يقول:

تراوغني؟ تنكر أنك تتحدث أكثر من غيرك ؟

اقترب الشاب من المكتب ووضع يديه الملطختين بالزيت الأسود على حافته وقال:

أنت تدري أنهم يعملون بعيداً عني. كنت أظنك تقول أنني أتحدث مع الآلات.

خفض الرجل صوته وهو يقول:

نصف ساعة من الاستراحة كيف تقضيها ؟.. تصافح هذا. تهمس في أذن هذا.. و. و. و.

ماذا تعتقد أنك ستفعل ؟

قال الشاب:

لمن ؟

انتظر أن يوصل الشاب كلامه. ولما رآه قد توقف وعيناه ثابتتان تحدقان به. خفض بصره عنه. ودفع كرسيه الدوار إلى الوراء وقال:

اسحب يديك عن المكتب.

مال الشاب بقامته إلى الأمام وقال:

لا تكن غامضاً.. تحدث بوضوح.. ماذا تريد ؟

قال الرجل وهو يجلس:

ليس الآن. اذهب. نتفاهم في وقت آخر.

قال الشاب وهو يخرج:

عندما تكون أكثر هدوءاً.

وضع الرجل يده على عينيه وأسند رأسه إلى الوراء. وحين سمع الباب يوارب اختلس نظرة إلى حافة المكتب. كانت أصابع الشاب قد تركت عليها بصمات زيتية أخذت تبرق في ضوء الشمس المتسرب من النافذة.  كانت بصمات واضحة.. كأنها يد حقيقية مضمومة. أشاح ببصره عنها. وتناول سماعة الهاتف كانت أصابعه الطويلة ترتجف وهو يدير القرص طالباً ضابط أمن المعمل.

 

 

سيــارة بماكنة 120 حصــان

كان وهو في طريقه إلى عمله كل يوم يسلك شارعاً يزدحم بالمحلات والدوائر والشقق والفنادق وكان يجد متعة وهو يقطعه متمهلاً. في ذلك الصباح رأى امرأة جميلة تخرج من عمارة وتتجه إلى حارس ليلي كان ما يزال واقفاً عند باب المصرف المقابل. تحدثت معه قليلاً ثم أسرعت إلى سيارة بيضاء كانت تقف بجانب الفندق. توقف كعادته حين يرى امرأة تهم بالصعود إلى سيارة. تأملها وهي تجلس وراء المقود وتدير المفتاح. سمع المحرك وهو يدور خافتاً ثم يتوقف ولأول مرة أحس أن صوتاً كهذا يذكره بشيء نسيه منذ فترة بعيدة. ربما صهيل خيول. أو أزيز نحل يخرج من خلاياه دفعة واحدة. أو الريح التي كان يسمعها في طفولته تصفر بشقوق جدران البيت. ولكنه تذكر أنه ركب مرة مثل هذه السيارة. كانت لجاره الذي حمله معه إلى البيت بعد أن أنجز له معاملة في إحدى المحاكم. ويذكر أن الجار كان صامتاً ومقطباً طيلة الطريق ولم يدر بينهما أي حديث سوى أن الجار قال في معرض حركة عابرة، أن سيارته بماكنة "120 حصان" ولا يدري ما إذا كان ذلك صحيحاً ولا يدري أيضاً ماذا تعني "120 حصان". كانت المرأة ما تزال تحاول أن تدير المحرك. كان صوت المحرك ينبعث هادئاً ثم يتوقف. وجد أن المرأة أخذت تنظر إليه كأنما تطلب معونته لدفع السيارة أو فحص المحرك. بغتة لاحت ورقة كبيرة تتأرجح هابطة فوق السيارة. رفع بصره إلى أعلى. كانت ثمة يد تمتد من شباك غرفة في الفندق. يد معروفة صفراء. حطت الورقة على زجاجة السيارة وحجبت جزءاً من وجه المرأة عنه. في تلك اللحظة تماماً سمع صوت المحرك يتعالى ويستمر أزيزه. اندفعت السيارة تاركة الورقة التي انزلقت عن مقدمتها تعلو مع موجة من الغبار. لا يدري ما الذي دعاه للاعتقاد أن الرجل كان متعمداً في إلقائها. تقدم وأمسك بها. وجد أنها قطعتان من جريدة نادي سباق الخيل، مثبته بدبوس نسائي. طالعه مانشيت طويل بحروف رفيعة: الخيول الراكضة ليوم الجمعة: كيف فاز الشرق الأوسط بالجائزة الكبرى للصنف الثاني الرابحة ؟  الشرق الأوسط للأمام، وأبو تمام وأم كلثوم وعجبة ضاري للوراء.

 

 

أمـــل

كان ثلاثة أطفال ينظرون من فوق سطح البيت إلى البقرة المربوطة قرب الجدار ويتضاحكون. كان منظر البقرة مفاجئاً في ذلك الشارع المتراصة على جانبيه بيوت حديثة.  كان أحد الأشخاص قد اشتراها وتركها هنا ريثما ينقلها إلى مكان آخر وربما هو صاحب الدار نفسه. كان الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والسادسة يمدون قاماتهم بصعوبة ويطلون من فتحات السياج، ثم كأنهم قد انتهوا من مناقشة طويلة واتخذوا قراراً، ابتعدوا، ثم عادوا مسرعين وقذفوا البقرة بالحجارة وأخفوا رؤوسهم.  سأل أحدهم "هل رقعت رأسها ؟" رد آخر "اسكت، لقد تحركت" كان الشارع خالياً تقريباً، استمر الأطفال يقذفون البقرة بالحجارة ويخفون رؤوسهم هلعين، كانوا يعتقدون أن البقرة سترفع رأسها وتراهم. بل كانوا يكتمون ضحكاتهم إذ يتصورون أن البقرة سترفع قوائمها وتعلو وتعلو، ثم تطل عليهم برأسها من فوق سياج السطح. عندما صعدت فتاة وهي طالبة جامعية إلى السطح لتأخذ كتاباً من غرفتها ورأت الأطفال قالت: "لا يجوز لكم، إنها طيبة". ثم سكت قليلاً وقالت وهي تداعب أحدهم من ذقنه:  "و تعطيكم الحليب" قال طفل (ماذا نفعل لها) قالت الفتاة (قدموا لها طعاماً) بعد برهة، صعد الأطفال إلى السطح وقد حملوا من حديقة الدار باقات من الحشائش بعضها كان مزدهراً.  أخذ الأطفال يساقطون الحشائش على البقرة، كانت وجوههم تطل ضاحكة وهم يرقبون البقرة تمد رأسها حيث تسقط الحشائش وتتناولها بنهم، كان الأطفال يجوبون حديقة البيت المغمورة بأشعة الغروب يحملون حشائش صغيرة وأزهاراً يساقطونها من السطح على البقرة وهم مازالوا يأملون أن ترفع رأسها وتراهم.

 

 

هنا تباع أسماك الخليج العربي

توقفت الصبية التي لم تتجاوز العاشرة مترددة عند باب المحل الكبير ثم اندفعت مسرعة إلى الداخل. مدت يدها بقطعة نقدية إلى الشاب الواقف وراء حاجز عريض عليه كومة من السمك البحري تتخللها رقائق الثلج. تناول الشاب القطعة النقدية ونظر إلى الصبية متسائلاً.  كانت الصبية خرساء. وضعت أصبعها على السمك وهزت رأسها. أعاد عامل المحل القطعة النقدية وأشار بيده إلى الرجل الجالس وراء المنضدة في مقدمة المحل.  تراجعت الصبية مذعورة واتجهت إلى الرجل.  تحرك الرجل في مقعده وقد فهم مرادها إذ كان يرقبها وهي تدخل المحل. ولما اقتربت منه قطب وحرك يده باتجاه الباب.  تجاهلت الصبية حركته ومالت عنه قليلاً ثم تقدمت ووضعت القطعة النقدية عند حافة المنضدة ووقفت تنتظر. هب الرجل واقفاً وألقى القطعة النقدية باتجاه الباب وأمسك بالصبية ودفعها أمامه بعنف وقد ارتعدت فرائصه.  دخل المحل رجل ضخم أنيق فتحول إليه متصنعاً الهدوء. أخذ الرجل يقلب نظره في المحل. توقف على مبعده من الأسماك وألقى عليها نظرة. قال موجهاً كلامه لصاحب المحل الذي كان يتبعه.

إنها ثقيلة الهضم.

كانت لهجته تخالطها لكنة غريبة.  أشار له صاحب المحل وهو يبتسم إلى العلب المنسقة بأشكال هندسية في صدر المحل.  أومأ الرجل برأسه. فأسرع العامل وأنزل مجموعة منها. كانت بأحجام مختلفة مرسومة على أغلفتها أشكال من السمك بألوان زاهية. نضدها العامل في كيس وأخرج الرجل حافظة نقوده ودفع حسابه وقد كان مرحاً.  كانت الصبية ما تزال عند الباب تعبث بالقطعة النقدية في لافتة ملقاة على الأرض تحمل عبارة (هنا تباع أسماك الخليج العربي) كانت ممسكة بالقطعة النقدية تحك بها اللافتة، كأنها تحاول محو حروف، أو خط حروف أخرى. كانت مستغرقة كأنها تمارس لعبة على كومة من الرمل على شاطئ. حين أحست بقدم الرجل تصطدم بمؤخرتها رفعت رأسها بذعر. لم يعر الرجل انتباهاً لزمجرتها. دخل سيارته مسرعاً وأشار للعامل أن يضع الكيس بجانبه وهو يدير المفتاح. توقفت الصبية وبحركة كأنها جزء من لعبتها قذفت القطعة النقدية إلى السيارة.  سمع الرجل صوت ارتطامها بزجاجة السيارة، خفض رأسه ورمق الصبية بنظرة سريعة ثم واصل سيره بسرعة أكبر وانعطف في شارع جانبي ودخل محطة البنزين.

 

 

قطة تحت المائدة

كان الرجل الذي يمتلك محلاً للبيع بالجملة يتناول طعامه في المقهى الصغيرة القريبة من المنطقة التجارية. ثمة قطة قريباً من المائدة الخشبية تنظر إليه وتموء. كان لغداً الرجل يتهدلان كزوائد لحمية وهو يسرع في الأكل. وفم القطة إذ تموء ينفتح مثل زهرة حمراء تصفعها نسمة قوية. كان صوتها واهناً ولكنه مديد وواضح.  ألتفت الرجل إلى عامل المقهى وقال:

هل القطة تسكن هنا ؟  قال العامل:  إنها تتردد منذ فترة طويلة.  ماذا تعني بذلك ؟ أخرجها من المقهى.  لا يفيد، تعود مرة أخرى.  قلت لك أبعدها ريثما أنهي طعامي.

لم يكترث العامل بصياح الرجل. وانهمك يملأ أقداح الشاي المجمعة في يده.  نهض الرجل وهو يضغط بأسنانه على قطع اللحم ويؤشر خارج المقهى.

اقذفها بعيداً.. ألا تفهم ؟

قال وهو يجلس

لستم أحسن منها على أي حال

غابت ابتسامة عامل المقهى وراء البخار المتصاعد من الماء الساخن وهز رأسه.  ثمة رجل أمامه على المائدة حقيبة سوداء مال إلى صاحبه وقال:

الرجل محق. تصور أنك تأكل وتحت مائدتك قطة تموء. حالة رهيبة.

كان العامل يضع قدح الشاي على مائدة رجل عجوز عندما تسللت القطة وخرجت بهدوء (في الواقع كان ذيلها مضطرباً كأنها تتوقع ضربة على الظهر). سارت قليلاً ثم انعطفت إلى الشارع الضيق المفضي إلى المنطقة التجارية. كانت سيارة محملة بأوان بلاستيكية تسير بصعوبة في الأرض الموحلة. مرت القطة من الفسحة الضيقة بينها والجدار المحاذي للطريق. وبدأ وكأنها قد اختفت تحت العجلات. عندما عبرت السيارة كانت القطة تعدو باتجاه المقهى.  انتهى الرجل من طعامه تواً ووقف إلى المغسلة ومد يده إلى الحنفية. عندما رأى القطة تدخل سحب يده ودسها في جيبه وخرج مسرعاً.

 

 

بطاقة يا نصيب

ألقى الطفل نظرة إلى الجهة المقابلة من الجسر ثم أخذ يعدو باتجاه النفق.  كان ثمة رجل قصير محني الرأس عاقداً يديه خلفه يسير متمهلاً وقد غمرته الأشعة الأولى من شمس الصباح.  عندما وصل الطفل درج النفق ضم الخشبة التي ثبت عليها أوراق اليانصيب إلى صدره وأطل برأسه من فوق سياج الحديد. نظر إلى الرجل. وحين لمحه يستدير إلى الشارع المقابل أومأ برأسه ونزل مسرعاُ. تعلق طرف ثوبه بحذائه الكبير وترنح وكاد يسقط لكنه تماسك وانحدر ساحباً خلفه موجة من الغبار. ظهر رأس الطفل من نهاية الدرج الثاني للنفق وتحرك صاعداً هابطاً كما لو كان الطفل يكافح للخروج من حفرة في باطن الأرض (و ربما كان طرف ثوبه قد تعلق بحذائه مرة أخرى).  ثم انطلق راكضاً باتجاه الرجل. كان الطفل يلهث وقد ازداد وجهه سمرة وعيناه لمعاناً وفي اللحظة التي استل بها بطاقة من الرزم المثبتة على الخشبة التفت إليه الرجل وحرك فمه كأنه يتلمظ. سار الطفل على بعد خطوات منه وصاح كأنه يداعب طفلاً من وراء باب:

بطاقة واحدة.

التفت إليه الرجل وحدجه بنظرة قاسية ثم عاد يسير عاقداً يديه خلفه وقد ازدادت انحناءة رقبته وتهدلت كتفاه. أصبح الطفل إلى جواره ومد يده بالبطاقة.

جرب هذه المرة.

التفت إليه الرجل وهو مازال محني الرأس. ورمقه بطرف عينيه. ثم بصق عليه. رفع الطفل ثوبه ومسح وجهه ثم ركض بمحاذاته من الجانب الثاني.  توقف الرجل. ثم ببطء كأنه يحل يديه من وثاق. ضرب كتف الطفل. أعاد يديه خلفه وسار منحني الرأس. وضحك الطفل وركض أمام الرجل ووقف أمامه. مد يده بالبطاقة وتعلقت عيناه بوجه الرجل الذي ازداد تقطيباً. هز الرجل رأسه متأففاً. ثم أمسك بشعر الطفل وحدق في عينيه. وبشدة دعك أذنه ودفعه جانباً وسار بتثاقل. توقف الطفل وتنهد وابتسم وظل يبتسم. مشى بمحاذاة الرجل وفي هذه المرة مد يده بخفة. وتوقف منتظراً وقد ركز بصره على يد الرجل وهي تنحل بهدوء لتمتد إلى جيب بنطلونه العريض وتخرج ربع دينار. وضع الرجل الورقة بيد الطفل وتناول البطاقة، ثم أمسك بشعر الطفل ونظر إلى وجهه وقد تهللت ملامحه وكان رأسه يزداد انحناءاً كأنه يهم بتقبيله. ثم بحركة واهنة ترك الطفل واتجه إلى باب مبنى كبير وأخرج من جيبه رزمة من المفاتيح.  نظر إليه رجلان كانا واقفين على باب المبنى المقابل وتغامزا.  قال أحدهما:

هل سيربح الجائزة الأولى مرة ثانية ؟

قال الآخر:

كيف لا يربح وهو كل يوم يشتري بطاقة من هذا الشيطان ؟

 

 

افتتــــاح

حتى الثامنة والنصف صباحاً والمخزن الصغير الملحق بالمخازن الكبيرة المؤممة مازال مقفلاً. أشخاص كثيرون وقفوا على امتداد الرصيف حتى الباب الرئيسي. بعض النسوة جلسن على الحافات الكونكريتية لواجهات عرض النماذج.  عندما رفع الباب الحديدي للمخزن الصغير تزاحم الواقفون في فسحته الضيقة. لكنهم فوجئوا أن المحل مازال موصداً بباب زجاجي. كان البائع وسط المخزن الصغير منهمكاً بفتح صناديق الكارتون ولم يبد عليه أنه قد ألقى حتى ولو نظرة واحدة على الناس المتجمعين. سحب صندوقاً كبيراً أخرج منه صناديق من السجائر الأجنبية وأخذ يزيح عنها السلوفين بهدوء  ويخرج منها العلب ويضعها في رفوف خشبيه مربعة الجوانب، قريباً من الواجهة.  كان يضع علبة فوق علبتين، ثم يبتعد قليلاً ويميل برقبته وينظر إليها. يعود ويصف العلب الأخرى بشكل مختلف. بعض الواقفين تشاغل عنه ممتعضاً. والبعض الآخر استغرقوا ينظرون إليه مستمتعين، أفرغ البائع ثلاثة صناديق كبيرة من السجائر المختلفة، أبعدها عنه بحركة من قدمه، اتجهت الأنظار من جديد إلى البوابة الصغيرة التي تتوسط الواجهة، لكن البائع تناول من زاوية بجانب الواجهة صناديق أخرى. كوم ما فيها من فرش الأسنان على الحافة العريضة للواجهة. ثم أقعى على الأرض واختفى رأسه وراء الصندوق التحتاني للواجهة كانت يده ترتفع فوق رأسه وتحمل قبضة من فرش الأسنان وتهبط بها لتناولها، كانت يداه تتحركان، كأنهما تضربان على أوتار.  تساءل أحد الحاضرين:

ماذا يفعل هذا ؟

و أخذ يدق بأطراف أصابعه على الزجاج.  لم يكترث البائع. أخرج علبة معاجين الأسنان وصفها على شكل مكعبات على جانب من الواجهة. ثم رتب على الجانب الآخر قناني صبغ الأحذية، وتناول الكارتات التي تحمل الأسعار ووزعها على الرفوف.  وقف مائلاً قليلاً إلى الوراء. وأشعل سيجارة وأخذ ينظر من خلال دخانها إلى البضاعة.  تزايد عدد الواقفين وتزايد عدد الذين دقوا على الزجاج ولوحوا بأيديهم، بينما لم يلق البائع نظرة إليهم.  قال أحد الواقفين:

لم يحن وقت افتتاح المحل.

عندما انبعث صوت امرأة عجوز بصيحة مكتومة. كان الباب الرئيسي يفتح وكان البائع في المخزن الصغير يقوم بهدوء ويفتح البوابة الصغيرة في الواجهة الزجاجية ويسحب كرسياً ويجلس عليه، وامتدت الأيدي إليه بالنقود، كان البائع يتناول البضاعة بسرعة وهومازال يحاول أن يبقى على تشكيلاتها، عندما خف الزحام كانت البضاعة المعروضة توشك على النفاد، تقدم رجل كهل واقفاً على مقربة كأنه ينتظر شيئاً.  أحنى رأسه بموازاة البائع وقال وهو مقطب الوجه:

لماذا أتعبت نفسك في تنسيق البضاعة ما دامت ستباع في لحظة واحدة ؟

رد البائع وهو يسلم علبة سجائر للفتاة:

أليس ذلك جميلاً ؟

هم الرجل أن يقول شيئاً لكنه توقف عندما اقترب شاب في عينيه بريق ضاحك وظهر من استقبال البائع له أنه زبون دائم. قال الشاب وهو يضع قطع النقود أمام البائع.

أسنان بيضاء. حذاء أسود

ظل الرجل الكهل مبهوتاً ينقل بصره بينهما ولبرهة أيقن أنه لن يستطيع أن يفهم شيئاً. تناول البائع علبة معجون أسنان، وقنينة صبغ أحذية وسلمها للشاب وهو يبتسم.  وضع الرجل الكهل يده على رقبته وسار واجماً. 

 

الطـيـــر

اضطجعت الفتاة القبيحة على سريرها في الغرفة العلوية عندما أطبقت جفونها رأت ثمة طيراً يقترب منها رويداً رويداً.  كان الطير مرقطاً بالبني والأزرق.  همت بمد يدها. فلم تطاوعها. كانت ثقيلة وشيئاً كالمغناطيس يسمرها إلى صدرها.  ظل الطير يقترب، والفتاة ترتجف خائفة، لكنها كانت مرتاحة جداً لتقرب الطير.  تلكأ الطير. وابتسمت الفتاة بتوسل، تراجع الطير، وأحست الفتاة أنه يريد إثارتها وسيقترب منها لا محالة.  و ببطء شديد وكأن لا حركة هناك لامس الطير جسد الفتاة، واستكان بين نهديها، وهدأ كأنه يحط في عشه تماماً.  رأت الفتاة بركة ماء صافية يمرح فيها الطير، وينفض ريشه فتتحول إلى شرائط دقيقة. وأفاع ولحاء شجر.  بينما ينعكس وجهها على صفحة البركة جميلاً رائقاً تهفهف الريح شعرها عليه، فجأة انقض رعد، وانطلق الطير.  رأت الفتاة بما يشبه الواقع طفلاً ينهض من البركة، ويركل كرة خلف الطير ويتسلق سياج الحديقة.  خفت الرعد ولكنه مازال مستمراً.  أصاخت الفتاة ملياً. سمعت طرقاً على الباب. نهضت مرتبكة. فطالعها وجهها في المرآة.  و لدهشتها رأت التجاعيد والسواد حول عينيها توشك أن تختفي وتتحول إلى حمرة رائقة.  كانت أمها على الباب. قالت لها وقد تهلل وجهها:

تكلمت معه. نعم، وقد وعد خيراً.

هزت الفتاة رأسها ولم تتفوه، وتمنت أن تعود إلى الفراش فوراً. لكنها شعرت بخوف مبهم، طفقت تنظر من الشباك، في الشارع كان ثمة شاب يتناول جريدة من بائع صغير.  عادت والدتها وبيدها قفص حديد، قالت:

انظري اشتريته من المزاد هذا اليوم.

و كانت الفتاة ترطب شفتيها وتسرح بنظراتها.  رأت الشاب يقرأ الجريدة.  قالت أمها وهي تحكم اغلاق القفص.

نعم لقد وعد خيراً. أنا متأكدة أنه سيجد لك الزوج المناسب.

لم تجبها الفتاة. كانت تنظر إلى الشاب الذي كان يقرأ ويبتسم لوحده. وكل ما رغبت به أن تخرج أمها من الغرفة وتعود هي إلى الفراش.

 

 

انظروا: الطفل قادم إلى البرج

دخل معرض رسومات الأطفال الذي أقامته جريدة يومية.  رأى طرقاً ضيقة مفروشة بالأيس كريم. يتزحلق عليها أطفال غاضبون.. وثمة لافتة صغيرة "هكذا يذهب الأطفال مدارسهم أيام الشتاء في المناطق الشعبية". كانت طفولتي مختبئة خلف عام 1946 كانت تبحث عن منفذ لتخرج. وأطلت من شباك ضيق وسخ. كان كل من هناك يتعذب ويحاول أن يفعل شيئاً فيزداد عذاباً.. وصاحت الأم. وأمسكت بي وانتزعت قطعة الطباشير من يدي وقاست جسمي أشباراً، وأشارت إلى الزقاق المملوء بالذباب وقالت: يمكنك الآن أن تحمل الأثقال.  و قالوا لي عندما سلموني المهمات: لقد تفضلنا عليك بذلك فما زلت صغيراً، عليك أن تدور بالأثقال حول المدينة وبأسرع من عقرب الساعة.. ونسيت قطعة الطباشير إذ اشتغلت حمالاً. وكف رأسي عن صنع الأحلام. ما حاجتي لها ؟ فعلاً ما حاجة امرأة مات رضيعها للحليب في ثدييها ؟. في المنظر الماثل أمامي الآن برج معدني، فوقه شيف من الرقي.. كيف وصل شيف الرقي إلى قمة هذا البرج الهائل ؟ وكيف رأيت أنا شيف الرقي من تحت البرج ؟  ثمة مطعم مكون من أربعة غيوم. وقد جلست إلى المائدة الوحيدة فيه فتاة مدورة الوجه ترتدي فستاناً مصنوعاً من سجادة كاملة. وفي الأفق بيوت ومدرعات وحدائق تتطاير في الهواء وتحاول التحكم في طيرانها.  قلت لها: إن أقسى الآلام ما نتجرعه في الطفولة، إن جراحها تبقى مفتوحة تهدد باخراج ما فيها من صديد وحشرات في أية لحظة، بل أنها لتغدو أكثر استعداداً للانقضاض في لحظات السعادة.  مناضلون حقيقيون أولئك الذين تغلبوا على آلام طفولتهم.. قالت: اسكت ! لقد قرروا اعدامك هذه الليلة رمياً بالرصاص.  كنت في التاسعة وكان ذلك عام1950... وعندما أكملت الطائرة الانكليزية دورتها الثانية فوق المدينة كان التجار يخفون آخر كيلو من الحنطة.  كانت قافلة من البشر تعبر على مسئولية الأطفال جانباً من البحر فوق جسر طويل مصنوع من عيدان الثقاب وثمة فيلة على الشاطئ تلاعب بخراطيمها فقاعات وطيوراً، وعلى جبل قريب عامل يحمل فوق ظهره نصف جبل ومطالب بتسلق ثلاثة جبال أخرى.  قالت امرأة حبلى وهي تشبك يد زوجها وتقف به أمام لوحة في المعرض: انظر. السيارة متجهة إلى الأمام وقماشة العلم المرفوع فوقها متجهة إلى الأمام أيضاً.. تصور يا عزيزي وضحكا... في فستان الفتاة بحيرة يمرح فيها البط وعلى مقربة قطار له وجه فراشة. يجر خلفه قنفة ونخلة وصهريجاً كبيراً وثلاثة معلمين. بينما اتجه من الحقل القريب فرخ دجاجة ووقف بانتباه شديد بمحاذاة السكة. طفل بقميص مقلم يجلس تحت شجرة يقرأ بجدية ويحاول بعصبية عدم الاكتراث للقطار.. وإلى اليمين لوري محمل بالركاب والأمتعة يسير بلا سائق في طريق زراعي مترب.  قال رجل لصاحبه وهو يشير إلى لوحة.

كان الرجل يستحي من كونه عاملاً.. انظر، كيف يفتخر الأطفال اليوم بآبائهم.

كان الطفل يقبل بأقصى سرعة وجمهرة من الأطفال تركض خلفه. اصطفوا تحت البرج الهائل الذي فوقه شيف الرقي.. فتحوا لافتتهم "فرحة الأطفال بالجبهة والتأميم" وطفقوا ينشدون. تقاطرت عليهم بمرح ولهفة الفتاة الوحيدة في المطعم، والفتى الذي كان مكلفاً بحمل الأثقال. فيما ابتسم العامل من فوق الجبل وترجل المعلمون من القطار، والبيوت المتطايرة في الهواء أخذت تحط تدريجياً. وقد ظهرت على حبال الغسيل في حدائقها ملابس نظيفة من أزياء مختلفة. أحلام أم أحزان ؟ كان السياج الطويل حولها يمتد ويمتد وقد وقف على كل بوابة رجال ملثمون غامضون.  وقف عند باب المعرض وقد سرح بنظره بعيداً وقد انتابته الهواجس.  كان المعرض مقاماً في قاعة كبيرة تقع في طابع علوي لعمارة تطل على النهر، وانتبه لصوت إحدى الفتيات المشرفات على المعرض وهي تقول له: ليس هذا فقط. أنهم يرسمون أمام الزوار، واقتادته إلى الباحة المكشوفة أمام القاعة.. كان عدد من الأطفال بأيديهم أقلام ملونة يرسمون على ورق أبيض سميك. ووقف قريباً منهم مبتسماً وقد ترقرقت عيناه. ربما الآن في هذه اللحظة. في أقصى المدينة يضرب الألم قلب أم وهي تنتزع قطعة الطباشير من يد طفلها وتسلمه للعاصفة أنه يستطيع الآن أن يسمع وقع خطاه وهو يدور حول المدينة حاملاً الأثقال. إنه الآن يستطيع ان يسمع صوت كل قطرة من النهر القريب وهي تلتحم بالأخرى وتسير في المجرى الطويل.

