يجمع باب علامات في هذا العدد مقالتين نشرتا في مجلة "فتاة الشرق"، التي كتبت عنها وعن صاحبتها محررة (الكلمة) كتابا. الأولى تحوي توصيفات تاريخيّة واثنية للمرأة العراقيّة، ومعنونة "السيدات على ضفاف دجلة والفرات" (1912)، أما الثانية "نهضة العراق" (1924) فتأتي على ذكر أول جمعية نسائيّة في بغداد تحت مظلة الاستعمار.

"السيدات على ضفاف دجلة والفرات" و"نهضة العراق"

أثير محمد على

إعداد وتقديم

يجمع باب علامات في هذا العدد مقالتين نشرتا في مجلة "فتاة الشرق" التي أصدرتها لبيبة هاشم في مصر، من سنة 1906 إلى 1939. المقالة الأولى تحمل عنوان "السيدات على ضفاف دجلة والفرات" (1912)، وفيها يقارب الكاتب العراقي الفضاء الاجتماعي والاثني والديني والثقافي للمرأة العراقيّة بالعموم. أما المقالة الثانية، فمقتبسة من باب "الحياة النسائية في العالم: وتحمل عنوان "نهضة العراق" (1924)، وهي عبارة عن تقرير لمراسل المجلة حول افتتاح أول جمعية مدنيّة نسائيّة من قبل الفئات الاجتماعية الوسطى في العراق الرازخ تحت سيطرة الاستعمار الانكليزي، وتتضمن كلمة الافتتاح لرئيسة النادي إضافة لخطاب سكرتيرته.

 

السيدات على ضفاف دجلة والفرات

بقلم أديب بغدادي

إن هذه البقعة التي ازدهر فيها العمران في عهد البابليين والعرب واشتهرت فيها ملكتان خلدتا ذكراً تلهج به الألسنة على ممر الأعوام وتوالي الأجيال، أريد بهما سميراميس الكلدانية والسيدة زبيدة العربية، تستحق أن نوقف أبصارنا ملياً عندها لندرس حالة الجنس اللطيف فيها في هذا القرن الذي دعاه أحد مشاهير كتبة الانكليز بالقرن الثاني.

ولا بد لي قبل الخوض في عبابه أن أقول كلمة توطئة لغرضي. إن وادي دجلة والفرات أرض واسعة الأطراف تشتمل على براري خصبة ومزارع زاهرة نضرة وولايات فيها التجارة رائجة ومقامات دينية تأمّها الرجال من كل صوب وهي في موقع جغرافي ذي شأن عظيم إذ أنها بمثابة حلقة تصل بين الهند وبلاد العجم وكردستان وبلاد العرب وسوريا وهي محط رحال الجالية الأوربية من كل عصر ومصر للتجارة والأعمال والتهذيب والتدريس وفيها فئات من المرسلين والمرسلات يبذلون أتعاباً جزيلة لتثقيف الشبيبة وبذر المبادئ العصرية.

هناك في ما بين النهرين أديان مختلفة وشيع متقاربة لها أهمية كبرى في تأليف الهيئة الاجتماعية العراقية إذ أن المبادئ الدينية والتقاليد المذهبية هي المحور الذي تدور عليه العادات والأخلاق. على أن الغاية المقصودة من هذه المقدمة إظهار التفاوت العظيم الموجود بين كل فئة من الناس في المدينة الواحدة وتأثير الوافدين من الأجانب على أخلاق الأهلين والأفكار الجديدة التي تتسرب رويداً رويداً إلى تلك الأرجاء وتختلط بالأفكار التقليدية اختلاط الحابل بالنابل لحياكة قماش المدنية الجديدة وعليه يلزم أن نقسم موضوعنا إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول نتكلم فيه عن المرأة المسلمة والثاني عن النصرانية والثالث عن اليهودية.

