1. تمهيــــــد:
إذا كانت ظاهرة اللغة العلامة الأساسية على حيازة الإنسان لما ينماز به عن الحيوان، فإنها قد حظيت، وما زالت تحظى، باهتمام النحويين والمفكرين والفلاسفة، القدماء والمحدثين، لكونها أثمن مقتنيات الإنسان وأكثرها أهمية في سياق تجربته الاجتماعية/ التاريخية والنفسية/ الوجودية. وقد استقر في الفكر اللغوي، القديم منه والحديث، أنَّ اللغة هي وسيلة التفاهم الأساسية بين البشر في مجتمعاتهم المختلفة. وانطلاقا من هذه المسلمة، التي كانت ضمنية في أغلب الأحيان، كادت المقاربات والتأملات التي تبحث في ماهية واللغة ومشكلاتها أن تنحصر في دراسة أو وصف أو تحليل مستويات الخطاب اللغوي الخمس: الصوتي بقسميه العام phonetics والوظيفيphonolog، والصرفيmorphology، والنحوي أو التركيبي syntax، والدلاليsemantics، والتداوليpragmatics، دون الالتفات إلى فحص صحة فحوى هذه المسلمة فحصا دقيقا للتأكد من أن اللغة تقوم فعلا بإنجاز وظيفتها الأهم ألا وهي جعل تفاهم بين البشر ميسورا. والحقيقة أنه قد أنجز عمل علمي واسع ومعمق وكبير في كل مستوى من مستويات اللغة المذكورة أعـلاه. وهي مستويات متداخلة مع بعضها ومتضافرة في الواقع اللساني لأن اللغة كيان حي يؤدي وظائفها كافة في آن واحد، ولكن الباحثين يقسمون الظاهرة اللغوية إلى ما ذكرنا من مستويات لأغراض دراسية بحتة. ويبقى الهدف العام لهذه الدراسات هو المعنى حتى وإن لم تخض فيه كما فعل بلومفيلد واللسانيات البنيوية التي أجلت النظر في دراسة المعنى زعما بأن العلوم اللسانية لم تصل بعد إلى مستوى من الدقة يؤهلها للبحث في المعنى والدلالة. وقد أسهمت فلسفة اللغة، أيضا، في بحث مسألة المعنى بوصفها قضية أساسية من القضايا التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالظاهرة اللسانية ووظائفها من جهة، وبمقولات الفلسفة ومشكلاتها فيما يختص بصدق أو كذب العبارات الفلسفية والمنطقية من جهة أخرى. ومنذ القدم، أسهمت الفلسفة في بحث مسألة المعنى. فقد كرس أفلاطون محاورة "كراتيلوس" لمناقشة قضية اللغة والمعنى، وهل أن ما يقرر دلالة الأسماء هو العرف الاجتماعي أم العلاقة الطبيعية بين الاسم أو الدال، والمسمى أو المدلول.(1) وقد بقيت مشكلة اللغة والمعنى موضع اهتمام في الفكر الفلسفي في العصر الوسيط من خلال الاهتمام العربي بمشكلات الدلالة والبيان. أما في الفلسفة الحديثة، فقد قامت فلسفة اللغة التحليلية الأوروبية، التي أخذت على عاتقها مهمة ربط البحث الفلسفي بالبحث اللساني بخاصة في بريطانيا، على أربع قضايا أساسية هي:
أ. البحث العقلاني في طبيعة المعنى اللساني.
ب. استعمال اللغة.
ج. إدراك اللغة.
د. العلاقة بين اللغة والواقع.(2)
والحقيقة أن المعنى اللغوي كان وما زال من أكثر القضايا الخلافية في الفكر اللساني والفلسفي والبلاغي. ويعرف معجم كامبردج الفلسفي المعنى بقوله:
"المعنى هو المغزى الاصطلاحي العام والمعياري لعبارة أو جملة في لغة ما، وقد يكون المعنى لرمز غير لساني، كما في علامات المرور ومعانيها المختلفة."
وهنا نلاحظ أن الجدل بشأن تحديد المعنى يكون أكثر عمقا، ويكشف عن تنوع كبير في وجهات النظر حين يكون الكلام في معاني الدوال اللسانية بينما لا يكاد يثير مشكلة في معاني الدوال غير اللسانية. ثم يقسم المحرر المعاني اللسانية إلى: المعنى الحرفي literal meaning، والمعنى المجازي figurative meaning. ويعرف الأول بالقول أنه المعنى الدقيق والضيق وغير المجازي الذي تمتلكه عبارة أو تركيب أو جملة في لغة ما بمقتضى معجم تلك اللغة. والمعنى، كما يوضح المحرر، هو ما يحافظ عليه المترجم الجيد. ولكن المشكلة هي أنه حتى لو افترضنا وجود عدد من المترجمين الذين تتكافأ قدراتهم المعرفية والترجمية، وطلبنا منهم أن يتولوا ترجمة نص بعينه، فهل سينتجون لنا ترجمة واحدة ومتطابقة له أم أنه ستكون هناك ترجمات بعدد مساو لعدد المترجمين؟ في الحقيقية أثبتت التجربة أنه يكاد يكون مستحيلا أن تكون هناك ترجمة واحدة لا تنطوي على أدنى قدر من الاختلاف، وبما أن كل اختلاف في المبنى يؤدي بالضرورة إلى اختلاف في المعنى، جاز لنا القول أن المترجمين الجديدين أنفسهم ينقلون معاني مختلفة.
ونعود إلى رأي الباحث أعلاه الذي يقول أن جملة ما قد تتضمن معنى حرفيا وآخر غير حرفي في الوقت نفسه. فمعنى الجملة الفرنسية (Où sont les neiges d'antant?) الحرفي هو: "أين ثلوج السنة الماضية؟"، أما معناها المجازي فهو: "لا شيء يدوم".(3) انتهى كلام الباحث. وفي تقديري أن هذا الكلام يظهر ثلاث حقائق: الأولى احتمال أن يكون المعنى حرفيا ومجازيا في آن واحد، والثانية أن للسياق أهمية كبرى في فهم أي المعنيين أراد قائل هذه الجملة الإشارة إليه, والثالثة أن للمخاطب السلطة النهائية في أن يفهم المعنى على النحو الذي يريد، أعني أنه قد لا يكترث بالموجهات السياقية التي ترجح أحد المعنيين على الآخر. إذن فإن المعاني قد تكون ذات دلالة تضمنية إيحائية connotational، أو ذات دلالة مرجعية أو معجمية denotational. ويتوقف فهم المعنى المراد على إرادة السامع. وغير بعيد عن هذا التقسيم، يرى جيفري ليتش أن هناك نوعين مختلفين من المعنى اللساني: المعنى المفاهيمي، أو conceptual meaning، والمعنى الترابطي، أو associative meaning. فالأول ذو طبيعة مؤسسية وعلى درجة عالية من الموضوعية والثبات، والثاني ذو طبيعة فردية وذاتية وتعتمد على خبرات وقدرات الفرد، وما يمكن أن يضفيه على التعبير اللساني من معنى أو معاني. ويصرح الدكتور جميل صليبا بوجود فرق بين المعنى والمفهوم قائلا: "إن المفهوم هو الصورة الذهنية سواء وضع بإزائها اللفظ أو لا، على حين أن المعنى هو الصورة الذهنية من حيث وضع بإزائها اللفظ."(4) أي أن المعنى يشير إلى العلاقة الترابطية بين الدال والمدلول، أما المفهوم فهو الصورة الذهنية مجردة من هذه العلاقة.
وعلى الرغم من نشوء تيارات فلسفية تقوم كليا على تحليل اللغة الطبيعية، فإن لنا أن نسأل: إذا كان هناك اختلاف بين المفهوم والمعنى، كما يقرر الدكتور جميل صليبا، فما أدرانا أن المتكلم قد نجح في التعبير عن المفهوم الذهني المراد من خلال اختيار الدال المناسب له؟ أيستطيع المتكلم أن يطمئن إلى أنه قد نجح في أن يعبر تماما عما أراد قوله؟ أم أن هناك احتمالا قائما على الدوام في أنه ربما قال أكثر أو أقل مما أراد التعبير عنه؟ وتتجسد أهمية هذه الأسئلة على نحو أوضح حين يعبر المتحدث أو الكاتب ليس عن معنى مفهوم أو دال واحد وإنما عن المعاني المتضمنة في جملة من المفاهيم والأفكار والدوال المتداخلة والمترابطة معا. وهذا يدعونا للتساؤل مرة أخرى: أحقا أن اللغة وسيلة للتفاهم الفعال والناجز بين أفراد الجماعة اللسانية؟! وما هي الشروط السياقية التي يمكن أن تساعد في إنجاز عملية التفاهم بين الناس على أفضل وجه؟ وهل يستطيع هذا المتكلم أو الكاتب أن يكون على يقين من أن السامع أو القارئ يفهم ما يقوله على الوجه الذي أراده هو، أم أن الأخير يفهم ما يسمع أو يقرأ على وفق قدراته اللسانية وسعة إدراكه فضلا عن انحيازاته وأهوائه ودوافعه النفسية والاجتماعية؟ والسؤال الأهم هو: إذا ثبت أن اللغة قد تكون وسيلة لسوء التفاهم بالقدر نفسه الذي تكون فيه وسيلة للتفاهم، فهل يكمن السبب في اللغة نفسها، أم في مستعملي اللغة، أم في السياق، أم في هذه الحدود الثلاثة جميعا ؟
وستكون هذه الأسئلة مدار البحث في هذه الدراسة بغية إعادة طرح المشكلة الأهم في تاريخ الفكر اللساني والفلسفي، وأعني بها مشكلة إخفاق اللغة، أو ربما نقول إخفاق مستعملي اللغة في تحقيق التواصل والتفاهم بين الناس في كثير من الأحيان.
2. في مشكلة المصطلح:
إذا كان مصطلح "اللغة" ( language ) ذا طبيعة خلافية (controversial) في الجوهر، فإن دراسة المفهوم الذي يمثله هذا المصطلح تثير مشكلات إضافية لأنها تحيل إلى مصطلحات ومفاهيم فرعية ذات طبيعة خلافية أيضا. على أنه ينبغي التنويه بأن هنالك عدة مداخل في تعريف الظاهرة اللغوية؛ منها التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي والتعريف الوظيفي والتعريف البنيوي والتعريف النفسي والتعريف الاجتماعي. ونظرا لجسامة مهمة تعريف اللغة وحاجتها إلى مساحة واسعة تخرجنا عن النطاق المقرر لهذه الدراسة، فإن الباحث سيكتفي بعرض بعض التعريفات المعروفة ومناقشتها. ولكنه يقرر هنا بأنه إنما يعتمد أساسا التعريف الوظيفي دون أن يغفل الإشارة إلى ما سواه من تعريفات إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك، وذلك نظرا إلى أن موضوع هذه الدراسة يركز على كل ما له صلة بوظيفة اللغة في إنجاز التفاهم أو فشلها في ذلك. وسنترك لمتن البحث نفسه مهمة تحديد ما نقصده بالتعريف الوظيفي وما يتفرع عنه من المصطلحات.
لم يلق مصطلح اللغة اهتماما كافيا من لدن اللغويين والنحاة العرب القدامى. ولم يهتموا بتعريف اللغة قبل البحث فيها باستثناء أبي الفتح عثمان بن جني (322 – 392 هجرية). فكانوا، في الغالب الأعم، يستخدمون كلمة (اللغة) مرادفا لمفهوم اللهجة. لكن ابن جني يورد في كتابه المهم "الخصائص" حدا للغة، أو تعريفا لها، بالقول إنها " أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم."(5) وهذا التعريف يتضمن ثلاث حقائق أو خصائص جوهرية من خصائص اللغة هي: الحقيقة الصوتية أو الكلامية للغة، فاللغة ’أصوات‘ في جوهرها. والحقيقة الوظيفية والاجتماعية للغة، لكون اللغة أصوات ’ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم‘، أي أنها ملكية اجتماعية بدلالة استعماله لفظة (قوم) التي تشي بحضور الوظيفة الاجتماعية للغة في تعريفه الموجز الذي لم يقدم النحاة العرب سواه.(6) وأخيرا، حقيقة أهمية الكلام والسياق في تفعيل هاتين الحقيقتين لأن التعبير عن الأغراض لا يكون إلا بكلام بعينه وفي سياق بعينه لأننا نعلم جيدا أن الأغراض ترتبط بالسياقات التي تحدث فيها وإن لم يكن كلام ابن جني مفصلا في هذا الجانب. كما يمكن لنا القول أن هذا التعريف يتناول مفهوم اللغة من حيث هي ظاهرة عامة ومشتركة بين البشر؛ إذ ليس هو بالتعريف الذي يختص بلغة بعينها لأن ابن جني لم يشر إلى أن تعريفه هذا يختص بالعربية تحديدا. وقد جارى الفيروزابادي، صاحب "القاموس المحيط"، ابن جني في ما ذهب إليه، فقال فـي تعريف اللغة إنها " أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم."(7) وكذلك فعل ابن منظور في "لسان العرب" فقال معرفا اللغة: " ولغا يلغو لغوا: تكلم وأفصح (...) واللغة اللسنُ [اللسان] وحدها أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم."(8) [التشديد من الباحث] ولم يضف الأزهري ما يعتد به إلى التعريف الذي قال به ابن جني، فلم يذكره لا تصريحا ولا تلميحا.(9)
وعند البحث في استعمال النحاة واللغويين لمصطلح اللغة في كتبهم، وجدناه ينصرف إلى ثلاثة معان:
الأول اللهجة مثل قولهم:"لغة طيء"، أو "لغة تميم"؛
الثاني كلام مخصوص ونادر الوقوع ولا يقاس عليه مثل قولهم: لغة " أكلوني البراغيث"، أو لغة " جحرُ ضبٍ خربٍ"؛
الثالث بمعنى المعجم مثل قولهم: "الجزم، ومعناه في اللغة كذا وكذا."، أو الصلاة، ومعناها في اللغة كذا وكذا". (10)
وأما في البحث اللساني الغربي، فإن أدوارد سابير (1884 – 1939 ) يذهب إلى أن اللغة ظاهرة إنسانية على وجه التخصيص، وهي ليست مما ينتقل غريزيا إلى الإنسان، وإنما هي ظاهرة تكتسب بالتعلم وتقوم بنقل الأفكار والانفعالات والرغبات بوساطة نظام من الرموز الصوتية المنتجة إراديا.(11) وهذا التعريف يركـز علـى أهم خصائص اللغة، ويجمع بين كل من الحدود الآتية:
1. الانثروبولوجي الإنساني، كونها مقتصرة على بني البشر عبر تاريخهم الطويل. وهي الأداة الأساسية التي تنقل أفكارهم.