 

 

إنتـظـــار

سحب الرجل نفسه من بين الناس المتجمعين واتكأ على العمود الذي يحمل القطعة الحمراء المسجلة عليها أرقام الباصات. كان شاحب الوجه وتجعيدة طويلة تمتد على جبهته. تناول من تحت ابطه جريدة فتحها وأخذ يقرأ. وحين ارتخت يداه طواها على شكل مربع وقربها من عينيه. كان وجهه صارماً وهو يتابع السطور بعينين مضمومتي الجفون وبشفتين تتحركان وتكادان تصدران همساً. توقف قربه باص ذو طابقين. مال بجسمه وحدج واجهته. ثم عاد ينظر في جريدته. تحرك الباص وأرسل موجة من الدخان تصاعدت إلى وجهه، زم شفتيه وهو ما يزال يقرأ.  اقترب من نافذة باص توقف مسرعاً. وسأل راكباً عن الرقم. ثم فتح جريدته وأخذ يقرأ، اعتدل في وقفته قليلاً. واتكأ على العمود. كانت بدلته بنية حائلة اللون متهدلة عند الكتفين وربطة عنقه سوداء مبقعة.  قطرات خفيفة من المطر بدأت تتساقط وغيوم سود في الأفق وعندما هبت موجات الهواء تصاعدت معها الأوراق المتناثرة أمام الدكاكين والبيوت. والتوت ربطة عنق الرجل حول رقبته تماماً بجانب أثر جرح غائر أسفل الحنجرة.  أخذ الرجل ينقل بصره بين الجريدة والباصات المقبلة، اشتد تساقط المطر. لكن قطرات خفيفة كانت تصل إلى وجهه إذ كان موقف الباص مظللاً بالحافة العريضة لبناية دائرة الضمان الاجتماعي. انسحب بعض الواقفين وأشروا لسيارات الأجرة.  ازداد وجه الرجل اصفراراً. وازدادت تجاعيد وجهه حدة. وأخذت الشعرات البيض المحيطة بصلعته تخفق كجناح طير يحاول عبثاً الوقوف على غصن يتحرك.  سار الرجل خطوات قليلة محدقاً بالسيارات المقبلة. ثم نظر في ساعته واستدار إلى العمود وأشعل سيجارة. توقفت زخات المطر.  اتكأ إلى العمود وفتح الجريدة واستغرق في القراءة.  سقطت السيجارة من يده.  صعد نظره إلى أعلى وشهق وهو يضع يده على صدره ويده الأخرى ما تزال ممسكة بالجريدة.  شخص ببصره إلى نهاية الشارع "كأنه يتفحص الباصات القادمة" ثم حل بياض جامد في عينيه تصاعد كالقيح من جسده ثم هوى على أسفلت الشارع مستلقياً على ظهره.  هب شاب كان يقف قريباً منه وأمسك بكتفيه محاولاً انهاضه. نظر في وجهه المصفر وأسند رأسه إلى ركبتيه وأخذ يفتح أزرار قميصه. أمسك برسغه برهة. ثم عاد وركن رأسه بهدوء على الأسفلت قرب حفرة صغيرة مملوءة بالماء.

لقد مات.

"قالها الشاب مع نفسه" انطلقت فتاة ترتدي ثوباً أسود قصيراً وحاذت الجسد المسجي وألقت نفسها في سيارة يقودها شاب. انطلقت السيارة وأرسلت سحابة من الدخان فوق وجه الرجل الميت.  سحب الشاب الجريدة من تحت الرجل الميت وفرشها عليه. كانت دائرة الواقفين تتسع حول الرجل الميت. باصات عديدة. توقفت قليلاً ثم استدارت حولهم.  كانت قدما الرجل الميت مستقرة على حافة الرصيف. أعلى من الرأس المنحدر مع منخفض الشارع.  كان من الممكن رؤية الثقوب الكبيرة في أسفل حذائه. كان جوربه جديداً. والقيطان القرمزي المحلول من حذائه يمتد فوق حافة الجريدة مثل خيط من الدم.

 

 

إكتــشــــاف

كان "راجي" منهمكاً يلبي طلب المدير لإعداد القهوة لضيوفه، عندما مر به ثلاثة رجال وفتاة يرتدون الصداري البيضاء. وبأيديهم حقائب معدينة وقنان ودخلوا غرفة الاجتماعات. رأى بعد ذلك سكرتير المدير يطلب أحدهم، ويبلغه أن عليهم إجراء فحص دم السيد المدير قبل أن يقوموا بفحص دم أي شخص آخر. لأن المدير سيدخل بعد قليل إجتماعاً مطولاً.  عرف "راجي" عندئذ أن هؤلاء الأشخاص فرقة صحية. جاءت لكشف أصناف دماء العاملين في الدائرة، لم يعرها اهتماماً. فقد كان متوتراً دائماً، فهو لا يدري متى يدق جرس المدير، وعليه أن يسرع لتلبية طلبه ولا يتأخر ثانية واحدة، وإلا تعرض لشتائمه وربما أوقع به عقوبة كما حدث له أكثر من مرة.  كان راجي يرى مكتب المدير عالياً كأنه جبل. ورغم أن المدير كان ضئيل الجسم إلا أنه كان يغدو وراء المكتب ضخماً جداً.  كان يرى كيف يقف بعض الموظفين أمامه خائفين مرتجفين، وهو ينهال عليهم بكلماته، ثم يصرفهم بإشارة من يديه، ظل "راجي" يجلس عند باب المدير متحفزاً يرقب المتقدمين للفحص، وهم يجيئون ويذهبون.  أشار أحد الفراشين إلى "راجي" أن يقف معهم في الصف، ليفحص دمه فقد أوشكت الفرقة أن تنتهي من عملها. بعد أن فحصت المدير والموظفين والفراشين.  كان راجي آخر من يقف أمام الفرقة، دخل إليهم مسرعاً كأنه يقوم بذلك خلسة. لم يحس بوخزة الشفرة بإصبعه. ولم يلتفت للدم الذي إنبثق منه.  كانت أذنه مشدودة إلى جرس المدير.  ذهبت الفرقة وكاد ينساها لولا كلمة السكرتير:

أتعرف يا راجي إننا نحن الثلاثة السيد المدير، وأنا وأنت من فصيلة دم واحدة.

ابتسم راجي رغم إحساسه أنه لم يفهم كل شيء.  عاد واستفهم متلهفاً، أوضح له السكرتير ما قاله وقطع كلامه عندما اشتعل الضوء الأحمر أمامه فهب إلى غرفة المدير.  أحس راجي أن سراً قد انكشف له. إن دمه يشبه دم المدير. هذا ما اثبته الفحص الطبي. ودَّ لو يخبر الجميع بذلك. كلما اقترب من شخص في الدائرة ليقول له ذلك. يتوجس فجأة ويصمت. في الليل عندما تمدد راجي إلى جانب زوجته منهكاً، اقترب منها. وكأنه يهم بتقبيلها أو الافضاء إليها بسر، قال لها: "أتعلمين ؟" ثم أخذ ينظر إليها كأنه يستمتع بنظرتها المتلهفة قال: أتعلمين أن دمي مثل دم السيد المدير!

 

 

جـاذبـيــــة !

لم يستوقف الكرسي بصره عندما رآه قرب باب محل كبير. لكنه ما أن سار خطوات حتى توقف وقد خطر له: أنه لم يرَ كرسياً كهذا. فهو رغم ضخامته وتزويقاته فيه جاذبية ناعمة. قوائمه الصاج على هيئة ثعالب وأسود كأنها ضربت على رأسها كثيراً حتى استكانت وارتضت أن تحمل هذا المقعد ومن سيجلس عليه.  فكر أن يجلس على هذا الكرسي هنيهة، هنيهة واحدة فقط يسند رأسه ويسترخي، وإذا أمكن أن يذهب لنصف دقيقة في حلم بعيد. حلم فيه نكهة الغصنين المحفورين في أعلى الكرسي كأنهما يحملان طيوراً ضامئة وزهوراً لم تجف بعد. دار حوله وصار بمواجهة محل النجارة، العمال منهمكون بدق المسامير والتلميع، ورجل ضخم جالس خلف المنضدة في صدر المحل ومنشعل بتقليب أوراق، هم أن يجلس لكنه تلكأ، فكر أن هذا الكرسي حتى إذا كان معروضاً للبيع فمن غير المعقول أن يكون هو المشتري، وهؤلاء الباعة يعرفون زبائنهم، إنما رغبته في أن يجلس هنيهة أو في الأقل يجلس وينهض فوراً أخذت تلح عليه خاصة عندما لاحظ أن صاحب المحل منشغل، ما أن أحس بجسده يلامس البطانة التي لم تذكره نعومتها سوى بأوحال الشواطئ الضحلة حتى سمع صوتاً حاداً من داخل المحل، والرجل الضخم ينهض باتجاهه.  هب منتفضاً عن الكرسي، صدمت عينيه ومضة ضوء شديدة خاطفة. إذ التقط له مصور متجول يبحث عن الطرائف صورة، إذ وجدها مفارقة مضحكة، حقاً أن يجلس شاب متهدل الثياب شارد النظرات على كرسي من الواضح أنه صنع لرجل كبير.

 

 

عتــمة

منذ أكثر من ثلاث ساعات والرجل يشرب البيرة، يستطيع أن يرى عبر الواجهة الزجاجية المطلة على الشارع الطويل تمثالاً، صف شجيرات، مسجداً بقبة عالية، سابلة مسرعين،.. أشياء كثيرة غارقة بعتمة كأنها غلاف، منحها فجأة هيبة الأشياء المغلقة. ينقل بصره بين الشارع وموائد البار، ويأخذه الذهول. في هذه الأمسية الشتائية الباردة لاحت له النجوم قريبة مرتجفة.  جذب بصره ما يراه الآن أمام البار في الزاوية التي تلتقي بها الواجهة الزجاجية بالجدار. كتلة صغيرة معتمة تتحرك. رأى أن هذا الشيء قطة منزوية يتحرك ذيلها ملامساً زجاج الواجهة.. كجديلة طفلة. رشف كاسه وتلمظ، أحس بتزايد خدره وثقل أجفانه، مال إليه رجل بفمه سيجارة وطلب منه علبة كبريت، أشعل له سيجارته ودعاه للجلوس، شكره الرجل وعاد إلى مائدته وجلس وحيداً.  التقت نظراته بهذا الشيء المستكين في الزاوية. قطة بذيل يشبه جديلة طفلة، رأى رجلاً ينحني إليها هنيهة ويواصل سيره. جرع كأسه دفعة واحدة وأحس بأعضائه كأنها تتباعد وتختفي.  تعالى ضجيج من الموائد المجاورة، أطفأ سيجارته ونظر إلى المقعد الخالي أمامه. خطر له أن يجلب القطة إلى جانبه، لابد أنها قد تجمدت من البرد. سيناغيها، ويطعمها، وماذا في ذلك ؟ أنها ليست نشوة سكر.. اتجه إلى الباب، لابد أنها ستستسلم ليده الدافئة.  فتح الباب واستدار ومد يده كمن يريد أن يمسك شيئاً متحركاً. تراجع مبهوتاً، عندما انتفضت الطفلة مذعورة من حركته التي لم تعتدها عندما ينحني عليها بعضهم، ويعطونها النقود. كانت الطفلة ضئيلة الجسم، وبوجه جميل متسخ، وعينين ناعمتين وبشعر أصفر معقوف من الخلف كذيل قطة. عندما رأت الرجل واقفاً وقد كف عن حركته، اطمأنت ومدت إليه يداً مرتجفة فيها قليل من النقود. ظل الرجل واقفاً يحملق فيها ويتلمس جبهته كأن رأسه قد اصطدم بشيء صلب.

 

 

كيـكة العــرس

في سيارة البيك آب انتصبت كيكة العرس الضخمة. صاعدة طبقاتها الكثيرة بشموخ. كأن تلك العوائل الغنية أو المتشبهة بالغنى إذ توصي عليها لأعراسها أو مناسباتها الكثيرة. تريد أن تتخذها ولجميع أفرادها سلماً إلى السماء أو ما هو أعلى في المرتبة الاجتماعية.  وقف رجل زري الهيئة إلى جانبها يسندها. كان يبدو إلى جانبها شيئاً عابراً لابد من زواله بأسرع وقت أو كعود يابس وضع على مضض لإسناد شجرة مزهرة. عبرت السيارة شارعين مزدحمين داخل بغداد. ثم انعطفت إلى طريق خارجي. لكنهم وجدوا الطريق مغلقاً فانعطفوا إلى شارع ترابي يمر عبر حي شعبي، يفضي إلى الضاحية الحديثة المقصودة.  في الطريق الترابي وقريباً من البيوت الطينية توقفت السيارة. ترك الرجل الكيكة وانهمك مع السائق في اصلاح العطب. هنيهة، ثم كأن أجراساً خفية قرعت فأخرجت من البيوت الطينية الآسنة أطفالاً وجوههم بلون حائل كقشرة الأرض. تحلقوا حول الكيكة، ظهرت لهم لضخامتها وألوانها وروائحها كبرج ينبغي تسلقه والتزحلق عليه.  لا يعرف أية يد منهم امتدت أولاً. بل لا يعرف أن كانت يد امتدت أم أفواه بأسنان طويلة وأخذت تنهش كيك الأعراس لأول مرة. عندما تنبه الرجلان كانت الكيكة قد تهاوت ووجوه الأطفال قد تلطخت كأنها ارتدت أقنعتها المنشودة بالأحلام. بل كانوا يبدون كأولئك الأطفال في اللوحات القديمة إذ يحلقون بأجنحتهم الناعمة في حفلات الأعراس أو مآتم الموتى.

 

 

المـرآة

قرب باب محل بيع الموبيلات وقفت فتاة إلى جانب خطيبها ترقب الحمالين وهم ينزلون دولاباً كبيراً. كانت تزم شفتيها وتذهل وهي ترى وجوه الحمالين تحتقن ورقابهم تنتفخ وتبرز عروقها إذ تنؤ بالحمل. ثم لا تلبث أن تخفق جفونها كفراشات تتطاير وهي ترنو إلى قطع الأثاث الأنيقة التي ستنتقل إلى بيتها الجديد. كانت تبدو متهللة وعلى وشك أن تقول شيئاً. وإذ تتجه نظراتها الحانية إلى خطيبها تجده منهمكاً في حديث مع البائع. كانت تبدو كأن نظراتها تصطدم النظرة تلو الأخرى بوجهه الممتلئ المشوب بنظرة قاسية.  و تشاغلت بتفحص الدولاب ذي المرآة الكبيرة الموضوع عند الرصيف، لفت نظرها خشبة الثقل المصقول. وأشكال الزخرفة الدقيقة عند حواشيه، تأملت وجهها وصدرها وزينتها. كانت جميلة ومتألقة وأحست أن فرحها يزداد في كل لحظة.  ثم كأنها تدخل باباً ينفتح أمامها ويد تسحبها من الداخل راحت تنظر في المرآة العريضة للدولاب. كانت المرآة تعكس جزءاً كبيراً من الشارع العريض. وجانباً من الرصيف المحاذي لصف من العمارات الواطئة.  الشارع والرصيف يعج بحركة دائبة. بدا الشارع للفتاة مشعاً ومتوهجاً في المرآة. وبدا ضوء الشمس لا يكفي لهذه الاضاءة، فقط داخل المرآة كان الشارع يفعم بضوء ساطع وكان الضوء يغمر كل شيء. ويبدو كل شيء هادئاً وطبيعياً وصحيحاً.  كان الضوء يغمر كل شيء. وكل شيء لوحده مضيئاً داخل المرآة. بائع متجول يدفع عربته وتظهر عجيزته في المرآة، باص مزدحم يسير بصعوبة وقد تعلق ببابه شاب يحمل كتباً. سيارات صغيرة وباصات مسرعة، سيارات فارغة وسيارات ممتلئة شرطة مرور، وسابلة يعبرون وكأن أحداً يدفعهم دفعاً. ورجال ونساء ينتظرون في موقف الباص. وموقفاً لتاكسي. كل شيء كان يغمره الضوء، ويضيء لوحده.  و طاب للفتاة أن تنظر إلى الشارع ثم تعود لتنظر إليه في المرآة.. وفي كل نظرة تحدق بشيء جديد. ولدهشتها رأت الأشجار البعيدة القائمة في وسط الشارع تقترب وتبتعد كأنها بشر بثياب ملونة.  و خطر لها كم من المرات عبرت هذا الشارع وهي تحلم بهذا الشيء الذي صارت تعيشه الآن. خفق قلبها بلذة وتنهدت بعمق. وألقت نظرة إلى خطيبها، كان في تلك اللحظة يعد رزمة من الأوراق النقدية بين يديه.  فجأة استرعى انتباهها شاب رث الثياب يقبل مهرولاً. انعكس وجهه ذو اللحية السوداء وشعره المنفوش مثل قطعة سوداء كانت في المرآة نفسها منذ البداية، وبرزت عيناه الجاحظتان الحزينتان في المرآة كلما اقترب، انقبض قلب الفتاة وأشاحت عنه، وحين التفت إلى الشارع اصطدم بصرها به وهو يقف وسط الشارع يحرك يديه بحركات غامضة. ومدت يدها إلى خشب الدولاب تتلمس زخرفته وفجأة ندت عندها صرخة كأنها انبعثت من قلبها مباشرة وليس من حنجرتها ثم استدارت وأشارت ولوحت كان الشاب المجنون المتشرد قد عبرت فوق جسده سيارة مسرعة. وتركت أشلاءه تتناثر بينما إنداحت بقعة من الدماء حول القسم المتبقي من جثته. كانت الدماء في المرآة تبدو سميكة ومتموجة كأنها قطعة من قماش ملتصقة بها ورغم أن كثيرين صاحوا وتجمهروا لكن الفتاة التي كانت تنظر في المرآة ربما هي أول من ندت عنها الصرخة. كان خطيبها يوجه الحمالين وهم يحملون سرير النوم وكان يبدو مستعجلاً وعندما سمع صيحتها هرع إليها ثم تنبه إلى ما جرى وسحبها جانباً.  كانت الفتاة ترتجف وتضع يدها على بطنها توشك أن تتقيأ، اقتادوها إلى داخل المحل وبعد أن غسلت وجهها وأعطيت كأساً من الماء جلست وقد أولت ظهرها إلى الشارع وهي ما تزال ترتجف. كانت أشلاء الشاب المتناثرة تتحرك أمامها فتغمض عينيها وتصر على أسنانها، كانت ترتجف. عندما هدأت بعض الشيء وجلست إلى جانب خطيبها في السيارة كانت ساهمة، أحست أن خطيبها بدأ مستغرباً وبعيداً عنها كأنه في مرآة. وعاودها وجومها وارتجافها:  "أيحدث كل هذا ؟ وأراه في مرآة عرسي؟"

 

 

دعــــوة

أمتع الحاضرين. غنى كثيراً وحسب طلبهم. أضحكهم بنكاته وحركاته وألاعيبه، ليس هذا فقط، بل شارك بأعداد الطعام ونظم صحون المقبلات ووقف قربهم يلبي طلباتهم، حتى من أفرط في الشرب وهم بالتقيؤ ذهب به إلى التواليت. لذلك دعاه صاحب الحفل. وإلا ما الذي يجعل ضابطاً برتبة كبيرة يدعو عاملاً لدى خياط إلى بيته الفخم ؟ لقد شرب معهم. وضعوا له كأساً على حافة المائدة، ورغم أنهم كانوا عندما يتناوبون ملء الكؤوس يهملون كأسه إلا إنه كان يستطيع أن يمد يده إلى أي من الزجاجات المليئة بأنواع المشروبات ويملأ كأسه. وها قد انتهى الحفل الذي امتد بعد منتصف الليل. وعاوده القلق الذي ينتابه بعد هكذا سهرات يدعي إليها من زبائن الخياط الذي يعمل عنده. شخصيات ثرية وذات مراكز يستلطفونه بعد أن يقدمه الخياط على أنه أطرف شخصية هزلية في بغداد. بدأ الضيوف يتجهون إلى سياراتهم. وقف عند الباب. لابد أن أحداً منهم يدعوه للركوب معه. كيف لا ؟ وهذا البيت الكبير يبعد عن المدينة ما لا يقل عن عشرين كيلومتراً ؟ محركات السيارات تدور عنيفة مسرعة. صاحب البيت يودعهم ملوحاً ولا يقول لأحد منهم أن يحمله رغم أن السيارات كانت تنطلق وليس بها سوى أصحابها.. آخر رجل تنبه له.. دعاه بفتور فهب إليه فرحاً. اعترضه صاحب البيت. (الذي ظل يتحدث مع صاحب السيارة الأخيرة). وطلب أن يدخل إلى البيت علبة أعطاها إياه أحدهم. لم يستطيع أن يتفوه بشيء. ذهب بالعلبة وعندما رجع وجد أن الذي دعاه للركوب معه قد انطلق بسيارته. أغلق صاحب البيت الباب الخارجي وقال بلا مبالاة. اذهب إلى الطريق العام. ستجد سيارة. قال إنه لن يجد سيارة في هذه الساعة المتأخرة من الليل. وانتظر أن يدعوه للمبيت عنده. ولكنه سمعه يقول وهو يسير في ممر الحديقة. اذهب إلى الطريق العام. هناك سيارات كثيرة.  شق طريقه بين النخيل المتناثرة. وفي تلك اللحظة فقط تذكر زوجته وطفله في الغرفة الصغيرة، ظل يسير ويسير تتقاذفه أصوات الكلاب والحشرات. سمعها تختلط بأصوات ولهاث رجال الحفل. كانوا يضحكون عليه طالبين منه الغناء. وكان هذه المرة يعوي ويعوي.. و يركض في العراء.

 

 

بيـضة النــعامة

كانت بيضة النعامة والمطوقة بخيوط النمنم موضوعة على منضدة في صدر غرفة الاستقبال. كلما جاءه ضيوف وانقطع الحديث وخيم الصمت الثقيل بينهم تطل بيضة النعامة كوجه ضيف جديد وتغدو مدار الحديث. عادة يتناول هو الكلام عن صديقه الدبلوماسي "اللامع الذي يسافر كثيراً مشاركاً في حل مشاكل العالم ومواجهاً التحديات وكيف اشترى له هذه البيضة هدية من سوق يبيع الغرائب في وسط أفريقيا. ثم يدرج الحديث إلى أفريقيا وما فيها من قضايا وعادات وقبائل وفواكه وطيور وأفاع، وإذ ينتقل إلى السياسة لا يحتدم كما هي العادة في بيوت العراقيين. ليس لأن الضيوف هم من مزاج سياسي واحد. بل يبدو وكأن بيضة النعامة.. أسفنجة تمتص الحقائق أو تمنحها القدرة على الانحناء. مرة اندفعت امرأة من بين ضيوفه ووقفت تتأمل البيضة وهي تتلمس باروكتها بعصبية وألقت على النساء من حولها كلمات ضخمة في ضرورة أن تواجه المرأة مفاجآت مراحل عمرها بشجاعة وصراحة وبالطبع لم تقل أي من هن كلمة في حزم الشعر الذهبي المستعار التي تكلل رأسها الصغير ووجهها المترهل، وهكذا حتى الخلافات الأنثوية بين النساء انتهت بسلام في ظل بيضة النهامة. وسواء انطلق الحديث إلى ما في أفريقيا من جوز مترع بالحليب أو قردة مرحة أو نساء شبقات أو حروب ومجاعات ففي كل الأحوال يبقى مزاج الضيوف رائقاً هادئاً مفعماً بالسكينة وثمة تواطؤ على أن لا يقتحم أي منهم منطقة الآخر. ومنذ حلت بيضة النعامة في هذه الصالة المزدانة بالأثاث الفاخر والثريات الباهرة، لم تقع في البيت مشادة واحدة حتى أن الرجل اعتبر بيضة النعامة روحاً بيضاء ملهمة وأخذ يوصي أصدقاؤه أن يجلبوها من أفريقيا بأي شكل ويضعوها في بيتهم. هذا اليوم كان ضيفه صديق، حزبي كبير وبمكانة في السلطة، جاءه مع زوجته وطفله. أعادا أحاديثهما السابقة عن كل شيء وعن بيضة النعامة أيضاً ونهض الضيف كعادته يتلمسها كلما جاء. أخذ يقرع بأنامله على قشرتها ويبدو متعجباً. كيف يخرج منها كائن بهذا القدر من الغباء والرعونة وإذ هو يتلمسها خلال ذلك امتدت يده لا شعورياً وأخذ يتلمس جمجمته أيضاً.. كانت يده تتحرك بعصبية كأنه ينفس عن هم يعتمل في أعماقه، وإذ لحظ صاحب البيت يرمقه. قال كالمنتفض.

غباء ليس هناك أفضل من المواجهة.

عندما جلس بلع ريقه وزمَّ شفتيه واتجه إلى صاحب البيت الثري بعينين متضرعين:

أتذكر صاحبنا ؟. إنه مختل. جبان ليس لديه القدرة على المواجهة كأنه خرج من بيضة نعامة. أتدري لو كان مثلنا لكان الآن شيئاً آخر..أما زال في السجن ؟

هز صاحب البيت الثري رأسه هزة من انتهى من شيء. وقهقه بعصبية وهو يضرب كتف صاحبه. عندما خرج الجميع إلى الحديقة اقترب كالمختلس من البيضة، حملها بيد ثم أخذ يقرع باليد الأخرى على قشرتها بعصبية، انخسفت البيضة المفزعة وتهشم نصفها. توقف وأعاد البيضة إلى مكانها في القاعدة الرملية جاعلاً الجزء المكسور في الجهة الأخرى. وعندما جلسوا إلى مائدة الطعام أخذ يتدفق بالكلام باذلاً جهداً شاقاً لكي يمنع نظرات صاحب البيت من الاتجاه إلى بيضة النعامة. كان يشاغله بعيداً عنها والكلمات تنهال كالرمال من فمه، وبيضة النعامة تبدو لأول وهلة غير مكسورة. وكأن ثمة نعامة وضعتها لتوها واندفعت تدفن رأسها في الضوء غير بعيد.

 

 

الدرهم الملكي

في سيارة الأجرة المنطلقة حيناً والمتوقفة أحياناً، بدأ الركاب الجالسون بضيق (إذ عددهم يفوق عدد مقاعدها الأربعة عشرة) يناولون الأجرة للرجل الذي يتبرع عادة لجمعة عندما لا يوجد مساعد للسائق. كان الرجل في الخمسين متهدل الثياب خشن الوجه، ويداه التي ترسب في شقوقهما الزيت فيهما رجفة خفيفة.  ارجع نقوداً لهذا وصرف من ذاك. توقف عن الحساب ورفع رأسه وكأن شيئاً انفجر أمامه وقال:

هذا درهم ملكي !

و لوح به بين أصابعه.  تنبه بعض الركاب واتجهت أنظارهم إلى يد الرجل تحدق بالنقشة التي أخذت تتكون في أذهان بعضهم على هيئة ملك شاب حزين الملامح أكثر مما يريانها في المعدن الذي كان يلمع في ضوء الغروب. تعلقت به أنظار شاب وكأنها لغز ما زال محيراً بينما أخذ شيخ يرمقه وكأنما فزت روحه بلهفة حزينة، خائفة سأل الرجل بلهجة، صارمة.

من أعطاني هذا الدرهم ؟

ظل الجميع ساكتين، وبعضهم بدا خائفاً، تشاغلوا بتصفح جريدة أو النظر عبر النافذة. وأنظار الشاب متعلقة بالدرهم الملكي.  أخذ الرجل يحدجه بنظرة زاجرة وقد صارت ملامحه أكثر جموداً وهو يقول:

عشرون عاماً مرت على الثورة ومازال بيننا من يتعامل بنقود ملكية.

قال الشاب بلهجة رقيقة:

ربما استلمه أحدنا دون أن يدري.

و مد يده يتفحصه لكن الرجل الذي جحظت عيناه أبعد الدرهم عنه وكأنه شيء محرم، مدنس، مد الشاب الذي كان في العشرين ويرتدي قميصاً مبقعاً بالورود، يده بدرهم يلمع إذ كان حديث الأصدار وكأنه نزل اليوم للتداول قائلاً:

لو أعطيتني إياه فأنا أهوى جمع النقود القديمة.

و كان في الواقع يريد أن يلمس شيئاً من عهد أخذ يسمع عنه أحاديث غامضة. ومترعة بمزيح من الندم والأحلام المجهضة.  ظل وجه الرجل جامداً، لكن عينيه بدتا تلتمعان بندى مرتعش حتى لقد خيل إليه أن من ينظر عبر عينيه سيرى السجون والأحزان التي عاشها في تلك الأيام. مال على النافذة المفتوحة وقذف بالدرهم إلى الشارع المزدحم وأخرج درهماً من جيبه تفحصه بريبة وأخذ يجري الحساب دون أن يعير للشاب التفاتاً. إنكمش الشاب في مقعده خجلاً يختلس إلى الرجل نظرات حذرة مستفهمة. والسيارة المكتظة مازالت تتوقف تريد المزيد من الركاب.