1 – المرأة المسلمة

المرأة المسلمة على نوعين بدوية وحضرية، فلنتكلم أولاً عن البدوية، ثم الحضرية. لأن البدويات أكثر عدداً وتظهر فيهن الأخلاق العربية الطبيعية بحتاً، فالمرأة البدوية لم تمازجها العادات الغربية ولا شابتها الاصطلاحات الدخيلة التي هي ليست من الإسلام بشيئ، وإنما هي أثر من آثار بعض القبائل التي انتحلت الإسلام وبقيت على عوائدها.

تخرج البدوية المسلمة سافرة لا تعرف الحجاب، بل تشارك الرجل في جميع الأشغال، ترافقه إلى الحقول والبساتين وتعضده في الزرع والحصاد وتحطب معه في الأحراج. تستيقظ باكراً قبل أن تلقي الغزالة أشعتها على الأرض وتشرع في طحن الدقيق بالرحى اليدوية، وتملأ الفضاء بصوتها الرخيم وأغانيها الشجية التي تشجعها على احتمال الأتعاب وتضرب على أوتار قلوب السامعين فتجرب الدموع من ينابيع العيون. والمرأة البدوية هي التي تعجن وتخبز وتهبش الأرز وتطبخ وتغزل وتنقل الماء إلى منزلها وعلى الجملة فهي تقوم بجميع الأعمال المنزلية، وإن تكن تلك الأعمال في درجة البساطة الأولية ولكنها شاقة تكلفها عرق القربة. فضلاً هن هذا كله نساء الرعاة يهيئن اللبن والسمن، وما أجمل منظرهن وهنَّ حاملات علب اللبن خماساً وسداساً على رؤوسهن يسرن بها ساعات طوال حتى يبلغن المدينة لبيعها في الأسواق بأثمان زهيدة.

أما آدابهنَّ، ففي غاية الكمال ويندر وقوع التهتك بينهنَّ، لاسيما اللواتي لا يختلطن مع سكان المدن والرواد الذين يذهبون إلى أحياء الأعراب للإتجار. ورجالهنَّ شديدو الغيرة على الأعراض لا يسمحون بوقوع الفساد بينهنَّ، وإذا زلت القدم بإحدى النساء فليس ما يزيل وصمة العار والشنار عن عشيرتها سوى موتها.

أما قواهنَّ العقلية فعلى جانب عظيم من الذكاء، إلا أنهن جاهلات بعيدات عن العلم يطوينَ الحياة كالبهائم في أرجاء العراق الواسعة وفلوات ما بين النهرين العظيمة. لا يعرفن شيئاً من أمور الدنيا والدين.

ولبسهنَّ في غاية البساطة. يشددن رؤوسهنَّ بعصائب سوداء ويلبسن قميصاً خالياً من كل زخرفٍ، وهو عبارة عن قطعة واحدة من العنق حتى القدم. وفوق ذلك القميص يتردينَ بعباءة سوداء يلقينها على رؤوسهنَّ، وحلاهنَّ الأساور والأقراط والحجول والخزام. الأساور والحجول من الفضة والأقراط والخزام من الذهب. يستعملن كثيراً الوشم الأزرق في الأيدي والزنود والصدور.

المرأة البدوية ليس لها حق في انتخاب قرين لها، بل يخطبها الرجل إلى أبيها ويقطع لها مهراً يتراوح بين القليل والكثير نسبة إلى مركز عشيرتها وحسنها. ومن عادة قبائل البدو أن يهدي الوالد ابنته إلى شاب يرى عليه مخائل النجابة أو أعمال الشجاعة، فيجب عندئذ على الشاب أن يقبلها شاكراً أباها على هذه الهبة ويتزوج بها. ولا يتسنى له رفضها، وإلا تعد إهانة لا تغتفر واحتقاراً لا يمحى وربما أودت الحالة إلى سفك الدماء لاسيما إذا كان والد الابنة شيخاً أو كريماً من ذوي النفوذ في قومه.

إن نساء البدو يسرن مع أزواجهن في الغزوات فإنه منذ بضع سنوات حينما كانت عشائر العرب التي تسكن جوار العمارة ثائرة وقد جاهرت بالعصيان على الحكومة السنية شوهد نساء في ميدان القتال مدججات بالأسلحة يحاربن مع رجالهنَّ وغيرهنَّ ينشدنَ أناشيد الحماسة ليبعثنَ في صدورهم البسالة والثبات والجلد، ويتخلل هذه الأناشيد عادة أصوات التهليل والتصفيق.