2. النفسي، كونها منتجة إراديا وتعبر، في الأساس، عما تريده النفس البشرية وما تمور به من عواطف وانفعالات ورغبات.
3. البنيوي، كونها تشتمل على نظام من الرموز، أي أنها تنطوي على نسق system وبنية structure.
ونرى هنا، أن تعريف سابير لم يشر إلى البعد السيميائي لمصطلح اللغة كونها جزءا من نظام أشمل هو نظام العلامات أو السيميوطيقا semioticsعلى الرغم من أن تشارلس ساندرز ﭘيرس (1839-1914) كان قد أرسى مفهوم الدراسة السيميائية قبل نهاية القرن التاسع عشر بينما حرر سابير هذا التعريف في العقد الثاني من القرن العشرين.(12)
ويرى أميل بنفينست أن اللغة تمثل أقصى حالات تحقق الملكة الترميزية عند الإنسان لأنها "نظام رمزي خاص، منتظم على صعيدين. فهي من جهة واقعة فيزيائية، إذ أنها تستخدم الجهاز الصوتي لتظهر، والجهاز السمعي لتدرك. ومن هذا الجانب المادي، فهي قابلة للملاحظة، والوصف والتسجيل، وهي من جهة أخرى بنية لا مادية وإيصال لمدلولات معوضة عن الأحداث والتجارب[و الأشياء: الباحث] بالإشارة إليها. "(13)و هذا يجعل من اللغة تدل وتومئ ولا تتطابق مع أية وقائع مادية أو فكرية. فكلمة ’سرير‘ لا تصلح للنوم عليها، وكلمة ’ماء‘ لن تروي عطش أحد مطلقا ، وعبارة " أحب روميو جوليت" لا يمكن التحقق من صحتها بأية وسيلة موثوقة سوى الاعتماد على ما ورد في النص. أما فرديناند دي سوسور ( 1857– 1913) فإنه يميز بين ثلاثة معان لمصطلح اللغة: الأول، وهـو اللسـان (langue)، الذي يشير إلى اللغة بوصفها نظاما يشترك فيه المتحدثون في الجماعة اللسانية المعينة، فهو يختص بما يفرد لغة ما عما سواها. ولذلك يمكن أن نستعمله في الإشارة إلى العربية أو الفرنسية أو الألمانية.. الخ. كما إنه مفهوم للغة بوصفها مؤسسة اجتماعية متعالية. والثاني هو مفهوم الكلام ( parole )، ويشير إلى فعل الإنجاز أو الأداء اللساني الملموس فهو إذن المقابل أو القسيم لمفهوم اللسان. والثالث، وهو الملكة اللغوية ( langage )، الذي يشير إلى الظاهرة اللغوية بوصفها قدرة إنسانية شاملة لكل الأفراد الأسوياء والطبيعيين من بني البشر.(14)
ويقرر رومان ياكوبسن (1896 – 1982) أن اللغة يجب أن تدرس في تنوع وظائفها بأكمله. ثم يجمل العناصر المكونة لكل عملية اتصال لسانية بالآتي:
1. المرسل أو the addresser.
2. المرسل إليه أو the addressee.
3. السياق أو the context.
4. الرسالة أو the message.
5. قناة الاتصال أو the channel of communication.
6. الشفرة أو the code.
ويستكمل ياكوبسن نظريته هذه بإسناد ست وظائف للعملية الاتصالية اللسانية. وهذه الوظائف هي:
1. الوظيفة الانفعالية، emotional function،
2. الوظيفة المرجعية، function referential،
3. الوظيفة الشعرية، function poetic،
4. الوظيفة الإيعازيةdirective function،
5. الوظيفة الواصفة أو الوصفية،descriptive function،
6. و الوظيفة القولية أو التصريحية: declarative function. (15)
وينبغي أن نشير هنا إلى أن هذه الوظائف لا توجد معزولة ومنفردةعن بعضها في الكلام أو النص الذي قد لا يقتصر، في الغالب، على وظيفة واحدة. فالكلام أو النص يمكن أن يؤدي أكثر من وظيفة في آن واحد. وقد أولى ياكوبسن هذه المسألة الأهمية المناسبة فاعتمد على ما يسميه بالوظيفة المهيمنة dominant function في الخطاب اللغوي أو الكلام لتحديد طبيعة وظيفة هذا الخطاب من ذاك.
وإذ يتبنى الباحث الفرنسي روبول وجهة نظر ياكوبسن في وظائف اللغة، والعوامل المكونة لكل عملية اتصال، فإنه يقوم بعملية تغيير في تسمية مكونات العملية، ويضيف إلى نظرية ياكوبسن ما يسميه بالقيمة.(16) وهي ما يمكن أن يكون الهدف من كل وظيفة، أو أساسها الذي بنى عليه القائل/ الكاتب كلامه أو نصه، وبالتالي فإن عدد القيم يساوي عدد الوظائف وعلى النحو الموضح في الشكل الآتي:
نسخة روبول من مخطط وظائف العملية اللسانية
قطب التواصل الوظيفة القيمة
1 المرجع Referent مرجعية الحقيقة
2 المرسل Addresser تعبيرية الصدق
3 المرسل إليه Addresseeإيعازية المشروعية
4 الرسالة Message شعرية الجمال
5 الاتصال Communication قولية المجاملة
6 القواعد grammar فوق قولية موافق للقواعد
ولدينا هنا ملاحظتان: الأولى توضيحية، وهي أنه إذا كان قطب التواصل هو المرجع الخارجي، فإن الوظيفة تكون الإشارة إلى هذا المرجع الخارجي، وستكون قيمة هذه الوظيفة التعبير عن الحقيقة، وإذا كان قطب التواصل هو المرسل، فإن ذلك يعني أن المرسل يريد التعبير عما يدور في نفسه، وقيمة هذه الوظيفة هي الصدق، وإذا احتل المرسل إليه المركز فإن الوظيفة اللسانية ستكون إيعاز من المتحدث/ الكاتب إلى المرسل إليه، وقيمة هذه الوظيفة أنها تعتمد على مشروعية مرتبة كل من المرسل والمرسل إليه، وإذا كانت الرسالة هي قطب الاتصال، فإن الوظيفة ستكون شعرية تؤكد على القيم الجمالية الداخلية في اللغة لذلك فإن القيمة ستكون جمالية، وإذا كان الاتصال هو قطب التواصل فإن الوظيفة ستكون قولية والقيمة هي المجاملة، وأخيرا، إذا كان قطب التواصل هو القواعد بمعنى النحو فإن الوظيفة فوق قولية أو ميتالغوية والقيمة هي أن يكون القول موافقا للقواعد. والملاحظة الثانية أن ما أسنده روبول من قيم للوظائف الأربع الأولى هي جميعا مما يمكن أن يقع في نطاق المسائل الذاتية أو الخلافية مثل الحقيقة والصدق والمشروعية والجمال. وأسند للوظيفة الخامسة قيمة تقع في نطاق المواضعات الاجتماعية، وهي القيمة الممثلة بالمجاملة التي لا تخلو من معنى تقديري وذاتي أيضا. أما الوظيفة السادسة، فقد أسند إليها قيمة لسانية يتحراها المتحدث حين يحرص على أن يكون كلامه parole مطابقا للغة بوصفها مؤسسة اجتماعية langue.(17) والملاحظ هنا أن روبول يتابع، ضمنيا، مقولات دي سوسور فيما يختص بالوظيفة السادسة وما ينسبه لها من قيمة موافقة للقواعد.(18) وإذا كانت القيم المسندة للوظائف ذاتية في الغالب ( خمس من أصل ست) أو اجتماعية تقديرية كما في القيمة السادسة، فإن القضية برمتها تظل في نطاق المسائل الخلافية. غير أن فهم عملية اشتغال هذه القيم في ضوء التصور الكلي للسان يمكن أن يرتقي بها إلى درجة عالية من الموضوعية كما سنوضح لاحقا.
ويقرر محرر مادة اللغة في الموسوعة البريطانية أن "اللغات قد تطورت واكتسبت بنية تأسيسية في صيغها الراهنة من أجل الوفاء بحاجات الاتصال في كافة جوانبه. وأن حاجات الاتصال الإنساني على درجة عالية من الاختلاف ومتنوعة بحيث أن دراسة المعنى قد تكون المستوى الأكثر صعوبة وإرباكا في أية دراسة جادة للغة."(19) [ التوكيد من الباحث] أما الباحث الفرنسي جورج مونان فإنه يرى أن كل النظريات اللسانية " توافق على أن البنيات اللسانية وسيلة غايتها... تحقيق التواصل اللغوي".(20) وإذ يكشف هذا الرأيان عن اتفاقهما على أن الوظيفة الأهم للغة تحقيق التواصل المفضي إلى التفاهم بين الناس، فإن الأول يؤكد أيضا الأهمية الاستثنائية لمشكلة دراسة المعنى وما يكتنفها من صعوبات جمة. وهذا يعني أن الفهم من خلال التواصل اللغوي، أو التفاهم (و في حالة الفشل في التواصل تكون النتيجة سوء التفاهم) هو الوظيفة الأكثر أهمية من بين وظائف اللغة. وهو من أهم القضايا التي تفرض علينا البحث في المشكلات الجوهرية في مسألة المعنى لأن التفاهم مرتبط بها ارتباطا وثيقا حتى ليمكن القول إن مشكلات التفاهم هي مشكلات المعنى ومشكلات المعنى هي مشكلات التفاهم. وهي مشكلات لم يتصد لها سوى عدد محدود من المهتمين باللغة في جانبيها البنيوي structural aspect الذي يركز على تركيب اللغة، والدلالي بنوعيه semantic and pragmatic aspects الذي يختص بدراسة المعنى في اللغة. وإذ يقرر سعيد بنكراد "أن العلامة [ولاسـيما اللغوية] اختصار وتهذيب للوجود وتعميم له"،(21) فإننا نلاحظ على هذا التعريف أنه يكاد يختص بالمعنى الذي تعبر عنه الوظيفة المرجعية أو الإشارية referential function لأنه يعمل في حقل العلاقة بين العلامة اللغوية وموجودات العالم الخارجي وأحداثه. وهو حين يسند إلى العلامة اللغوية مهمة أساسية هي رد مظاهر الوجود المتعددة وما يحدث فيه من وقائع وأفعال إلى نوع من الاختزال والوحدة داخل العلامة اللسانية فإنه في الوقت نفسه يغيب هذا الوجود المتعدد مستغنيا عنه بالضرورة، وينتقل بالإشارة الكلامية من العيني والملموس إلى المجرد والعقلي. وهي نقلة مهمة وأساسية في انتقال الفكر البشري إلى مراحل أكثر تطورا، ولكنها في الوقت نفسه تفتح الباب واسعا أمام احتمالات الاختلاف في الفهم بحكم كون العلامة، أو الدال، قد يقع في سياق قد يحرف دلالته أو يجعلها متعددة مما يؤدي بالنتيجة إلى اختلاف كبير بين ما أراد المتحدث أو الكاتب أن يقوله وما فهمه السامع أو القارئ من هذا القول. وتضعنا هذه الاحتمالات، في تقديرنا، في مواجهة المشكلات الأهم في مسألة كون اللغة وسيلة للتفاهم حقا أم أنها وسيلة لعدم التفاهم أيضا لأن القول، أي قول، إنما يتضمن مضمون القول وطريقته وسببه، وأثر السياق في فهم الرسالة اللغوية وتفسيرها في آن واحد، فضلا عن المسكوت. والمسكوت عنه الذي قد يكون قابلا للاستحضار من النص، كما في قولنا عن تلميذ في فصل دراسي ما: " هذا التلميذ متميز." فيكون المسكوت عنه أن بقية الطلاب ليسوا متميزين. وقد يكون المسكوت عنه خارج السياق. وكل هذه العناصر تمثل حوافز للاختلاف في الفهم والتفاهم. وهذا يظهر جسامة مشكلة المعنى وأهميتها في جعل اللغة تؤدي وظائفها ومقدر نجاحها في ذلك، وسنفحص طبيعة هذه المشكلات، وموارد سوء التفاهم التي تتمظهر في كثير من أنماط الخطاب اللغوي، ونختم الدراسة بجملة استنتاجات ومقترحات.