 

 

خطــوة واحــدة

يجتمعون على الرصيف، يتباطئون ثم يسرعون كأنهم طيور تنقض على فريسة ليحتلوا موطئ قدم أمام الخطوط البيضاء. يرون الوقت طويلاً وطويلاً جداً بين وقوفهم وإشارة شرطي المرور لهم بالعبور، يقطعونه بمسح وجوههم وشواربهم. أو تلمس رؤوسهم (كقرويات يتفقدن الصرر التي يحملنها) أو تثبيت نظاراتهم أو رفع بناطيلهم أو دعك عيونهم أو حك راحات أيديهم أو النظر إلى مؤخرات بعضهم أو ما في جيوبهم وما تحت آباطهم.  يتوجس أحدهم أن يُمس كمن في كتفه دملة ولكنه إذ يدفع أو يجر يثبت في كتفه ذراع مقصلة. ونادراً ما تلتقي عيونهم، كل العيون مصوبة إلى شرطي المرور الذي تعود على نظراتهم فلا يراها إلا بصورة مجتمعة كفتحة جدار مهدمة على الفراغ. أصواتهم تتشابه وتختلط وتتقاطع، مثل خيوط شبك مرت به سمكة ضخمة ومزقته. ولبرهة تبدو الخطوط البيضاء في الشوارع تشبه تلك العقد التي تربط الأمعاء ببعضها وتجعل عملية هرسها لما يمر بها أكثر دقة وأحكاماً.  رفع شرطي المرور يده فتدافعوا، تحاشوا الجزء الوسطي من الخطوط كأنه يخفي تحت بريقه هاوية مريعة. وتدافعوا على إلقاء خطواتهم خارج الخطوط، يسيرون متعجلين ومبطأين، حتى ولو خطوة واحدة خارج الخطوط. خطوة واحدة يخطوها هؤلاء المكدودون الذاهلون وهم يتنهدون وعيونهم على شرطي المرور. خطوة واحدة كأنها تضعهم داخل هذه السيارات الفارهة وتحطم النظرات القاسية في داخلها وتنقلهم إلى مصائرها المؤجلة. خطوة واحدة كأنها سعادتهم إذ تغدو في متناولهم ومبذولة تحت أقدامهم خطوة واحدة كأنها سعادتهم إذ تغدو في متناولهم ومبذولة تحت أقدامهم خطوة واحدة كأنهم يعبرون بها كل القوانين والإشارات وينتصرون.

 

 

الكــرســي

وجد حمد فراش دائرة الحوال المدنية، نفسه يجلس على كرسي المدير العام. حدث ذلك ليس خلسة كأن يجلس مرة على كرسي المدير العام وهو يقوم بتنظيف غرفته فيسرح بخياله منتشياً وهو يتصور نفسه وقد أصبح كبيراً يأمر وينهي. فالسيد حمد الذي تجاوز الخمسين رجل بسيط لم يحدث أن مر برأسه حلم يعرف أنه لا يستطيع تحقيقه. كما أن ذلك لم يحدث خطأ. كأن يأتي ويجلس على كرسي المدير العام معتقداً أن هذا هو كرسيه. فهو قوي الذاكرة يعرف أنه فراش ابن فلاح فقير من الجنوب وأن عليه أن يتصرف بحذر ولا يفقد عمله فيضطر للعودة إلى تلك المصائب التي فر منها في الريف. كما أن ذلك بم يحدث للتحدي كأن يأتي حمد ويجلس على هذا الكرسي معتقداً أنه أجدر به، فحمد رغم اشمئزازه من شخصية وتصرفات المدير العام ألا إنه يعرف أنه ليس من ينبغي أن يحل محله. إذا ما شاء القدر أن يضع الأمور في نصابها. وهو ما زال يتلفت ذات اليمين وذات الشمال كلما أشعل سيجارته. لقد جلس حمد على كرسي المدير العام حقاً وبصورة قانونية تماماً. بدأت القضية عندما زار الدائرة مسؤول كبير. وتفقد أقسامها. ورغم أنه وأصحابه توقعوا الخير الكثير من الزيارة إلا أنها انتهت بتوجيه أحدث ضجة في كل الغرف: أن يبدل أثاث الدائرة الخشبي بأثاث معدني يليق بهذه الدائرة في العهد الثوري الجديد. عندما تم وضع الأثاث الجديد كان حمد لا يكاد يستطيع أن يقف بظهر مستقيم لشدة أوجاعه. نظر موظف الإدارة إلى أكوام الأثاث القديم وتذكر أن الفراشين كانوا يقفون على أبواب أو يقرفصون بعيداً فقرر بعاطفة مباغته أن يكون لكل فراش كرسي يجلس عليه. وبما أن حمد هو فراش المدير العام فقد أعطاه كرسي المدير العام نفسه. لم يرتح حمد لسعة الكرسي وتزويقاته لكنه وجد ظهره فيه يرتاح وتخف أوجاعه. وقد ظلت جلسته فيه إعتيادية باستثناء حركة لا شعورية إذ وضع ساقاً على ساق ونفث دخان سيجارته مرة أو مرتين وهو يدفع صدره إلى الأمام تماماً كما كان يرى المدير العام يدخن أمام ضيوفه لكنه لم يلبث أن تمالك نفسه وعاد إلى صفائه الروحي.  و لكن ها هو موظف الحقوق يتوقف بجانب حمد قائلاً:

مبروك.. مدير عام دفعة واحدة ؟

و يهز حمد رأسه بأسى ويبقى صامداً.. ولكن موظف الحقوق يداعب كتفه بطرف اصبعه:

صرت كبيراً.. لا تكلمنا..

و يقول حمد بصوته الأجش الخافت كلمة لا يدري أين سمعها وأعجبته:

الكبر.. كبر النفوس.

و يجفل موظف الحقوق ويبتعد مسرعاً.  بعد برهة كان المحاسب يمر به ويقول ضاحكاً: -  كم تريد راتباً للمقام الجديد ؟  و يرمقه حمد بنظرة مشمئزة وإن ظلت ضاحكة.  و يأتيه فراش شعبة الأوراق. أحد أقاربه والذي ساعده في تعيينه بهذه الدائرة.

لم تعد تسلم.. أهكذا الكرسي العالي يدوخ ؟

و وجدها فرصة ليعيد كلمته المحببة إليه

الكبر.. كبر النفوس.

رأى حمد أن هذا الكرسي سيجلب له المتاعب والمصائب وسيدخله قضايا ومشكلات كان بعيداً عنها. وتذكر أن المدير العام سيعود بعد أيام من جولته في المحافظات وهو بعجرفته ومزاجه العكر دائماً سيتصور أنه يسخر منه إذ يجلس على كرسيه القديم ولا يدري أي بلاء سينزل به. ولكن الأدهى من كل ذلك أنه شعر في داخله أحاسيس وأفكار لم يألفها وأنكرها في نفسه. شق خواطره الصوت الحاد لجرس السكرتير الأول للمدير العام.  وجد السكرتير بوجهه الممتلئ الناعم يبتسم على غير عادته قال إن كرسيه المعدني الجديد يتعب ظهره وهو يعاني من آلام قديمة وأنه يفضل عليه كرسيه الخشبي. تهللت أسارير حمد.. خرج مسرعاً وهو يردد، سآتيك به. جلب الكرسي، يحمله بتؤدة، كأنه يحمل مهداً فيه رضيع نائم ولا يريد أن يوقظه من حلمه الجميل. أراد أن يقول للسكرتير وهو يضع الكرسي تحته، تستاهل أكبر، لكنه لارتباكه قال عبارته:

الكبر.. كبر النفوس.

من حسن حظه أن السكرتير لم يسمعه. كان هو الآخر ذاهلاً وهو يجلس على الكرسي الذي طالما أذهله وهو يرى المدير العام يجلس عليه ولا يكاد يملأه مهما نفخ في صدره !

 

 

تــوهـــم

و هو واقف في محطة سيارات الأجرة، رآه ينظر باتجاهه، أي زمن هذا ؟ قال في نفسه. كل نظرة، عدا النظرة الأولى، كافية لتخلق التوجس! سار قليلاً والتفت. مازال الشاب ينظر باتجاهه، أيتعقبه ؟ مظهره يوحي بأنه من أصل ريفي، أكثر رجال الأمن في بغداد من أصل ريفي، غير أن ما أصابهم من نعم المدينة يفضحهم، فسمنتهم وأناقتهم يبدوان كجلود إضافية متورمة، في فترات متباعدة تأتي سيارة صغيرة يتدافعون عليها ويتصارعون ويظل هو في وقفته. عبثاً يزج نفسه مع المتزاحمين. ولكن ما بال الشاب يرسل نظراته إليه ؟ إنه حائر وملتبس في داخله بمضض.  توقف كلب سائب على مقربة. وهذا الكلب ؟ تذكر ما سمعه.. حتى الكلب السائب الذي يتوقف بجانبك احذره فلربما وضعوا تحت ذيله لاقطة، والذبابة التي تطن حول رأسك. قد لا تكون ذبابة وإنما شيئاً اصطناعياً لتسجيل الأفكار.. ربما دائرة الأمن تروج ذلك.. أو الناس، على أي حال.. هذا مزاج اليوم.  لكنه يثق بالناس ويحبهم. كيف صارت النظرة الثانية تستوقفه هكذا وتجعله ينفعل ويحقد. حافظ على هدوئك. اسحب نظراتهم تحت قدميك. افحصها وتحكم بها. هذا ما قاله أحد الأصدقاء. همَّ أن يغير مكانه. فإذا بالشاب ينطلق مسرعاً، نظراته منقضة كأنه وجد ما كان يبحث عنه. كان يتلمظ ويبلع ريقه وهو يتجه نحو بائع متجول يدفع عربة يتصاعد البخار من قدر في وسطها. صار الآن يرقبه وكأنه يراه للمرة الأولى. وجد أن عينيه حزينتان وتائهتان، وهو يقف متهللاً أمام طبق الحساء بل لقد كان هو يغرف بالملعقة الصدئة غائباً عن نفسه ومن حوله.

آب 1979

 

 

هــوايــة

وضع الصبي عدة صبغ الأحذية على الرصيف وجلس يتطلع إلى وجوه المارة، أدرك أن ما يهمه منهم أحذيتهم. صار كلما يرى حذاءً معفراً أو حائل اللون يرفع بصره إلى صاحبه متوقعاً أن يتقدم منه.... فيجد وجهاً جامداً يمضي مسرعاً. تقدم إليه رجل، أخذ يصبغ حذاءه مرتبكاً. وبدأ الرجل يوجه أسئلته لماذا ؟ هل هو جديد في عمله ؟ ازداد ارتباكاً. سأله ماذا يعمل أبوه، أخبره أنه ميت قتل في الحرب وأمه لا تعمل وهي متعبة وله أخوان صغيران.  ظل متلكئاً ما جعل الرجل يستعجله. استلم أجرته، وأحس بألم، هل كل من سيصبغ لهم يسألونه كل هذه الأسئلة ؟ أفزعه ذلك، فكر أن أمه قد ورطته بهذا العمل رغم أنها منذ اسبوعين تدربه عليها. وهذا اليوم قبل طلوع الشمس انتزعته من نومه وأوصلته إلى موقف الباص وهي لا تني توصيه وتشجعه وتحثه "هيا الحق". الأحذية العتيقة المتربة كثيرة وتمضي راكضة متعثرة، ويعجب كيف لا يتوقف أصحابها لصبغها. والأحذية الجديدة اللامعة تتلكأ إذ تقترب منه حتى ليظن أن أصحابها يريدون التوقف لصبغها. وإذ يرفع بصره إليهم يلحظ وجوهاً مقطبة. كان الوقت يمر طويلاً دون أن يتقدم أحد منه. وأخذ الضجر يحفر قلبه. وقع نظره على ورقة بيضاء تحت الرصيف. نهض والتقطها، وكمن يدخل في حلم غمس في زيت الصبغ سلكاً نحاسياً يستعمله في تنظيف الأحذية وأخذ يرسم.  كانت تلك هوايته التي انقطع عنها.... استغرق في الرسم غائباً عن نفسه ومن حوله، فقط كان يحس بنشوة وخفة كأنه يسبح في ماء دافئ وينطلق إلى ضفاف خضراء مزهرة، وفجأة امتد إليه حذاء وبحركة فظة كأنه يركله. انتفض بذعر. ثمة شاب يرتدي بدلة خاكية ويحمل رشاشاً يقف منتصباً ويشير إليع بأصبعه أن يصبغ حذاءه. ظل الصبي شارداً يستعصي عليه أن ينتزع نفسه من أحلامه، والشاب المسلح يصرخ به أن يسرع بصبغ حذائه. وقع نظره على الورقة، أخذ يردد مقهقهاً.

أنت ترسم ؟ ماذا ترسم يا غبي ؟

عدَّل وضع رشاشته على كتفه لينتزع منه الورقة. انتفض الصبي وكأن كل حزنه وغضبه وخوفه قد تفجر دفعة واحدة، فطوى الورقة إلى صدره عابس الوجه وفر هارباً. بينما ظل الشاب المسلح مسنداً قدمه على الخشبة يقهقه، منتعشاً واثقاً. وحين توقف الصبي لاهثاً، بدا له الشاب المسلح مثل تمثال معدني مثبت على صندوق لصبغ الأحذية، فواصل جريه في أعماق المدينة.

 

 

تســاؤل

ذلك اليوم فقط، أحس الشاعر أن قصائده التي أحرق دمه في الليالي، وهو يقلب المئات من قصائد المديح في الشعر العربي، لنظمها، قد بلغت به سماء أحلامه وآن له أن يسير شامخاً متجاهلاً أو ناسياً ما يهمس به أصحابه القدامى، حقاً أو يراه بنظرتهم وغيابهم من أنه باع موهبته وضميره. بما لم يبع به جزار لحماً كاسداً ومتعفناً. فقد جاء في القرار الرئاسي الذي منح بموجبه وساماً ومبلغاً كبيراً من المال مع عدد من الكتاب والشعراء والفنانين أنهم منحوا هذه المكرمة مكافأة لهم على قصائدهم ومقالاتهم وأعمالهم التي كرسوها لخدمة القائد وانتصاراته العظيمة الملهمة ومن أجل الوطن !  اقتادوه ومن معه من الكتاب والشعراء إلى القصر الجمهوري كالمعتقلين وبعد إنتظار طويل أحسوا فيه أن الجدران تحدق بهم. أدخلوهم غرفاً خاصة. جاءهم ضباط أمروهم بخلع ثيابهم. لم يدهش للأمر بقدر ما أعجب بنباهته إذ طلب هذا اليوم من زوجته أن تعد له ثياباً داخلية نظيفة على غير عادته إذ هو لا يبدل ثيابه الداخلية عادة إلا مرة كل أسبوعين أو ثلاثة.  أدخلوا ثيابهم أجهزة خاصة لفحصها وتعقيمها وقاموا بتفتيشهم وهم عراة. أخذ الضابط الذي أمسك به يمرر يده بتؤده على أجزاء جسده وصار يربت على إليتيه اللتين سمنتا وتهدلتا كثيراً في السنوات الأخيرة. أحس الشاعر بأصبع الضابط فارتعش جسده وشعر بعرقه يتصبب، لكنه بدا لنفسه كأنه لم يدرك ما حدث. وضاعت دهشته وخجله في اندهاشته وتهيبه كلما اقترب موعد لقائهم بالرئيس. كان يعرف أن كلمة أو حركة أو حتى نظرة قد تسبب غضب الرئيس، ولا يعرف عادة إلى أي أهوال تفضي. بخوا على أجسادهم رذاذاً عطرياً مطهراً وأمروهم بغسل وجوههم بمعقمات.  و بوضوح أدرك أن في هذه الأمكنة، حتى جسد الشاعر ينبغي أن يتطهر. أمروهم بارتداء ثيابهم وقد خرجت مكوية يفوح منها عبير فاغم مدوخ خمَّن أنه عطر المقامات العليا. وتفاقم خوفه، تعلق مستنجداً بعيون من معه من الشعراء والكتاب والفنانين، وجدهم ذاهلين، مندهشين مثل أطفال يقتادوهم لحفلة ختان جماعية. لبرهة انتظروا أمام الباب الكبير الذي انفتح لوحده وأمروهم بالمسير، طالعته قاعة كبيرة مزدانة بالثريات الضخمة، والمقاعد المذهبة الوثيرة.  عندما دخل الرئيس. كان الشاعر غائباً عن نفسه حتى أنه لم يره وعندما دفعه الحراس قريباً منه، وجد أن هذا الذي أكد في قصائده الكثيرة. أنه يعرف محياه وخصاله كلها، هو لا يعرفه في الحقيقة. والرئيس الذي يقف قريباً منه الآن. هو أبعد ما يكون عنه. وبينهما شيء لا يدركه لكنه يراه كالضباب أراد قول الأبيات الفخمة التي أجهد نفسه في نظمها قبل أيام والتي قد تحقق الرئيس بالصورة التي يريدها هو، بيد أنه وجدها قد اختفت من رأسه تماماً. أحس بنفسه فقط عندما صاروا خارج القصر. وأخذ يسمع زملاءه الشعراء والكتاب والفنانين الذين تحركن ألسنتهم وانطلقت في هواء الشارع فقط. وعندما تلمس الوسام عاودته الجفلة والارتعاش التي اعترته بين يدي الضابط. خطر له أن كل ما رآه وما حدث له كان عادياً ومفهوماً وسمع عنه كثيراً.. ما لم يفهمه هو لماذا (في غرفة التفتيش المليئة بالأجهزة الدقيقة) أدخل الضابط اصبعه عميقاً في دبره؟.

 

 

الببـــغاء

كان صاحب شركة الدواجن يجيل النظر في مكتبه باسترخاء ونشوة، عندما سمع هتافاً خافتاً.. "يعيش الرئيس". تلفت مستطلعاً. لم يعرف إن كان الهتاف قد صدر عن رجل يعبر الشارع، أم من الببغاء المعلق قريباً من الباب. كان ثمة رجل يريد عقد صفقة معه، أهداه الببغاء قائلاً إنه من فصيلة نادرة تحدرت من تزاوج الببغاء الرمادي الافريقي ببغاء الأمازون. كان الببغاء رشيقاً جميلاً وذا براعة عالية بالنطق.  عب الرجل قدحاً من البيرة المثلجة. خطرت له فكرة وجدها مدهشة. لم لا يعلم ببغاءه أن يقول "يعيش الرئيس" أحس أن ذلك سيضفي على محله هيبة تؤثر على الشارين والبائعين وتشيع بين جدران مكتبه المملوءة بصور الدجاج والفراخ جواً من العظمة والأبهة، لم يمض وقت طويل عندما صار الببغاء يستقبل زبائن الشركة قائلاً: "يعيش الرئيس" فيرد عليه من يمتلك اليقظة والنباهة "يعيش، يعيش". بعضهم كان يقف أمامه بإعجاب ورهبة، بينما بعضهم كان يحس بشكل ما بذلك التناقض المؤلم بين جماله الغريب. ووقفته المنضبطة ولهجته الآمرة.  كانت موارد الرجل قد تصاعدت كثيراً. وكان لا ينفك عن تناول البيرة المستوردة من ثلاجة بجانب مكتبه. وكلما تأمل الببغاء اكتشف فيه سمة تذكرة بشيء. حتى لقد وجد أن ذلك الريش الأصفر الذي ظهر على كتفيه هو رتبة عالية وضعتها قوة خفية، فيحس بالتماسك والطمأنينة ويتصور نفسه وشركته يحلقان عالياً. قام بنقل الببغاء إلى البيت، فقد قرر أن يدخله دورة مكثفة. أخذ يلقنه قائمة أسماء وألقاب الرئيس الطويلة وفقرات من خطبه. أنفق وقتاً وجهداً وزجاجات من الشراب.  اكتشف أنه يستطيع الوصول إلى نتائج أفضل، إذا شغل جهاز التلفزيون أمام الببغاء والمذياع من خلفه، بينما ينصرف هو إلى لهوه وأحلامه.  صار يفخر بالببغاء. وجد فيه رداً على أولئك الذين يتقولون عليه بأنه جاهل أحمق حصل على ثروته بالصدفة والاحتيال. وبينما امتدح بعض أصدقائه فطنته، حذره أحدهم أنهم قد يعتبرون تلقين الببغاء سخرية منهم. ولكن أحدهم سفه هذا التحذير قائلاً: إنهم يريدون المديح حتى من الكلاب السائبة. خلال أسابيع قليلة، كان الببغاء يستطيع نطق نصف أسماء وألقاب الرئيس وما يقارب من خطبه قصيرة كان يلقيها بلهجة الرئيس الريفية وخنته المتباهية والتي يسمع في التواءاتها صرير الأسنان. سعى بعض أصدقائه للوصول بالقفص إلى مكانة اللائق. وتقرر وضعه بجناح خاص في المعرض السنوي الكبير لصور الرئيس.  لسوء حظ الرجل كان الرئيس نفسه يتجول في معرض صوره كعادته إذ هو في الواقع المستهلِك الأكبر لصوره وتماثيله. وقف أمام القفص الكبير المذهَّب وقد تحلق حوله حرسه ومرافقوه. تجاهل الرائحة التي انبعثت من ذرق الببغاء في لحظة اطلالته عليه. كلما ردد الببغاء لقباً أو كلمة ثورية ازدادت ابتسامته اتساعاً حتى بدا شدقاه مثل فم سمكة الجري. فجأة قفز الببغاء إلى غصن بلاستيكي أعلى ونطق بتلك الكلمات التي كان يسمعها، وعلى مضض من شلته وأصحابه في تلك الدروب المظلمة البعيدة، والتي لا تعاوده إلا في ليالي الكوابيس. لكن الرئيس مشى باعتداد أكبر، وكأن منبع اعتداده دائماً من هناك. برمشة من عينيه استحال الببغاء، والقفص هشيماً. مادت الأرض بصاحب الببغاء ولم يفق إلا في مكان مظلم رطب. أخذ يستعيد وعيه ببطء، ورغم أن نوبات الصداع كانت تفكك رأسه، إلا أنه حاول أن يحدس أياً من أصدقائه الحاقدين وضع في رأس الببغاء هذه الكلمات الرهيبة. حامت شكوكه حول أحدهم، لكنه وجد نفسه بعد رحلته بين الأيدي الغليظة قد فقد قدرته على النطق !

 

 

عــلاقة

عند نهاية جسر الشهداء. قبالة مئذنه جامع الوزير وقف رجل نحيل، نمش الوجه. يبيع مضارب ذباب بلاستيكية.  كان صوته أجش ملحاحاً، وهو يدعو لبضاعته، على مقربة منه رجل ضئيل الجسم يعتمر يشماغاً.. أمامه قفص فيه عدد من البلابل، لم يتوقف بائع مضارب الذباب عن المناداة وبين نداء وآخر: كان يطلق تعليقاً أو كلمة تبدو في سياق وصعه أو خارجه عنه.. كان يردد أن الذباب كثير في هذه الأيام وسيغدو أكثر وأن حجم الذبابة سيكبر حتى يمكن لها أن تبتلع قطة أو رجلاً.. ثم يصيح بصوت أعلى.. وأكثر حزماً.. لا تتهاونوا مع الذباب.. أو يلوح بالمضرب قائلاً:  ـ اهجموا على الذباب ! يبدو أن الكثير من المارة يعرفونه، كانوا يتوقفون عنده أو يتريثون في سيرهم يصغون إليه، يضحكون أو يتمتمون بكلمات غامضة. كان البعض يشم في كلماته رائحة المعنى السياسي، يرتاحون أو يقلقون وينفضون سراعاً.. كانت بغداد عام 1970 اغتنم بائع البلابل لحظة توقف قصيرة من بائع المضارب فقال:

اعطِ نفسك استراحة..

و إذ وجده مازال صامتاً تشجع قائلاً:  ـ أتدري أنك بصياحك هذا لا تترك الناس تسمع أصوات البلابل.  بائع المضارب قال بهدوء.

من يشتري بلابلك ؟ لقد انقضى عهد البلابل يا رجل، الناس ترى وتسمع البلابل في التلفزيون، ماذا تجد في بلابلك المهلوسة هذه ؟

ثم أردف باعتداد:

ما يشغلها الآن هو الذباب !

سحب بضاعته ونائ قليلاً، لا يعرف أن كان قد فعل ذلك لكي يبتعد عن بائع البلابل أم كان يلاحق الظل.. من الغريب أن بائع البلابل زحف هو الآخر وحافظ على المسافة التي تفصلهما. راح بائع المضارب بنوبة صراخ، وتعليقات طويلة، وباع عدداً كبيراً من المضارب بينما كان بائع البلابل صامتاً. يلقي بين فينة وأخرى نظرة على أمواج دجلة وبساتينها البعيدة.. التفت إليه بائع المضارب

أتدري لو خليت البيوت من الذباب، آنذاك سيفكرون بشراء البلابل كيف يسمعون غناء البلابل.. وطنين الذباب في كل مكان ؟

و مضى يلوح بحزمة المضارب.

ما نحتاجه اليوم.. المضارب.. المضارب.

كان عندما تعتريه نوبة الكلام، لا يحس بمن حوله.. حتى أنه أحياناً لا يلبي طلب من يريد أن يشتري، بح صوته وباع حزماً أخرى.. كان الطلب عليه وفيراً وأخذ يلم أغراضه ليذهب، صار الرصيف أقل ضجيجاً وأخذ بائع البلابل يسمع أصوات بلابله.  توقف شاب واستفسر عن سعر البلبل، ودخل بمساومة وبدا أنه على وشك أن يشتري، نظر بائع البلابل إلى صاحب المضارب نظرة تحدي وانتصار،  و لكن الشاب لم يلبث أن غادر دون أن يشتري.

 

 

نــهايــة

كان طبيب "الأنف والأذن والحنجرة" ساهماً عبر نافذة غرفته المطلة على حي قديم

في بغداد.. عندما دخل عليه مريض مسن بثياب متهدلة يجر خطاه بوهن، وجم الطبيب، كان وجه المريض، أليفاً وغريباً في آن.  أشار الطبيب إليه أن يجلس. عاوده مرحه، وأخذ يصفر بخفوت. اقترب منه. طالعته عينه الحولاء قليلاً وأنفه المعقوف، وفمه، المفتوح والمزمع على الكلام دائماً، تذكره جيداً، إنه منادي بلدته الصغيرة، قبل أكثر من ثلاثين عاماً "كان يراه يجوب الشوارع الضيقة، ولا يترك حتى الأزقة التي لا مخرج لها، يهز بصوته أعصاب الناس، معلناً" عن بيع مزرعة أو دار، أو بقرة، حدوث وفاة، وصول مسؤول حكومي، حفر قبر، تشهير بفاعل سيء، اقامة صلاة، كان الناس يضعون أيديهم على صدورهم عندما يشق صوته السكون، كان يحمل الأنباء السيئة دائماً"، وماذا يأتي لبلدة فقيرة منزوية في أعالي الفرات ؟ تذكر الطبيب أنه هو الذي أعلن نبأ غرق والده، وقتها كان طفلاً، وقد لبد في زاوية من الزقاق وظل متوارياً حتى حلول الظلام، وهو الذي نادى على بيع دراهم، وأعلن عن الكوارث الأخرى.  قال وهو يقترب منه:

أنت...