ثانياً النساء الحضريات: إن النساء الحضريات يعشنَ ضمن أسوار بيوتهنَّ محرومات من التمتع بمناظر الطبيعة، وبينهنَّ من لا يعرفنَ من العالم، إلا بيوتهنَّ وبيوت جاراتهنَّ وأقاربهنَّ ومما يزيد في طين بلواهن بلة ظن آبائهنَّ وأمهاتهنَّ أن تعليم القراءة والكتابة للنساء أمر لا تحمد عقباه إذ بذلك يستطعنَ إن يكاتبنَ من تهواه قلوبهنَّ بالرسائل. وهذا التصوّر عند الطبقة الجاهلة من الناس إلا أن عقلاء القوم يفضلون تثقيف المرأة طبقاً لما جاءت به واجبات الدين الإسلامي الحنيف "إن العلم واجب على كل مسلم ومسلمة". فأي فكر يتولد في المرأة عن كيانها الذاتي ورفع منزلتها وحريتها الشخصية إذ تنشأ تحت سيطرة ومراقبة والدتها التي لم تدخل المدرسة في حياتها كلها.

ومما يزيد في طنبور ذلك نغمة أن في عائلة الطبقة العليا يدخل نساء مهذارات "دلالات" دأبهنَّ نقل الأحاديث وروي الأخبار وقصّ الخرافات وكثيراً ما يكنَّ الرابطة التي تجمع بين ذلك العالم السري عالم الحرم والخارج. ولا تكاد تلك السجينة تخرج من بيت أبيها حتى تتقيد بقيود جديدة وترسف بسلاسل العبودية والطاعة العمياء لحماتها الشيخة خشية من بذر زوان الفتن بينها وبين زوجها الذي يتهددها دائماً بالطلاق أو بالزواج بغيرها من النساء فعلى هذه الصورة يكون مستقبلها ومستقبل بيتها وأولادها في خطر التلاشي تتهدده الأنواء والعواصف في كل لحظة. والمرأة المسلمة ذات مزايا شريفة مثل الصبر والتفاني في خدمة بيتها وذويها والقناعة. قليل منهنَّ من يتعلمنَ قراءة القرآن، وأقل من ذلك يتعلمنَ مبادئ الكتابة العربية على معلمة لا تعرف أكثر من ذلك في بيوت خاصة لا تراعى فيها قواعد النظافة ولا التدابير الصحية ولا الترتيب ولا النظام.

يوجد مدرسة واحدة للحكومة، ولكن هذه المدرسة في طفوليّة نشأتها لا تكفي لأهالي بغداد، والأمل أن يزداد عدد مدارس الإناث وتضبط إداراتها وتتوسع دروسها.

أما الصنائع اليدوية مثل الخياطة والتطريز والتخريم والحياكة فهي مجهولة عندهنَّ، إلا بعض مبادئ أولية وأشياء سهلة المأخذ يحتجنَ إلها يومياً وربما كان بينهنَّ من يتقنَّ إحدى الصنائع من مخالطتهنَّ النساء التركيات اللواتي يأتين من الأستانة برفقة أزواجهنَّ أرباب الوظائف والمناصب في الحكومة أو يأخذن تلك الصنائع عن النصرانيات أو اليهوديات. ولكنهنَّ قليلات العدد جداً.

وقد يسر الكاتب وصف لباسهنَّ بالتدقيق لما فيه من اختلاف الأزياء بسبب كثرة الرواد إلى العراق، ومع هذا فلا تزال مسحة الزي الوطني ظاهرة في لباس المسلمات الحضريات لأن الميل إلى حفظ العوائد القديمة لا يزال مطبوعاً في النفوس. يضفرنَ شعر رؤوسهن تاركات على ظهورهنَّ ضفيرتين كبيرتين أو ضفائر كثيرة رفيعة ويلففن الرأس بعصائب تختلف ربطاً وقماشاً باختلاف الأذواق ومنزلة المرأة المالية، ومنهنَّ من يتركنَ رؤوسهن مكشوفة تقليداً للزي الأوربي.