3. في مشكلة اللغة وسوء التفاهم:
إذن فإنْ قلنا بأنَّ اللغة هي أداتنا الأهم والأكثر فاعلية في التواصل مع الآخرين، وذلك بالتعبير عمّا يدور في عقولنا من أفكار وما يعتمل في دواخلنا من انفعالات وتأملات ورغبات أيضا ، فإنّ ذلك لن يظهر حقيقة المشكلة التي نحن بصددها في صورتها الدقيقة. والحقيقة أن "الكلام يستمد علة وجوده من وظيفته" كما يقول عبد السلام المسدي معلقا على رأي لأبي هاشم الجبائي.(22) ولكن ماذا لو أن هذه الوظيفة لم تتحقق تماما ؟ وقد حظيت الوظيفة الاجتماعية للغة باهتمام كثير من المفكرين العرب. فأشار كل من حازم القرطاجني، وأبي حامد الغزالي إلى وظيفة اللغة الاجتماعية فأكد الأول على: "حتمية حضور العامل اللغوي في استقامة تعايش الناس سواءٌ في تفاهمهم أو في تعاونهم على تحصيل المنافع وإزاحة المضار واشتقاق حقائق الأمور." بينما ألمح أبو حامد الغزالي إلى "البعد الاجتماعي في ظاهرة الكلام مبرزا أن الإنسان بدون خطاب لا يكون إلا حبيسا لذاته، وهو ما يؤول إلى اعتبار العامل اللغوي حبل التواصل بين الفرد والمجموعة التي يعايشها."(23) ومع أن مثل هذا الوصف لمهمة اللغة ينطوي على كثير من الحقيقة، إلا أن هذا يعني أن قضية التفاهم بوساطة اللغة مسألة ناجزة ومتحققة على أفضل وجه، أو في الأقل أن التفاهم بين البشر بوساطة اللغة لا يثير أية مشكلات جوهرية. والحقيقة خلاف ذلك.
إذ يرى بعض الباحثين أن اللغة من أهم مصادر اختلافنا وصراعنا الأبديين بوصفنا كائنات اجتماعية. فمنذ أن ازدهرت الفلسفة السوفسطائية في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد؛ واكتشفت إمكانية اللعب بالكلام لأغراض متضاربة ودونما اعتبار للواقع الموضوعي و/ أو للحقيقة، صار واضحا أن اللغة من أخطر المقتنيات الإنسانية لكون مستخدميها، وهم بشر، قد ينحرفون بها، وهم غالبا ما يفعلون ذلك عن قصد أو بدونه، عمّا يفترض أن تؤديه من وظائف تسهم في إزالة سوء التفاهم وتحقيق التواصل بين الناس. والتواصل هنا مشتق على صيغة التفاعل التي تعبر بصيغتها وبمعناها الذي تفيده عما ينبغي أن تنجزه اللغة أعني التحاور، وهو الهدف والوظيفة المنشودة الأكثر أهمية بين أهداف استعمال اللغة. إذ أنه على مستوى التواصل وجها لوجه، وكذلك على مستوى المؤسسات، يكون القيام بالخيارات "مصدرا من مصادر الصراع وتضارب المصالح لأن فعل الاختيار هذا يكون موجها من قوى سياسية وأيديولوجية ومواقف لغوية."(24) وكان موقف السوفسطائيين بما يمثله من قيمة علمية استثنائية مبكرة موضع نقد ودحض لأسباب أخلاقية أو فكرية. ومثال ذلك أن السوفسطائي جورجياس "لا يجعل القوة الخلاقة في الحقيقة بل في القول." وقد كان السوفسطائيون يصدرون "عن إيمان عميق بقدرة الخطاب الخلاقة" وربما يكون هذا الأمر هو ما دفعهم "إلى التفكير في اللغة ذريعيا وتداوليا. كما يقول محمد أسيداه.(25)
ويكشف هذا الفهم الناضج لمشكلة المعنى في اللغة الذي طرحه السوفسطائيون في وقت مبكر عن بدايات تشكل الوعي بالأزمة الأخلاقية والمعرفية لاستعمال اللغة على نحو مغرق في الذاتية. ولكن لما كان القول اللساني موضع اختلاف في التأويل لأن أي كلام، وكذا أي نص مكتوب، في جوهره، حمال أوجه، فإن التفاهم سيغدو صعبا إن لم يكن قريبا من الاستحالة. وقد تنبه أرسطو إلى مسألة الانحراف باستعمال اللغة عما يفترض أن يكون هدفها الأساس، وهو التفاهم، فكتب بحثا عن "مغالطات السوفسطائيين". وقد ذكر أنها ثلاث عشرة مغالطة. وهي مغالطات تظهر أن النظام اللغوي لا يحوز ما يدرأ به عن نفسه سوء الاستعمال. وتفصيل هذه المغالطات على النحو لآتي: المغالطات اللفظية أو indition))، وهي ستة. وتشتمل على: 1. الاشتراك، 2. الاشتباه، 3. التركيب، 4. القسمة، 5. النبر، 6. شكل العبارة. أما المغالطات غير اللفظية، أو (extradition)، فهي سبعة. وتشتمل على: 7. العرض، 8. الإطلاق وغير الإطلاق، 9. الجهل بما هو إبطال، 10. اللزوم، 11. المصادرة على المطلوب، 12. اعتبار ما ليس بعلة علة، 13. جمع مسائل كثيرة في مسألة واحدة. (26) وهذا الوضع الذي كشفت عنه بعض ممارسات السوفسطائيين وفضحه أرسطو لم يتغير كثيرا. بل لعلنا لا نغالي إذا قلنا أنه ازداد سوءا إذ لم تعد المسألة محصورة بجماعة معينة تتخذ من المهارة اللغوية مهنة لها، إنما صارت القضية شاملة وعامة بين السياسيين، والإعلاميين، والقانونيين، والناس أجمعين.. وفي سياق مماثل يرى باحث حديث أن "الملفوظات utterances يمكن أن تكون في الواقع ملبسة [ أو غامضة] ambiguous، لذلك ينبغي أن يكون أَمْن اللبس disambiguation السياقي (اللغوي وغير اللغوي) محل عناية. ويرون أن تلك [أي الملفوظات] تفترض أن المتكلم يتكلم حرفيا لا بسخرية أو تهكم، ومباشرة لا مداورة. والأمر الملموس أن المتكلم قد يعني شيئا أقل َّ أو أكثرَ من المعنى الذي ينص عليه كلامه، وأن َّ ما يقوله لا يحدد ما يقصده تماما، فإذا قال مثلا:
سوف أردُّ لك هذا! I’m going to pay you back that! احتمل أن يكون قاصدا وعدا، أو قاصدا وعيدا، والمشكلة هي كيفية تحديد المتلقي لأي منهما."(27) وهذا الرأي، على دقته في تشخيص بعض وجوه مشكلة التفاهم وتحديد المعنى المقصود، فإنه ما انفك يلتزم بوجهة النظر القائلة أن على المتحدثين وسامعيهم أن ينهضوا بمهمة التفاهم في حاضنة مبرأة من الأهواء الكلامية في القول وفي السمع. أما المثال على احتمال أن يكون المراد منه وعدا أو وعيدا، فإن السياق الذي قيل فيه هو الحاسم في تحديد المراد منه وليس المتلقي.
إن النتيجة النهائية لكون اللغة نظاما للتواصل غير محمي من سوء الاستخدام، ولكونها خاضعة بالكامل لإرادة البشر، هي فشل التواصل وتفشي سوء التفاهم وقيام الحواجز بين الناس في الثقافة الواحدة ذات اللغة الواحدة ناهيك عن اللغات المختلفة والثقافات المختلفة. ولقد حاول أفلاطون ومن بعده أرسطو، في مسعى منهما إلى إعادة الاعتبار لعملية التواصل بوساطة اللغة أن يضعا أسسا للاستعمال السليم للغة من خلال علم المنطق وما يتضمنه من حدود ومقدمات يمكن أن تسهم في توضيح صدق عبارة ما من عدمه. ولكن المنطق الأرسطي لم يسلم من النقد لأنه كان منطقا شكليا قد ينتج تطبيقه العملي عبارات سليمة منطقيا ولكنها فاسدة الدلالة وكاذبة. والمنطق، فضلا عن ذلك، كان ممارسة فكرية ذات طابع تقني، إذ لم يكتب له الانتشار بين عامة الناس من مستخدمي اللغة؛ فظل محصورا في نطاق ضيق من التداول بين النخبة الفكرية المهتمة بالفكر والفلسفة. أعني أنه إذا كان المنطق أداة نافعة للتثبت من صدق العبارات فهو متاح فقط للنخبة من الفلاسفة والمفكرين والمثقفين في سياق الجدل الفكري والفلسفي بينهم.
ولكـن الحقيقة الماثلة أمامنا هي أن التواصل باستعمال اللغة يجري بين أفراد المجتمع وطبقاته الاجتماعية كافة. وهؤلاء هم من يقررون، على وفق خلفياتهم الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية وأغراضهم ودوافعهم والشخصية الذاتية والنفسية، كيف يستعملون اللغة، وكيف يفهمونها، ولماذا. أمّا الفلاسفة والمفكرون الذين يمثلون نسبة قليلة العدد للغاية داخل المجتمع فهم ذوو تأثير ضئيل في هذا الشأن؛ فضلا عن أن الفلاسفة والمفكرين أنفسهم قد لا ينجحون، وهذا ما يحصل غالبا، في تحقيق التواصل فيما بينهم. إذ يشير باحث في الفلسفة الحديثة إلى أنه " يكفي أن نستعرض التصورات المختلفة للفلسفة التي يعبر عنها المفكرون المعاصرون من البلدان المختلفة، لكي نقتنع بأن الغموض لصيق بطبيعة الفلسفة نفسها". (28) وهذا يعني أن أصل الداء، أعني الغموض وما يولده من التباس وسوء فهم، كامن في الفكر معبرا عنه بالفلسفة التي هي من أهم مظاهر الفكر وتجلياته. ولا بأس في أن نقوم بتحليل نص قصير لكاتب معاصر يعلق فيه على مقطع مأخوذ من كاتب آخر لنبين كيف يمكن أن يتوسع القارئ بالتأويل، ويخرج به إلى حد التقويل.