و لم يكمل عبارته، وجد أن اسمه مازال مخيفاً  هز الرجل رأسه وندت عنه همهمة مبحوحة كأنها جرة حبل على صخر، انقطع صوته، أشار بيد مرتجفة إلى حنجرته وفتح فمه.  سلط الطبيب الضوء. كان الحلق لا يفضي لغير ظلمة حالكة. كانت في العمق كتلة متورمة باحمرار داكن، أدرك الطبيب بخبرته أنه ورم غير عادي، ربما سرطان خبيث وتعلقت عينا الرجل بوجهه. كانت هذه المرة تلتمعان مثل بركة صافية تشف عن جثة غارقة. تناول الطبيب ورقة، أحاله إلى قسم الأمراض السرطانية، واتكأ على مقعده وسرح عبر النافذة، هذه الحنجرة كم أطلقت من أشباح وكوابيس وكم هزت قلوباً ومصائر، بدت له الآن بورمها المتفاقم مثل أفعى قتلية متكورة على نفسها. هذا الصوت الذي كان قاطعاً كالسيف، خاصة عندما يخرج من دار الحكومة. أكان يخبئ خلفه السرطان ؟.. كان الرجل مذيعاً بوكالة أنباء نشيطة، يرج القلوب بأخباره وتعليقاته، ها هو الآن عاجز عن نطق كلمة واحدة.. و لم يلبث الطبيب أن أحس بخجل، هل أراد أن ينتقم إذ أحال هذه الحنجرة الصاخبة إلى قسم الأمراض السرطانية ؟ أم تراها حقاً تحمل الورم الخبيث؟ المنادى يبدو كأنه يعرف أنه استخدم صوته لأعمالهم وصفقاتهم، إنه لم يمتلك حنجرته يوماً، وإذ تذهب به إلى القبر تمنحه الدليل على أنه كان مغلوباً وربما آسفاً على كل ما نادى به وأعلن عنه.  في ذلك اليوم ترك الطبيب عمله مبكراً.. خابر صديقاً وطلب إليه، على غير عادته، أن يذهبا معاً إلى أحد البارات.  بودابست

آب 1987

 

 

وســـاطة

في طريق تحفة الأشجار الوارفة على جبال بودا، استوقفته عجوز يسير وراءها كلب ضخم. وأخذت تكلمه، لاهثة. كيف يفهم ما تقول وهو السائح العراقي في بودابست ولا يعرف من الهنغارية كلمة واحدة ؟ أمسكت يده وأخذت تتكلم دون توقف، تهدج صوتها وجف وصار كهسيس زجاج يتكسر، لابد أن لديها أمراً ما. ربما هي في مشكلة، ولكن أنى له أن يفهم شيئاً. قد تكون بحاجة إلى نقود، أخرج أوراقاً نقدية. لكن العجوز دفعت النقود إليه وظلت متشيثة به تتكلم وتشير بعينين دامعتين إلى الكلب الذي ربض خلفها مزمجراً.  ترى هل أساء لها أو للكلب بشيء ؟ ماذا تريد منه ؟ الكلب يقترب مهمهماً وكأنه يهم بالانقضاض عليه، تلاشت ابتسامته وداخله الخوف.حاول أن يخلص يده من قبضة العجوز التي مازالت قوية لكنه وجدها مصرة على الامساك به والكلب يتربص بعينين براقتين.  مر رجل على مقربة، رمقهما مبتسماً وقد سمع جانباً من حديث العجوز، أحس أن ابتسامة الرجل هبطت لتنقذه. ناداه بالانكليزية فخف إليه وأخذ يترجم ما تقول العجوز.  قال وقد تحولت ابتسامته إلى ضحكة هادئة، إنها تريد منه أن يصالحها مع كلبها فهو غاضب عليها منذ الصباح ورغم كل ما فعلته له فهو مصر على موقفه، قالت إن مزاج كلبها صعب جداً وعليه أن يبذل جهداً خاصاً ليقنعه وهو بصفته شاباً مهذباً فإنه يستطيع بلا شك أن يتوسط لها عنده. لا يدري هل ضحك لغرابة ما تطلبه العجوز أم لأنه سُرَّ لتبينه أنه لم يقترف شيئاً بحق العجوز، لكنه لم يلبث أن قطب متفكراً. إذ كيف سيؤدي هذه المهمة ؟ فهو هنا لا يعرف لغة الناس فكيف بلغة الكلاب ؟ ثم كيف يمكنه أن يقترب من هذا الكلب السمين الذي مازال يكشر بغضب وحقد ؟ خطى بتردد ثم جلس لم يحس إلا وهو واقف أمام الكلب وكأنه غائب عن نفسه يتعبد في محراب، قال للكلب أن هذه العجوز هي أجمل وأطيب امرأة في العالم. وهي أكثر نساء الأرض حزناً وعذاباً وأنها تحبه أكثر مما أحبت أية امرأة في العالم رجلاً أو كلباً.  كانت يده خلال ذلك تجوس في جيوبه فوجد قطعة حلوى دسها بفم الكلب الذي انسل أمامه محتفاً بالعجوز يتشمم أذيالها.  كانت العجوز تمسح دموعها وتبتسم بينما ظل هو واقفاً يرمقهما يصعدان  الطريق الجبلي ويتواريان كأنهما يختفيان في السماء.  بودابست

1977

 

 

لماذا لم يسقِ زهوري

ضجت الشقة الصغيرة في الحي القديم في بودابست بضحكات وكلمات ترحيب، ثم حديث خافت وعم صمت مفاجئ ثقيل يشبه الذهول الذي يتبع خبراً مشؤوماً.  أطل الشاب برأسه من غرفته، إنها المرأة الهنغارية وزوجها اللذين قام قبل أسبوعين بتأجير شقتهما الجميلة لأحد معارفه السواح.  ضحك لهما واعتذر ريثما يكمل ارتداء ملابسه، في الصالون الأنيق كانت العجوز التي يسكن معها ترتب الكؤوس أمام الضيفين واجمة. استقبلته المرأة وزوجها ببشاشة، وأخذا يبادلانه الاستفسارات عن صحته وأحواله، وتحدثا عن سفرتهما الأخيرة للريف، وكيف استمتعا بكل شيء، ثم بخجل شديد وبعد الاعتذار عن ازعاجه بالأمر أخبرته المرأة أن الشخص الذي أجرا له شقتها قد سرق معظم تحفيات الشقة، وكسر الدواليب، وأخذ ملابس وأواني، ومزق وحطم كل ما لم يستطع حمله وعاث بالشقة كوحش مخبول.  حملق بالمرأة مبهوتاً، وأمسك رأسه بكلتا يديه كأنه يوشك أن ينفجر، ما الذي ورطه مع هذا الشخص ؟ لقد تعرف عليه صدفة في مقهى، كان قادماً مع زوجته في زيارة قصيرة لبودابست. ورغم قوله أنهما أخطأ بزيارتهما لهذا البلد الفقير في معروضاته على حد تعبيرهما، إلا أنهما قررا المكوث أسبوعين، ورجياه أن يساعدهما في تأجير شقة مناسبة، لقد عطف عليهما بحكم الغربة، وزكاهما للعجوز وألح عليها أن تتوسط لدى معارفها لتأجير شقة لهما. قال للمرأة وكأنه يفيق من كابوس: إنه مستعد لتقديم كل ما يستطيع كتعويض.  كانت المرأة مسترسلة تتحدث وهي ترجوه أن لا ينزعج وتردد بين عبارة وأخرى: لا شيء، نعم لا شيء وأنها لا تريد تعويضاً.  توقفت لتأخذ جرعة من قدح الماء.. وفجأة وكأنها تذكرت القضية دفعة واحدة انخرطت بالبكاء وهي تقول بصوت مخنوق: لقد أخذ كل شيء لا يهم. ولكن زهوري.. لماذا لم يكن يسق زهوري؟.. لقد تركها تجف وتموت.. قل لي لماذا لم يسقِ زهوري ؟. بودابست

1977

 

 

مشـــاركة

كانا مستندين إلى سياج الباخرة الصغيرة يعبان أفق المياه الممتدة في قلب هنغاريا، بحيرة البلاتون ملفعة بالشمس والضباب، والهواء يهب ناعماً فيه لسعة برد.. كأنها نكهة الحرارة القليلة في ثمرة لذيذة.  عندما ابتعدت الباخرة عن الشاطئ أخذت طيور الماء تقترب صادحة بإلحاح فذلك موعدها مع ركاب الباخرة إذ يلقون إليها شيئاً من الطعام. تقاطرت الطيور مزدحمة من جهات الماء. تصطفق أجنحتها البيضاء كمناديل المستقبلين.. وقفا، مبتهجين، هما الزوجان القادمان من بغداد لقضاء شهر العسل. وأمامهما دوائر فوارة من الطيور المنقضة على الماء. راق للفتاة أن تشارك الركاب مرحهم. راحت تفتش في كيس ورقي علها تعثر على قطعة خبز لم تجد سوى قطعة بسكويت ألقتها باتجاه الطيور فطوحت بها الريح إلى الباخرة.  بحثت في حقيبتها وفي جيوبها وطلبت إلى زوجها أن يبحث معها عن أي شيء يمكن إلقاؤه للطيور.. كانت كالمشدوهة ولما لم تجد شيئاً ظللت وجهها سحابة من الأسى. وها هي الطيور توشك الآن أن تبتعد بعد أن لم يعد أحد يلقي لها شيئاً.  وقفت قريباً من السياج مثل طفلة فشلت في لعبة عندما اقتربت منها امرأة كانت ترقبها، مدت يدها في كيس مملوء بحاجيات تسوقتها لبيتها وأخرجت قطعة خبزاً كبيرة قدمتها لها مبتسمة، تهللت وبدت خجلة مترددة، لقد أعطتها المرأة من طعام البيت، هل تعتذر عن قبول قطعة الخبز التي شعرت إنها بحاجة إليها أكثر مما لو كانت جائعة. تناولتها بحركة سريعة.  شكراً، قالتها بلغتها، وشملت زوجها بنظرة ممتنة واتجهت صوب الماء.. كأنها ذاهبة لتحلق مع الطيور..  بودابست

1977

 

 

التمثال يلعب الكرة

ما أن صار رأسه فوق فتحة درج النفق حتى لاحت له ساحة الأبطال وكأنها قطعة من السماء، هبطت تواً لما تحمله من أثقال. عبر إليها مسرعاً ولم يلحظ أنه يقطع شارعاً مزدحماً بالسيارات.  توقف أمام القوس الكبير الذي يتصدر الساحة ويضم تماثيل رؤساء القبائل الهنغارية القديمة، يسيرون خلف مؤسس هنغاريا وهو على صهوة جواده مدججاً بالسلاح. أشخاص قليلون في هذه الساعة ينقلون خطواتهم بكسل بين التماثيل الضخمة، في مركز الساحة حيث ينتصب تمثال مؤسس هنغاريا ثمة أطواق من الزهر موشحة بشرائط مكتوبة، شيء كالعبير أو كرائحة الشموع يعبق في الساحة الفسيحة. اسند يده على قاعدة المثال وطافت في ذهنه بغداد شاردة منطوية بوجل، كنجمة بعيدة ترتجف في الليل. قريباً منه ثمة رجل مسن يلعب الكرة مع طفل، كان الرجل يلعب وهو يحاول أن لا يبذل جهداً بينما الطفل ينط وراء الكرة محاولاً أن يُتعب الرجل وكأن متعته تتوقف على مقدار ما يتعب الرجل.  ظل تمثال مؤسس هنغاريا يغمر الرجل فيظهر وكأنه هو الذي يمتطي جواداً. بينما يلوح مؤسس هنغاريا وكأنه هو الذي أطلق الكرة قبل هنيهة ووقف ينتظر برصانة الكبار إذ يلعبون أو ينتظرون.  ها هي الكرة تلقى للتمثال فترتد، ويتبادلانها ثم ترجع مرة أخرى للتمثال، كان التمثال يلعب معهما. وكانت الكرة تنتقل بين التمثال والرجل والطفل بطيئة، سريعة، رخية متوترة مخطئة مصيبة الهدف، وكأنها الحياة نفسها إذ انتقلت من الرجل القديم الرابض في التمثال إلى الرجل المسن والطفل أو كأنها الوهم نفسه.  أفاق من ذهوله وهو يرقبهما، عندما اصطدمت الكرة برأسه إذ ألقاها الطفل إليه ضاحكاً ومحاولاً إشراكه معهما في اللعب. اندفع وراء الكرة وأعادها للطفل بضربة مرتبكة وانخرط في اللعب، ورغم أن الرجل المسن والطفل اهتما كثيراً، أن تكون مناولاتهما له هادئة إلا أنه لم يستطع مجاراتهما في تحريك الكرة، لقد أحس أن جسده متيبساً، جامداً، مكبلاً. والتمثال مازال يلعب معهم طليقاً في الجهة المقابلة.  بودابست

1977

 

 

مقـــاطعــة

أقبل الصبي على ثلاثة من زملائه في ساحة المدرسة باسماً بشحوب، يريد أن يلعب معهم، ابتسم له أحدهم بحذر، ولكن ثمة صبي أشقر بدين تقدم منه كأنه يهجم عليه:

اذهب، لا نريدك معنا.

ثم التفت منتهراً زميليه وهو يقول بصوت هازئ، ضاحك.

ألا تعرفان ؟ أعدموا أباه لأنه جبان.

ثم اتجه إلى زميله الذي ظل يبتسم بخفوت قائلاً: أنت عندما قُتل أبوك أعطوكم سيارة وبيت. تنحى الصبي مبهوتاً وقد اصفر وجهه وتعرق، وارتجف بغضب مكبوت منكفئ.  و لم يبتعد كثيراً، إذ لم يعد يسيطر على خطواته.  اندفع الصبي الذي أهانه باتجاهه فانكمش معتقداً أنه سيضربه، لكنه اجتازه دون أن يلتفت له، رآه يلتقط طيراً كسيراً سقط على الأرض من وراء السياج. ظل جامداً ملتاعاً يرمقه بخوف فقد ينقض عليه. ودَّ لو يبتعد لكنه وجد نفسه مسمراً في مكانه. هل إن أباه جبان كما اعتاد أن يعيِّره زميله دائماً ؟ لم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة لكنه يحس الآن كأنه يفهم ما حدث وأن عليه أن يسكت الآن. كان أبوه عريفاً في الجيش أعدموه لأنه كما قالوا تخاذل ولم يحارب. لم يجلبوا جثته. وقف ثلاثة رجال في الباب تحدثوا مع أمه ودخلت باكية. منعوهم من إقامة مجلس العزاء، بعض الأقارب والجيران واسوهم خلسة. يدرك الآن أن أباه لكم يكن راضياً عن هذه الحرب. سمعه مرة يتحدثث مع أمه وكانت تتوسل إليه باكية. رفع بصره كان الصبي الذي صده وطرده ممسكاً بالطير الكسير بكلتا يديه يحاول أن يرقِّصه ويحفزه، وإذ مال برأسه أخذ ينتف ريشه والصبيان الآخران يرقبانه متضاحكين. لقد كانوا أصدقاءَه فلماذا انقلبوا عليه ؟ ذلك الصبي الأشقر، ابن المقاول والذي لم يمت مثل أبيه هو الذي دفعهم لمقاطعته، إنه يسخر منه ويسمعه كلاماً ما أقسى كلما ألتقاه، ومرة شكاه بارتباك إلى المعلم فنصحه بالسكوت وأشاح عنه. رآه يركل الطير برجله كالكرة ويقذفه بعيداً.  أحس بجسده يزداد عرقاً وارتجافاً. وصخبهم يتعالى، ودق الجرس شعر أنه متعب جداً ولا يستطيع أن يدخل الصف والصبي سيسمعه كلماته الجارحة أيضاً. نظر إليه كان يركض باتجاهٍ آخر. تذكر على الفور إنه درس اللغة العربية والصبي الأشقر سيختفي كعادته. شعر بشيء من الطمأنينة. مشي باتجاه الصف. ثم رأى الجدران تدور فانكفأ ولم يعد يحس بشيء.

1983

 

 

لعبـــة

منذ ما يزيد على الساعة وهم ينتظرون وراء الحاجز الخشبي للمخبزة. زاد من ضجرهم أن أحداً لم يقل لهم متى يخرج الخبز، ولم يشموا رائحته. يذهب بعضهم ويجيء آخرون وبين أونة وأخرى يرفع أحدهم بصره إلى السماء توجساً من غارة جوية.  قفز صبيان من الباب الداخلي يتضاحكان.  صاح بعضهم:

متى يخرج الخبز ؟

لم يحر الصبيان جواباً. أخذا يتمازحان راكضين في باحة المخبزة. وجد أحدهما كسرة خبز فشهرها كمسدس بوجه صاحبه. فهم هذا اللعبة فوراً وأخذ يدور فاتحاً المجارير، عثر على كسرة خبز طويلة ومتيبسة فشهرها بوجه الآخر على هيئة رشاش. صار أحدهما يصوب على الآخر ويقلدان أصوات الاطلاقات. يتبادلان الهجوم والانسحاب بدورات سريعة. توقفا هنيهة. ثم أخذ يطلقان (و قد صار اللعاب والرذاذ يتطاير من شدقيمها) أصوات انفجارات القنابل وقد انقلبت أساريرهما الوديعة إلى حنق وهياج حقيقي. قالت امرأة بصوت لم تعد تسيطر عليه:

مات الرجال في الحرب وبقيّ المجانين.

أحست إنها ذهبت بعيداً، فاستدارت مشيرة إلى الصبيين.  تقدم رجل من الطابور إليهما صائحاً:

أين صاحب المخبزة ؟

توقفا يتأملانه وانقضا عليه مصوبين ما بأيديهما ومطلقين أصوات رصاص. تراجع الرجل متمتماً:

لقد هزلت !

انبرى شاب ممتلئ بصوت خطابي ناظراً للناس باستعلاء واضح:

لماذا أنتم هلعين ؟ بعد قليل ستأخذون خبزكم.

و مضى، بصوتٍ تغير قليلاً، يحثهم على التضحية والصبر وتقدير  ظروف الحرب. كان الواقفون يحدقون به واجمين، إنسل الشاب ومضي مسرعاً كأنه سيواصل مهمته في مكان آخر.  أخذ الصبيان يوجهان اطلاقاتهما على الواقفين. ويتضاحكان.  ظهر في الباب الداخلي رجل قصير وتعلقت به الأنظار متوسلة قال بلهجة غير عراقية:

من قال لكم تنتظرون ؟ التيار الكهربائي مقطوع منذ الليل. اذهبوا لا يوجد خبز.

ثم تواري وأغلق الباب. تزاحم الوافقون وراء الحاجز الخشبي وتعالي صياحهم ولغطهم.  توقف الصبيان عن اللعب منهكين. أمسكت امرأة، سمراء، متينة بيد أحدهما، انتزعت منه كسرة الخبز بحذر وخفة وكأنها تجرده من سلاح حقيقي أعطتها لطفلتها التي تلقفتها بجوع ولهفة وخرجتا مسرعتين.

1983

 

 

إحتـــراق

تحركت الشاحنة وانتزعتني منهما، الزوجة والطفل. تعبت كثيراً من التفكير بهما. دون أن استطيع فعل شيء، لو أتمكن من رؤيتهما، ولو للمرة الأخيرة. جمعونا من أماكن عملنا وساقونا إلى معسكرات التدريب. كان ذلك عقب هزيمتهم في المحمرة ثم جلبوا مجموعات أخرى، بعضهم غير عراقيين، اقتادوهم من الشوارع والساحات خلال تظاهرات قالوا إنها انطلقت احتفاءاً بانتصاراتهم، وجوه ذاهلة متنافرة وحدتها الصدمة. خرجت بنا الشاحنات من المعسكرات. لم يعلمونا إلى أين. لابد أنهم يتجهون بنا إلى جبهة القتال. يجلس إلى جانبي زميلي في العمل. لم نفترق في زحمة أوامرهم وصرخاتهم. ينزوي مطأطئ الرأس. فقَدَ مرحه دفعة واحدة. الشاحنات أخذت تسير متلكئة لزحمة مفاجئة والشمس التي اندفعت نحونا غمرت شوارع بغداد بلمعان يكشف أن هذا الجذر يمتد من القلب حتى أصغر زقاق.  أفقدونا سرور المحارب إذ يتجه لملاقاة عدوه حقاً. لقد ساقونا لحرب لم نكن نريدها. ولما أنزلوه بنا من مصائب، كنا نحلم بيوم ننقض به عليهم. وها هم يسوقونا لحروبهم. أية خيبة.. ! توقفت الشاحنات، تعالى اللغط وملأت الجو رائحة ثقيلة. ملت بعنقي المنكفئ وأطللت على الشارع أكثر. ثمة شاحنات تحترق. ظننتها تحمل مجندين ولم يلبث اللهب أن أنشق عن أقفاص دجاج تحترق. كان الدجاج يصطفق بأجنحته والنار تلتهمه. بعضه خمد والبعض الآخر أفلت وتطاير هائماً إلى الشارع وقد علقت النار بريشة. تنبهت لزميلي يهمس لنفسه بحزن:

لسنا أفضل حالاً.

كانت رؤوس المجندين تتدلى من الشاحنات بنظرات تائهة. والدجاج يتطاير محترقاً من الأقفاص المشتعلة. وجاءت أصوات حراسنا هائجة. أمرونا أن نلتزم أماكننا، اقترب المسؤول الحزبي، بثياب خضراء أنيقة وعلى كتفيه شارة رتبة كبيرة كان ينظر إلينا بتمعن ويتلمظ لرائحة الشواء التي أخذت تنتشر في الجو.

1983

 

 

مجلس فاتحة قتيل الحرب

في الساعة التي أبلغوا بها العائلة بمقتل ابنهم الضابط، أسرعوا لإقامة مجلس فاتحته، كأنهم بذلك يسابقون جيرانهم أن يحتلوا الأرض الخلاء التي أمام بيتهم، وأخبار القتول تترى في كل لحظة، والجميع أبناؤهم في الحرب! نصبوا على عجل سرادقاً ومكبرات للصوت ووشحوا بالشرائط السود والذهبية صورة الضابط الشاب الذي تزوج قبل أشهر، وكانت زوجته تنتظره بخبر سعيد عن حملها، تقاطر من تبقى من أصدقائه وأقاربه لخدمة المعزين بتقديم القهوة والسجائر وتقبل التعازي، نيابة عن الأب المريض.  تأخر الشيخ الذي استأجروه لتلاوة القرآن، فوضع الشاب صديق القتيل شريطاً لتراتيل قرآنية وذهب ليصب قدح ماء يتناول فيه حبة دواء علها تزيل الصداع الذي يلازمه منذ أيام، تذكر كيف كان صديقه الضابط يهوى جمع أشرطة الأغاني، وكيف كانا يقضيان الأماسي الطويلة. يسجلانها ويستمعان لها ويتناقشان حول الجديد والقديم من الأغاني والموسيقى والألحان، لا يكاد يصدق إنه يضع الآن في آلة التسجيل الأثيرة لديه والتي طالما خفق قلبه للأنغام المنبعثة منها، شريطاً ليوم موته وغيابه الأبدي.  في أجازته الأخيرة قبل أكثر من شهر، وعندما التقيا لساعات يتحدثا قليلاً عن الأشرطة والأغاني قالا أن الأغاني كلها صارت أغنية واحدة تزعق للحرب ومشعلها وتضج في كل لحظة. ومحلات التسجيلات لم تعد تسجل الأغاني، صارت تمحوها وتسجل مكانها التراتيل والأدعية الدينية وبكائيات الموت والعذاب والتي صار الطلب عليها كثير.  ثم لم يتحدثا عن أي شيء من اهتماماتهما السابقة. قضيا معظم الوقت القصير، ساهمين، صامتين، كأنهما كانا يتوقعان ما يحدث الآن.  تناول الشاب حبة الدواء لكنه ظل مرهقاً مسكوناً ومؤرقاً بالذكرى، فلم يسمع ولم يتنبه وهو داخل البيت أن الشريط الذي وضعه في المسجل انطلقت منه إلى الخارج أغنية غجرية صاخبة. والأدهى أنها انطلقت في اللحظة التي جلس فيها ممثل حزب السلطة والذي جاء على مضض يؤدي دورته اليومية في المرور على مجالس الفاتحة الكثيرة في منطقته. هب من مكانه كأنه لدغ. اعتبرها سخرية مقصودة من الحرب وتوعد في نفسه أنه سيحاسبهم عليها. خاصةً وأنه لمح البعض وقد أخذوا يكتمون ضحكاتهم. راح يصرخ موجهاً كلامه للرجال المحيطين بالسرادق.. ما هذا أوقفوها.. هيا.. ملوحاً ومنذراً كأنه يأمر بإيقاف حريق. والأغنية سادرة بإيقاعات، راقصة، صاخبة وتكاد فعلاً تقلب المأتم إلى جلسة هازلة.  حال الســقـم حــالـيه    كـــركــــي بالجـبــاليــه بينما ظل أهل القتيل مندهشين مرتبكين، لا يعرفون كيف يوقفون هذا الصوت المتدفق بغموض كاسح. كأنه يأتي من موقع مجهول لا يدرك ولا يمكن الوصول إليه.

1983

 

 

الطـــائرة الورقيـــة

عندما طلب إليه طفله الذي قارب السابعة أن يصنع له طائرة ورقية، سأله مندهشاً:

أين رأيت الطائرة الورقية؟

فهم طيلة تنقلهم في المنافي لم يروا طفلاً بيده طائرة ورقية.  قال الطفل: إنه هو الذي حدثه قبل نومه عن صبي كان يطلق طائرته الورقية فوق سطح بيتهم الصغير فأفلتت منه وذهبت إلى بلاد بعيدة.. ثم عادت له يوماً ومعها سرب من الطيور الملونة.. فكر أنه أصبح خرفاً يحكي أشياء  ينساها بسرعة. ظل الطفل يلح عليه أن يصنع له طائرة ورقية. أجهد فكره محاولاً أن يتذكر كيف تصنع الطائرة الورقية.. قبل أكثر من ثلاثين عاماً كان يشارك أقرانه في صنع وإطلاق الطائرات الورقية، ربما هو الطفل المشرد على السطوح المتهدمة يطلق طائرته الورقية ويحلم أن تذهب به إلى بلاد بعيدة.. وها قد تحقق الحلم ولكن بشكل آخر.. حوت ذاكرته أهوالاً.. واندثرت فيها معالم كثيرة. حاول أن يتذكر كيف تصنع الطائرة الورقية دون جدوى،قلب كل ما لديه من مجلات،وجد في إحدى المجلات عرضاً لكتاب "كيف تصنع قنبلة ذرية في بيتك".لكنه لم يجد شيئاً عن الطائرات الورقية.. كلما التقى صديقاً حاول أن ينعطف معه بالحديث إلى الطائرة الورقية وكيف تصنع. سمع من يقول أنه يزداد سذاجة، وبلاهة كلما طال به أمد المنفى "الناس والبلدان تحترق بالطائرات.. وهو يتحدث عن طائرة ورقية". مضى مدفوعاً بلجاجة طفل.. وبإشارة من هنا ولمحة من هناك جلس مع طفله يصنع لطائرة الورقية.. كان أهم ما أعده لها خيطاً طويلاً. طويلاً.. كأنه أراد أن يصل به إلى ملاعب طفولته، وجدت الزوجة فرصتها إذ جلست إلى جانبهما. مقتطعة بين آونة وأخرى جزءاً من الخيط ترتق بعض الثياب،انتهى من صنع الطائرة الورقية وزوّقها بأوراق ملونة براقة.. ليحمِّلها إلى هناك كل ما يتأجج في روحه من ألوان وأطياف!  ذهب بها مع الطفل.. إلى ساحة مكشوفة قرب بيتهم، كان ذاهلاً حتى أنه لم يستمع لتوسلات طفله ليعطيه الطائرة،لم يكترث لضحكات الأطفال وإشاراتهم.. كان غارقاً في لجة ذكريات دافئة.. وقف وسط الساحة المفروشة بالثيل.. دفع الطائرة الورقية.. تأرجحت قليلاً ثم هوت. كانت قفزات طفله الفرحة والنسمات الخفيفة تحرك الطائرة حتى لتبدو وكأنها على وشك أن تطير، دفعها عالياً،ركض بها، لكنها لا تلبث أن تهوي وتحط بلا حراك. حاول معها مرات ومرات ولكنها لم تطر.. ملّ الطفل... وانشغل عنه مع أطفال وجدوا لعبتهم بسرعة.. وظل الأب متشبثاً بطائرته غائباً عما حوله، فقد أصبحت لعبته هو،غداً رأسه المزدحم بالهموم خالياً إلا من طائرة ورقية ينبغي أن تطير، وتطير بعيداً، غيّر من وضع الخيوط  وموازنات الأجنحة والذنب وحذف وأضاف ولكن الطائرة لم تطر.. تذكر فجأة أن الريح ساكنة وسط هذا الحي المكتظ. وأن إطلاق الطائرات الورقية يقتضي فضاءً رحباً. وريحاً شديدة. ربما سطوحاً مكشوفة.. كسطوح حيّهم القديم. جلس على المصطبة متنهداً، أغمض عينيه، صار يحدق بتلك السطوح، كانت تفضي إلى بعضها، كأنها ساحة واحدة، أخذ يحلم برياح قوية..