إن المرأة المسلمة تحب الألوان الحالكة في لبسها اليومي والألوان الزاهية التي تجلب الأنظار في لبسها الممتاز الذي تلبسه في الأيام الرسمية والأعياد وكذلك تحب الثياب المطرزة بالخيوط الذهبية وفيها كثير من الزينة والزخرف. تلبس عادة "الدشداشة" تقارب في زيها "السوتان" Soutane وأحياناً تلبس "الزبون" وهو يشبه القنباز في سوريا وفوق الزبون ترتدي "الهاشمي" ويصنع من قماش ناعم شفاف وهو بسيط في شكله يشبه جبة واسعة مهدولة إلا أنه مسدود من الأمام من الصدر حتى القدم بخلاف الجبة. عدد ليس بقليل من الحضريات يستعملنَ الزي الأوربي على آخر نمط. يخرجن إلى الطريق متحجبات ويلبسنَ عبائتين مطبقتين ويبرقعنَّ وجوههنَ ببرقع حرير أسود صفيق. يستعملنَ التبرج والتبهرج والخضاب بالحنا، وحفّ الحاجب وتزجيجه ويلبسنَ الحلي الذهبية كالحجول والخلاخل والقلائد والأساور والمحابس والأقراط والخزائم وفيها المرصعة والمجوهرة وكثيراً من الحجارة الكريمة كالزبرجد والياقوت والألماس. كما أنهنَّ يلبسنَ في أيديهنَّ الدمالج الخزفية الملونة حتى المعصم والزند. ويكثرن من التدخين بالنرجيلة والسيجارة وشرب القهوة في دواوينهنَّ وردهات الاستقبال. ولا بدع فإن البلاد التي لا يوجد فيها مدارس للبنات تكون مرتعاً للخرافات، فنساء بغداد يتشاءمنَ من أيسر الحوادث ويتطايرنَ من أصغر الأمور ويعتقدن بإصابة العين والرقي والفأل والسحر ومفاعيل الطلاسم ويروينَ كثيراً من قصص الجنّ والغول وغير ذلك من الخرافات.

في الزواج يقدم الرجل للمرأة مهراً وبعض الحلي بحسب مقدرته، وأما هي فيجهزها والدها بثياب وأثاث وأشياء أغلبها لا لزوم له. واليوم الذي ترسل فيه هذه الحملة إلى بيت القرين يكون مشهوداً يحتفل به احتفالاً باهراً. فيصف الأثاث بترتيب ويحمل في الطريق يتقدمه جوقة من الموسيقين ويتبعه رهط كبير من الأقارب. أما الحملة فتتألف من صندوق كبير فيه لباس العروس ومرآة وبعض أواني نحاسية وفراش وسجاد وكراسي ومناضد ومصابيح وكل أدوات زينة العروس من مشارف وزخارف وغير ذلك أشياء كثيرة من أكواب الشاي والشراب.. الخ.

وفي الأحزان تسترسل المرأة الحضرية إلى الحداد والبكاء والعويل بدون تقييد ولا مبالاة. تضرب صدرها وتلطم رأسها بينما النساء النائحات يعددن أوصاف الفقيد بأدوار محزنة وأغاني تفطر الجلمود فتعلو أصوات البكاء والنحيب والعويل حتى يظن السامع أن أوتار الحناجر أوشكت تنقطع وهكذا يظهر انحطاط الشعب البغدادي في صورة نسائه، وقد كانت هذه العادة جارية عند نصرانيات بغداد ولكن أخذت تتلاشى رويداً رويداً كما أنها أخذت بالتغيير والنقصان عند كبار العائلات المسلمة ولا يبعد أن تندثر بعد زمن قريب وذلك على أثر انتشار المعارف والعلوم وازدياد تثقيف العقول.