يقول رضوان جودة زيادة في سياق مناقشته لـ(التباس مفهوم "النهضة" في فكر "مشروع النهضة") ما نصه: "يحقب المؤرخ اللبناني خالد زيادة التاريخ المعاصر للبلدان العربية وفقا لتعثرها ونهضتها كالتالي: "تبتدئ النهضة مع محاولات التحديث في مصر مع محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي بلاد الشام مع إطلاق التنظيمات في الدولة العثمانية، وفي تونس في عهد الباي أحمد والباي محمد صادق، وتتوقف النهضة مع التدخل الغربي في تونس في العام 1881، وفي مصر العام 1882، وفي سوريا ولبنان، مع تعليق الدستور، العام 1876 وبداية عهد عبد الحميد الثاني". ثم يعقب على رأي خالد زيادة ناقدا ومسفها له بالقول: "وهكذا تبتدئ النهضة وتتوقف وفقا لقرار رئاسي أو سلطاني، ويغيب المعنى الاجتماعي للنهضة، الذي يكسبها بعدها الحضاري الحقيقي."(29) [التوكيد للباحث]
ونلاحظ هنا أن التعقيب على نص خالد زيادة ونقده يشتط كثيرا في تفسير هذا النص القصير ذي الدلالة الواضحة لأسباب ليست بعيدة عن الأيديولوجيا. فهو يقصر المعنى المراد من النص على الآتي: "وهكذا تبتدئ النهضة وتتوقف وفقا لقرار رئاسي أو سلطاني، ويغيب المعنى الاجتماعي للنهضة." والحقيقة أن النص المنقود لم يقل بذلك مطلقا لأنه لم يذكر القرار الرئاسي أو السلطاني قط، كما أن القرار الرئاسي أو السلطاني شيء والعهد، بكل امتداده الزمني وما يتضمنه من متغيرات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية تأخذ زمنا طويلا شيء آخر. وقد تحدث النص المنقود عن التدخل الأجنبي في تونس ومصر وهو من المتغيرات الكبرى في المجتمع باعتبار أن العوامل الداخلية والخارجية جميعا تصوغ الحركة الاجتماعية/ التاريخية وتؤثر فيها بهذه الدرجة أو تلك، ولكن هذا العامل المهم غاب عن نقد الباحث رضوان جودة زيادة. وقلصت دلال النص كلها إلى مجرد قرار رئاسي أو سلطاني. وهو ما يمثل نوعا من سوء القراءة وتوجيهه نحو ما يبتغيه الباحث من إثبات واقعة (التباس مفهوم النهضة) في فحوى النص المنقود حتى لو اقتضى ذلك تقويل النص ما لم يقله. وواقعة التقويل هذه ليست بدعة في بابها فهي موجودة ومتكررة في الخطاب البشري منذ القدم وحتى الآن. ونعتقد أنها ستبقى قائمة في المستقبل. وفي هذا الصدد يقول أحد الباحثين: "إن صور سوء الفهم تنشأ في كل حالة تقريبا. وبصرف النظر عن مقدار حرص الناس على تجنب الصراعات، فإن كل طلبأ أو اقتراح، أو تقويم، أو أمر، أو نقد، أو اختلاف في الرأي، مهما كان نوعه [أودرجته. الباحث]، يمكن أن يفسر على أنه تهديد للكرامة والاعتبار الشخصيين."(30)
4. في طبيعة مشكلة التفاهم:
لقد قطع فهم الإنسان لطبيعة اللغة ووظائفها أشواطا بعيدة منذ أن عرف السوفسطائيون ’نشوة اكتشاف قوة التأثير للكلام على الجماهير‘. فقد أسهمت تأملات وبحوث ودراسات فلاسفة ولسانيين (مثل ﭘانيني في الهند القديمة، وأفلاطون وأرسطو في اليونان القديمة، والفراهيدي وسيبويه وابن جني في البلاد العربية الإسلامية، وسوسور وسابير وبلومفيلد وتشومسكي وهاليداي وكثير سواهم في الحضارة الغربية الحديثة) في تطوير تصورات الإنسان حول أثمن مقتنياته، أعني اللغة. فأصبح لدينا مدارس لسانية مختلفة. وأنتجت هذه المدارس علوما متخصصة تدرس مختلف مستويات بنية اللغة من صوتية وصرفية وتركيبية ودلالية، فضلا عن أنماط اللسانيات المختلفة من نفسية واجتماعية ونظرية وتاريخية. كما تكونت لدينا نظريات في اللغة مختلفة في المنطلقات ومتباينة في النتائج في أغلب الأحيان. بيد أن هذا التقدم في فهم اللغة لم يصاحبه تقدم مواز في تحسين فرص استعمال اللغة الناجح في تحقيق التواصل الكفء، أو تبديد احتمالات سوء التواصل أو سوء الفهم الناجمة من سوء استخدام اللغة ( وعذرا لاستعمال بعض الكلمات المعيارية). فأين تكمن إذن المصادر والأسباب الحقيقية في مثل هذا الفشل؟ من الناحية المنهجية، يتفرع هذا السؤال إلى الأسئلة الآتية:
1. أيكمن الفشل في طبيعة اللغة نفسها وذلك لكونها أداة قاصرة عن التعبير الدقيق عن الفكر؟
2. أم أنه يكمن في الفكر نفسه لأنه لم يعد فكرا ذا أسس عقلانية دقيقة وواضحة وعلى شيء من الثبات؟
3. أم أنه يكمن في المستعمل الفرد للغة كونه لا يتورع عن استخدامها استخداما مفرطا في الذاتية للتعبير عمّا يريد دونما اعتبار للحقيقة الموضوعية؟
4. أم أنه يكمن في الصراعات الاجتماعية التي ما انفكت تؤثر في اللغة حين تدفع الناس إلى استعمالها لأغراض أيديولوجية تجعل الخطاب اللغوي وثيق الصلة بالمواقف المستمدة من الأيديولوجيا وليس بالحقائق الموضوعية؟
5. أم أنه يكمن في عدم وجود أسس اجتماعية، من أعراف أو تقاليد أو قواعد أخلاقية أو قانونية، تحول دون سوء استعمال اللغة، أو حتى تخفف منه؟
قد تتداخل الإجابة على هذه الأسئلة نظرا للترابط الوثيق بين أسباب ظاهرة فشل التواصل وسوء التفاهم ومظاهرهما المختلفة. ففي الإجابة على السؤالين الأول والثاني،هناك اتجاهان، الأول منهما يوجه اللوم للغة نفسها في فشل التواصل بين الناس. والثاني يضع اللوم على الجماعة اللسانية ونظامها الفكري والسياسي. فقد ذهب فلاسفة التحليل اللغوي ومدرسة كامبردج الفلسفية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى التوكيد’ بأن اللغة هي المشكلة الرئيسية في الفلسفة‘(31). كما ذهب مفكرون آخرون إلى ’ أن ما تعانيه الفلسفة واللاهوت والأدب والعلوم الاجتماعية والتاريخ من ارتباك وتشوش وإشكالات إنما يعود إلى مرض اللغة وفشلها وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على ارتباكنا في فهم أنفسنا وفهم الواقع الإنساني [التوكيد من الباحث]‘. (32) ولعل التناقض واضح في هذا النص. إذ أنه بعد أن عدَّ اللغة فاشلة ومريضة، عاد ليقرر بأن دلالة هذا الفشل والمرض في اللغة تعود إلى ’ارتباكنا في فهم أنفسنا وفهم الواقع الإنساني‘ وهذا يعني بالضرورة أن أمراض اللغة وفشلها إنما هو انعكاس لتبلبل أفكارنا ولعجزنا نحن عن فهم أنفسنا. والحق أن العيب أو الفشل أو المرض أو سمه ما شئت ليس في اللغة، فهي أداة طيعة بأيدي مستعمليها. وهي في ذلك مثل كل أداة ؛ فالمستعمل هو من يقرر كيف ومتى ولأي الأغراض يستعملها. واللغة، من حيث هي، تصلح لأن تكون وسيلة ممتازة للتواصل في شتى الحقول المعرفية بالقدر نفسه الذي تصلح فيه للتشويش والإرباك وخلق المشكلات في وجه أية محاولة للتواصل والتفاهم.
من هذا نستنتج بأن من يجب أن ينسب إليه الفشل والإرباك والمشكلات هم مستعملو اللغة أفرادا وجماعات، لا أن ينسب إلى اللغة التي هي أداة تنطوي على حدود وممكنات. فهي ليست بالمريضة ولا بالسليمة؛ وإنما هي تؤدي الوظيفة التي يمليها عليها مستعملوها فحسب، سواء أكانت تلك الوظيفة سلبية أم إيجابية، أخلاقية أم لا أخلاقية. فإذا شاء المرء أن يلوثها بالأيديولوجيا المغلقة على ذاتها وبالتدليس، وأن يجعل منها منطلقا لرسم صورة لفظية مغرقة في الذاتية عن الواقع، استجابت لـه وأعطته من طاقاتها التعبيرية ما يجعل ُ الحق َ باطلا، والقبح َ جمالا والنور َ ظلاما. وإذا شاء أن يحرص على أن تكون واضحة ودقيقة في تصويرها للواقع على وفق منهج يستبعد، قدر الإمكان، العناصر الذاتية ويعكس أكبر قدر ممكن من مكونات الواقع بشكل موضوعي، لن تبخل عليه اللغة بما لديها من طاقات تعبيرية في معاونته في هذا الأمر. إذن على قدر كفاءة مستعمل اللغة الذي يفهم أسرارها وطاقاتها وإخلاصه لما يريده منها، تكون جسامة المسؤولية الأخلاقية المترتبة على العمل الذي تنجزه اللغة سلبا أو إيجابا. ومن الواضح أن هذه المسؤولية الأخلاقية لا يمكن أن تـُعزى إلى اللغة نفسها لأنها حاضنة لكل القيم الاجتماعية سواء أكانت أخلاقية أم غير أخلاقية، محافظة وتؤمن بأن ليس في الإمكان أفضل مما كان أم ثورية تؤمن بالتغيير والبحث عن آفاق جديدة. إذن يمكننا أن نعزو المسؤولية الأخلاقية إلى مستعملي اللغة أنفسهم. وبذلك يجوز لنا أن نرجع الفشل في التواصل والتفاهم إلى سوء استعمالنا للغة وليس إلى مرض متأصل فيها.
وتقدم لنا سوسيولوجيا المعرفة النجدة في تشخيص السبب الحقيقي في الزعم الذي يعزو الفشل إلى اللغة أعلاه. فإذا كان المبدأ الأساسي في سوسيولوجيا المعرفة هو أن ’ كل معرفة، ما عدا "العلوم الطبيعية " تتأثر بموقف القائم بالمعرفة"‘ أي أنها نسبية من الناحية الاجتماعية‘ كما يقول مانهايم،(33) جاز لنا البحث في أسباب هذا الموقف المتشائم من اللغة في سياق الظرف التاريخي الذي أنتجه. فقد ازدهرت البحوث التي تؤكد فشل اللغة ومرضها في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وكان ذلك تحديدا عند صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا ودخول أوروبا في عمق الدوامة الأيديولوجية التي بدأت مع ثورة أكتوبر 1917. وقد تفاقمت تلك الدوامة واشتدت بعد الحرب العالمية الأولى لتنتهي بكارثة الحرب العالمية الثانية. وإذا ما تذكرنا بأن الخطاب اللغوي هو من أهم الميادين التي يتجلى فيها فعل التشويش الفكري الفاشي والشمولي، وهذا يصدق على حالة الخطاب اللغوي في ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفيتي السابق ودول أخرى كثيرة، وإذا ما تذكرنا أن بعض المفكرين قد تورطوا في زيادة بشاعة فعل التشويش الفكري والأيديولوجي هذا، كما هو حال مارتن هيدجر في ألمانيا النازية، وبرونو ميجيلوريني في إيطاليا الفاشية، حُقَّ لنا أن نقبل ما ذهب إليه هابرماس الذي يرى أن" مما لا شك فيه أن فلاسفة العشرينيات وأوائل الثلاثينيات يدخلون حكما في سياق الفكر الذي سبق النازية ومهد لها. وليس بإمكانهم أن يتظاهروا بعدم الاهتمام بما حصل بعد ذلك. وبعد 1945، على كل حال، لم يعد باستطاعة هؤلاء الذين اتخذوا موقفا يدعى الحياد، إظهار البراءة."(34) واستنادا إلى مثل هذه الخلفية الفكرية والسياسية والاجتماعية الملتبسة والمحبـطة، يمكن لنا أن نصف ذلك الزعم بأنه تعبير عن اليأس من اللوغوس ممثلا في اللغة. وإذا ما علمنا بأن اللوغوس كان واحدا من أهم العناصر في التكوين الثقافي للعقل الغربي، وهو المكون الذي يفترض أنه يفصح ’عن التماثل الأساسي بين عمل الكلام وعمل الفكر ‘ كما يقول كاسيرر(35)، نستطيع أن نستنتج بأن الزعم القائل بمرض اللغة وفشلها قد جاء تعبيرا عن لحظة تحول حاسمة من اليقين المطلق إلى الشك العميق في صحة ذلك العنصر الأساسي في الثقافة والعقل الغربيين، أعني اللوغوس.
ويمكن أن نلاحظ بأن التركيز على مشكلات فشل التواصل وعلاقتها بطبيعة الخطاب اللغوي يزداد حدة مع ازدياد حدة الصراعات الأيديولوجية لسببين الأول هو أن الإنسان، أعني مستعمل اللغة، كائن أيديولوجي، والثاني هو أن الصراعات الأيديولوجية تزيد من فاعلية الجانب الذاتي وتقلل من فاعلية الجانب الموضوعي من شخصية الإنسان. إن الصراعات الأيديولوجية ما انفكت تتصاعد بعد أن انتقل مركزها الأساسي من أوروبا (الشيوعية ضد الرأسمالية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ثم الليبرالية والشيوعية ضد الفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية ثم عودة إلى الشيوعية ضد الرأسمالية بعدها، وأخيرا بين أمريكا وكل من يرفضون هيمنتها في الوقت الراهن) إلى العالم جميعه بعد انهيار المجموعة الاشتراكية. فقد تشكلت بؤر جديدة متعددة للصراع وذلك لمواجهة أخطار القطبية الواحدة وما تفرضه العولمة من تغييب للهوية وإلحاق قسري بالآخر. كما يمكننا القول بأن الصراعات صارت تجري بين الغرب الرأسمالي بوصفه مركزا وأغلب دول العالم بوصفها محيطا. وبين طرف من الغرب هو الولايات المتحدة تحديدا ودول معينة تتبنى مناهج وسياسات مناهضة للعولمة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وكما تعددت جغرافيا الصراع واختلفت كذلك تعددت أسبابه واختلفت: فكانت هناك صراعات سياسية واقتصادية ودينية وثقافية تحركها جميعا الرغبة في الهيمنة وضمان الحصول على الامتيازات. وهذا ما يجعل أزمة فشل التواصل وتفاقم سوء التفاهم بين البشر تصل حدودها القصوى لأنها غدت ظاهرة كونية دون أن تفقد صفتها المحلية أو الداخلية. فهي إذن تتجسد بالاختلاف بين أبناء الثقافة الواحدة من جهة؛ فنجد أن هناك تناشزا وتضاربا في الخطاب السياسي والأيديولوجي في البلد الواحد بين ما تقول به القوى القابضة على نحو مؤبد على السلطة والقوى التي تنازعها ذلك التأبيد من جهة أخرى، وبين ما تقول به قوى توصف بأنها قوى معارضة، قد تكون علمانية أو محافظة أو دينية. ويصل هـذا التناشز والتضارب حـدا يجعل من الصعب القول أن الطرفين يرغبان في التفاهم أو يسعيان له. ويمثل ذلك الموقف من الطرفين تعبيرا ملموسا عن عمق الصراع وتجذره وتحول مظاهره السياسية في الخطاب اللغوي إلى نوع شامل من التخندق اللساني المستمد من موقف أيديولوجي يعبر عن القطيعة في التواصل وليس عن الرغبة فيه. وكذلك تتجسد الأزمة في ما نشهده من مظاهر سوء التفاهم وفشل التواصل على مستوى العالم جميعه بفعل الاختلافات الثقافية والحضارية والاقتصادية والسياسية. وهي اختلافات يمكن أن تفسر أيديولوجيا، بمعنى أنها تعبر عن المواقف الفكرية والسياسية المختلفة. وهذا ما يضفي أهمية متزايدة على دراسة تأثير فشل التواصل كما يتجسد على صعيد دور اللغة نفسها في مثل هذه الأزمة.
ولعل ما طرحه جاك ديريدا (1930- 2004) من مفاهيم أساسية في التفكيك deconstruction في الجانب الفلسفي واللغوي قد شكل أهم تحد واجهته اللغة في مجال قدرتها على التعبير الموضوعي. فنزعة ديريدا التفكيكية قد بُنيت على موقف رافض لما يسميه بميتافيزيقا الحضور التي تعني أن للدوال، أو لكلمات، مدلولات في العالم الخارجي تشير إليها تلك الدوال، وتكون حاضرة خارج مؤسسة اللغة. وإذ يقيم المعنى الذي يتضمنه الكلام أو النص على أساس من الاختلاف والإرجاء، فإنه يكاد يذهب إلى القول بوجود نظامين أو عالمين منفصلين هما عالم اللغة والعالم الطبيعي. وهما نظامان أو عالمان يخضعان لمنطقين مختلفين تماما. وهو حين يحطم مفهوم اللوغوس ويسدد ضربات قاتلة للميتافيزيقا الغربية، فإنه يقيم، في الوقت نفسه، صيغته الميتافيزيقية الخاصة به.