بودابست 1987

 

 

رســـالة

أخرجونا من الوطن وأشعلوا الحرب.  و طيلة هذه السنوات لم تصلنا رسالة من الأهل.  كتبنا لهم على حذر وأوصينا أن يراسلونا.. دون جدوى.  كان قلقنا يتفاقم،لاسيما وللزوجة شقيقان جنّدا لا محالة.  كنا نهبّ لنسأل موزع البريد كلما ضجت دراجته النارية في أعصابنا، وننظر إلى رزم الرسائل عنده كما ينظر الجائع المعدم إلى أطباق الطعام وراء الواجهات الزجاجية.  و ذات يوم عدنا من زيارة أصدقاء لنا. مكثنا في الدار وقتاً ثم هاجت آلامنا.. فذهبنا إلى بواب العمارة نسأله، قال إنه قد استلم رسالة لنا ودفعها من تحت الباب. ذهلنا ! تذكرنا أننا عند عودتنا وجدنا وعاء القمامة مقلوباً قرب الباب ولممنا ما تناثر منه على عجل ووألقيناه في صندوق الشارع. لابد أن الرسالة اختلطت مع محتوياته، ومع ذلك ألقينا نظرة في زوايا البيت وكأن الرسالة طير وقد لاذ في مكان ما! ركضنا إلى الشارع ونحن نلعن ذلك اليوم الذي نسينا فيه الأهل وأكلنا السمك. فلا شك أن عظامه جلبت.. القطط إلى وعاء القمامة. فقلبته فوق الرسالة.  شمّرنا عن سواعدنا وأخذنا ننبش في النفايات. تناثرت علينا الأوساخ والقذارات. قلت لزوجتي ماذا لو كانت الرسالة من البلدية تطلب منا إخلاء البيت ؟. قالت جازمة: إنها من الأهل. ومضينا نغوص في القمامة كان بعض المارة يرمقوننا مستفهمين، فكرت ربما سيقولون: يا لهؤلاء الوافدين.. يأخذون أموالنا، يشترون بها ذهباً يضيعونه في القمامة.  .. أوغلنا في النفايات غير مكترثين بشيء، نمنّي أنفسنا برسالة من الأهل. كان نبضنا يتسارع  ونشم رائحة رهيبة. نقلب المواد اللزجة باندفاع حثيث فترتد أيدينا بأشياء غامضة ومقززة، تطل علينا من أوراق الجرائد، وجوه شخصيات معروفة ملطخة وممزقة ومخيفة.  كان يخيل إليّ ونحن نقلب النفايات إننا نبحث عن آثار ماضٍ متوحش وبدائي.  أحست زوجتي بالغثيان فانسحبت. عندما لاحت عظام سمك مثل أنياب مكشرة. قدرت أني قد وصلت إلى الطبقة التي تحمل الرسالة. قلبت عظمة جمجمة ربما لخروف أو خنزير، فوجدتها، كانت مبللة.. ولها برودة يد الميت حتى أن أصابعي ارتجفت فأسقطتها، تناولتها بحذر. مسحت يدي بخرقة،و فتحتها.  كانت من أهل الزوجة في بغداد.  بعد تحياتهم وتمنياتهم لنا بالسلامة. يقولون لقد فاضت قلوبنا ولابد أن نكتب لكم ونقول كل شيء، ثم يعلموننا بعبارات مرتبكة ربما كتبها الأب المريض أن الأخ الصغير قتل في الحرب،و الآخر اعتقلوه واختفت آثاره. دسست الرسالة في جيبي وعدت إلى البيت اتصنع الهدوء.  رفعت الزوجة رأسها متلهفة.  قلت: لم أجدها.  كانت مستلقية تحاول استعادة نشاطها، قالت كأنها تحلم:

اللعنة على القطط.  قلت: أه.. اللعنة.

و كأنها لسعت بنبرة صوتي. رمقتني بنظرة مستريبة ونهضت قائلة:

لابد أن أجدها.

و ركضت إلى صندوق القمامة.

الجزائر - عين تيموشنت 1982

 

 

إحــــراج

ليس في جيبه إلا ما يكفي لوجبة واحدة، هو وزوجته وطفلته، يجر قدميه أمامهما متعباً خجلاً،.. كأنه خرج بهما بإرادته من بيته في العراق وضل بهما الطريق إلى هذا البلد البعيد.  بأعجوبة أفلت من إرهاب السلطة وخرج مع الآلاف من الملاحقين. وها هو الآن شريد مع عائلته بين بلد وآخر. أية أهوال!  أوقف حشد الذكريات التي همّت أن تنقضّ عليه مثل حشرات محبوسة وجدت منفذاً. أنهم الآن جائعون وليس في جيبه ما يكفي سوى لوجبة واحدة  شرط أن لا تكون في مطعم وأن يعداها من مواد بسيطة. دخلوا المخزن الكبير الذي صار قبالتهم. أخذت الطفلة التي لم تتجاوز الثلاث سنوات تتعلق ببعض الأشياء المعروضة فيجرانها. كانت تشير بيدها وتلثغ وتهمهم. لقد أنفقا عليها أكثر ما أنفقا على نفسيهما من النقود القليلة التي لديهما. مع هذا كانت شاحبة. عصبية.  كانا يبحثان عن جناح المواد الغذائية. وكأن طريقة ترتيب البضائع خدعة أخرى لهم وجدوا أنفسهم في جناح لعب الأطفال، أفلتت الطفلة منهما وأمسكت بكرة بلاستيكية ملونة. نهراها. فأخذت تصرخ تريدها. جرها الأب فسقطت الكرات المعروضة وانهمكت الأم بإعادتها. اتجهت إليهم أنظار الكثيرين بمن فيهم بعض الباعة. عبثاً حاولا تخليص الكرة من يد الطفلة. كانت تضمها إلى صدرها باكية. قالت أمها: كفى. كفى لنشتر الكرة، لم يكن الأب خائفاً أن لا يأكلوا هذا اليوم، كان خائفاً أن لا تكفي النقود التي في جيبه لشراء الكرة. وتقدم من البائع متظاهراً بالهدوء وإن لم يتوقف وبصورة خفية عن محاولة تخليص الكرة من يد الطفلة، سأل البائع عن الثمن وأخرج كل ما في جيبه من قطع نقدية صغيرة، كان الثمن أقل مما لديه. دفعه وهو يربت على كتف الطفلة فرحاً، وإذ غمرتهم حركة الشارع عاد الوجوم يخيم عليه. وأخذ يرمق زوجته التي كانت شاردة النظرات وسارا متلكئين. والطفلة تضم الكرة إلى صدرها كأنها ما زالت تتوقع أن تنتزع منها وإذ صارا محاذيين لكشك الصحف. أخرج ما تبقى في جيبه من قطع نقدية واشترى جريدة وهو ينظر إلى زوجته وإذ التقت نظراتهما، أخذا يضحكان.

الجزائر - عين تيموشنت 1982

 

 

فـقــــاعــــات

وقف على شرفة الفندق الوضيع في البلد الغريب وأخذ يطلق الفقاعات. كأنها عناقيد كبيرة تنفرط وتتمطى في أشعة الشمس. بعضها يتكون فيه قوس قزح فيتوهج كصدور الحمام. وبعضها يلوح صافياً كالمصابيح غير المشتعلة.  اكتشف أنه يستطيع أن يكون كثيراً من الفقاعات في نفخة واحدة. بل يستطيع التحكم في حجم الفقاعات وزاوية انطلاقها ومدة بقائها. أحس بنشوة فهو يسيطر على فقاعاته مثلما يسيطر لاعب السيرك على كراته. أو المتمرس بالكلام على ألفاظه، ورؤوس مستمعيه.  كان قد ضحك من نفسه وهو يندس بين الأطفال المتجمهرين حول بائع في السوق الشعبي ويشتري أنبوبة الفقاعات. لقد جاوز الأربعين ومنذ فترة قصيرة خرج من التوقيف. في وطنه بعد أن عذبوه بفظاعة وأجبروه على توقيع تعهد بعدم العمل بالسياسة. اقترب من حاجز الشرفة وأطلق فوق الشارع الضيق دفعة من الفقاعات. وجد أن الأطفال الذين يقودهم آباؤهم هم أول من تنبه لفقاعاته. قطّب عندما لكزوا آباءهم مشيرين إليه.  كثيرون تابعوا الفقاعات وهي ترتفع أو تهبط وتنفجر قريباً من الأرض. أو فوق رؤوسهم. بعضهم مد يده إليها وبعضهم مط شفتيه لهذه اللعبة التي بدت سخيفة ولا تليق برجل. تنبه الباعة المتجولون الذين كانوا يحتلون الرصيف ويسدون باب الفندق بعرباتهم وبضاعتهم. صرخ أحدهم ملوحاً إليه. تساءل في نفسه ماذا أغضب الباعة. هل أزعجهم الرذاذ الخفيف المتطاير من الفقاعات أم أن هذه الفقاعات. أخذت تجلب أنظار المارة فتلهيهم عن البضاعة المعروضة ؟  ارتبك إذ وجد رجالاً ونساءً يشيرون إليه ويضحكون. قرر التوقف ثم.. وهو يهم بمغادرة الشرفة أطلق نفخة أخرى في أنبوبة الفقاعات فطارت كآهة أخيرة لمغنٍّ حزينّ لا يجد إلا من يضحك لغنائه. دهش إذ رأى شرطياً يقف أمام الشرفة وبجانبه بائع مندلق الكرش يؤشر باتجاهه غاضباً.  تقدم من حاجز الشرفة كأنه تذكر شيئاً خطيراً وأحنى جسده على الشارع وأخذ يطلق فقاعاته التي صارت تخرج غزيرة وسريعة كقذائف مصوّبة إلى هدف معين. لم يعد يتبين الشرطي الذي فغر فاه وتحسس مسدسه. وتحت الشرفة تجمع رجال ونساء وأطفال، ما عادوا يتضاحكون الآن. كان يبدو وهو يطلق فقاعاته مثل قائد دحر بمكيدة. واستغرق بإلقاء خطبته الأخيرة أمام فصيلة ضائعة من جنوده في منعطف الطريق.

الجزائر - آب 1979

 

 

نيــــوزويــــــك

Newsweek

كان واقفاً على الرصيف أمام كشك لبيع الصحف، ينتظر رجلاً وعده بمساعدته للحصول على عمل، طال انتظاره. تشاغل بالنظر إلى الصحف والمجلات المعلقة في واجهة الكشك، فوق علب الحلوى واللبن وزجاجات المرطبات. قرأ عناوينها ومطّ شفتيه. توقف عند غلاف مجلة "نيوزويك". فقد طالعه وجه، لم يصدق. اقترب أكثر وأخذ يتملى الصورة. إنه هو. صديقه القديم "محسن". بملامحه الجنوبية الحادة. كان معه ثلاثة أشخاص، يحملون نقالة عليها شاب بترت ساقاه والتوى وغام وجهه. كانوا واجمين وقد ظهر خلفهم حريق هائل يزحف على صفوف من البيوت والبنايات، وثمة تعليق تحتها بحروف غير كبيرة: "كم ستطول الحرب ؟" يبدو أن الصورة التقطت في بغداد، بعد غارة جوية، ظل ذاهلاً. أيلتقي وهو في حافة الشمال الأفريقي بزميله عامل البَدَّالَة في بغداد وعلى غلاف مجلة "نيوزويك"؟خطر له أنها مفارقة الحرب، والمجلة الأمريكية أيضاً. أخذ ينظر إلى وجه محسن كأنه أمامه الآن.. كان حزيناً. مشدوهاً، ضائعاً، مثله الآن  وقد فرّ من الاضطهاد قبل الحرب.  استغرق في ماضٍ صار بعيداً ومستحيلاً. يراه الآن وهو يقف وراء بدِّالة حي صغير في بغداد. يتحدث بنكات وتعليقات مرحة يردّ بها على زملائه المتأففين من المكالمات الغرامية آخر الليل والتي تحرمهم النوم، أو مغازلة صديقاتهم. كان يقول فجأة بلهجة يخالطها الحزن: "أه لو يستطيع كل إنسان في بغداد أن يحب" ! ثم يجلس إلى اليدَّالَة قائلاً: "سأصمد حتى ألبي نداء آخر عاشق" ويتهلل وجهه الأسمر كلما ربط خطاً لعاشقين.  ترى ماذا يقول الآن وقد وجد نفسه في أتون الحرب ؟  يبدو الآن أكبر من عمره بعشرين سنة، أن تحارب وأنت غير مقتنع ذلك هو الهول.  مدَّ يده داخل جيبه وعدَّ دراهمه. رغم أنه كان يعرف كم تبقَّى عنده منذ خرج من غرفته في الفندق الذي طال مكوثه فيه مع زوجته وطفليه. وجد أنه لا يستطيع أن يشتري المجلة. جاءه صوت البائع الجزائري خشناً. يطلب إليه أن يتنحى عن واجهة الكشك. انتفض، وانسحب جانباً. ونظر إلى ساعته. كان قد مضى أكثر من نصف ساعة على موعده مع الرجل.  لم يعد يستطيع الاقتراب من الصورة. رأى وجه البائع، في هذه البلدة الجزائرية النائية، منتفخاً، مقطباً.  كان يهم أن يعود أدراجه عندما رأى رفيقه العراقي الذي كلفوه بمساعدته ليحصل له على عمل. فكر أن يقترض منه ويشتري المجلة، رغم أنه لا يجيد الانكليزية، من أجل صورة صديقه فقط. وقد رأى أنها النسخة الوحيدة المتبقية لدى البائع. لكنه رأى صاحبه العراقي واجماً وكئيباً أيضاً، مما أقلقه. ولهنيهة نسي صورة صديقه القديم. والشاب مبتور الساقين على النقالة. والحرب والحرائق. وأخذ يتطلع في وجه صاحبه المعتم الشارد، منتظراً بلهفة  أن يخبره: هل حصل له على عمل؟

عين تيموشنت / الجزائر 1990

 

 

بـقــــايـا وشـــم

في هذا الخضم الأليم. المتواصل، لا أدري أية ريح ألقت بي في بودابست. بعد غيبة طويلة. فارقت هنغاريا وأنا أعتقد أن الناس سعداء بنظامهم الاشتراكي، فخورون ومتمسكون به إلى الأبد. وها أنا أعود وقد انهار هذا النظام سريعاً. ولم يجد سوى قلة يناصرونه ويأسفون عليه.  لقد سمعت الكثير عن مظاهر انهياره وعواقبه. وها أنا أسير في شوارع بودابست أريد أن أرى وأتأمل كل شيء كأني أتجرع غصص ما حدث. أحس أنها هزيمتي وأنا علي أن أحدق خلف الأشياء وأستعيد بتؤدة جارحة تلك الظلال. والمادة السرية التي قادت ذلك المسار الشامخ إلى هذا المصير المريع. كأنني أريد أن أكتوي وأعاقب نفسي إذ فرّ الكثيرون وعبثاً أحاول أن أقتنع. أنني لست سوى عراقي شريد. لم أمتلك يوماً شأناً يخص بلادي، أو يخص الغير.  أينما التفت أجد شيئاً يصدمني، قفزات الأسعار المجنونة. والتي جعلت الخبز، الذي كان مبذولاً لم يعد في متناول الكثيرين إلا بصعوبة. جموع المتسولين والمحتالين واللصوص. تزاحم الباعة المتجولين الذين افترشوا الأرصفة ومداخل الأنفاق. تزايد المومسات ومظاهر التميُّع والخلاعة. شبان وشابات حليقو الرؤوس يطوفون الشوارع صاخبين معربدين يلوحون بأيديهم بنزعات عدائية. ولا أدري من يقصدون. قذارات الشوارع. تناقص واضمحلال. ما كنت أتصورها، أجمل وأرخص شبكة للمواصلات في العالم. كل ذلك يبدو مفهوماً لي.. ما لم أفهمه وآلمني كثيراً: أن وجوهاً قليلة أراها حزينة واجمة لما حدث. بل، وكثيرون يبدون فرحين، منطلقين كالطيور تفر من أقفاصها. وكأن فضاءً جديداً. براقاً وجذاباً انفتح أمامهم في مداخل العمارات، والشوارع، والأسواق. أحس بعصب حاد يدق في رأسي، ولم أعد أحتمل تغلغله الممض في نفسي. توقفت، اتكأت إلى عمود مظلة الباص وشعرت أن كل شيء ينسرب كامداً إلى حزني القديم الذي يتراكم ويزداد منذ عهدٍ بعيد. وأنا أنعطف من شارع الجمهورية الكبير (لا أدري أي اسم أطلقوا عليه الآن في حمى تغيير أسماء الشوارع) إلى شارع فرعي، واسع، طويل. استرعى انتباهي عند الركن متسول غريب المظهر، كنت قد أعطيت لمتسولين كثيرين قطعاً نقدية صغيرة. وقد تلبسني شعور حيَّرني وأخافني إذ أخذت أتصور أنني أيضاً مسؤول عما حل بهم من عوز وذل. وليتني أستطيع أن أساهم في عودتهم لما كان لهم من اكتفاء ورغد في العهد الاشتراكي المنهار. كان المتسول شاباً مقطوع الذراعين حتى المرفقين، بوجه ما زال جميلاً وإنْ علاه الاصفرار والشحوب. وجسد رغم ترهله ما زال فتياً وقوياً. توقفت باحثاً في جيوبي عن قطع نقدية وأنا أنظر إليه بإمعان واستغراب. لحظت كأن غلالة من البلادة واليأس تهبط بما تبقى من عنفوان الشاب إلى الحضيض. اجتذب نظري وشم على باطني النهايتين السفليتين للذراعين المقطوعين، الوشم الذي على العضد الأيسر كان شعار المطرقة والمنجل وعلى العضد الأخرى: القلب وقد اخترقه السهم. كان القلب الذي يخترقه السهم مقطوعاً بعضه مع جزء من السهم الذي اخترقه وذهب مع الساعد والكف الضائعين، والجلد في نهايته ملموماً كرقعة ثوب متهرئ، بينما وشم المطرقة والمنجل بقي كاملاً وإن بدا مفكوكاً وباهتاً بعد مط الجلد الممزق من أجل لأمه. أحسست بوحشة وحيرة. إذ لم أر أيام النظام الاشتراكي وشم المطرقة والمنجل على ذراع أحد،و الآن أرى شعار المطرقة والمنجل في هذا الحال المزري. لابد أن هذا الشاب قد وضع الوشم أيام كانت يداه قويتين تضجان بأحلام عريضة صاخبة أو بفوضى عارمة هازئة بكل شيء. عاد النبض الحاد يقرع في رأسي موجعاً كأنني الآن فقط أرى ذاك النظام الذي كان شامخاً، مهاباً يتهاوى أمامي إلى درك سحيق. بقيت واقفاً أتأمل الشاب محاولاً أن أجعله لا يحس بوجودي، إذ أخذت أتنقل بوقفتي وأبدو باحثاً عن اتجاه ما بين الشوارع المتقاطعة المزدحمة. رأيت بضعة أشخاص يتقدمون منه بإشفاق ويسقطون في قبعته قطعاً نقدية بعضها كان ورقياً من فئة صغيرة. لا أدري إن كانت أثارتهم اليدان المقطوعتان أو أنهم لحظوا الوشم الذي عليهما، بقيت أختلس النظر الى وشم المطرقة والمنجل، وأحدق في الأفق ساهماً. هذا الشعار الذي ألهب قلبي وأدماه وتبعته حتى آخر الدنيا.. حالماً أنه سيوحد خلفه جموع البشر لتبني عالم سعادتها وعزها... أراه الآن يطل عليَّ من يدٍ مقطوعة عاجزة، معذبة، ويظهر كماركة شهيرة على بضاعة فاسدة بينما الماركات الأجنبية، تجارية أو سياسية تطل زاهية براقة، مرغوبة أو مزوقة من واجهات المخازن والجدران والحافلات وحتى قمصان الشبان وبنطلونات الفتيات. تقدمت منه بحنو، وألقيت ورقة نقدية صغيرة في قبعته البنية الحائلة والمتسخة، وأحسست بخجل، ذلك قليل، قلت في نفسي، فأصحاب هذا الشعار، كانوا قد أعطوا ومنحوا العالم كثيراً. ومهما قيل عن سيئاتهم وأخطائهم فهناك الكثيرون ينعمون ويتمتعون بما صنعته مثل هاتين اليدين المقطوعتين، المتوسلتين الآن. شعرت رغم عاطفتي المتفجرة أن الأمر أكبر من نقود أو دمعة تذرف. تنحيت جانباً. فقد شعرت كأنني اقترفت ذنباً إذ تصدقت على الشعار وليس على هذا الشاب الضعيف الخائر الذي ابتذله، أخذت أتأمل وجهه الذي دبّ فيه ما يشبه ذبول الموت متحاشياً الالتقاء بعينيه الخضراوين الجامدتين ونظراتهما الفارغة التائهة، محاولاً فصله عن الشعار الأثير الذي يحمله. ولكن نظرتي توقفت عند يديه. فالشعار هناك ممتزج وملتصق بدمه وجلده، اليدان مقطوعتان بنهايتين متساويتين كأنهما بترتا بشفرة آلة حادة في مصنع أو عجلة قطار مسرع. نظرات الشاب الغامضة، السارحة بعيداً، أوحت لي فجأة وكالحلم أن يداً قطعت الأخرى. ولكن أية يد هي الجانية ؟ اليد التي تحمل شعار الثورة أم اليد التي تحمل شعار الحب ؟ وأية يد أوقعت القصاص جائراً أو عادلاً على اليد البادئة ؟ وهل اليد المقطوعة الغائبة تستطيع أن تعود في ليلة مدلهمة كالشبح لتقطع أختها ؟ وإلى متى يظل قلب الإنسان ينزف من يديه أحدهما تقطع الأخرى ؟  كنت في خواطري المشتتة والتي وجدت فيها مراحاً من توتري عندما امتلأ الرصيف بأشخاص كثيرين يحيطون بعروس شابة حسناء لا تتجاوز العشرين، بثوب أبيض طويل، تحمل باقة ورد كبيرة يمسك بذراعها البض الأشقر عريس كهل منتفخ الوجه بثياب سوداء فاخرة. كانوا يلغطون ويضحكون ويلتقطون صوراً، تريثوا يتطلعون إلى الأبواب، ربما يبحثون عن مدخل عمارة أو مطعم أو أستوديو. غمرتني موجات عطور فاغمة ووجدت نفسي فجأة بين مجموعة من الفتيان والفتيات الجميلات. رأيت نظرات بعضهم تتسلط على يدي الشاب وسمعت تعليقاتهم الهامسة وضحكاتهم وهم يندفعون إلى أحد الأبواب. رأيت عينيه التائهتين، القلقتين تمتلئان حزناً وتغدوان نديتين. وبريقاً كالغضب بطل منهما. وشيئاً من الاحمرار يتدفق إلى وجهه. وعندما نهض يمضي بعيداً، حرك يديه بقوة واعتداد كأنه نسي أنهما مقطوعتان وأراد استعمالهما لحمل قبعته التي تصورها ربما في بيته أو مكان عمله. ولا أدري لماذا خيل إليّ أنه عندما التقت نظراته بشعار المطرقة والمنجل على يده أشاح عنه بغضب ونفور واعترت جسده انتفاضة يائسة كأنه يريد الفرار منه ولكن عبثاً. لقد بقيت أدور في شوارع بودابست المتألقة بشمس الصيف حتى المساء مستعيداً نظرات الشاب إلى الوشم الغائر في دمه. وقد استنتجت وربما مخطئاً، أن الشاب ينتقم من شعار المطرقة والمنجل إذ يخوض به أوحال ذله وهوانه ويعرضه لمزيد من نظرات الاتهام والإدانة. أو يعيده لبداية أليمة، مريرة، جديدة، ومن الغريب أنني في الأيام اللاحقة المتبقية لي في بودابست صارت نظرتي للناس وحياتهم الجديدة أقل توتراً وارتياباً.

بودابست تموز 1991

 

 

اعـتـــراض

قصد السيد عبود العراقي الشارع المحاذي لنهر الدانوب لنسماته الندية العذبة وتنوع الناس السائرين فيه وخلوه من السيارات. كان يريد التخفيف من حزنه وحيرته اللتين لازمتاه منذ حلّ ببودابست قبل أسبوعين. الخيبة والفجيعة تصدمه في كل شارع يلجه، بعد انهيار النظام الاشتراكي الذي آمن به منذ صباه وأفنى حياته من أجل أن يتحقق في بلاده. قرّر في نفسه أن يركن مستسلماً لواقع لا مفرّ منه ويوقف تساؤلاته غير المجدية مع نفسه ومن حوله ممن يعرفهم ولا يعرفهم أحياناً، وأن عليه أن يريح نفسه وجسده الآخذين بالمرض والهزال. وجد الشارع والمقاهي والمطاعم الممتدة من باحات الفنادق الفخمة أشد ازدحاماً بالسياح الأجانب. أزعجته كثرة الفتيات اللواتي يعترضن الرجال بإلحاح مناديات "Sex ?". أقر نفسه أنهن كن موجودات أيام النظام الاشتراكي، لكنهن الآن أكثر ويراهن يتصرفن وكأنهن قد انتصرن أيضاً. لم يستطع التمشي بسهولة كذي قبل، فقد افترش أرضية الشارع باعة من أجناس مختلفة. كان الباعة في الماضي بولونيين ومجريين وغجراً عادة، لكنه يرى الآن فيتناميين ومنغوليين ورومانيين وبسحنات غريبة أخرى كثيرة.  توقف أمام عدد من الباعة وضعوا على الأرض سماورات وأقداحاً وعلب كافيار وتحفيات وملابس وأشياء أخرى.  عرف من لغتهم وملامحهم أنهم من الاتحاد السوفييتي. كان قد تجمهر حولهم سياح أجانب يلغطون ويضحكون وهم يتبادلون بدهشة وسرور البزات الرسمية للمليشيات والجنود السوفييت مع أعلامهم الحمراء. لم يصدق ما يرى. اندسّ بينهم واقترب من الباعة. رآهم يعرضون أيضاً رتب الجيش، من رتبة عريف وأدنى حتى رتبة جنرال وأعلى. أوسمة ونياشين وميداليات وشعارات يعرفها جيداً. فقد رآها في الواقع عندما كان في الاتحاد السوفييتي وفي التلفزيون والصور منضدة على صدور رجال ونساء شمخوا بها زهواً إذ منحت لهم تكريماً لأعمالهم ومواقفهم التي يعتقد أنها كانت مآثر عظيمة. امتدت يده إليها تتلمسها بحذر وقلق وجدها أصيلة غير مقلّدة ومع بعضها شهادات وتواقيع موضوعة بصناديقها المذهبة الفاخرة المبطنة بالمخمل الأحمر. ظل غير مصدق. خطر له أنه مهما تكن ضائقة الحياة أو الفكر فإنها لن تضطرهم لبيعها أو التخلي عنها. ولابد أنها سرقت من بيوت أصحابها أو من متحف أو مؤسسة. ولكنه إذ أدار بصره، وجدها مكدّسة لدى باعة كثيرين. وثمة سياح يتكلمون الألمانية والانكليزية بلكنة أمريكية يتلقفونها بلهفة  مهملين البضائع الأخرى. كانوا يتفحصونها وكأنهم الآن يتلمسون جلود أشباح أو وحوش أسطورية طالما أخافتهم وأرَّقتهم لسنوات طويلة خلت. كانوا يقلبونها مستغربين أو شامتين أو راثين بنظرات لا تخلو من قلق أو تساؤل. رأى عجوزاً أمريكية، تضاحك، متصابية، بائعاً روسياً شاباً بأذنه قرط وتشتري منه علم الجيش الأحمر وتلفه على خصرها بغنج، وشاباً ألمانياً يرتدي بذلة جندي سوفييتي ويدفع بها ثمناً بخساً ويقبل البائع. أحس الشريد عبود العراقي أنهم يبيعون رموز شرف وأمجاد لثورة وعهد يمثلان حلم الإنسان وضميره وهذا التراث ليس لهم وحدهم، ولا ينبغي أن يسمح بابتذاله  أنه لا يصدق أن ذاك النظام الذي كان يظنه يقف جبروتاً شامخاً عنيداً يلقي بإشعاعه ليشمل العالم وإلى الأبد قد وصل بانهياره إلى هذا الحد. عاد وطمأن نفسه، الاتحاد السوفييتي ما زال قائماً. والشيوعيون ما زالوا يحكمون في موسكو. ولابد أن هذا اختراق غادر أو أزمة أو مؤامرة ستحبط وتمضي بشكل ما. أحس بدواره اليومي يعاوده، اقترب من أحد الباعة وسأل بلغة روسية ركيكة ما زالت في ذاكرته منذ كان في المدرسة الحزبية في موسكو قبل ما يزيد على العشرين عاماً.