2- المرأة النصرانيّة

إن حياة المرأة النصرانية العراقية كانت منذ ثلاثين سنة تشابه حياة أختها المسلمة فيما يتعلق ببعض العادات والأزياء والتحجب والجهل لا غير، إلا أن اختلاط الأجانب ونزول المرسلات الأوربيات في هذه الديار أحدثا تغييراً عجيباً وانقلاباً مهماً في الأخلاق والأزياء والعادات وفي هذا الانقلاب تجد الغث والسمين. كانت المرأة تنحجب من الرجل وإن يكون دون تحجب وطنيتها المسلمة، وكانت جاهلة غرة لا تتعلم القراءة والكتابة، إلا أن أفراداً قلائل من النساء النصرانيات كنَّ يتعلمنَ شيئاً من القراءة ليتمكنَّ بذلك من حل رموز بعض الصلوات لا غير. وكانت كل معرفتهنَّ منحصرة في إدارة شؤون المنزل التي لم تطلب في ذلك الزمان معرفة وذكاء وكذلك كان لهنَّ إلمام في الخياطة أي خياطة الثياب الوطنية البسيطة والتطريز بالخيوط الذهبية وحياكة الجوارب. هذا الإلمام كان عند فئة قليلة أما سائر النساء كنَّ يؤجرنَ ثيابهنَّ لاسيما ما كان غالي الثمن ونفيساً. ولبسهنَّ كان بسيطاً من أقمشة سميكة تقاوم كرور السنوات وتتخلف من الأمهات إلى البنات حتى حفيدة الحفيدة.

في سنة 1882 جاءت رسالة الراهبات الفرنسيات إلى بغداد المنتميات إلى رهبنة التقدمة وأسست في حاضرة العراق مدرسة راقية للإناث على الطرز الحديث، وما زالت إلى يومنا هذا تبذل الأتعاب الوافرة في تثقيف البنات وتربيتهنَّ، ولا يسعنا إلا أن نمحضها في هذا المقام خالص التشكرات ونتمنى لها من صميم الفؤاد الرقي والنجاح بإزاء الخدم التي أدّتها إلى عائلات بغداد في هذه المدة من الزمان، وإذ بلغ بنا الكلام إلى هذا الحدّ لنستأذن القارئ وندرس حالة هذه المدرسة ونطلعه على مواد التدريس التي تدرس فيها، لأن بذلك يقف على حالة نصرانيات بغداد الأدبيّة والشأو الذي بلغنه من العلم. وبهذا كفاية وبه يغتنى عن درس أمور كثيرة، إذ قيل صورة الأمة في مدارسها، لاسيما وأن هذه المدرسة هي الوحيدة لنصرانيات بغداد، لأن المدرسة الأرمنيّة والمدرسة البروتستانيّة للإناث هما في درجة دون مدرسة الراهبات وعدد تلامذة المدرستين لا يعدّ بشيئ نسبة إلى 700 تلميذة اللواتي يلازمنَ مدرسة الكاثوليك.

تقسم إدارة هذه المدرسة إلى حلقات، الحلقة الأولى أي الابتدائية ملجأ الصغار والصغيرات الذين عمرهم دون السبع سنوات. ثم حلقة الدروس العربية وهذه الحلقة تقسم إلى صفوف ومراتب ثم حلقة الدروس الفرنسية فالموسيقى فالصنائع كالخياطة والتطريز.

الدروس العربية – هي عبارة عن القراءة البسيطة والتاريخ والتعليم المسيحي وبعض مبادئ أولية من الحساب والصرف. ويسؤني أن أقول أن بنات بغداد يقضين سنوات طوال في المدرسة بدون فائدة تذكر، وأغلبهنَّ لا يستطعنَ كتابة رسالة عائلية، أما قراءتهنَّ فتشبه الصينية، لأنهنَّ يجزمنَ الكلام حينما يطلب الرفع ويستعملنَ الرفع عوض النصب وهلمَّ جرّا. وهذه الدروس تعطى مجاناً لكل نصرانيات بغداد مع دروس الصنائع. أما الفرنسية والبيانو فلا يتسنى درسهما إلا للواتي يدفعنَ رواتب.