5. في إمكان أن تسهم اللسانيات والفلسفة في تبديد سوء التفاهم:
لقد حفزت المشكلات التي أثارتها الآراء المشككة بصحة اللغة وقدرتها على التعبير، والقائلة بأنها سبب جوهري من أسباب الارتباك والتشوش في العلوم الإنسانية عامة، نقول حفزت تلك المشكلات الباحثين إلى بذل جهود علمية مكثفة مكرسة للبحث والتقصي في كثير من جوانب اللغة المهمة في حقول فلسفة اللغة واللسانيات الاجتماعية والتطبيقية ومناهج تحليل الخطاب. وقد أدى هذا بدوره إلى تطورات مهمة للغاية جعلتنا على دراية أعمق وفهم أدق لطبيعة اللغة. وتجلى ذلك في جهود كثير من المفكرين والفلاسفة والباحثين كما في أعمال مدرسة كامبردج الفلسفية، وأعمال المدرسة الوظيفية (مدرسة براغ) ودراسات أوستن وسيرل. وعمل تشومسكي المهم في اللسانيات التحويلية التوليدية. وكذلك الأعمال المؤسسة لما يعرف باللسانيات التداولية pragmatics. غير أن ذلك كله لم يؤد إلا إلى تأثير محدود في التقليل من الارتباك والتشوش في الحقول المعرفية المشار إليها أعلاه، كما لم يؤد ِ إلى تحسن ملحوظ في سبل التواصل وتقليل احتمالات سوء التفاهم. وهو أيضا لم يستطع صد المغيرين على المنجم اللغوي لأسباب أيديولوجية محض. فاللغة ملكية اجتماعية مشاعة لا يمكن لأية سلطة أن تمنع الآخرين من استعمالها أو استغلالها بالكيفية التي يريدون. وأية محاولة لمنع الآخرين من استخدامها أو تحديد الكيفية التي يجب إتباعها في كلامهم المنطوق أو المكتوب إنما تقع في باب الحجر على حرية التعبير التي تتضمن بالضرورة حرية التفكير وحرية اختيار اللغة المناسبة للتعبير عن المواقف الفكرية. وبذلك فهي محاولة تـُعـَبـِّرُ بالضرورة عن إرهاب فكري صريح. كما أنها منزلق خطير قد يؤدي الوقوع فيه إلى موقف فاشي في الفكر والسياسة. وهو ما يجب أن يتجنبه كل مسعى لتحسين سبل التواصل الإنساني لأن حرية الكلام هي الهدف الذي ينبغي أن نوفر له كل السبل الممكنة.(36)
وتحظى العلاقة بين الفرد بوصفه مستعملا للغة واللغة ذاتها باهتمام المفكرين والفلاسفة والباحثين الشديد. وهم حين يتحدثون عن مفاهيمهم للغة يزيدون الأمر تعقيدا. إذ يذهب لودفيج فتجنشتاين، وهو أحد أهم الباحثين في فلسفة اللغة، إلى حد القول ’إن حدود لغتي هي حدود عالمي‘(37). وهو ما قد يفهم على أنه نوع من النسبية اللغوية Linguistic Relativity. أي أنها نسبية ليست فقط بين اللغات المختلفة كما ذهب إلى ذلك سابير وورف في فرضيتهما المشهورة التي تقيم توازيا بين اللسان والفكر إذ تؤكد ’بأننا نحلل الطبيعة على وفق خطوط وضعتها لغاتنا، أو ألسنتنا، الأصلية... بوساطة أنظمة لسانية في عقولنا‘(38)، بل هي أيضا نسبية تشيع في اللغة الخاصة بكل فرد، وفي اللغة الواحدة نفسها. أي أن النسبية اللغوية ظاهرة ليست ذات جوهر عابر للغات والمجتمعات والثقافات فحسب، وإنما هي ظاهرة تشمل، وتحدث فعليا، بين أفراد المجتمع الواحد. وهو ما سيقلل من طاقة الإمكانيات التواصلية للغة إلى أدنى حد ممكن. فما دام الناس يختلفون في قدراتهم اللغوية، وما دامت حدود اللغة الخاصة بكل فرد تحدد عالمه الخاص، فإن كل مستعمل للغة سيعبر عن عالم خاص به. وهو عالم يختلف بهذه الدرجة أو تلك عن عالم الآخرين. لأن حدود لغة أي فرد في المجتمع تختلف بالضرورة عن حدود لغة الأفراد الآخرين بالضرورة. بمعنى أن كل فرد سيتكلم عن عالم خاص به مختلف عن عوالم الآخرين، وبهذا سيكون لدينا عدد هائل من العوالم مساو لعدد البشر لا عالم واحد. ولعل هذه الصورة تتسم بالمبالغة، ولكنها مع ذلك تكشف عن أحد أهم مصادر سوء التفاهم وفشل التواصل النفسية والاجتماعية والوجودية. ونعتقد بأن أي علاج تربوي أو علمي مستنبط من طبيعة هذا العامل المهم سيكون ضروريا، ولكنه يبقى محدود الأثر في تحسين فرص التفاهم نظرا لتعدد صور فاعلية عامل اختلاف العوالم المعبر عنها بوساطة اللغة وتعقيدها ولكونه عاملا ذا وجود ثابت ملازم للكينونة الفردية والاجتماعية واللسانية للإنسان.
ولعل البحث في أسباب المشكلة سيكون أكثر جدوى إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الاضطراب والتشوش الحادثين في العقل والعلم وأصولها المعرفية. إذ مع ملاحظة أن التقدم العلمي استمر متصاعدا بوتائر عالية في القرن العشرين، إلا أن الأسس المعرفية التقليدية للعلم في صيغته التي عرفتها البشرية منذ عصر النهضة والثورة الصناعية قد اهتزت كثيرا. ولذلك يستحق القرن العشرين أن يوصف بأنه قرن انكفاء العقل ذي التوجه والنزعة المغالية في أهمية العلم التقليديين. فلقد انتهى عصر الفكر القطعي دونما رجعة، ذلك الفكر الذي يصفه وندهام لويس بالفكر المكاني أو السكوني، ليحل مكانه فكر زماني حركي مرتبط بالصيرورة والتحول. وحلت نزعة نسبية المعرفة محل المقولات المبنية على المطلقات. ويوضح ميشال سارتو أسس هذا التحول قائلا: ’ما تؤسسه فترة معرفية معينة هو بنيتها اللاشعورية... حينئذ تهتز الأرضية التحتية لينهار كل ما على السطح من بنيات وأنساق وأنظمة العبارة والكلام لتترك المجال لميلاد "نسق إمكاني" جديد... مثلما تنهار الحقيقة والتاريخ ليصبحا قطعا مجزأة ودلالات محددة وتصورات محلية، ينهار العقل ليرتد إلى مجرد باعث تنظيمي خاص بفترة معرفية معينة.
وينهار أيضا اليقين ليعبر عن " قلق اللغة".(39) ولسوف تغدو أهمية هذا التصور أكثر وضوحا إذا ما قلبناه رأسا على عقب، وقلنا إن قلق اللغة يعبر عن قلق الفكر نفسه، وليس العكس. وبهذا لن تكون التهمة موجهة للغة بقدر ما هي موجهة للأنساق الفكرية والسياقات الاجتماعية المنظمة لعمل اللغة. وهي الأنساق التي ليست من صميم مفهوم اللغة وإن كانت ترتبط بها عضويا فلا وجود للفكر دون وجود اللغة. إذ كما نجحت اللغة، في مراحل تاريخية معينة، في التعبير عن(اليقين) و(الحقيقة) وعن ( أنساق فكرية مستقرة)، لأن ما عبرت عنه كان موجودا وقائما في واقع الممارسة الاجتماعية والفكرية والسياسية التاريخية في حينه، نجحت أيضا في التعبير عن الاضطراب والتشوش وانعدام اليقين الماثل في واقع الممارسة الاجتماعية والفكرية والسياسية التاريخية الراهنة. وكان ذلك بسبب التحول من العقلية المكانية القديمة إلى العقلية الزمانية الحديثة التي "... استغنت عن الكينونة، وتركت الناس يهيمون بلا علامات طريق يسترشدون بها،... وعلى نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت الصيرورة مقولة كبرى بالفعل في الفكر، بالمعنى المتدهور والمعنى الخلاق معا." كما يؤكد المفكر والرسام وندهام لويس. (40)
ولعل مصادر التشوش لا تقف عند حدود اللغة العادية، إنما قد تشمل كثيرا من المصطلحات العلمية التي يفترض أنها تعبر (بدقة) عن الأفكار التي يرغب الباحث العلمي أن يتحدث بها. ففي مجال المصطلحات اللسانية مثلا، نجد أن مصطلح المتكلم – السامع المثالي، وهو في الإنجليزية the typical speaker-listener، في اللسانيات التوليدية هو مصطلح غاية في التجريد والعمومية لحالة شديدة الذاتية والخصوصية حتى ليمكن القول أنه نوع من الأسطورة في حقل العلم. وهو إذ يشير إلى القدرة في استعمال اللغة في التعبير والفهم معا، فإنه يعجز عن وضع عملية التواصل في سياقها الاجتماعي والتاريخي. والسبب هو أن النموذج المتبنى في صوغ هذا المصطلح، كما يقول روي هاريس، يقترح في الأساس صحة وشرعية ثلاثا من عمليات التجريد:
( i ) إنه مجرد من هويتي كل من المتكلم والسامع.
(ii ) وهو مجرد من السياق الاجتماعي المحدد لفعل الكلام.
(iii) وهو مجرد من مضمون ما يقال.( 41)
وهكذا يغدو المصطلح الذي كان المرجو منه أن يقربنا من فهم بعضنا بعضا أداة تجريدية تترفع عن أهم ما ينتظره منها مستعملو اللغة، أعني الإسهام في تدعيم فرص التواصل وتدعيم سبل التفاهم بدلا من تبديدها بزعم أنها تقلل من المكانة العلمية للبحث اللساني الذي نرى أن من أولى مهماته أن يدرس اللغة في سياقاتها الاجتماعية المحددة وليس في فراغ نظري محض. فنحن لا نستطيع أن نضع علامة مساواة، على مستوى الوظيفة، بين استعمال أدونيس للغة بوصفه شاعرا على دراية عميقة بأسرار العربية واستعمال قائد الطائرة للغة حين يقدم تقريرا لبرج المراقبة أثناء القيادة. فأدونيس شاعرا يستخدم اللغة ليصوغ نصا شعريا ينقلِ حمولة لسانية ليست بالمعرفية تماما، وإنما هي حمولة مفعمة بأقصى الحالات الذاتية والميتافيزيقية تألقا. في حين يستخدم قائد الطائرة أعلى درجات الدقة في اللغة عندما يتصل ببرج المراقبة ليقدم له تقريرا عن حالة الطائرة التي يقودها. وكل منهما ينجز وظيفة لغوية ناجحة على وفق السياق والغرض أو الوظيفة الخاصين بكل منهما. ولكن المسألة لا تـنتهي عند هذا الحد. فإذا كنـَّا على يقين بأن رسالة قائد الطائرة ستـُفهم، ويجب أن تفهم، على الوجه الذي أراده منشؤها، فإن الوضع مختلف تماما بالنسبة لرسالة أدونيس الشعرية لأننا نستطيع الجزم بأن رسالة أدونيس ستتـُفهم من قرائه على صور متعددة ومتباينة تماما. وهي صور ليس بالإمكان، نظريا، حصرها.
لأننا نعرف أن ما أراده أدونيس ليس قفل باب التأويل لنصه الشعري، بل هو يريد أن يبدع كل قارئ فهمه الخاص لذلك النص. وهذا الموقف يعبر عن قناعة بأن تعدد القراءات والتأويلات، نظريا وعمليا، سيثري النص بمعان قد لا تكون خطرت على بال الشاعر أصلا. وإذا كان هذان المثالان يتعلقان بنوعين مختلفين من الخطاب وبمرسلين هما شخصان يتفاوتان في القدرات اللغوية وفي الغرض من استعمال اللغة، أي في طبيعة الوظيفة اللسانية المنجزة، فإن الشعراء أنفسهم يختلفون في اللغة التي يستخدمونها في خطاب بعينه ولوصف تجربة معينة مثل تجربة الحب. فلغة عمر بن أبي ربيعة الشعرية، في سياق وصف تجربة الحب، أكثر احتفاء وتركيزا على ما هو حسي من لغة صاحب بثينة التي لا نكاد نعثر فيها على شيء من ذلك لأنها تنحو إلى التعبير عن الحب المثالي. والواقع أن المصطلحات والمفاهيم في العلوم والفنون والحقول المعرفية جمعيا قد غدت أقل موثوقية وأكثر تعبيرا عن التعددية في الدلالة، فصارت توصف بأنها خلافية سواء أكان ذلك المصطلح أو المفهوم أدبيا مثل مفهوم الشعر نفسه أو ثقافيا مثل مفاهيم اللغة والثقافة والفكر أو سياسيا مثل مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولا ينفرد الشعراء عن غيرهم بالنسبة لتفاوت قدراتهم في الفهم والتعبير باستعمال اللغة، أو حتى بالنسبة لما يصفه البعض بسوء استخدامهم للغة أو سوء فهمها. فذلك التفاوت الذي قد يراه البعض نتيجة لطبيعة الخطاب الشعري نفسه قد يؤدي إلى وجود ما يعرف بظاهرة الغموض في الشعر. بينما يرجع آخرون مسألة الغموض في الشعر إمَّـا إلى إفراط الشعراء في التركيز على ذواتهم أو لعدم تمكنهم من أدواتهم اللغوية. وعلى أية حال فإن الباحثون اللسانيون في علوم اللغة يشاطرونهم في مسالة سوء الفهم أو سوء القراءة. ففي حقل اللسانيات نجد أن عالمين من أكبر علماء اللسانيات في القرن العشرين وهما الأمريكيان ليونارد بلومفيلد (1887-1949) ونعوم تشومسكي (ولد في 1928) يقدمان قراءتين لنص كتاب (محاضرات في اللسانيات العامة) لفرديناند دي سوسور. وكل قراءة من القراءتين اتخذت شكل تقويم متعدد المراحل وعبر سنوات عديدة للكتاب نفسه. وإذا كان من المتوقع, وإن كان ذلك نادرا، في القراءة المنهجية العلمية التي يجريها مختصون في حقل علمي هو اللسانيات أن تقع هذه القراءة في التناقض أو إساءة القراءة والفهم، فإن مواقف بلومفيلد وتشومسكي من آراء سوسور قد ذهبت إلى أبعد من ذلك. فقد تباينت آراؤهما بين الإطراء والتبني في مراحل معينة، والنقد والنبذ والهجوم في مراحل أخرى!