من أين حصلتم على هذه الأشياء ؟

لم يجبه البائع. كان منهمكاً باستلام دولارين أو ثلاثة ثمن ميداليات عليها شعارات وكلمات ونقوشات حزبية وعسكرية أثارت التماعاتها الحمراء ومضات غامضة في نفسه. احتدّ صوته وهو يتفرس وجه البائع بعينيه الجاحظتين البراقتين:

لماذا تبيعونها ؟

شعر أن البائع يتعمد تجاهله وهو يعرض على سائحات يتكلمن الانكليزية النجمة الحمراء وميدالية المطرقة والمنجل الذهبية اللون بإلحاح وتوسل كبقال أوشك خضاره أن يتعفن، فأحس بأنه شخصياً يهان وتداس كرامته ووجد نفسه ينزلق مرة أخرى إلى تيهه ولوعته ويسرح بعيداً عن نفسه.  لم يسمع السيد عبود العراقي صوته وهو يرتفع صاخباً مجلجلاً، أحس فقط بقامته الطويلة النحيفة تعلو وكأنه وقف على منبر أو حمله أحد على كتفه في تظاهرة. أخذ يلقي عليهم خطبة باللغة الروسية التي لا يعرف منها أكثر من عشرين أو ثلاثين كلمة، أعتقد أنه يضمنها كل غضبه واعتراضاته ولعناته وأنه سيعيدهم بها إلى ما يعرفه عن نقاء أجدادهم وثوريتهم وشجاعتهم.  توقف الباعة الشبان عن البيع وأخذوا يتطلعون إليه. ويتبادلون النظرات والتعليقات بينهم ضاحكين. وتطلع إليه السياح مستمتعين مبتهجين، وبينما توجس بعضهم وانسحب، توقف مارة وسياح آخرون فقد بدا لهم مشهداً سياحياً مؤثراً. نفدت كلماته الروسية وأكمل بيديه وتجاعيد وجهه وزوغان عينيه واحتباس صوته وتلجلجه، خطبته الصاخبة كمحارب نفذت ذخيرته فواصل قصفه بانتفاضات جسده وروحه. تصبب عرقاً وأخذ يلهث، توقف جامداً، بغتة سمع كلمة "مجنون" قيلت بالمجرية وتصفيق وضحك. تنبه إلى نفسه. أدرك أنه بإحدى حالاته التي أخذت تعتريه في الآونة الأخيرة. ويفقد فيها سيطرته على نفسه فانسحب مسرعاً، ورغم أنه سمع صفيراً، إلا أنه مشى بخطوات سريعة دون أن يلتفت. شعر أنه متعب كأنه قطع صحراء قاحلة صماء. ألقى نفسه على المصطبة وأنفاسه ما تزال متسارعة. اقتربت منه مومس، شابة، جميلة، ضاحكة قائلة: "Sex ?" تطلع إليها زائغ العينين كالمحترق، بدا مأخوذاً، ذاهلاً حتى أن المومس اقتربت منه أكثر متلهفة وقد اعتقدت أنه سيعطيها دولاراته ويذهب معها. هشها بيده فابتعدت متلفتة إليه. كانت فرائصه ما تزال ترتجف لبرهة وجد نفسه يهدأ كمن يستسلم، غمرته نسمات طرية قادمة من النهر، مشبعة برائحة نفاذة كرائحة السمك.

بودابست 1991

 

 

تـمــثـــــيل

كان جليل الواسطي في غرفته المؤجرة في بيت قرب محطة "النيوكتي" في بودابست عندما رآهم في التلفزيون يحتفلون بيوم المسرح العالمي. تذكر أنه التمثيل، شاغل عمره. يقول أنه أمضى سنوات في المنفى وربما سيمضي سنوات أخرى يعاني ويتأمل من أجل أن يمثل بنقاء كالحلم، كان عضو الفرقة الوطنية. أحس بنشوة حزينة وهو يستعيد أدواره ووجوه زملائه وأدوارهم المتألقة. بعضهم معه الآن في المنفى، بعضهم قتل أو شرّد، وآخرون بقوا هناك يمثلون ويعانون، يقارعون بصمت أو يساومون..! ولكي لا يخزن توقه للتمثيل في صدره ويتكلس ويتحول إلى ورم قاتل كما يقول. فقد أخذ يسربه إلى الحياة ويخلطه بتصرفاته ومواقفه بين الناس، وجعل الشوارع والبيوت والساحات امتداداً لمسرحه. حتى صار من الصعب فصل تمثيله عن سلوكه الحقيقي معللاً ذلك "لا يجري الممثل على المسرح عفوياً سلساً ما لم تطحن الأيام عظامه" احتسى كؤوساً من البالينكا، لاح له من النافذة كشك الهاتف العمومي القريب من البيت، كان قد لاحظ أن هذا الهاتف منذ يومين قد اعترته نوبة كرم مفاجئة. وصار شيوعياً قبل دولته. إذ يعطي خطوطاً ومكالمات إلى أي بلد في العالم دون أن يأخذ نقوداً. نزل إليه الواسطي وقد قرر أن يمثل. أدار رقم هاتف المسرح الوطني في بغداد وجاءه صوت عرفه فوراً "صوت جبوري"، أما زال هناك ؟ يجلس في غرفة الاستعلامات أو عند شبَّاك التذاكر يشرب "العرق" وينتظر أن يؤدي دوراً صغيراً يتلقى عليه حفنة من التصفيق أو الصفير ونقوداً تمكنه أن يكمل شربه كل ليلة في إحدى البارات أو النوادي. كان الصوت يصيح باسترخاء "هلو". وجد الواسطي أنه الآن فقط مرتبك ومتلجلج. ولعن لحظة الحنين التي وجدها تفقد، حتى الممثلين، قدرتهم على النطق. لكنه تمالك نفسه وقال:

هل جليل الواسطي.. يسترك في تمثيل مسرحيتكم هذه الليلة ؟

قال جبوري وقد اعتراه حماس مفاجئ:

نعم وبدور رائع.

ذهل الواسطي. كل ما كان يتوقعه أن يقولوا "لا" وقد قرر أن يمثل دور أحد المعجبين ويمتدحه ويطلب إليهم دعوته للتمثيل ويحرجهم. لكنه وجد نفسه وقد اصطدم بقنينة العرق التي يضعها عادة جبوري تحت كرسيه وكرشه المندلق.  قال: أمتأكد ؟ جليل الواسطي نفسه.. ؟ رد جبوري: نعم.. وهل صنعنا "واسطيّاً" آخر ؟. تذكر صوره وصور الممثلين أصحابه المعلقة عند صدر مدخل المسرح.. أراد أن يعرف هل ما زالت هناك، وهل يقصده هو بالذات:

قل لي، توجد صور تجمع الممثلين عند باب...

و قبل أن يكمل  بدا أن جبوري وقنينة عرقه تفهمان كل شيء وتفعلان الأعاجيب هذا اليوم:

نعم ما زالت هناك كل الصور، وقد أضفنا لها صوراً للممثلين بأدوارهم الجديدة.. ماذا.. هل سمعت أن زلزالاً... ضرب المسرح الوطني ؟

تصور الواسطي أنه يستطيع أن يهشم قنينة عرق جبوري.. بهذا الطلب:

هل أستطيع أن أتحدث مع جليل الواسطي ؟

رد جبوري باعتداده المعهود:  بكل تأكيد، إنما هو الآن على المسرح.. انتظر سأرى فيما إذا انتهى من دوره.  و ألقى السماعة. فأحدثت صوتاً، كأنها اصطدمت بمنفضة سجائره الثقيلة. عجب، كيف لم يعرف جبوري صوته. وكان يسمعه كل يوم في صحوهما وسكرهما. هل غيَّرته الغربة إلى هذا الحد ؟ أم أنه العرق العراقي اللعين يلعب بمرح عظيم ؟ أم أن جبوري هو الآخر يمثل، وقد وجد الدور الذي لم يلقه طيلة عمره الضائع ؟ و جاءه صوت آخر.. وبقدر ما يميز الانسان صوته، أحس الواسطي أنه صوته تماماً، ولهجته ذاتها عندما كان يتحدث مع المعجبين والمعجبات اللواتي يطلبنه. فقد قال: "نعم.. تفضلوا.. يا مرحبا.." قال الواسطي كالغاضب:

من يتكلم ؟

رد الصوت:

جليل الواسطي... أمتأكد ؟ نعم أنا جليل الواسطي.. وهل هناك واسطي آخر ؟

وجد جليل أن لعبته قد انقلبت عليه. وأن كشك الهاتف أخذ يهتز ليس من الريح فقط. وأنه لم يفَقد قدرته على التمثيل فحسب، وإنما قدرته على مخالطة الممثلين أيضاً.. ولكنه قرر أن يواصل التمثيل فقال:

و لكن يقولون إن الواسطي قد غادر العراق.  هناك شخص مجنون أو مصاب بالفصام... كان يحلو له أن ينتحل شخصيتي.. وربما هو الذي غادر العراق..

أخذت الريح تصفح كشك الهاتف.. ولكن الواسطي قرر أن يسدد ضربته الأخيرة فقال:  عفواً لم أفهم من الذي غادر العراق.. المجنون أم حضرتكم ؟ جاءه الصوت من هناك. وقد خالطته نبرة هلع وفزع ظاهرين:

سأغلق الهاتف. إنهم يدخلون أسوداً ونموراً.. وكما سترى أن مسرحيتنا تقتضي وجود حيوانات مفترسة.

 

 

اللـــجـــــوء عند الاســكيــــمـو

من كوة الكوخ الثلجي عند حافة العالم، أحدق بالهاوية الكونية التي انفتحت أمامي.. وقد تراقص القمر والنجوم بجانبي.. ولولا أني أرتجف منتظراً قرار ملك الأسكيمو لرأيت الله، هل سيقبلونني لاجئاً عندهم أم سيلقون بي من هذه الحافة الجليدية الشاهقة المطلة على العالم الآخر ؟ تقاذفتني الدول كما كنا نتقاذف كرة الخرق في زقاقنا الموحل وكان عزائي دائماً أنهم لم يسلموني إلى السلطات في العراق.  نزلت مطار ستوكهولم. حقق البوليس معي ساعات. رفضوا قبولي لاجئاً، إذ أخبرتهم أنني قادم من ليبيا بعد أن أنهوا عملي، قالوا أن ليبيا موقعة على معاهدة جنيف 1951 للاجئين وكان علي أن أقدم طلباً للجوء هناك. خجلت أن أقول إنني حاولت عبثاً مع الأشقاء للبقاء في أرضهم الواسعة الدافئة مذكراً بالدم الذي هو كما يقولون أهم عندهم من حبر المعاهدات. وهكذا لاحقني صدقي وسذاجتي وبلاهتي.. طردوني على الحدود الألمانية لأني قادم من السويد الموقع على معاهدة جنيف 1951 للاجئين. طردني الدانمارك لأني قادم من ألمانيا الموقعة على المعاهدة. ولم أحتر لشيء قدر حيرتي إن كانت معاهدة جنيف مكتوبة بالحبر أو بالزئبق.. وعلى ورق في مكاتبهم الفخمة أم على شاهد قبر جدتي.  كنت أرسل البصر تائهاً متحيراً بين طريق هائل ترجَّه الشاحنات المحملة بألواح البيوت الجاهزة.. التي بدت لي كقطع من السماء، وبحر متجمد شاسع جعلني أكتشف أخطر نقص في تكويننا: لا نستطيع العيش تحت الماء. أذى الحيتان والكواسج لا يساوي صفعة أو كلمة مهينة من إنسان. وقف بجانبي رجل عجوز يقود زحافة تجرها ثمانية كلاب، سألني والثلج يتساقط من لحيته "أهذا هو طريقي ؟" قلت: "ماذا تقصد ؟" قال: ألا تعرف الأسكيمو ؟ ألا تعرفني ؟ اعتراني فرح غامر. فكرت إذا كان هذا الرجل يعتقد أنني أعرف طريقه فلابد أنني أعرف طريقي أيضاً. استيقظت فيِّ قدراتي على التنبؤ والتي قتلها الجميع سنوات طويلة. قلت باعتداد "هو ذا" وعندما وجدت يدي تؤشر باتجاه البحر خجلت ولكن يبدو أن إلهامي هو الذي كان يعمل. فقد قال العجوز فرحاً لقد أنقذتني من نفسي، منذ ساعة وأنا أقول لها: "من هذا الطريق أتيت" سار قليلاً ثم زجر كلابه وتوقف. إلتفت إليّ بحنو افتقدته منذ أن فارقت أهل قريتي قبل أكثر من ثلاثين عاماً: أتريد أن تأتي معي ؟ وجدت أنني سأواصل غبائي وبلادتي إذا رفضت، قلت لنذهب إلى الأسكيمو، فهذا كل ما بقي لنا من العالم قبل مثلث برمودا. أجلسني الشيخ على جانب من مقعده الذي كان قد دفأه بجسده، وانطلقنا. لا أدري لماذا ذكَّرتني رائحة عرق الكلاب الراكضة على الجليد برائحتنا في إحدى المظاهرات القديمة. أخرج الشيخ ثلاث قناني من الكحول قال إنه استبدلها في "أوسلو" بصيد عام كامل من جلود الثعالب والفقمة والدببة القطبية. قلت: "حسناً فعلت".. "و لو عدت إلى العراق لاستبدلت صيد ثلاثة أعوام من الدببة القطبية والفقمة والبطريق والطواويس والديكة والأرانب.. بقنينة عرق واحدة". "قال الشيخ حسناً تفعل". فتح قنينة وقال "لنمزج اسمينا بالكحول"، نطقت اسمي فتجمد أمامي في الهواء. ونطق هو اسمه فلم يتجمد ولكن لم يدخل رأسي المتجمد. أخذ يناديني "كي" ويبدو أن هذا هو ما علق بذاكرته من "Iraki" ابتسم الرجل وقال "كي" في لغتنا تعني "قفل".. وأعتقد أنها في لغة الانكليز تعني مفتاح.. ماذا تعني في لغتكم ؟  قلت: قفل.. ومفتاح.. ورقصة هز البطن.  قال الشيخ: لقد توقعت ذلك تماماً.  و فتح قنينة أخرى وأخذنا نشرب من فوهتها. أخذت أغني للكلاب كي تسرع في المسير، أوقفني الشيخ. قال: "كي" غناؤك حزين وسيء ويجعل الكلاب ترفع سيقانها لتبول، ظللنا نكرع الكحول ونلتهم شرائح نيته من كبد ذئب البحر، ولم أشعر بما تبذله الكلاب من جهد واهتمام وهي تقطع بنا البحر المتجمد وتزوغ عن التيارات الدافئة المنحدرة جنوباً.  قال الشيخ: "كي" أتسمح لي أن أبقي نصف هذه القنينة لزوجتي... أريد أن أحذف بها ستين عاماً من عمرها.. هذه الليلة.. ثم أغمض عينيه ونام. اعترتني رهبة. كيف أمسك زمام الزحافة ؟ أي الطرق سأسلك في القطب ؟ كانت هالة القمر تلامس الثلج وبدا أن الزحافة تصعد بنا شبكة الضوء إلى السماء. قلت لأترك الأمر للكلاب والقمر وأنفاس الشيخ التي أحسست بالكلاب تمشي على هديها. وانصرف للتفكير بمعاهدة جنيف لعام 1951 للاجئين.. لقد نمت، أحسست بالشيخ يهز كتفي ويصيح "كي.... كي" لقد وصلت الاسكيمو / رأيت رجالاً ونساءً بوجوه حمراء مستديرة ورؤوس بيضاء، يداعبون ذقني وأنفي بذيول وزعانف السمك.  "أفضل تحية عندنا".. قال الشيخ. طلبني ملكهم على الفور قالوا إنه يريد أن يُعَرِّفني بنفسه. عجبت لهذا التواضع. ولكن حساسيتي من الحكام جعلتني أكتئب وأتوجَّس خوفاً. وضع الملك سمكة صغيرة بيدي وأجلسني على جلد الفقمة وظل يبتسم مرتبكاً، حتى زال ارتباكي.  كانت حاشيته حوله وكان واضحاً أنه يريد أن يحقق معي. ولكن حكام الاسكيمو على ما يبدو يستحون.  سألني بحماسة مباغتة: كيف تعاملون الكلاب في بلدكم ؟ كنت أتوقع أسئلة عن معاهدة جنيف 1951 للاجئين. وقد أعددت أجوبة محكمة استناداً إلى بنودها، وكما أوحت لي بها مسيرتي على الثلج، وكنت قد قررت أن أكذب... وأكذب. ولكن سؤال الملك، أشعرني بحاجتي إلى النوم..  قلت دون تفكير: "باحترام شديد. نضعها بمناصب رفيعة.. ومواقع عليا.. تنهش لحمنا.. ونعبدها.. سيدي". دهش الملك الكهل وقال:

ــــ ومن يجرَّ الزحَّافات عندكم ؟

تثاءبت، وصرت أول رجل في العالم يتثاءب في حضرة ملك ولا يقطع رأسه. قلت بعد هنيهة طمأنينة:  ـــ لدينا سيارات وبترول. سنهبكم شيئاً منه يا سيدي.  انتفض الملك بحياء.. كعذراء تصدّ أول قبلة. وقال:

لا شكراً. نحن في برد وسلام.

و الْتَهَمَ حفنة من الثلج  وقال:

و الأسماك ؟ كيف تعاملون الأسماك ؟

سؤال آخر غير متوقع. لا تسعفه أكاذيبي المُصطنعة. ولم يبق سوى قول الحقيقة:

بمنتهى الكرم. سيدي.. حتى أننا نطعمها لحم جنود أعدائنا، ولحم جنودنا أيضاً.

ظهر على الملك الاشمئزاز، فأسقط قطعة السمك النيئ من فمه. وأخذت حاشيته تتململ.  ظل الملك مغتماً، مهتاجاً. اتكأ إل الخلف كمن أصيب بخيبة أمل.. وانقلبت وجوه الجميع. داهمني خوف وهم وأخذت ألوم نفسي على تمسكي بسذاجتي وبلاهتي. وجلبي لنحسي وبلائي إلى هنا. اقتادوني إلى هذا الكوخ، ولكن ليس بالقسوة التي كانوا يقتادوني بها في المطارات.  ها هو الثلج يهسهس تحت أقدام متراكضة. ثلاثة رجال، بأيديهم فانوس تفوح من زيته رائحة السمك. ويضيء وجه فتاة جميلة.  فتحوا جلد ذئب جاف. وقالوا إنه قرار الملك وأخذوا يقرأون بخشوع:  "لا تطلبوا منه العودة إلا حين تسمعون.. أن الكلاب في بلاده قد عادت لجر الزحافات. والناس لم تعد تأكل لحم أبنائها المختبئ في بطون السمك". ودفعوا الفتاة الجميلة إلى الكوخ، قالوا إنها أَحَبَّتكَ منذ رأتك تهبط ناعساً من الزحافة وقد بارك الملك حبكما. كانت في الثامنة عشرة، بضة، شقراء، فاتنة. دخلت الكوخ وشرعت توقظ أعوامي الخمسين الميتة في جسدي الهزيل. هذه الليلة لن أتحسر على شيء في العراق، سوى على تمره الذهبي. 

 

 

بـعد مجــيء الطـيــــر

عاد الزوج متعباً من معهد اللغة في بودابست، وجد زوجته قد أهملت إعداد الغذاء وانهمكت في صنع صندوق من الفلين الأبيض. قالت وهي تحدق في عينيه المتسائلتين:  ـــ إنه عش للطير.  و قبل أن يقول شيئاً أقبلت عليه تحدثه: إنهم عرضوا في برنامج تلفزيوني كيف يصنعون عشاً للطير من مواد مختلفة، يوضع عند حافة الشرفة أو الشباك "سيأتي طير جميل، وربما مع أليفه. ويمتلئ العش فراخاً وزقزقات تشيع في البيت لطفاً وحبوراً وبدلاً من منبِّه الساعة ستستيقظون على تغريد طير". راق الأمر للزوج كثيراً وداخله رضاً وزهو. ساعدها في تثبيت العش على حافة الشرفة الصغيرة. قالت الزوجة إنها تشعر الآن بالبيت وقد كبر كأن غرفة أخرى أُلحقت به. كان البيت مكوَّناً من غرفة للجلوس والنوم، ونصف غرفة للطفلين. كان أثاثه وأدواته عتيقة ومخلَّعة. إلا أن موقعه المطل على نهر الدانوب والجزيرة الخضراء الوارفة، قبالته. والزهور، والشجيرات التي بثتها الزوجة في أركانه  جعلته  جميلاً  ساحراً.  كان الزوج يبتسم بحزن إذ عيني زوجته تسرحان في متاهات الفضاء تتابعان طيوراً تمر فرادىً وأسراباً. وكثيراً ما قالت إنها رأت هذا الطير أو ذاك ينظر إلى العش وسيأتي اليوم أو غداً. وتقطع فترات الصمت. فجأة لتحاور زوجها مرغماً لكي يخمِّن معها أي طير سيأتي، ويتهدّج صوتها كأنها تتحدث عن غائب سيعود.  أخذ الزوج يحدثها عن الناس في هذه البلاد، وكيف آووهم في محنتهم، وتفهموا أوضاعهم. "إنهم مهذبون، رقيقون، يفكرون حتى بالطير ومأواه، ويشيعون حولهم الذوق والجمال" ويمضي في حديثه "غداً سنبني وطناً مثلهم" "يغدو فيه كل شيء سعيداً.. آمناً". كانا كلما استيقظا نظراً إلى العش. وإذ يجدانه خالياً، يصمتان. تركا البيت ليومين في زيارة لأصدقائهما ثم عادا عصراً، سمعت الزوجةُ هديلاً شجياً. أطلت بلهفة. كانت الفاختة داخل العش المثقب وقد جلبت معها من القش ما يكفي للتأكيد بأنها تنوي الاستقرار. كانت رمادية رشيقة، وثمة طوق زاهٍ حول رقبتها.  مضت الزوجة تتكلم دون توقف وعيناها على الفاختة: "لابد أنها جاءت من مكان بعيد، أنظر إنها تختلف عن هذه الطيور الهائمة" استغرقت تنظر إليها بحنان.. كانت ريشتان أو ثلاث من قوادمها قد سقطت أو انتزعت كأنها مرت في سماء معركة. أشارت إلى الفضاء وقالت بتردد:  ... "إنها قادمة من هناك" وأخذت تشير إلى الاتجاهات بحيرة وذهول.  في غمرة تلجلجها وبريق الدمع في عينيها وارتباكها: لم يبق سوى أن تقول: إنها قادمة من العراق. ومن نخلة بيتهم في بغداد. وإنها تشم فيها رائحة الأم والجيران والتراب القديم.  ... كان الزوج يبتسم لمشاعر زوجته المستعدة للتفجُّر دائماً.. إلا أنه شعر بالطمأنينة لكونهم الآن في وضع يستطيعون فيه أن يقدموا للاجئة مثلهم مستقراً. أخذت الزوجة تحدث طفليها عن الفاختة والوطن المبتلى. وصار الطفلان يقدمان لها مع فتات الخبز ما لديهما من حلوى.  لسبعة أيام ملأت الفاختة بهديلها الشجي البيت دفئاً وبهجة، وشغلتهم عن اجترار هموم المعتادة. كانا يضحكان.. إذ وجدا أن الفاختة في كل بلدان العالم تقول (يا قوقتي)، عندما دق جرس الباب بفظاظة، فتح الرجل الباب. كان ساعي البريد يحمل برقية مستعجلة. حدَّق الرجل بسطورها.. وسقطت يده بالورقة إلى جانبه، ليخبئها عن الزوجة.. لكنها تناولتها بهدوء وأخذت تقرأ.. كانت البرقية من "المجمع العالمي التقني" ينذرهم بضرورة ترك البيت خلال أسبوعين ويعللون القرار بالأوضاع الاقتصادية، وملابسات في منحهم البيت أصلاً.. وهكذا هبت العاصفة. دون أن تشعر بها الفاختة التي ظلت تهدل بطمأنينة.  .. بعد تهدم عشهما نسيا عش الطير،انهمكا في لم متاعهما،والبحث تحت الأسرَّة والمقاعد، عن فردة حذاء للطفل أو قنينة دواء ليضعها في الحقيبة ويرحلا.  كانت طعنة مطوحة لهم وللفاختة التي صمتت بعد ما حدث في البيت من جلبة.  و لكن الزوج تلقَّى طعنة أليمة أخرى غير مقصودة من الزوجة عندما قالت:

أنظر.. هؤلاء هم رفاقُك.

بودابست - تموز 1988

 

 

رائحة الطريق!

منذ أشهر وهو يعيش في عمان بغرفة متداعية عارية على سطح بناية عتيقة،لقمته  صعبة فاهية جافة،ومع ذلك أحس أن هذا ما كان ينبغي أن يفعله منذ وقت طويل. كيف احتمل وهو الشاعر المرهف أوضاع العراق المجنونة وكل هذا الأذى ولم يخرج احتجاجاً أو حتى بحثاً عن حياة سوية؟ ظل يحس بالخجل كلما تذكر الكثير من اللحظات والمواقف التي كانت له في بغداد،وهاهي قصائد الهراء والمديح المخزي التي كتبها هناك تنشب مخالبها في روحه.عندما هم بمغادرة حجرته، تذكر أن ناقداً عربياً يعرفه ويعتبره صديقاً كان في زيارة لعمان   طلب منه نسخاً من دواوينه الثلاثة ليطلع عليها من سيسعى عندهم لتدبير عمل له في الإمارات. وضعها في كيس أسود من تلك التي يضع فيها البقالون الخضر،وبينما هو يوارب باب حجرته وقع بصره على كيس أسود أيضاً  فيه حذائه الذي قرر أن يذهب به للإسكافي ليصلحه فهو لا يستطيع شراء حذاء جديد فحمله. عند الباب صادفه كيس أسود مشابه  كان قد وضع فيه نفايات فحمله أيضاً.كان رأسه ما يزال مزدحماً مصطخباً بالهموم تحت حرقة الشمس،لا يدري أيفكر بما فعل في الماضي،أم بما ينبغي أن يفعله الآن ليحصل على عمل، ويجلب عائلته من بغداد،ويواصل كتابة الشعر.في الطريق كان شارداً ذاهلاً لم يشعر بما فعل، فبدلاً من أن يلقي،الكيس الذي يحوي النفايات في صندوق القمامة طبعاً،ألقى الكيس الذي يحوي كتبه الشعرية!  وحين مر على الإسكافي ووجد ابنه الصغير مكانه، بدلاً من أن يعطيه الكيس الذي فيه حذاؤه المهترئ،ناوله الكيس الذي يحوي النفايات قائلاً " سلمه لوالدك وقل له هذا ما حدثته عنه عصر أمس"!. وحين وصل إلى المقهى،ولم يجد الناقد العربي،راح ينتظره لأكثر من ساعتين غير مصدق أنه يمكن أن يخلف وعده معه،وهو الذي كان يحتفي به في المرابد الشعرية، ويأخذه في جولات على معالم بغداد،ودعاه مرة لأكلة المسكوف على شارع أبي نؤاس، إنه على الأكثر لن يأت لقد مر وقت طويل على الموعد.  لكنه الآن يشم رائحة ثقيلة نتنة تكاد تصيبه بالغثيان.حانت منه التفاته للكيس الأسود المركون بجانبه. فتحه فصفعته رائحة  حذاءه العتيق،كانت عفنة ثقيلة وقد تفاقمت في لهيب الصيف وكأنها تحمل رائحة طريقه الطويل كله!  

 

 

البدوي والنورس الأبيض!