الدروس الفرنسية – في السنة الأولى تخطو التلميذات خطوات الجبابرة، ومن يقف على نجاحهنَّ تأخذه الحيرة والدهشة منهنَّ ومن تقدمهنَّ السريع، إلا أن يعد مرور السنة يأخذنَ بالسير البطيء وتفتر همتهنَّ وتأخذ القهقرى، وبعد ثلاث سنوات يبلغنَ حدّاً معلوماً ويقفنَ عند هذا الحدّ لا يبدينَ حراكاً ولو درسن عشرات من السنين. وما ذلك إلا لعدم صلاحية النمط الذي اتخذته المعلمات وهيهات أن تجد من متخرجات هذه المدرسة من تقدر أن تترجم لك حكاية من أبسط الحكايات من الفرنسية إلى العربية، فذلك أعز من بيض الأنوق أو كعنقاء مغرب تُذكر ولا ترى.

وهناك داء آخر يجب ملافاته وهو أن المعلمات لا يغرزنَ في قلوب البنات حب الدروس والرغبة في المطالعة، بل يكتفين بإنجاز الفرائض المدرسية من أقرب طريق وأقصر واسطة وكأنهنَّ يخلصنَ بذلك من عبء ثقيل يرمينه عن كواهلهن.

تربيتهنَّ حسنة بوجه العموم وهنَّ ذات عفاف ودأب قد جمعنَ إلى هذه الفضيلة فضائل أخرى عديدة منها الوفاء في حبهنَّ لأزواجهنَّ والرصانة والصبر على بلوى الزمان وصروف الدهر وطوارق الحدثان. ولهنَّ ذكاء فطري إذا أعتني بتربيتهنَّ الاعتناء الواجب ينبغ بينهنَّ شاعرات كاتبات يفدنَ العائلات المستقبلة وينهضن بالوطن إلى حالق المجد والعلاء. ولكن لا تخلو تربيتهنَّ من بعض شوائب: منها الحياء المفرط، أي لو اتفق لواحدة منهنَّ الالتقاء مع أحد من الناس الذين لضعف تربيتهم تراهم يتربصون الفرص ليخوضوا غمار الغراميات أو يجولوا في الأحاديث المنحرفة عن محجة الشرف والآداب والعفاف، فتلك الابنة العفيفة تذهب ضحية ذلك المفسود الأخلاق والثرثار وليس لها شجاعة لتردعه وتزجره عن لغطه. ثانياً أغلبهنَّ لا يعرفن مقامهنَّ في الهيئة الاجتماعية وسموّ منزلتهنَّ الأدبية حتى أن الوالدين يحزنان عند ولادة الابنة وترى الحزن عند مسلمي بغداد ويهودها بأضعاف ذلك. ثالثاً لا يعرفنَ معنى الاقتصاد.

تداخلهنَّ في الاجتماعات والحفلات على أحسن ما يرام من النظام، وفي عوائدهنَّ قد جمعنَ بين العوائد الأوربية التي تقضي بمخالطة الرجال وبين مسحة العوائد الشرقية التي تطلب التحجب وغاية ما يرام أن يبقى سير الأمور على ما هو الآن لأنه موافق للوسط أشد الموافقة.

معرفتهنَّ الصناعية تشمل الخياطة وحياكة الجوارب والدنتيلا والتطريز. كثير من تلميذات مدرسة الراهبات يعشنَّ من هذه الأعمال.

كثير من الخرافات مستولية على عقول النصرانيات أيضاً مثل الكبسة والتشاؤم بحوادث مستقبلة وغيرها.

عوائد الخطبة والزواج تختلف في الجوهر اختلافاً كلياً عن عوائد الوطنيين المسلمين. أما في الأمور العرضية فتختلف اختلافاً يسيراً. يسمح للشاب أن يرى ويخاطب ويجالس الابنة التي يريدها وعند الخطبة يشاور الأهل الابنة ويأخذون رأيها في أمر زواجها. يقدم الشاب لخطيبته حلي ذهبيّة وألماسيّة وغيرها في مواسم معلومة وهي تجلب له جهازاً كأختها المسلمة كما مرَّ بك. ونفقات هذه الحلي باهظة جداً ولهذا ترى بواراً محسوساً في الزواج وأغلب الرجال يتزوجون بعد الأربعين من سنيهم.