والغريب في الأمر أن تتضمن قراءتاهما شيئا من التناقض وسوء الفهم! وهو تناقض قد يقع فيه أشخاص أقل كفاءة وخبرة في استخدام اللغة من هذين العلمين البارزين في حقل اللسانيات. ويذهب باحث معاصر إلى أن ذلك التناقض وسوء الفهم في قراءتي بلومفيلد وتشومسكي كان نتيجة لدوافع أيديولوجية وعوامل ذاتية وموضوعية تخص تطور الموقف النظري لكل من بلومفيلد وتشومسكي من اللغة؛ فضلا عن أن ذلك الباحث يؤكد على أن إساءة القراءة خصيصة متأصلة في الخطاب اللغوي نفسه.(42) وعلى أية حال، يمكننا القول بأننا لا نعتقد أنه يمكن لوم الفرد أو تأنيبه إذا ما نحى في استخدامه للغة منحى ذاتيا لأننا لا نرغب في ممارسة نزعة توجيهية للآخرين أولا ولكوننا نعلم علم اليقين أن ظاهرة فشل اللغة في تحقيق التفاهم أكبر بكثير من نصيحة تسدى لهذا الفرد أو ذاك حول كيفية استخدام اللغة على نحو كفء. ولذلك ينبغي دراسة الأسباب العلمية والسياقية التي قد تكون دافعا وراء موقفه الذاتي هذا ومحاولة الوقوف على جذورها النفسية، ومن ثم طرح الحلول المحتملة.
في الإجابة على السؤال الرابع نقول: تـُعـَدُّ الصراعات بين مكونات المجتمعات من أهم دوافع سعي الأفراد والجماعات لامتلاك القدرة على استعمال اللغة على نحو يعبر عن مصالح خاصة. فمن الناحية التاريخية، كان استعمال اللغة مرتبطا بالقضايا الاجتماعية على نحو وثيق. إذ ’قبل أن تصبح البلاغة [والبلاغة أهم مظاهر الاستعمال الجيد والفعال في التعبير عن الأفكار]" تقنية محظوظة تسمح للطبقات المسيطرة بأن تتأكد من امتلاكها للكلام" حسب تعبير بارت، وقبل أن يكون لها معلموها وفئات تدافع عنها، ولدت البلاغة في القرن الخامس قبل الميلاد من محاكمات حول ملكية الأرض....، وهكذا بدأ الغربي يتفنن في الكلام ويفكر في اللغة لا حبا بالتفنن أو في المعرفة لذاتها بل دفاعا عن ممتلكاته‘ أو حسما لمنازعاته.(43) وهذا الكلام يفصح عن واحد من أهم منابع التشويش على إمكانية التواصل بين البشر. فقد ارتبط نشوء علم البلاغة في الحضارة اليونانية القديمة بالصراعات الاجتماعية التي قد تكون طبقية أو سياسية أو فكرية أو عرقية أو دينية أو طائفية. وهي في كل الأحوال تعبر عن نفسها في أطروحات وصيغ ومقولات أيديولوجية ثابتة. وتهيئ نفسها للدفاع عن تلك الأطروحات والصيغ إزاء أية أطروحات أخرى عبر الاستثمار الأقصى لطاقة اللغة التعبيرية.
ودونما التفات إلى مسألة كون ما يقال يعبر عن حقائق أو تصورات وأوهام وأكاذيب. والواقع أن للأيديولوجيا منطقا خاصا لا ينتمي بالضرورة إلى أبواب المنطق الصوري من استدلال وقياس واستقراء كما يقول محمد سبيلا. لأن ’ العقل الأيديولوجي – إذا جاز التعبير – لا يرتبط بنظام معرفي واحد ولا بآليات واحدة [موحدة. الباحث] بل يلجأ إلى كل ما يخدم غرضه من استدلال وبلاغة وإيحاء(...) إنه يوظف ما يناسب قضيته ويخدم قناعاته: يوظف البيان ( التشبيه والاستعارة والتمثيل والتورية والقياس) ويوظف العرفان( المماثلة...) [ كذلك يوظف الميثولوجيا والدين والحجج الغيبية. الكاتب ] وكما يوظف الاستقراء والاستنتاج‘ وكل ذلك لأن ’هدفه إقناع الغير. ومن خلال سعيه لإقناع الغير يزداد هو نفسه اقتناعا وإيمانا بقضيته.‘(44) وهذا يعني أن عبء اللغة، بوصفها مؤسسة اجتماعية، سيكون ثقيلا للغاية لأنها تخدم، مرغمة، أهدافا متباينة بل متناقضة أحيانا. ومع ذلك فإنها ستجد من يقبل منها ما تقدمه لـه من وصفات فكرية جاهزة لأن ’ الميل الطبيعي للإنسان هو أن يعرف ويستعمل معارفه. وأن يعتقد وليس أن يفكر. والفارق كبير بين المعرفة والاعتقاد وعدم التفكير.‘(45) وهكذا تتحول اللغة من وسيلة لتجسيد الفكر إلى وسيلة لكبح التفكير وتجسيد الصراع الاجتماعي. بمعنى أنها تتحول من وسيلة تواصل إلى وسيلة تعويق للتواصل.
ولأن كل الأيديولوجيات تتوفر على هذا القدر أو ذاك من التناقض والتدليس والقفز على الحقائق، تقبل الأيديولوجيات مسألة التناقض بين القول والعمل بدعوى أن الواقع يفرض شيئا من التسامح إزاء أهمية أن يصدق الفعلُ القول َ وينسجم معه. ولهذا ينصح أحد السياسييين ’بضرورة الانتباه إلى ما يفعله رجل السياسة لا إلى ما يقوله‘. والأصح أن ننتبه إلى أيادي رجال السياسة بقدر ما ننتبه إلى أفواههم.‘ وحتى لو ابتعدنا عن الفكر السياسي وما تفرضه الأيديولوجيا من فذلكة لغوية في الإنشاء الكلامي، أو فذلكة تفسيرية عند المتلقي، فإننا لن نصل إلى لغة تخلو من احتمالات تعدد الدلالة. فحينما كتب فتجنشتاين، وهو من كبار فلاسفة اللغة، قائلا: " المعنى هو الاستعمال."(46) وهي جملة قصيرة وبسيطة، إلا أنها خضعت لتفسيرات متباينة أشد التباين في الدلالات التي توصلت إليها عدد من الباحثين في حقل فلسفة اللغة. فقد قرأها رايت Wright (1980) على أنها " دعوة للإلزام الاجتماعي بصدد المعنى"،(47) ورفض ماكدويل McDowell (1984)(48) صراحة استنتاج رايت هذا، بينما عدها براندوم Brandom (1994) " نقطة مفصلية للدخول إلى فهم للمعنى يكون في آن واحد معياريا وتداوليا ".(49) وهكذا يبدو الخطاب، وهو هنا جملة قصيرة وبسيطة، إنموذجيا في ما يفصح عنه من كون الخطاب حمال أوجه قد يكون بعضها مناقضا لبعض.
يبقى السؤال الخامس حول عدم وجود أسس اجتماعية، من أعراف أو قواعد أخلاقية أو قانونية، تحول دون سوء استعمال اللغة دون إجابة شافية على الرغم من كونه من أهم الأسئلة. فهو السؤال الذي يوجه انتباهنا إلى البعد الاجتماعي لمسألة سوء التفاهم، وإلى ضرورة تجاوز حالة القطيعة الفكرية والسياسية، أعني حالة انعدام التواصل شبه التامة التي نعيشها الآن. وإذا كان هناك من يقول بأن الأخلاق هي العربة الأخيرة في قاطرة السياسة، والتواصل والتفاهم بين الناس يقع في صلب السياسة كما رأينا، فإننا نؤكد أن عربة الأخلاق يمكن أن تكون العربة الأهم في وضع تاريخي بعينه. فهل نقبل، بدعوى أن هذه هي طبيعة السياسة، بأن نعيش في زنزانات منفردة صنعناها بأنفسنا ولأنفسنا؟ وهل يحقق ذلك أيا من طموحاتنا ومصالحنا؟ أم أننا سنبحث عن السبل والوسائل والمناهج والأفكار والخطط التي يمكن أن تخرجنا مما نحن فيه، وتعيد للغة دورها الفعال والحقيقي في دعم الصيرورة الاجتماعية التي لن تتحقق إلا عبر جعل التفاهم والتواصل الناجع ممكنا ؟ لا شك في أن مثل هذه المهمة جسيمة. ولكن لا بد من القول أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.
6. مقترحات وحلول:
وما دمنا قد توصلنا إلى أن جذور فشل اللغة لا تكمن في اللغة نفسها وإنما في مستعمليها وفي السياقات الاجتماعية والسياسية التي تكتنف ذلك الاستعمال، فإن مهمة التصدي لمنابع الفشل في التواصل اللغوي هي مهمة ليست علمية ومعرفية فحسب، بل هي مهمة فكرية واجتماعية وسياسية على قدر كبير من الجسامة وهي تتطلب وعيا حقيقيا بأهميتها الحاسمة والاستثنائية في الارتقاء بالأداء السياسي والاجتماعي مـن جميع المهتمين بالشأن العـام ومـن المختصين بالحقول المعرفية ذات الصلة. ففي الجانب الفكري، اقترح الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ( 1632- 1704)، أن يتحرى المتحدث النقاط المبدئية الآتية:
1. لا تستعمل كلمة دون أن تعرف أية فكرة ستجعل من تلك الكلمة رمزا لها.
2. تأكد من أن أفكارك واضحة، ويتميز بعضها عن بعض، وحاسمة؛ وإذا كانت أفكارا حول الجواهر، فينبغي أن تكون قابلة للمطابقة مع الأشياء الواقعية.
3. حيثما أمكن، اتبع الأسلوب الشائع، وبخاصة الأسلوب الذي يستعمله هؤلاء الكتاب الذين يبدو خطابهم متضمنا أوضح الأفكار.
4. حيثما أمكن، أفصح عن معاني كلماتك؛ وعلى وجه الخصوص، قم بتعريفها.
5. لا تـُقـْدِم على تغيير المعاني التي تعطيها للكلمات. (50)
ومن الواضح أن هذه النقاط الخمس تمثل أمنية في عقل مفكر يدرك ما يخلقه الاستعمال غير الحصيف للغة من مشكلات، وهي أيضا تشبه مقترحا لبرنامج تعليمي ينبغي لكل فرد أن يمر به وأن يؤمن بأهدافه حتى يتحقق المطلوب منها. وفضلا عن ذلك فإنها تعني أنه إذا كان استعمال اللغة فعلا من أفعال الإرادة، فهو إذن فعل يمكن للفاعل المتكلم أن يغيره قصديا من أجل هدف تحقيق التفاهم المشترك على أفضل وجه. وأن الأمر، في نهاية المطاف، مرهون بإرادة المتحدث نفسه، وبنواياه وما يرومه من الاتصال. فقد يكون هدف القائل التشويش على السامع أو السامعين أو حتى تضليلهم.
كما اقترح جرايس (1913-1988م) أربعة حدود كبرى أو مبادئ أسماها بالمبادئ الأساسية للمحادثة، أوmaxims of conversation، لضبط دقة الكلام ورفع درجة موضوعيته. وهي المبادئ التي اعتبرها بعض الباحثين أسسا عامة تكون مهادا لأي استخدام كفء للغة.(51) وهي بمجملها تمثل مبادئ عامة وتعاونية بين مجموعة المتكلمين. وهذه المبادئ هي:
أولا. مبدأ النوعية quality الذي يقرر بأن إسهامات المتحدثين ينبغي أن تكون صادقة، ويشدد على أنهم لا يجب أن يتفوهوا بما يعتقدون بكذبه من الأمور أو أن يقولوا ما ليس لديهم عليه دليل مناسب.
ثانيا. مبدأ الكمية quantity الذي يقرر بأن الإسهام في المحادثة يجب أن يكون محتويا على المعلومة المطلوبة للإيفاء بالغرض الحالي للتبادل الإتصالي. ولا ينبغي أن يحتوي على ما يتجاوز الإيفاء بذلك الغرض حصرا. وهو ما يذكرنا بضرورة مطابقة المقال لمقتضى الحال الذي هو من شروط بلاغة القول في العربية.