أنا بدوي،قضيت سنين طفولتي وصباي أعدو خلف الجمال كي لا تهرب من وجوهنا الكالحة  بحجة البحث عن الكلأ،وحين أتأخر كان أبي يسوطني على رقبتي  بسير من الجلد،ولا أعجب وهو الذي حدثني كيف إن أجداده في الزمن الغابر تحاربوا أربعين عاماً  وقتلوا من قبائلهم المئات من الرجال والنساء من أجل جمل واحد! ومع ذلك كانت الصحراء تقذفني من جوفها إلى المدن كأنها تغص بعظامي أو لا تستطيع هضم لحمي المر، ثم تستعيدني  سنوات أخرى  حزينة لأهدم خياماً وأبني خياماً في الرمال! في طفولتي وصلنا ذات ظهيرة ساخنة  حافة الصحراء ورأيت البحر مرة واحدة،كان ذلك لساعات قليلة،فنسيته إلا موجة منه ظلت تمرح في روحي، تلثم شاطئها وتمسح عنها الخطى القاسية،وتهدهد في حضنها نورساً أبيض لا أدري من أية سفينة أو غيمة هبط عليها،وكلما حومت نسور المغاور والكهوف الصحراوية فوقه،ألقيت غشاء قلبي عليه!  هذا اليوم سمعت هدير الموجة في البحر تناديني وأنا في الصحراء لألحق بها وأرافق نورسها الأبيض مبحراً حيث أريد!هي تعرف إنني بدوي وأنا أعرف أنها تجوب شواطئ مدن الدنيا! تبعتها ولكن النسور  الهرمة والفتية تحلق فوقي نهمة شرهة لم تشبع مما أكلت من جثث الجنود والمهاجرين التائهين في الصحراء! أنها تلاحقني أنا أقترب والموجة تبتعد أسمعها تناديني رغم زعقات وصرخات النسور التي أخذت تقترب من وجهي كأنها تريد البدء أولاً بنقر عيوني!لا أدري، الشمس ساطعة تعمي البصر والرمال لاهبة حارقة وصوت الموجة يقترب تارة ويبتعد تارة أخرى! 

 

 

قلوب الأمهات

كانت الأم العجوز الأرملة منذ شبابها المؤود تعيش لوحدها في البيت بعد أن تركها ابنها الوحيد وهاجر. ولأنها لا تعرف القراءة والكتابة،وبعينين أجهدهما السهاد المتواصل فلم تر وجوه الكثير من العجائز الوحيدات مثلها المطلات عليها من رفوف الكتب،وكيف هن  يتحرقن شوقاً للحديث معها عن أبنائهن وأزواجهن العاقين منهم والأوفياء ولياليهن الدافئة والباردة معهم، عن هجرهم وبعادهم المفروض عليهم أو الذي هفت إليه قلوبهم الجامحة والمنجذبة للمجهول، وما يرينه من بعيد على هذه الكرة التي تدور أمامهن مثل بلورة ساحر تضج بالألوان والدخان والوعود والأوهام. كانت الأم العجوز تحس بالنفور والشك وربما بالحقد على هذه الكتب التي جعلت ابنها يضل طريقه ويسافر بعيداً. خطر لها أن تتخلص منها.في قلوب الأمهات أن الأبناء يعودون عادة بعد أن تغدوا الكتب قديمة حائلة وصفراء وتالفة ولا تصلح لشيء. وفي الكتب يعود الأبناء عادة بعد موت الأمهات! تحاملت العجوز على نفسها ودعت جارتها لحمل ما تريد من الكتب، وتشعل بها تنورها. فكرت العجوز أنها بهذا حققت شيئين عظيمين. فهي ربما عجلت بمجيء أبنها الغائب الذي لا بد أن قلبه قد تعب من التطواف وراء البراري والبحار وأسقطت دليلاً على أن ابنها ما يزال بعد عودته يقرأ أو  يفكر،ومن المفيد أن يرى ذلك رجال الأمن الذين مازالوا يترصدون بيتها رغم أن ابنها غادرها منذ أكثر من عشرين سنة.الجارة فكرت أن المرأة المهجورة رغم صمتها فهي تريد بهذه الكتب ثلاثة أرغفة من الخبز،لكنها قررت أن تعطيها رغيفاً واحداً!

 

 

خبز لطيور البحر

اعتاد الزوجان العجوزان على جلب الكيس المملوء بالخبز كل يوم لإطعام الطيور في هذا المكان الجميل من نهر بيفون الذي يخترق أودفالا بهدوء ورقة  كأنه نهر نعاس وحلم ! منذ سنوات كثيرة وهما يطوفان على المطاعم،والمحلات التي تبيع الخبز ليحصلا على قطع كبيرة أو صغيرة من الخبز  يحرصان أن يضيفا لها مما يتبقى أو يقتطعانه من خبزهما اليومي ويأتيان مسرعين ليقدماه إلى النوارس والبط الذي يتردد بعد رحيل الصيف على بقعة شاسعة   بين أطراف الخليج وضفاف هذا النهر الرشيق طلباً للدفء في الشتاءات القارسة. كان العجوزان يحرصان أن يؤمنا طعام هذه الطيور  حيث تتجمد مساحات واسعة من شواطئ البحر ولسانه الممتد إلى خاصرة المدينة وحتى حين لا يكون هناك تجمد أو جليد يكسو صفحات الماء فإن الطيور لا تستطيع الحصول على طعامها، إذ أن الأسماك الصغيرة والكبيرة تلوذ في أعماق النهر الدافئة بعض الشيء! كان العجوزان يسيران بنشاط واضح غير مكترثين أن كل منهما يحمل على كتفيه ثمانين عاماً،وربما مائة وستين عاماً، فهما في تآلفهما يبدوان وكأن كل منهما يحمل عمر الآخر على كاهله، لكنهما لحظة وقوفهما بين الطيور يطرحان عمريهما والزمن كله ويستحيلان طفلين يضحكان ويداعبان جمهرة الطيور الكبيرة التي تتجمع أمامها تتقافز أو ترسل صيحاتها وزعيقها المتردد بين الامتنان أو الاحتجاج، حين تروح أيديهما عن غير قصد تلقي قطع الخبز في اتجاه طيور دون أخرى،فيتنبهان ويعودان للتوزيع بعدالة ويفضان ما ينشأ بينها من منازعات لا تختلف كثيراً عن منازعات البشر! معظم الطيور من النوارس البيضاء  والبط متدرج الألوان، تزج مجموعة من الحمائم نفسها بينهم، لكن النوارس تنقض عليها وتخرجها من الحومة فتقف مع العصافير والطيور الصغيرة الأخرى على مقربة ترقبهم بحزن ومسكنة لكن الأمر لا يفوت على العجوزين إذ يقوم أحدهما أو كلاهما بقذف قطع من الخبز ترضيهم! في ذروة نشوة الطيور وفرحها ورقصها للخبز الذي تتلقفه وكأنه مشبع بخمر مسكرة تعتري العجوزين بغتة موجة من الشجن  ويغيم وجهاهما الأشقران المحتفظان بمسحة جمالهما الغابر ويروحان يتهامسان: ـ هكذا كنا نطعمهما!  ـ كانا يعضان أصابعنا أحياناً وهما يلتهمان قطع الخبز أو الحلوى.  ـ كانا  يلثغان بإسمينا،يتعاركان، ثم يأويان إلى حضنينا كطيرين!   ـ أتذكر؟ كانا يستيقظان في الليل، لا ينامان حتى نطعمهما الحلوى التي نهرناهما عنها في النهار!  ـ  آه لقد ذهبا!  من الواضح لمن  يسمعهما أن يقدر أنهما يتحدثان عن ابنيهما لا عن حفيديهما فعمق آهاتهما تنطلق من أعماق سحيقة في روحيهما، ولكنه لا يستطيع أن  يعرف أين ذهب ابناهما هذان حتى لو أصغى لهما عشرات المرات،ربما يخمن إنهما ماتا صغيرين أو إنهما كبرا ثم هاجراً بعيداً عن السويد أو إنهما يسكنان في مدينتهما أودفالاً ولا يزورانهما إلا لماماً كالأبناء الآخرين المشغولين بهمومهم أو اللاهين عن آبائهم!   ينفضان الكيس ويلقيان آخر ما تبقى فيه من خبز لطير شره أو إنه جاء لتوه ويوليان ظهريهما للطيور،ويأخذان بتملي النهر،في عيونهما التماعة دموع وفي جسديهما النحيفين الرشيقين الملتفين بقمصلتين حمراوين رعشة حزن أو رجفة برد مفاجئة، ظهراهما يحاولان الاستقامة  وقد طالته انحناءة هم وأوجاع رغم حركتهما الدائبة، يشع النهر أمامهما تملأه جلاميد ثلج بيض وسمر أو يكون جارياً لتوه وقد تدفقت إليه مياه ربيع ما يزال بارداً، ينقلان بصريهما بين  أشجار واديه الأخضر أو أشجار ما تزال جرداء لم تتفتح براعمها، وقناطر تربط ضفتيه وأحجار وأرصفة رائعة تنتظم شاطئيه المتقاربين. يتكأ العجوزان على السياج الحديدي لحوض النهر ويرين عليهما صمت هادئ عميق بينما الطيور التي شبعت من أيديهما تأخذ بالتحليق حولهما وثمة رذاذ يتساقط  من أجنحتها ومخالبها ويهمي على وجهيهما  كأنه دموع أخرى لا تلبث أن تغسلها رشقات جديدة من هذه الطيور التي ما تزال محلقة دائرة راقصة  فوق رأسيهما نشوى بفرح كأنه ينبثق من قلب هذه الجنة الصغيرة!  

 

 

طف الضوا والحقني!

عبارة بسيطة وربما مبتذلة  لكنها استحالت يوماً إلى عاصفة غيرت مجرى حياتي. كنت أسمعها تتردد على ألسنة رجال ماجنين أو مرحين أو حتى جادين غافلين عفويين إذ هي انطلقت من سوق البزازين خلف بناية الجامعة المستنصرية في بغداد حيث وردت لأول مرة على ألسنة باعة القماش هناك حين أطلقوها كاسم مغرٍ على نوع من ثياب النوم الملونة الشفافة  للنساء فحققت مبيعات هائلة رغم رداءة القماش، وتلقفها الساسة كعادتهم في ابتذال الأشياء فأطلقوها  على بذلات لماعة كان يرتديها رئيس الجمهورية عبد السلام عارف وعلى نظام حكمه كله، ورغم السياسة وسطوتها القاهرة علينا ظلت هذه العبارة كلما نطقت تثير  في شبقاً ورغبات جنسية محمومة حتى إنني، والأيام كانت أيام شباب والدماء تفور في العروق كالزيت في المقلاة،  أطفئ الضوء في حجرتي في القسم الداخلي للجامعة في بغداد وأتبع جسد المرأة اللدن عبر تلافيف أحراش الأحلام وحرارتها الباذخة  وأشتبك معه وهو يشف من وراء ينابيع وانثيالات المياه الدافقة  !لكني عدت يوماً لمدينتي الأولى  أيس بعد غيبة طويلة والتقيت برجل كهل كنت أعرف إنه كان يتبع الطريقة النقشبندية (النقش على القلب ) في التصوف فكانت دهشتي  كبيرة عندما قال إنه غير طريقته   الصوفية إلى ما هو أرحب واشمل  واسماها الآن ( طف الضوا والحقني!) ويبدوا إنه لمح على وجهي انخطافاً سريعاً لم ألبث أن داريته بظل ابتسامة أو ضحكة منفعلة مكتومة فقال بهدوء: ــــ أنا أعرف كيف ابتذل الماجنون والداعرون والساسة البطرون هذه العبارة الجميلة ومرغوها بأوحال الرغبات الدنيئة والشهوات الدنيوية العابرة لكنها عندنا الآن  نحن المتصوفة تعني إطفاء الضوء حولنا،مكتفين بأنوار أعماقنا التي هي أنوار السماوات والأرض كله وقد ضغطت إلى ومضة عميقة في أحشائنا البشرية الصغيرة ونريد من الأحباب والأتباع أن يلحقوا بنا لهذه الدنيا السرية المنيرة الوهاجة المليئة بلذات الروح التي هي أعمق وأبقى من لذات الجسد ! انه اكتشاف عظيم لا يدركه إلا ذو حظ عظيم!  نعم، اطف الأنوار واتبعني، وأية  مسرات ومباهج سترشف من تلك الينابيع؟  وجدت الرجل يفحمني رغم إن الضحك المنفعل أو الهستيري ما يزال يقفز على شفتي ويتراجع!  كنت في حجرتي التي طالما أطفأت ضوءها  لأتبع الصوت الذي يقودني عادة  لفوران الجسد ورحيقه وأوحاله.جاءني صوت له نبرة الشيخ الذي التقيته في  أيس، وفي هنيهة سريعة وقف الشيخ أمامي بجبته وعمامته الخضراء ولحيته البيضاء وسبحته الطويلة ثم راح يسير أمامي صامتاً  تبعته  دون تردد  كالمنوم! دهشت إذ راحت الجدران والصخور والبيوت تتهاوى أمامنا فنخترقها كأنها جدران من الهواء  أو القش وراحت المدن والأقطار والمسافات والأكوان تتهاوى أمام خطواتنا التي  صارت سريعة حامية! كنت أعرف إنني أبتعد عن حياتي السابقة إلى غير رجعة لكني حثثت الخطى وراءه! وجدتني أقف معه أمام مغارة كبيرة سوداء لها باب كأنه باب قبر أو ضريح. أخرج الشيخ من جيبه الطويل مفتاحاً كبيراً قائلاً: ـــ هذه نهاية المطاف، هنا سنستريح حتى قيام الجنة!  وراح يعالج فتح الباب، تأخر في فتحه، وكلما بدا إنه سيفتحه كان قلبي ينغلق! حانت مني التفاتة من وراء العتمة التي أوصلني  إليها  الشيخ. وجدت نفسي أمام شاطئ فسيح يترامى أمامه بحر كبير تتموج مياهه الزرقاء الكسولة كجسد أنثى لج بها الشبق واليأس معاً، تركت الشيخ يعالج فتح باب الضريح أو المغارة السوداء، وهبطت مسرعاً كنت أعرف إنني قد ودعت مدينتي وأهلي وطريقي كله وإلى الأبد! وجدت  في  انسراحة بين الرمال الذهبية  فتاة باهرة الجمال  ناهزت الثلاثين في ثياب سباحة خفيفة أقرب للعرى  مستلقية وقد فتحت لي ذراعيها وهي تقول بصوت ناعم شبق: ـ أين كنت وأنا أنتظرك منذ  ألف عام! وقبل أن أنطق بكلمة نهضت وأخذتني بين ذراعيها نضت عني ثيابي واستلقت تحتي  وطوقت ظهري بساقيها  ودفعتني بقوة لأغرق بلجة بحرها العظيم، ثم  كأننا أطفأنا الشمس من حولنا وأشعلنا في روحينا  شمسنا الخاصة  بينما الشيخ ما يزال يحاول فتح باب الضريح المغارة والناس حولنا يعومون في البحر القريب لا هين لا يدرون ما يحدث لنا!    

 

 

النسر

دخلت سوق الحميدية في دمشق وكل ما كان يخطر ببالي أن أجد ملابس داخلية وقمصان جيدة  وبأسعار متهاودة أو معقولة.  كان أول شيء واجهته نسراً ضخماً  محنطاً بيد شاب وسيم ممشوق،وبجانبه ثمة صف من النسور المحنطة وقفت في هيئة استعداد انتظاراً لمن سيقتنيها. كان النسر الذي بيد الشاب ضخماً وأنيقاً ومتبختراً كذاك الذي يطل من واجهات البنايات الحكومية ومن جوازات السفر والتي كنت أراها بأيدي المشردين أمثالي! كان البائع  كعادة الباعة السوريين ملحاحاً لجوجاً إذ أمسك بذراعي مصراً أن أشتريه وهو يقول لن تجد  أجمل وأرخص منه،ثم راح  ينزل  بالثمن  كلما أشحت عنه حتى إنني رثيت للنسور كيف تصل لهذا الثمن البخس،لكني أسرعت بالسير بعيداً عنه!  قلت في نفسي لو أن النسر حياً أو محنطاً  قد وقع في سلة مشترياتي مجاناً لأزحته بعيداً! بل اكتشفت إنني أكره النسور جميعاً المحنطة والحية  ولا أدري من غرس فيَ هذه  الكراهية السيئة!  جذبت نفسي عن البائع وأسرعت الخطى وما أن انقطعت خطاه خلفي حتى  أحسست أكثر بالحفيف الثقيل الحاد لأجنحة النسر المهيب فوق رأسي ثم وهي تحيط  بي من رقبتي وكتفي وتوشك أن تقبض على أنفاسي بينما المنقار المعقوف الحاد ينفتح كفم تمساح يريد التهام حنجرتي  وانتزاع لساني من وراء أسناني التي أخذت تصطك! صرت أحرك يدي وأقلص عضلات وجهي بل إن روحي كلها تتحفز وتنتفض حتى توارى النسر فجأة واستعدت بعض هدوئي وأنا أحاذر أن يحس أحد باضطرابي غير المفهوم ! لاح لي وسط السوق محل يقدم  مرطبات ومثلجات من الحليب والفستق كنت أتردد عليه كلما زرت دمشق. قررت أن أدخله علني أحظى بلحظات هدوء.  بينما كنت أرفع ملعقة الحليب المجمد الشهي المعطر والمحشو بالجوز إلى فمي انقض علىَ النسر فسقطت الملعقة على قميصي وأخذتني موجة ألم وتشنجات في معدتي.  لم أستطع مواصلة تذوق الحليب المجمد الشهي المكتنز بالمكسرات رغم إن النسر الذي ناصبني العداء الشرس قد توقف  عن مهاجمتي. في صحن المسجد الأموي وبينما كنت أرقب الحمائم والزائرين انقض على النسر تسبقه صرخة حادة قابلتها بصرخة مذعورة وخجلة ورغم خفوتها تلفت خشية أن يكون  تطاير الحمام من حولي سببه صرختي! في عودتي لا أدري لماذا لم اسلك طريقاً آخر غير السوق ربما لتشتت أفكاري أو لشعوري أن ثمة قدراً ينبغي أن أستسلم له، لكني شعرت بقلبي يخفق بقوة  وأنا أقترب من  المكان الذي كان يقف به بائع النسور المحنطة.  واجهني الشاب  بوجهه الأسمر الوسيم أردت أن أميل عنه وأتفاداه  لكنه واجهني هذه المرة وبيده جوارب  رجالية دهشت أو إني أحسست بالراحة إنه باع نسوره بهذه السرعة  قلت له: : ـــ  لكنك قبل قليل كنت تبيع النسور المحنطة.  قال: ــ لا أنا لم أبع نسوراً محنطة على الإطلاق.  قلت له: ـــ  بل أنت الذي عرضت علي النسر قبل قليل.  قال: ـ  هذا غير معقول لا أحد هنا يبيع النسور المحنطة منذ أشهر، فالنسور اختفت في الصحراء الشرقية منذ فترة. قضى عليها صيادون كثيرون يأتون من الخليج.  نعم منذ أشهر لم يبع أحد هنا لا نسوراً حية ولا محنطة.  عافني وأمسك برجل عرف إنه غريب وراح يعرض عليه بإلحاح جواربه.  وجدتني أبهت واصمت ولكني ما أن وصلت فوهة السوق حتى انقض علي النسر ولم أخلص رقبتي من مخالبه حتى أسرعت لمسافة غير قصيرة. في حانة قريبة تداركتها وقد اعتدت أن أجد فيها الأمان في سنوات بعيدة  خلت  داهمني  النسر حتى إن الكأس قبل ملئه بالعرق والماء سقط من يدي على الأرض وأحدث صوتاً كانفجار فارغ وجعل حتى السكارى في الحانة يلتفتون نحوي ويرمقني بعضهم مشفقاً.

 

 

القمر الاصطناعي 1

تزوجا بعد غرام ملتهب عنيف تواصل كتفجرات بركان وسط البحر  لأكثر من عام،لا تطيب لهما اللقاءات والسهرات إلا تحت القمر في أيام الصيف الصاحية يتجولان أو يسهران أو يتعانقان طويلاً  تحت ضوئه الفضي وهمساته الناعمة الموشوشة كحفيف الورق وطيران الفراشات ! ولدا ونشئا في هذه البلدة الصغيرة النائية من السويد  من أبوين عراقيين مهاجرين مقيمين في السويد منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً !كانت شهور زواجهما الأولى  رحيقاً جعل البحر الذي يحيطهما يفقد ملوحته ويستحيل عسلاً وعطوراً وأغان ذائبة في الماء. لا يعرف حتى اليوم ما الذي حدث في الشهر السابع لزواجهما حين توقفا عن الحديث المباشر ليتحدثا على الدوام بالتلفون النقال تحت القمر الاصطناعي طبعاً! فجأة خمدت شعل النيران التي كانت تندفع إلى الأعلى من البركان على رأس الجبل،وأخذت الريح تدفع  الماء البحري البارد فوقه،  تباعدت جلساتهما ولقاءاتهما! فمرة تكون الزوجة مشغولة  في جلسة مع صديقاتها  ومرة يكون الزوج   وأصدقاؤه وصديقاتهم في بيت صيفي قريباً من البحر،لكن التلفون النقال كان شغالاً بينهما،وحتى حين فصلا سريري نومهما في البيت  في أجراء تجريبي كما قالا إذا هما لا يريدان أن يقرا بانفصالهما وموت كل شيء كان التلفون النقال بين حجرتي البيت يعمل بصورة جيدة كآخر وسيط لترميم حب يوشك أن يهوي مع الرماد البركاني إلى قاع البحر ! لكن أطول المكالمات التي كنت تنهك ذاكرة التلفون النقال هي التي كانت تتم بين الزوجة وهي مستلقية عارية تحت الملاءات الحريرية لفراشهما الذي أضحى نصفه بارداُ بشكل ثلجي  وبين الزوج ساهراً في بيت أصدقائه يلعبان الورق أو يتناقشان في صفقات تجارية أو سياسية بينهما التلفون النقال يحاول عبر مجساته  الرقيقة  الحفر في تجاويف الحياة والزمن محاولاً عبثاً أن يبقى شيئاً من دفء ذلك البركان الذي كان متفجراً  ذات يوم! لعل أكثر اللحظات التي كانا يحسان فيها بحنان مفاجئ مكتوم فيتحرج صوتيهما دون أن يعرفا لماذا هي حين يتوقف الهاتف عن العمل فجأة لعدم تواصله مع القمر الاصطناعي ربما يتذكران ليالي الصيف المقمرة حين كانا  يتجولان ويتعانقان تحت القمر، لم يتبق لهما من ذلك الحب القديم سوى القمر الاصطناعي وسوى تلفونيين فضيين معلقين في خيوطه الوهمية وثمة خيوط وهمية أخرى تمتد إلى العالم  تحمل  كل يوم إشاراتهما وكأنهما ضائعان في مكان مجهول وينتظران النجدة !  

 

 

القمر الاصطناعي 2

كانا في بغداد يحبان بعضهما وكانا يتحدثان أو يتغازلان من تلفون البيت،لم يكونا يعرفان التلفون النقال،ربما لم يريانه سوى في التلفزيون أو الصور! كان التلفون النقال ممنوعاً في ووقفاً على رجال السلطة والمقربين منهم! غادرا العراق بعد الحرب حول الكويت واشتداد الضائقة الاقتصادية وحين حلا لاجئين في السويد اشترى الزوج أولاً التلفون النقال ثم اشترت الزوجة بعده بشهرين تلفوناً نقالاً لها جربا أن يستعيدان به كلمات الغزل والحب التي تبادلاها أيام غرامهما الجميل في بغداد !  مرت ثلاث سنوات على زواجهما دون إنجاب أعلم الطبيب الزوج  أن العلة منه وتقتضي علاجاً طويلاً وغير مضمون ! زادا في استعمال هاتفيهما النقالين،كان يطلبها أو تطلبه لا عن لهفة أو شوق ربما  فقط ليؤكد كل منهما للآخر أنه موجود وإنه يرقبه !وإذا كانا في مكان عام  يطلبان بعضهما بينما هما على بعد خطوات من بعضهما ! وصارت هي تحدثه من غرفة نومها في التلفون وتسأله لماذا لم ينم بينما هو جالس في حجرة الجلوس يقلب التلفزيون بحثاً عن الأفلام الجنسية  كانا يتحدثان مع بعضهما ومع الآخرين  وحتى دون أن يعرفا مع من يتحدثان صار التلفون النقال ملتصقاً بأذنيهما رغم إن تكاليفهما راحت تستنزفهما! ليلة أمس حلمت الزوجة أنها تغوص تحت البحر وثمة قمراً اصطناعياً يلاحقها مع قافلة من قناديل البحر!دخلت كهفاً عميقاً وجدث ثمة طفلين جميلين ينادينها ويومئان إليها بأيديهما وابتسامتهما  وثمة صوت من التلفون الملتصق بإذنها كقرط أو حلية زائفة  يقول لها ( إنهما طفلاك لماذا لا تحملينهما!) وحين تفتح فمها لتقول شيئاً ينزلق التلفون من أذنها ويستحيل سمكة فضية كبيرة بزعانف ملونه ويروح يسبح في الماء بعيداً عنها تتلفت فتجد الطفلين قد اختفيا. تستيقظ لاهثة ولا تستطيع معاودة نومهما! في الصباح كانت جالسة مع زوجها على مائدة الفطور حين دق هاتفيهما بنفس الوقت شحب  وجهها فجأة فهي لم تعد تود سماع الهاتف بعد حلم أمس وأخذت يداها ترتجفان وهما تضعان كوب الشاي على المائدة وتمسك الهاتف بينما زوجها اتجه إلى صالة الجلوس وتلفونه ملتصق بأذنه وهي  الآن تسمع نفس أصوات الليل ولثغات الطفلين وهمهماتهما وهدير البحر ونفس القمر وهو يهبط بقوة في لجة البحر تتبعه آلاف من قناديل البحر كأسراب من التلفونات النقالة والتلفون ينزلق من  يدها ويسقط على أرض المطبخ لكنه رأته في الدوار الذي اعتراها يتحول إلى سمكة ويختفي  بين الأمواج !  

 

 

القمر الاصطناعي 3

هو لا ينسى أن الفضل في تعرفه عليها يعود لهاتفه النقال الصغير،كان في  فسحة عمل حين أرسل رنينه المنغم وحين فتحه أنسكب في أذنه صوت أنثوي رقيق أجمل من الأغنية التي هي نغمة تلفونه التي يحبها. حين سمعت صوته عرفت أنها أخطأت في دق أرقام هاتفها النقال فاعتذرت بسرعة وقطعت المكالمة!دون أن تعرف طبعاً أية لهفة وأي لهيب أشعل صوتها في قلبه! حين عاد للعمل لم يستطع أن ينسى نغمة صوتها ورنته التي تدق في الروح وكأنها ميسم زهرة تدفع بها نسمات ربيعية! وجد أن رقم هاتفها الذي احتفظ به الهاتف في تعدده وكأنه خارطة طريق تقود إلى مجهول لكنه ينفتح على عالم من اللذة والدفء والسحرولا يستطع أن يقاوم إيماءاته المغرية !كان قد قدم إلى السويد من العراق بعد خدمة طويلة في الجيش أقترب فيها من الموت مرات عديدة.لقد خاض ثلاثة حروب وخرج منها حياًُ وسالماً إذا قورن بأقرانه إذ اقتصرت إصابته على عجز كلوي  نصفي  نتيجة رصاصة اخترقت جنبه الأيسر ومزقت كليته! ترك حجرة العمل متجهاً إلى  مكان التدخين وطلب رقمها! تحدث معها لم تطل معه الحديث لكنها لم ترفضه تماماً! أعاد الطلب عدة مرات. كان ظمئاً إليها، أعماقه التي جفت طويلاً في  دخان الحروب ولهبها استيقظت فجأة  بندى صوتها وعطره وراحت تطلب الآن رواءها وخضرتها! بصبر وأناة حظي بقبولها وحين وافقت على لقائه وجدها وهي الفتاة السويدية الشقراء أجمل من الأغنية الشرقية السمراء التي بشرته بها من هاتفه النقال! حظي بصداقتها واستلطافها وإن ببطء! ربما ليست مصادفة وإنما إرادة لا شعورية منها انتقال مسامراتهما أو انتقالهما من القمر الاصطناعي إلى القمر الطبيعي! كان لقاؤهما العاطفي الأول بعد اعترافهما بالحب في  ذلك المساء  تحت قمر كبير بدر أحمر نادراً ما يشع بهذا البهاء والصفاء في ليالي السويد حتى في الصيف وبالذات في هذه المدينة الصغيرة أودفالاً كثيرة السحب التي تلفع السماء كمعطف عتيق رث!  ومنذ لك اليوم لم يلجئا إلى التلفون وقمره الاصطناعي! صارت أغلب لقاءاتهما وعناقاتهما تتم تحت القمر! وجدت به حباً متأخراً مجزياً عن خيبات ماضية! لا تنسى أن مخابرتها الأولى  التي وصلته خطأ هي لآخر محاولاتها لاستعادة حبيب غدر بها مع صديقتها! وقد ظلت خائفة أن يتقل لها الهاتف النقال خبراً مشؤوماً كذاك الذي كاد يحطم قلبها وحياتها  وحتى بعد زواجهما استيقظت أكثر من مرة  مذعورة  وهي ترى  حبيبها على شاطئ بحر شاسع  ممسكاً بسنارة طويلة في طرفها تلفون نقال غاطس تحت الأمواج يرن ويرن وكأنه يستدعي حوريات البحر ليصطادهن كما اصطادها بينما القمر الاصطناعي قد دفع  قمر السماء بعيداً ووقف فوقهما يرسل قهقهات مدوية كأنها الرعد،تطل من النافذة وترى القمر في السماء، تلقي نظرة على حبيبها النائم بجنبها  فتطمئن وتنام بعمق! 