ثالثا. مبدأ العلاقة أو relevance الذي يقرر بأن الإسهام يجب أن يكون ذا علاقة وثيقة بالغرض من التبادل الإتصالي. وهو ما يرتبط بوظيفة الاتصال المرجوة والغرض منه.
رابعا. مبدأ السلوك الكلامي الحميد أو manner الذي يقرر بأن الإسهام يجب أن يتسم بالوضوح والسهولة؛ أي أنه يجب أن يكون منظما ومختصرا ويتجنب حالة الإبهام vagueness or obscurity وحالة الغموض ambiguity.(52)
ونلاحظ هنا بأن هنالك علاقة واضحة بين المبدأين الأول والرابع عند جرايس، والقيم الأربع الأولى عند روبول؛ من حيث كونها جميعا قيما تقديرية تتعلق بوجهة نظر المتحدث في المعاني التي تنصرف إليها. ويمكن توجيه النقد إلى هذه المبادئ الأربعة في الجملة أو في التفاصيل. فيمكن القول بأن هذه المبادئ تقدم على شكل توصيات لكل متحدث. وهي توصيات ذات جوهر أخلاقي وذاتي مما يحيل المسألة برمتها إلى الذات المتحدثة. فالمبدأ الأول، مبدأ النوعية، هو مبدأ تقديري. أعني بأن المتحدث أو المتحدثون هم من يقررون فيما إذا كان ما يقولونه صادقا أم كاذبا. وهذا يجعل هذا المبدأ ذا جوهر ذاتي مما يقلل من أهميته وفاعليته في رفع درجة موضوعية الخطاب الحواري حتى يخدم مسألة التفاهم. أما المبدأ الثاني، مبدأ النوعية، فإنه يفترض وجود اتفاق مسبق أو معيار معتمد من جميع المتحدثين يمكنهم من تقرير ما يناسب مقتضى الحال. والحال أن مثل هذا المعيار غير متيسر أو هو ليس موضع قبول أو اتفاق عامين بين جميع المتحدثين. أما المبدأ الثالث، مبدأ العلاقة، فإن المتحدث هو أيضا من يقرر ما يراه ذا صلة بموضوع المحادثة. وقد درس أحد الباحثين محادثة جرت بين هاملت وبولونيوس، والد أوفيليا في المسرحية المشهورة، فأظهر أنه يمكن أن يفسر كلام هاملت على أنه جواب ذو صلة بأسئلة بولونيوس، أو أنه نوع من التهرب من الأسئلة التي يطرحها بولونيوس. وهذا يعني أن من الصعب التمييز بين ما له صلة وما ليس له صلة بموضوع المحادثة. وبالتالي فإن الغموض يمكن أن يكتنف أي حديث. أما المبدأ الرابع، وهو مبدأ السلوك الكلامي الحميد، فهو أيضا ليس سوى مجموعة وصايا بالسهولة والوضوح وتجنب الإبهام والغموض.
وواقع الحال أن السهولة والوضوح هما أمران لا يخلوان من جانب موضوعي يتعلق بالسياق، وجانب ذاتي يتعلق بقدرة القائل على الإفصاح وقدرة المستمع على الفهم لأن المعنى الذي قصده المتحدث هو غير مطابق بالضرورة للمعنى الذي فهمه المستمع. فما يقدم في محاضرة أكاديمية من كلام قد يكون سهلا بالنسبة للمتخصصين من المتابعين، وقد يعدّ غاية في الصعوبة بالنسبة لغير المتخصصين أو حتى بالنسبة للمتلقين من ذوي الكفاءة الأكاديمية الأدنى. وقد يفهم على صور مختلفة تماما حتى من المتخصصين أنفسهم. وقديما قال أحدهم " أوصيك بالدقة لا بالوضوح". أما الإبهام vageness والغموض ambiguity، وهما اللذان يوصي الباحثون في اللغة المتحدثين، ومستعملي اللغة بتجنبهما فإنهما من الأمور الخلافية العصية على التعريف فضلا كونهما أمرين تقديريين، وهما قد يكونان من نتائج استعمال اللغة عند إنشاء الرسالة، وهو ما يسمى بالخصيصة النصية أو (text-specific)، وتقع مسؤوليتهما على منشئ النص، أو هي من نتائج سوء تأويل الرسالة، وتقع مسؤوليتهما على متلقي النص، أو في السياق الذي تحدث فيه الواقعة الكلامية. وهنالك حقيقة تاريخية مهمة بصدد هذا النوع من المبادئ التي اقترحها لوك وجرايس وروبول وهي أن هذه المبادئ تتسم بالعمومية، وهي لم تحل، لحد الآن، دون سوء استخدام اللغة أو تقلل من سوء التفاهم على الرغم من مرور مدة زمنية طويلة تجاوزت نصف القرن على طرحها والتبشير بها علميا وعلى المستويين الأكاديمي والثقافي العام.
إن المشكلة الأساسية التي حاولنا أن نلقي عليها شيئا من الضوء في هذا البحث ما زالت تتسم بالأهمية الاستثنائية النابعة من.أن كثيرا من مصادر الصراع والنزاعات بين الأفراد، والحروب بين الشعوب هي إحدى النتائج الفعلية لسوء استخدام اللغة وللفشل في التفاهم والتواصل في الوقت نفسه الذي تغذي هذه الحروب والنزاعات نوازع سوء استعمال اللغة بمزيد من أسباب البقاء والديمومة. وهذا يجعل من مهمة تحسين قدرة البشر على استخدام اللغة على نحو يؤدي إلى تعزيز سبل التفاهم بينهم مهمة مجتمعية وعالمية تتطلب جهدا واسعا ومخلصا تشترك فيه مؤسسات الدولة في كل بلاد، أو كذلك المؤسسات الدولية السياسية والثقافية، ناهيك عن القوى الاجتماعية الفاعلة والأحزاب السياسية فضلا عن المؤسسات العلمية والأكاديمية والبحثية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمفكرين المستقلين. ولن يكون ذلك دون خطط واضحة تعتمد على برامج وأسس موضوعية تستطيع في نهاية المطاف أن تجعل اللغة ممثلة بالخطاب اليومي السياسي والإعلامي والشخصي والقانوني، أكثر التزاما بهدف اللغة الأساس الذي يتجاوز الاكتفاء بمجرد التعبير عن القناعات الفكرية والأيديولوجية والدفاع عنها وعما تمثل من مصالح، سواء أكان هذا الدفاع بالحق أم بالباطل، إلى غرض آخر أسمى وأهم ألا وهو إرساء التواصل بين المختلفين، وتعزيز سبل التفاهم بين الأفراد العاديين وبين الجماعات وبين الدول. ولعل من المناسب أن نقول هنا أن تكريس وتفعيل الوعي بدور اللغة وأهمية الهدف منها، ودورها الخطير في شتى مراحل التعليم، وتطوير أساليب الحوار والحجاج الفكري، والتركيز على الأسس الأخلاقية والمعرفية للحوار، وضمان حرية القول والتعبير هي من المبادئ الأساسية في هذا الصدد. ولأن مثل هذه المهمة خطيرة وآنية، ولا تتحمل التأجيل، وذات جوهر ثقافي وحركي وعلمي فعال، فلا مندوحة من أن تشرع بها وعلى الفور المجتمعات المحلية والدولية كافة. وهذا يجعل منها مهمة معرفية وسياسية وأخلاقية وحضارية. أليس كذلك؟
كلية الآداب/ جامعة بابل
الهوامش والإشارات:
1. أنظر كتاب: Plato, (c. 360 BC) Cratylus. Cambridge Studies in the Dialogues of Plato. Trans. David Sedley. Cambridge:University of Cambridge Press. 2003.
2. أنظر الموقع الآتي: (Anonymous) Language, Philosophy of. In Wikipedia, the Free Encyclopedia. The date of visit is 17th of Dec, 2008.
3. أنظر مادتي (Meaning, philosophy of language) في: Audi, Robert ( General editor) (1999) The Cambridge Dictionary of Philosophy. (2sd ed) Cambridge:University of Cambridge Press. Pp 545-550. p 545.
4. صليبا، جميل، (1385 هجرية) "المعجم الفلسفي" ج2، سليمانزادة. طهران. ص 398.
5. ابن جني، أبو الفتح عثمان " الخصائص" ج1. تحقيق محمد على النجار. عالم الكتب. بيروت. دون تاريخ. ص 33.
6. عبده الرجحي (1972) " فقه اللغة في الكتب العربية" دار النهضة العربية، بيروت. الهامش في ص 207. ويقول الراجحي في صفحة 60 الآتي: ( ونظن أن أول من عَـَّرف اللغة هو ابن جني في كتابه "الخصائص". ومن الملاحظ أن ابن فارس والثعالبي لم يعرفا باللغة فيمت كتبا عن "فقه اللغة".) ولعل من المهم الإشارة إلى أن لا أحد من النحاة أو واضعي المعاجم قد أضاف شيئا ذا بال إلى تعريف ابن جني.
7. الفيروزابادي، أبو طاهر محمد (ت 711 هجرية) "القاموس المحيط". مادة لغا. ص. 1715.
8. ابن منظور، محمد بن مكرم. " لسان العرب" اعتنى بتصحيحه أمين محمد عبد الوهاب ومحمد صادق العبيدي. دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي. بيروت. المجلد الثامن. مادة (لغا) ص. 300.
9. الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد (ت 370 هجرية) " تهذيب اللغة" بإشراف محمد عوض مرعب. علق عليه عمر سلامي وعبد الكريم حامد. دار إحياء التراث العربي. بيروت. مج 8، ص. 172.
10. فحصنا تسعا وعشرين كتابا من أمهات كتب النحو العربي بوساطة الحاسوب، فوجدنا أنها تضمنت كلمة اللغة 347 مرة. وفي هذه الكتب جميعا، باستثناء ما أوردناه من تعريف لابن جني، لم يورد الكتاب تعريفات للغة أو تحديدا لماهيتها الخاصة. كما فحصنا كتابي " مختار الصحاح" لأبي بكر بن أبي محمد بن عبد القادر، و"القاموس المحيط" للفيروزابادي في غير موضع مادة (لغا)، وبوساطة الحاسوب أيضا، فوجدنا أن الكاتبين قد ذكرا مصطلح (اللغة) 39 مرة. ولم يخرج المعنى لديهما عن ما قال به النحاة من احتمالات ثلاثة هي: اللهجة والكلام المخصوص الذي لا يقاس عليه والمعجم.
11. أنظر: Hartmann, R. R. K, and F. C. Stork ( 1973) Dictionary of Language and Linguistics. Applied Science Publishers LTD. London. (pp 123- 124).
12. ينظر الفصل الأول من: Deely, John (1990) Basics of Semiotics, Tartu University Press. Tartu,
Estonia.
13. أنظر:Benviniste, E. (1966) Problémes de Linguistique Générale.Gallimard. Paris. (pp 28-29)
14. لمقارنة ترجمة المصطلحات langue, langage, parole، أنظر:
أ. المسدي، عبد السلام ( 1984) " قاموس اللسانيات". الدار العربية للكتاب. تونس وطرابلس
الغرب. الصفحات 196 – 208.
ب. مبارك، مبارك ( 1995) " معجم المصطلحات الألسنية" الدار اللبنانية للكتاب، بيروت.
الصفحة 162.
15. ياكوبسن، رومان ( 1978) " وظائف اللغة" ( ص 51- 52) ضمن كتاب اللغة. وهو الحلقة
الخامسة من دفاتر فلسفية الصادرة في العام 1994. إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام
بنعبدالعالي. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء. المغرب.
16. أنظر مقالة: Reboul,O.( 1980) "Langage et idiologie" in PUF ( pp 46 – 51).
17. لعل من الضروري أن ننبه إلى أن مفهوم الكلام parole يختلف عند سوسور عن مفهوم الأداء
الكلامي performance عند تشومسكي، فالأول أكثر تجريدا من الثاني.
18. يلاحظ أن الانحياز يكاد يكون سمة مميزة للبحوث اللسانية في الغرب. ففي القارة الأوروبية يكون التوكيد على آراء سوسور بصورة أساسية، أما في أمريكا فإن التوكيد يكون في الغالب على آراء بلومفيلد وتشومسكي وسواهم من اللسانيين الأمريكيين.
19. أنظر الموسوعة البريطانية الموسعة: "The New Encyclopædia Britannica" Macropædia. 15th Ed. Vol. 22. Item
language (pp. 566- 589)
20. مونان، جورج (1980) " اللغة والتعبير" في دورية الفيلسوف. نشر دار فايار. باريس. (الصفحات 135 – 142).
21. بنكراد، سعيد " السيميائيات: النشأة والموضوع" مجلة عالم الفكر. العدد 3، المجلد 35. يناير– مارس 2007. ص. 7- 46.
22. المسدي، عبد السلام (1981) " التفكير اللساني في الحضارة العربية" الدار العربية للكتاب، ليبيا- تونس. ص. 345.
23. المصدر السابق، ص. 49- 50.
24. أنظر كتاب: Verschueren, Jef, (1999) Understanding Pragmatics, New York, Oxford University Press Ink. Pp 116-7.
25. أسيداه، محمد (2005) " السوفسطائية وسلطان القول: نحو أصول لسانيات سوء النية"مجلة عالم الفكر. العدد4، مج 33، 2005. الصفحات 85- 114. ص 97.
26. المصدر السابق. ص 98. والهامش في الصفحتين 111- 112.
27. حميدة، مصطفى (1997) "نظام الارتباط في تركيب الجملة العربية" الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان. القاهرة. ص. 16.
28. بوس، جليبر ( 1994) " مدخل إلى الفلسفة" ترجمة د. رجب بو دبوس. الدار الجماهيرية. مصراتة، ليبيا. المقدمة.
29. زيادة، رضوان جودت، "الأيديولوجيا المستعادة: "النهضة" في الخطاب العربي المعاصر" مجلة عالم الفكر. العدد 4، المجلد 33. (الصفحات 7- 38) ص 18.
30. أنظر: Watts, Richard J. , Sachiko Idle, and Konrad Ehlich (2005) Vol. 5 of the series Trends in Linguistic:Studies and Monographs. P29.
31. رشوان، محمد مهران (1998) " دراسات في فلسفة اللغة" دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. القاهرة. ( ص 114).
32. المصدر السابق. ص 116.
33. لبيب، الطاهر (1986) " سوسيولوجيا الثقافة" دار ابن رشد للنشر والتوزيع. عمان، الأردن. ص 45.
34. هابرماس، يورغن،(1995) " الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي" ترجمة د. نظير جاهل. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء- بيروت.
35. كاسيرر، أرنست " اللغة والمنطق" ضمن كتاب اللغة المذكور في الهامش (2) أعلاه. (ص 66 -67).
36. أنظر مقالة هاريس، روي (1990) " حول حرية الكلام" الصفحات 153-161 في كتاب: Joseph, John E. and Taylor, Talbot J.,(editors) (1990) Ideologies of Language. Routledge.London.
37. فتجنشتين، لودفيج، " رسالة منطقية فلسفية". ضمن كتاب اللغة المذكور أعلاه. ( ص 76-77).
38. يمكن الرجوع إلى نص فرضية سابير- ورف في مصادر متعددة. وقد أخذنا النص من كتاب: Crystal, David(1997) A Dictionary of Linguistics and Phonetics. Blackwell Publishers. London. (4th edition).
39. سارتو، ميشال، " الاختلاف وحفريات الخطاب: النص المركز والهوامش" ترجمة الزين محمد شوقي. من مجلة كتابات معاصرة العدد33 المجلد التاسع 1998. بيروت. (ص 79-88)
40. باومر، ل. فرانكلين(1989) " الفكر الأوروبي الحديث: الاتصال والتغير في الأفكار من 1600-1950" الجزء الرابع. ترجمة د. أحمد حمدي محمود.( ص107) الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.
41. هاريس، روي (1990) " حول حرية الكلام" مصدر سابق. ص 153.
42. أنظر الدراسة: Joseph, John E. (1990) Idiologizing Saussure: Bloomfield's and Comsky's readings of the Cours de linguistique généale. In Joseph, John E. and Taylor, Talbot J.,(editors) (1990) Ideologies of Language. Routledge.London. (pp 51-79) p51.
43. تودوروف، تزفيتان، " مقدمة في احتمال المطابقة" ترجمة باقر جاسم محمد. مجلة الأقلام. العدد الخامس، 1990. بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة. الصفحات 110- 114. ص 110. في مستهل مقالته هذه، يقرر تودوروف الآتي: " في أحد الأيام وفي صقلية، في القرن الخامس قبل الميلاد، انتهى نزاع بين رجلين إلى العنف والتدمير. وفي اليوم التالي، حضر الرجلان أمام السلطات المخولة بأن تقرر أي الرجلين كان مذنبا. ولكن كيف يمكن الوصول إلى مثل هذا القرار؟ فالجدال والنزاع لم يحدث أمام القضاة الذين لم يكن بمقدورهم أن يلاحظوا أو يتثبتوا من الحقيقة." وهذا النص القصير يظهر أن الأمر متروك لقدرات المتخاصمين اللغوية في جعل القضاة (يرون) ما حصل على وفق مصلحة كل واحد منهما. ولعل ما يحصل في سوح القضاء من صراع كلامي بين محامي الادعاء ومحامي الدفاع مثال آخر على أهمية اللغة وقدرتها على أن تخدم غرضين متناقضين في آن واحد.
44. سبيلا، محمد " الأيديويوجيا: نحو نظرة تكاملية" المركز الثقافي العربي، بيروت 1992. (ص 121) وأنظر كذلك محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي. المركز الثقافي العربي،الرباط. 1993.
45. المصدر السابق، ص 8.
46. أنظر كتاب: Wittgenstein, L. (1953) Philosophical Investigations: The German Text, With a Revised English Translation. Anscombe, G. and Anscombe, E. (Trans.). Oxford: Basil Blackwell Pub., 2002. p 43.
47. أنظر كتاب: Wright, C. (1980). Wittgenstein on the Foundations of Mathematics. Cambridge, MA: Harvard University Press.
48. أنظر البحث: McDowell, J. (1984) "Wittgenstein on Following a Rule." Synthese 58(3), 325-364.
49. أنظر الأطروحة: Brandom, R. (1994) Making It Explicit. Cambridge, MA: Harvard University Press.
50. أنظر كتاب: Taylor, J. Talbot (1990) Which is to master? The institutionalization of authority in the science of language. In Joseph, John E. and Taylor, Talbot J.,(editors) (1990) Ideologies of Language. Routledge.London. (pp 9-27) p15-16.
51. أنظر مادة maxims of conversation في المصادر الآتية: Crystal, David(1997) A Dictionary of Linguistics and Phonology. 4th edition. Blackwell Publishers. Oxford.( p236). Gramley, Stephan and Pätzold, Kurt-Michael (1992) A Survey of Modern English. Routledge. London. (p 212).
52. أنظر مادة (ambiguity) في مواضع عدة في المصادر الآتية: a) Crystal, David(1985) linguistics. Penguin Books. London. b) Crystal, David(1997) A Dictionary of Linguistics and Phonology. 4th edition. Blackwell Publishers. Oxford.( p236). c) Verschueren, Jef, (1999) Understanding Pragmatics, New York, Oxford University Press Ink.
أولا. كشف المصادر في اللغة العربية:
1. ابن منظور، محمد بن مكرم. " لسان العرب" اعتنى بتصحيحه أمين محمد عبد الوهاب ومحمد صادق العبيدي. دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي. بيروت.
2. أسيداه، محمد (2005) " السوفسطائية وسلطان القول: نحو أصول لسانيات سوء النية" مجلة عالم الفكر. العدد4، مج 33، 2005. الصفحات 85- 114. ص 97.
3. الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد (ت 370 هجرية) " تهذيب اللغة" بإشراف محمد عوض مرعب. علق عليه عمر سلامي وعبد الكريم حامد. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
4. ابن جني، أبو الفتح عثمان " الخصائص" ج1. تحقيق محمد على النجار. عالم الكتب. بيروت. دون تاريخ.
5. باومر، ل. فرانكلين (1989) " الفكر الأوروبي الحديث: الاتصال والتغير في الأفكار من 1600-1950" الجزء الرابع. ترجمة د. أحمد حمدي محمود. الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.
6. بوس، جليبر ( 1994) " مدخل إلى الفلسفة" ترجمة د. رجب بو دبوس. الدار الجماهيرية. مصراتة، ليبيا.
7. تايلور، تالبوت، جَي.(1989) " من الذي سيكون سيدا: تأسيس السلطة العلمية في اللسانيات". ترجمة باقر جاسم محمد. منشور في موقع الجمعية الدولية للمترجمين العرب.
8. تودوروف، تزفيتان، " مقدمة في احتمال المطابقة" ترجمة باقر جاسم محمد. مجلة الأقلام. العدد الخامس، 1990. بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة. الصفحات 110- 114.
9. حميدة، مصطفى (1997) "نظام الارتباط في تركيب الجملة العربية" الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان. القاهرة.
10. الجابري، محمد عابد (1993) " العقل السياسي العربي" المركز الثقافي العربي، الرباط.
11. جوزيف، جون إي (1989) " أدلجة سوسور: قراءتا بلومفيلد وتشومسكي
لكتاب محاضرات في اللسانيات العامة" ترجمة باقر جاسم محمد. مجلة الثقافة
الأجنبية. العدد الأول، السنة التاسعة والعشرون. بغداد، 2008.
12. رشوان، محمد مهران (1998) " دراسات في فلسفة اللغة" دار قباء للطباعة و
النشر والتوزيع. القاهرة.
13. زيادة، رضوان جودت، "الأيديولوجيا المستعادة: "النهضة" في الخطاب العربي
المعاصر" مجلة عالم الفكر. العدد 4، المجلد 33. (الصفحات 7- 38)
14. سارتو، ميشال، " الاختلاف وحفريات الخطاب: النص المركز والهوامش"
ترجمة الزين محمد شوقي. مجلة كتابات معاصرة. العدد33 المجلد التاسع. بيروت،
1998.
15. سبيلا، محمد " الأيديويوجيا: نحو نظرة تكاملية" المركز الثقافي العربي، بيروت
1992. وأنظر كذلك محمد عابد الجابري (1993) " العقل السياسي العربي"
المركز الثقافي العربي، الرباط.
16. سعيد بنكراد، " السيميائيات: النشأة والموضوع" مجلة عالم الفكر. العدد 3، المجلد
35. يناير – مارس 2007.
17. صليبا، جميل،(1385 هجرية) "المعجم الفلسفي" ج2، سليمانزادة. طهران.
18. المسدي، عبد السلام (1981) "التفكير اللساني في الحضارة العربية" الدار
العربية للكتاب، ليبيا- تونس. ص. 49- 50.
19. المسدي، عبد السلام ( 1984) " قاموس اللسانيات" الدار العربية للكتاب. تونس و
طرابلس الغرب. المقدمة. ص. 11- 96.
20. عبده الراجحي، (1972) " فقه اللغة في الكتب العربية" دار النهضة العربية،
بيروت.
21. الفيروزابادي، أبو طاهر محمد، " القاموس المحيط". مادة اللغة. ص. 1715.
22. فتجنشتين، لودفيك، " رسالة منطقية فلسفية" ضمن كتاب اللغة. وهو الحلقة
الخامسة من دفاتر فلسفية الصادرة في العام 1994. إعداد وترجمة محمد سبيلا و
عبد السلام بنعبدالعالي. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء. المغرب.
23. لبيب، الطاهر (1986) " سوسيولوجية الثقافة" دار ابن رشد، عمان.
24. مبارك، مبارك ( 1995) " معجم المصطلحات الألسنية" الدار اللبنانية للكتاب،
بيروت.
25. مونان، جورج. (1980) " اللغة والتعبير" في دورية الفيلسوف. نشر دار فايار.
باريس.
26. هابرماس، يورغن(1995) " الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي" ترجمة د.
نظير جاهل. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء- بيروت.
27. ياكوبسن، رومان.( 1978) " وظائف اللغة" ضمن كتاب اللغة. وهو الحلقة
الخامسة من دفاتر فلسفية الصادرة في العام 1994. إعداد وترجمة محمد سبيلا و
عبد السلام بنعبدالعالي. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء. المغرب.
ثانيا. كشف المصادر باللغة الإنجليزية:
1. Audi, Robert ( General editor) (1999) The Cambridge Dictionary of Philosophy. (2sd ed) Cambridge:University of Cambridge Press. (pp 545-550). p 545.
2. Benviniste, E. (1966) Problémes de Linguistique Générale.Gallimard. Paris. (pp 28-29)
3. Brandom, R. (1994) Making It Explicit. Cambridge, MA: Harvard University Press.
4. Crystal, David (1985) linguistics. Penguin Books. London.
5. (1997) A Dictionary of Linguistics and Phonology. 4th edition. Blackwell Publishers. Oxford.
6. Deely, John (1990) Basics Of Semiotics. Tatu University Press, Tartu, Estonia.
7. Gramley, Stephan and Pätzold, Kurt-Michael (1992) A Survey of Modern English. Routledge. London.
8. Harris, Roy (1989) On the liberty of Speech. In Joseph, John E. and Taylor, Talbot J.,(editors) (1990) Ideologies of Language. Routledge.London.
9. Hartmann, R. R. K, and F. C. Stork ( 1973) Dictionary of Language and Linguistics. Applied Science Publishers LTD. London.
10. McDowell, J. (1984) "Wittgenstein on Following a Rule." Synthese 58(3), 325-364.
11. Plato, (c. 360 BC) Cratylus. Cambridge Studies in the Dialogues of Plato. Trans. David Sedley. Cambridge:University of Cambridge Press. 2003.
12. Joseph, John E. and Taylor, Talbot J.,(editors) (1990) Ideologies of Language. Routledge.London.
13. Verschueren, Jef (1999) Understanding Pragmatics. Oxford University Press, New York.
14. Watts, Richard J. , Sachiko Idle, and Konrad Ehlich (2005) Vol. 5 of the series Trends in Linguistic:Studies and Monographs.
15. Wittgenstein, L. (1953) Philosophical Investigations: The German Text, With a Revised English Translation. Anscombe, G. and Anscombe, E. (Trans.). Oxford: Basil Blackwell Pub., 2002. Wright, C. (1980). Wittgenstein on the Foundations of Mathematics. Cambridge, MA: Harvard University Press.
ثالثا. كشف المصادر باللغة الفرنسية:
1. Benviniste, E. (1966) Problémes de Linguistique Générale.Gallimard.Paris.
2. Reboul,O.( 1980) Langage et idiologie. in PUF.
رابعا. كشف الموسوعات:
1. "The New Encyclopædia Britannica" 15th Ed. Vol. 22. Item language(pp. 566- 589).
2. "Wikipedia, the Free Encyclopædia" Item Language, Philosophy of. Internet. The date of visit, 17th of Dec, 2008.