 

 

قليلاً من النذالة رجاءً

أتعبه كثيراً من يسمون أنفسهم أو يسميهم هو بالأصدقاء، عمل كثيراً من أجل وصولهم إلى النجاح بينما عملوا هم على سقوطه! عمل من أجل ما يسعدهم ويفرحهم، وعملوا هم من أجل إيلامه وإتعاسه! لم يكن يرى غريباً أنه كلما بذل لهم من نفسه طلبوا المزيد ودون أن يردوا بعض جميله عليهم. يرى إن طبيعة الأشياء بدأت تختل عندما فقط يردون إحسانه طعنات في الظهر والخاصرة، وإساءات وجراحاً تحيل روحه بين أسنانهم البيضاء والمنخورة مزقاً وأشلاءً! كان يرى ظلم الأصدقاء يتضمن بشكل ما إيعازاً لتدمير نفسه وتدميرهم أيضاً، وقد يحتمل تدمير نفسه لكنه لا يحتمل أن يدمر أصدقاءه وهو الذي لا يحتمل تدمير أعدائه! لم يسيء  لأحد منهم، على العكس كان يحاسب نفسه كل ليلة، كم أسدى لهم من الطيب وكم يستطيع أن يمنحهم من قلبه، إما إذا أكتشف إنه أساء لأحد منهم بزلة لسان أو يد فأنه لا ينام ليله أرقاً وتقريعاً لنفسه حتى إذا انبلج الصبح بادر للحديث مع من يعتقد إنه أساء إليه معتذراً ومغتنما أبسط فرصة ليكفر عن ذنبه الحقيقي أو الموهوم بخير له ولا يجعله يعرف إنه وراءه! ظل  أذى الأصدقاء ينهال عليه كأنه تراب جدار منخور، كان يدهشه انتقال بعض  الأصدقاء إلى الكراهية مثلما ينتقل من حانة إلى أخرى، ومن موقف إلى آخر، ويظل هو يتساءل لم لا يكون بيننا  حب نقتسمه معاً فيزيد ولا ينقص، وآلام نقتسمها معاً فتنقص وتخف علينا مهما زادت! كان يرجع ميلهم للحقد والتدمير لعطب أصاب البلاد بتوالي النكبات والكوارث عليها، وكان يجد العزاء دوماً بما يغمره من خير وطيب من قلة من الأصدقاء تبقوا له كما تبقي أشجار ورد مزهرة رغم العطش وغبرة الأرض! زوجته وما تبقى له من أصدقاء أوفياء كانوا يلومونه أنه مقصر  بحق نفسه بعدم الرد، أحدهم ألمح إلى  أنه لا يمتلك القوة التي يحتاجها الإنسان للعيش آمناً في هذا الزمان, ورغم إنه صار يلوم نفسه أحياناً حيث لم  يقابل نذالتهم  بحزم  ورد مناسب، كان ما يزال واثقاً من نفسه،  رد قائلاً: ـ الغدر  والشر لا يحتاجان لقوة إنهما  يحتاجان للنذالة فقط ! قالوا له: ـ بساطتك وتواضعك أغريا هؤلاء بنهشك!  قال: ـ لا أستبدلهما بصداقتهم!    لكنه جرب أن  يرد على من أساء إليه بقوة لا يفتقر لها، فلم يطاوعه ضميره وهو يعرف إنه في  محاولات سابقة للمجابهة دفع ثمناً باهظاً من الأرق وتجريح الذات رغم إنه كان مدافعاً لا مهاجماً!  كان واقفاً أمام مرآة الحمام الكبيرة يحلق ذقنه عندما رن الهاتف القريب منه، رفعه وتلقى الخبر المشؤوم! جاءته الطعنة هذه المرة من صديق كان يعده من الأوفياء الذين أبقاهم الزمن له وأبقاه لهم، كانت تنم عن خسة شنيعة وعن قدرة على إخفاء اللؤم والشر تحت ثوب من الابتسامات واللمسات الناعمة: وجد الأرض تميد به ويديه ترتجفان، نظر إلى ملامحه التي يقول الناس إنها توحي بالطيبة قد انكمشت الآن وبدا وجهه حزيناً، عينيه ما زالتا تشعان بذاك الصفاء الذي طالما استوقف حتى أعداءه! لكنه صار يقر الآن أن هذا هو سبب كل هذه المصائب والمتاعب التي ينزلها الأصدقاء به، لو كان قد جعل عينيه مظلمتين، لو جعلهما حمراوين كعيني ذئب مفترس،  لو كان قد قطب ملامحه كشفرة سكين، لو كان أطفأ ابتسامته كلما شعت على شفتيه وغرس وراءها أنياباً وأنبت في أصابعه مخالب، أكان  يجرؤ هؤلاء الأصدقاء التافهون الخوافون  على إيذائه وتقطيع أوصاله بأنيابهم ومخالبهم؟ اللعنة. لم لا يمتلك ما يكفي من الخسة والنذالة ليقي روحه من خستهم ونذالتهم؟ نظر إلى وجهه الأسمر الشاحب، إلى جسمه النحيل الضامر المتلفع بثوب البيت البسيط، إلى شخصيته كلها الواقفة في المرأة كجرح كبير ينزف في داخله دون أن يلقي قطرة واحدة على الأرض. بدا هو لنفسه شخصاً غريباً آخر يقف أمامه حائراً عاجزاً ذاهلاً محبطا،ً ندت عنه آهة عميقة، حدق طويلاً بهذا الرجل الذي تجاوز الخمسين ولم يزل مملوءاً ببراءة طفل! هذا الرجل الذي يتعذب فقط لأنه لا يستطيع أن يكون نذلاً، راح يتوسل إليه في سره متمتماً ثم قالها بصوت مسموع والدموع في عينيه:  ـ قليلاً من النذالة، قليلاً من النذالة رجاء!

 

 

خيوط وأحلام  ومقص!

كانت سناء منذ طفولتها ذات جمال غامض محير،وكلما كبرت ازدادت جمالا ًوازدادت قدرة على خلق الحيرة في قلب من يراها، بعضهم يقول أنها ذات فتنة خاصة وليست جميلة جداً،ربما هم يقصدون أنها ليست بجمال تقليدي ولكن كثيرين يقولون أنها أكثر قرباً للقلب من جميلات  شهيرات،والحقيقة أن جمالها غريب مشع مربك، هي لم تلتفت لذلك، تركت المدرسة المتوسطة وانخرطت في عمل بيتي يقي العائلة غائلة الجوع، انشغلت بالتطريز تخرج من بين يديها شراشف وملاءات أسرة كقطع من الرياض المزهرة،صارت رسومها على الأقمشة موضع حيرة أخرى في أيس القابعة في أعالي الفرات،فعلى خيوطها الحريرية الناعمة الملونة راحت المخلوقات تتأرجح في تيه جديد،أشجار تتدلى منها عيون جميلة تحدق في برك تطل منها أسماك تبحلق في النجوم،اسود تطير بين الغيوم، وأعمدة قصور تتحاور وتنشد شعراً على شكل زهور تتطاير من استداراتها الملساء! تأخر زواجها. كثيرون أرادوها  وتقدموا لخطبتها رفضت هي  قبل أن يرفض والداها، فهي تعرف أن النسغ الذي يحيا به أبوها الضرير وأمها المريضة المنهكة يمر من بين أناملها أو هو عصارة الزهور والفاكهة التي تطرزها! آخرون لم يتقدموا لخطبتها إذ شعروا أنها حلم فوق استحقاقهم وبعيد المنال،بعد اندلاع الحروب وتوالي الهزات السياسية قل الخاطبون ثم انقطعوا. وبقيت سناء منكبة على عملها. كل ما بين يديها إبر وخيوط وأحلام ومقص! كانت مفارش النوم هي إبداعها المفضل،قيل إن ما ترسمه على المخدة لا بد أن يراه النائم عليها وفي أرض أخرى أجمل من أرضنا وفي سماء أخرى أجمل من سمائنا! فهي إذا رسمت غزالة رآها النائم غزالته الشاردة التي تومئ له بين الغدير الصافي والأيكة العطرة وفي براري بعيدة وربما على كوكب آخر! وإذا رسمت بقعة ضوء رآها النائم كوكبه الهادي في زمنه الصعب المرير، والحمامة التي تطرزها بحرير أبيض يميل للخمري كانت تأتيه برسالة الغائبين وتهدل له الأغنية الشجية المنسية وتفتح له الطريق إلى العالم! كلما أمسكت الإبرة حاذرت أن تغرزها بقوة،والمقص لا تقطع به فهي تحس برسومها أحلاماً حقيقية وكائنات حية لا ينبغي أن تجرحها أو تقطعها، تكتفي  بأن تقطع برفق الخيوط الصغيرة الواهية الزائدة لكنها كانت تحس بالأبرة توخز قلبها وتفجر دموعه الصامتة وثمة مقص كبير في مكان لا تدري أهو في السماء أو في الأرض يقطع حياتها وأحلامها! ولكن مفارش النوم نظل تستحيل على يديها غيوماً رقراقة تحلق  بالمضطجع بين مروج تبدو أبراج النجوم فوقها مجرد  شجرة وحيدة بين أشجار أخرى! ظل خداها يحمران خجلاً كلما ذكر أن خاطباً سيأتي يوماً ويطلب يدها من أبيها الأعمى الذي بلغ من العمر عتياً ولم يمت لأن إبرة سناء تلتقط زهور الأرض والسماء وتنفض بعض رحيقها في في فمه الأدرد! بقيت تسمع عن حروب طويلة لا تنتهي حتى تبدأ  واعدامات وسجون كبيرة  لكنها بقيت ترسم أزهارها الفواحة التي تترك مع الشذا في القلب حزناً،وأحياناً غضباً مبهماً! قاربت الأربعين وتهدل صدرها ولاحت صفرة الترهل على خديها الموحيين بفتنة غامضة ولكنهما ظلا جميلين فاتنين سألت أمها: ـ إذا كان الشبان يحجمون عن الزواج،أين يذهب الناس بهذه المفارش التي يشترونها ؟ ردت الأم بصوت واهن برم من كل شيء: ـ بعضهم يقول أنهم يتاجرون بها مع بلدان أخرى ما زال الشبان فيها يعشقون ويتزاوجون وينجبون!   سكتت برهة،أضافت: ـ يقولون أنهم يخزنونها أيضاً فهم لم يفقدوا الأمل ! ندت عن سناء ضحكة قصيرة حزينة جافة: ـ لكن جارتنا قالت لي اليوم أنهم صاروا يلفون بها جثامين أبنائهم،يقولون إنهم هناك في الجنة سيتزوجون، لا أدري! عاود  سناء وجومها الرقيق، عادت للتطريز صارت تشيح عن الجارات الثرثرت القلقات وتنكب على شراشف النوم ترسم عليها طيورها وغزلانها وأسماكها وسباعها وثعالبها وشموسها الحارقة والغاربة،،لم تجعل الألوان اقل بريقاً فقط صارت أكثر حيرة حين تطرز السماء هل تستعمل الخيوط السوداء أم الزرقاء؟ لكنها تهتدي دوماً للونها الصحيح والجميل في النهاية.صار الناس حين يقتربون من شراشفها يرون الأطفال يحلقون بأجنحة من خيوط الحرير وكأنهم طيور تحلق في عالم آخر مطلقين أغانٍ مبهمة تجعل قلوبهم في نشوة وشجن معاً،ويرونهم يريدون القفز إلى دنياهم وأحضانهم حتى إنهم يفتحون لهم أذرعتهم!   أخذت الأم تلحظ تزايد الخيوط السوداء في تطريزها،وقد وجدت ذات يوم زهرة سوداء في موضع جميل من تشكيلاتها الزهرية الجميلة، لسعت الزهرة قلب الأم،فالأرض نفسها لم تخرج يوماً زهرة سوداء! من غير المعقول وقد بلغت هذا العمر أنها لم تعشق رغم انكفائها في البيت لا بد أنها أحبت وانتهى حبها لهذه الزهرة السوداء قررت أن تسألها: ـ لقد كان يا ابنتي في البلدة شبان كثيرون، ألم تحبي يوماً أحداً منهم! نظرت إليها سناء، عن أي شبان تتحدث أمها الطيبة،لقد كان هنا شبان كثيرون حقاً  لكنهم اختفوا، ثمة شيء في قلب سناء لا تريد البوح به حتى لنفسها، صمتت وبابتسامة ناعمة ولكي تطيب خاطر الأم قالت: ـ لقد كبرت يا أمي،وكل ما أتمناه أن يعود الرجال إلى ذويهم!  لكن سناء صارت أكثر انشغالاً برسوماتها على القماش ورغم إنها تعرف إن الناس في بلدتها لم تعد  تقبل على شراء الشراشف فهي لا تحتاجها، وإن صاحب الدكان الذي يأخذ منها منتوجها الغزير وبثمن بخس  يبيعها لتاجر ينقلها لبلد آخر إلا أنها صارت تستهلك فيها كميات أكبر من الخيوط السوداء والرمادية وتحرص على  بزوغ زهرة سوداء من بين تلافيف الغصون تطل كوجه متسائل من عتمة موحشة!ً  

 

 

لا تنسني

كنا جالسين في مقهى الأولينس في أودفالا، ثلة اللاجئين المعتادة،كان وليد بيننا وقد ازداد هزالاً وشحوباً كنت  قلقاً وحزينا عليه، رأيته يتململ ويرمقني بين لحظة وأخرى كأنه يريد أن يقول لي شيئاً، لم يلبث أن مال علي وقال: ـ  لدي رجاء عندك!  قلت: ـ أتريد أن نخرج؟  قال: ـ  إذا كان ذلك ممكناً!  سرنا على شاطئ القوارب، توقف وأخرج من بين أوراق كتاب في يده مظروفاً فتحه أمامي  ليس فيه سوى زهرتين من زهور لا تنسنى قال: ـ كل ما أريدة منك أن تلصق المظروف وتضعه في البريد يعد موتي!  وقبل أن أطالع العنوان على المظروف عرفت إنه يريد أن يرسله لحبيبته وخطيبته في العراق.  جفلت متالماً قلت: ـ لا تقل هذا. ستعيش وستقهر المرض!   قال بحزن وهو يرمق الأفق: ـ آمل، ولكني لا أعتقد ذلك!  حل وليد بين ظهرانينا في  أودفالا بهدوء وخفة طير جميل مهاجر،التقيته مرات عديدة وساعدته في تنظيم أوراق تتعلق بزواجه، عرفت إنه قادم من معسكر اللجوء في "رفحا " السعودية،كان أحد المنتفضين في الجنوب  بعد حرب الكويت،لم يتجاوز الثلاثين بعد،هزيل القوام بنتوء أو انتفاخ في بطنه،ارتحت لتهذيبه واستوقفتني مسحة الحزن على وجهه الأسمر الشاحب الوسيم،صرت ألقاه في مقهى الأولينس والتي يتجمع بها اللاجئون أحياناً،كان يبتسم حتى حين يبلغه أحدهم بمصاعب ومشكلات سيواجهها في إقامته في هذه البلدة أو في محاولته جلب حبيبة صباه وقد رتب مع أهله في العراق أمر قرانه بها والعمل على جلبها للسويد،كان كثير الصمت والسهوم ويكتفي بابتسامة خافتة حزينة على أشياء يرويها اللاجئون ويضحكون لها مقهقهين. أحسست أن أشياء كثيرة في روحه قد نضجت تحت شموس النهارات الطويلة في الصحاري،وفي العزلة الخانقة الطويلة بعيداً في صحراء الجزيرة.  كان ما يشغله على الدوام كيف يعجل بجلب حبيبته التي عقد عليها وقدمت مع أبيها فترة إلى الأردن لتقدم طلب تأشيرة دخول إلى السويد ثم عادت إلى العراق تنتظر حيث معاملة جمع الشمل تستغرق أشهراً.كان يسألني عما يعتقد إنني أعرفه عن هكذا معاملات  في السويد فكنت أحاول أن أطمئنه خاصة بعد أن علمت إنه يعاني من متاعب صحية لم يشأ أن يفصح عنها. ذات مرة كنا نسير في الشارع الرئيسي،  توقف عند واجهة محل لبيع الزهور،أخذ يتأمل سندان ورد صغير فيه نبتة رشيقة بأوراق خضراء يتخللها زهر صغير كثير أزرق متفتح  بقوة واكتناز كنافورة  قال وهو يطلق آهة:

ـ ما اسم هذه الزهرة ؟ ـ لا أعرف تماماً، ولكني اعتقد إنها من فصيلة زهرة تدعى " لا تنسني " أضاءت وجهه ابتسامة فرحة قال: ـ هي كذلك بالضبط ! نظرت إليه مندهشاً، إذا كان يعرفها وبهذا اليقين لماذا سألني قلت: ـ يبدو إنك تهتم بالزهور! قال بصوت ظل فرحاً رغم ما شابه من حزن: ـ هذه الزهرة فقط!  ـ ولماذا هذه الزهرة فقط ؟ صمت برهة كأنه يحتسب الأمر ثم قال: ـ سأحدثك! ظل واقفاً يديرها أمام عينيه الواسعتين وثمة  مسحة حزن تختفي من وجهه ليتهلل بفرح أو انشراح. طال وقوفنا بعض الشيء أحسست بالملل، ظننته يتهيب دخول المحل قلت: ـ يمكننا أن ندخل إذا كنت تريد شراءها! ـ ليس الآن ! قال مكملاً: ـ عندما تأتي فائزة سنشتريها معاً لا أريد أن أستمتع بهذه الزهرة وهي ليست معي! وبينما بقيت صامتاً لا أريد الخوض في أشيائه التي بدت زهرة لا تنسني  تشكل جزءاً حساساً منها استدعت آهة طويلة منه طفق يحدثني: ـ كما قلت لك كنت وفائزة حبيبين منذ صبانا. كانت قريبتي وجارتنا أيضاً في الشطرة المطلة على الأهوار التي لم أنس يوماً سماءها المضيئة وأريجها الفاغم! أحياناً كنا أنا وهي نغافل الأهل ونذهب لنمرح قريباً من البساتين وسواقي الماء، كانت في البداية تستوقفنا زهور الحندقوق الصفراء الصغيرة التي لا أدري لماذا تذكرني بعيون القطط. فكنا نضفرها ونعمل منها أكاليل نتوج رأسينا بها وكأنما نحن ملك وملكة على دنيا الحب! لكنا صادفنا مرة صفاً طويلاً من هذه الزهرة الصغيرة الزرقاء التي لا تكاد ترى ولا يميزها أو يحبها إلا من اعتاد الحنو على الأشياء الصغيرة! كنا نجدها على أكتاف السواقي أواخر الشتاء وأوائل الربيع  أحببناها كثيراً، ولم نعد نجتثها من عروقها، كنا نكتفي بزهور قليلة منها نأخذها لتنام معنا ونغفو على رائحتها، ومن الغريب كنا نراها في اليوم التالي كأنها لم تذبل ولم تمرد. كبرنا وقد  ظلت هذه الزهور الصغيرة تمنحنا فرحاً وسعادة، بل صارت كأنها في تألقها كل ربيع تجدد حبنا وتسمو به، بعد سنوات حملت اضمامة منها لصديق لي يدرس في كلية الزراعة فأعلمني أن هذه الزهرة تسمى " لا تنسني ". بلغت العشرين وكانت هي في التاسعة عشرة وكنا نوشك أن نعقد قراننا عندما، اندلعت حرب الكويت ثم جرفتنا الأحداث ووجدت  نفسي لاجئاً في السعودية، بعد سنوات من قلقي على فائزة وصلتني رسالة أخذت طريقاً طويلاً ومتعرجاً ولم يكن في المظروف الصغير سوى بضعة كلمات وزهور جافة من زهرة لا تنسني، وكيف أنسى فائزة وزهرتنا الأثيرة ؟ الآن أنا أنتظرها، كانت فرحتي كبيرة وأنا أرى زهرة لا تنسني هنا أيضاً! سألني:  ـ لقد مر شهران على إكماله معاملة استقدامها في السفارة السويدية في عمان   هل حقاً إن المعاملة ستستغرق ستة اشهر؟  قلت: ـ هكذا، لقد استغرقت الحالات السابقة هذا الوقت وأحياناً أكثر!  قال: ـ إنه  وقت طويل!  كان قلقاً وخائفاً ! لم ألتق وليد لشهرين أو أكثر، بالأحرى انقطعت أنا عن مقهى الأولينس، سألت عنه هناك قالوا إنه مريض في المستشفى، صدمت حقاً عندما أخبرني أحدهم إنه مصاب بسرطان متقدم  وسيجرون له عملية جراحية وإن الأمل ضئيل بشفائه، خرج من المستشفى وكان ما يزال مرهقاً،ا لتقينا مرات قليلة , فاجأني إن همه صار هذه المرة يتمنى أن يموت قبل أن تأتي حبيبته فتظل بين أهلها وأقاربها، قال بلهجة جافة وحزينة: ـ   أعرف إنني سأموت قريباً ولا أريدها أن تضيع هنا لقد ضاع هنا  رجال وشباب أقوياء،  فكيف وهي الشابة الجميلة الطيبة. ظل يدير بصره في الأفق وعيناه تطرفان، ورغم إنني أحسست أن تفكيره صحيح ومنطقي لكني قلت له: ـ لا تتشاءم ستشفى وستساعدك هي على الشفاء. قال:  ـ لا أنا أعرف إن حالتي ميؤوس منها. لا أريد أن أكون أنانياً تأتي لتكون ممرضة لأيام أو أسابيع لي ثم أتركها تتعذب وحيدة دون معين. أتمنى أن تبقى هناك تتزوج وتعيش ببساطة  ولا تأتي هنا وتتبهدل رغم أن الحياة هناك شقاء لكنها تعرفها وتستطيع أن تشق طريقها فيها. قال إنه خجل أيضاً لا يريد أن يوقف معاملة قدومها، يتمنى لو إن الموت يتقدم ويحسم الأمر قال: ـ لا أريد أن أخبرها بمرضي كما لا أريد أن أخبر أهلي فلديهم من الآلام ما يكفيهم ولو كتبت لها طالباً عدم القدوم أو تأخيره فهي ستعتقد إنني قد خنتها وغرقت بين ملاهي ونساء السويد. لم يجد حديثي معه في منحه الأمل. كان معذباً  تلفه دوامات مرضه القاسي وحيرته إزاء حبيبة يتلهف لرؤيتها ويخاف أن يكون ثمن لقائه بها ضياعها في هذا البلد الغريب كما يعتقد أو كما هو الأمر حقاً. 

وكما كان قبل أشهر يستعجل قدومها قبل موته، صار الآن يستعجل موته قبل قدومها. واليوم جاءني بهذا المظروف ماذا عساني  أقول؟ سرت معه واجماً أعرف إنني تحدثت معه كثيراً ولم يعد مجدياً إعادة الكلام، ولكن من يضمن وصول رسالته الغريبة إلى حبيبته وموظفو النظام في بغداد يتفحصون الرسائل ويستريبون حتى بالزهور؟  ولكن لا يجوز أن أحدثه بهذا، رددت كلمات من قبيل "ستتعافى وستقدم لها أزهاراً يانعة كثيرة" لكني كنت حزيناً أخشى  أن زهرة لا تنسني ستجف وتبقى وديعة حزينة عندي، أخذنا نسرع الخطى فقد صار الثلج يتهاطل فوقنا بغزارة !

 

الفــهـــرس

 1ـ قطن  2 ـالرائحة والكلب 3ـ دليل الهاتف 4 ـ انفجارات 5 ـالرجل الذي حاول قتل الصرصر 6ـ رغبة في شراء البيض 7ـ الصيد 8 ــ مقعَد في باص مزدحم  9 ـ باتا في خدمتكم 10ـ جلبة خفيفة لمكبرات الصوت 11ـ البصمات 12ـ سيارة ماكنة 120 حصان 13 ـ أمــل 14 ـ هنا تباع أسماك الخليج العربي 15 ـ قطة تحت المائدة 16ـ بطاقة يانصيب 17ـ افتتاح 18ـ الطيــر 19انظروا: الطفل قادم إلى البرج 20 ـ انتظار 21 ـ اكتشاف 22ـ جاذبية 23ـ عتمة 24 ـ كيكة العرس  25 ـ  المرآة  26 ـ دعوة     27  ـ بيضة النعامة 28ـ الدرهم الملكي 29ـ خطوة واحدة 30ـ الكرسي 31ـ توهم 32ـ هواية  33ـ تساؤل 34ـ الببغاء 35ـ علاقة 36ـ نهاية 37ـ وساطة 38ـلماذا لم يسقِ زهوري 39ـ مشاركة  40ـ التمثال يلعب الكرة 41ـ مقاطعة  42ـ لعبـة 43ـ احتراق  44 ـمجلس فاتحة قتيل الحرب 45 ـ الطـــائرة الورقيـــة 46ـ رســـالة  47 ـإحــــراج    48 ـفـقــــاعــــات   49 ـ نيــــوزويــــــكNewsweek 50ـ بـقــــايـا وشـــم   51 ـ اعتراض   52  ـ  تـمــثـــــيل   53  ــ اللـــجـــــوء عند الاســكيــــمـو 54 ـ بـعد مجــيء الطـيــــر55 ـ رائحة الطريق! 56 البدوي والنورس الأبيض!  57 ـ قلوب الأمهات58 ـ خبز لطيور البحر 59 ـ طف الضوا والحقني! 60  ـ النسر 61 ـ القمر الاصطناعي 1 62 ـ القمر الاصطناعي 2 63 القمر الاصطناعي 3 64 ـ قليلاً من النذالة رجاءً 65 ـ خيوط وأحلام  ومقص! 66 ـ لا تنسني

 

 إبراهيم أحمد  مواليد هيت:الأنبار العراق  1946 خريج كلية الحقوق العام 1967 يعد من ابرز رواد القصة القصيرة جداً في العراق فقد شكلت مجموعته ( عشرون قصة قصيرة جداً) الصادرة عام  1976  عن دار الرواد انعطافة واضحة في هذا التيار القصصي.  نشر له  رجاء النقاش القصة القصيرة  (صفارات الإنذار في مدينة قابيش) في مجلة الطليعة. عام 1973. في القاهرة منوهاً بها. أصدر في المنفي: صفارات الإنذار مجموعة قصص بعد مجيء الطير مجموعة قصص  المرآة مجموعة قصص طفل السي إن إن رواية  التيه في أيس مجموعة قصص لارا زهرة البراري  مجموعة قصص الانحدار  رواية

قصة حب لزهرة الأوركيديا  مجموعة قصص أنت تشبه السيد المسيح مجموعة قصص صدرت له مجموعة قصص مترجمة إلى السويدية بعنوان( أنت تشبه السد المسيح) (محاولة في تحليل المسألة الطائفية في العراق) مجموعة مقالات.

أصدرت وزارة الإعلام العراقية  عام 1981مجموعته القصصية( زهور في يد المومياء ) بعد مغادرته العراق، وقد  حذفت منها عدداً من القصص والفقرات. عضو اتحاد الأدباء العراقيين منذ عام 1970 عضو اتحاد الكتاب السويديين.  عضو نادي القلم العالمي.  أدرجت له قصص  ضمن كتاب مدرسي مقرر على طلاب المدارس الثانوية في السويد عن أدب الشرق الأوسط.و ترجمت له العديد من القصص إلى لغات مختلفة كالإنجليزية والألمانية والسويدية والنرويجية والروسية وغيرها..  لديه روايات ومجموعات قصصية،ومقالات ثقافية وسياسية معدة للطبع. نشر الكثير من المقالات والتحقيقات الصحفية  في العديد من الصحف العراقية والعربية التي تصدر في لندن وبيروت وغيرها من البلدان. قدم برنامجاً إذاعياً يومياً من إذاعة بغداد لسنوات عديدة  ومارس العمل السياسي والثقافي المباشر لعقود طويلة واضطر تحت الملاحقة لمغادرة العراق سراً عام   1979،تنقل في المنافى بين سوريا والجزائر وهنغاريا،يسكن السويد منذ عام  1989،.ويقيم في القاهرة لفترات.