وعدد نصارى بغداد الوطنيين لم يزد منذ عقود من السنين زيادة تذكر، لا بل يخشى انقراضهم إذا بقيت الحالة على هذا المنوال.

قلت نصارى بغداد الوطنيين، لأن هناك جالية قروية هاجرت ولا تزال تهاجر من قرى الموصل إلى بغداد ومن هؤلاء المهاجرين يتألف عدد يناهز ثمانية آلاف نسمة ينمون بسرعة غريبة ويتناسلون بخصوبة ليس عليها مزيد، وإذا بلغ بنا الكلام إلى هنا لنقل كلمة عن هذه الجالية. إن المرأة القروية التي تعيش في مسقط رأسها ببساطة الآباء الأولين محافظة على الأخلاق السليمة إذ ليس لها هناك من الأبهة والملابس الجميلة التي تفتنها ولا المخالطة التي تغويها تنبهر أبصارها عندما تلقي رحالها في مدينة بغداد العظيمة وتتوق إلى مضاهاة سيدتها البغدادية في اللباس والزخرف وإذ تكون ضيقة اليد يدفعها حب التظاهر إلى وسائل تحط من شأنها وآدابها ولهذا ترى فساد الأخلاق يتسرب رويداً رويداً بين بعض هذه الجالية.

على أن أغلب الجالية القروية لها فضائل عديدة إلا أن أمرها مهمل من رؤساء الدين، إذ ليس من يعتني بها ويرشدها إلى سواء السبيل بإنشاء الجمعيات الخيرية وإلقاء الإرشادات والخطب بلهجتها الخصوصية وهي السريانية العامة، وتفقّد أحوالها والسعي في زواج الفقيرات منها.

فالأمل أن تقع هذه الكلمات في آذان صاغية وينهض رؤساء الدين من سباتهم العميق ويتلافوا هذا الخطب الجسيم قبلما يتسع الخرق، لاسيما رؤساء الطائفة الكلدانيّة الذين هم الرؤساء الشرعيون لهذه الجالية.

3- المرأة اليهودية

مرّت أجيال عديدة على المرأة اليهودية البغدادية وهي مهملة لا يعنى بأمرها، إلى أن قيّض الله لها الاتحاد الاسرائيلي منذ بضع سنين فأنشئت مدرسة للبنات، ولكن لما كان عدد الطائفة الاسرائيلية يبلغ في بغداد سبعين ألف نسمة فلا يكفيها مدرسة واحدة لتربية الجنس اللطيف، طبعاً ولاسيما وأن عمر هذه المدرسة لا يبلغ العشرين سنة بعد وعليه فأغلب الاسرائيليات لا يزلنَ على جهلهنَّ العريق وعوائدهنَّ الشرقية من تحجب وخرافات وغيره.

إن المرأة اليهودية الجاهلة لا تختلف عن سائر نساء الشرق في عصر الظلمات والتسكع في دياجير الجهل والأوهام. أما المرأة اليهودية المتربية تربية عصرية تضاهي في معلوماتها المقتبسة الرجال الذين ينشأون في مدارس الاتحاد الاسرائيلي، تعرف اللغة العبرية والفرنسية وبعض مبادئ اللغة العربية وكذلك الحساب والجغرافية والتاريخ الفرنسي والتاريخ المقدس، ولا يغرب عن ذكائك أنهنَّ إن على تأخرهن في التقدم والنجاح يفقنَّ في معارفهنّ مواطناتهنَّ النصارى. أما ما يؤخذ عليهنَّ فهو أنهنَّ لا يتقنَّ لفظ اللغات بل يتكلمنَ بلهجة باردة تكاد الألفاظ تتساقط من أفواههنّ كأن أوتار حنجراتهنّ مصابة بشلل.

إن نساء اليهوديات البغداديات من عائلات الوسطى أو الساقطات المتاع يتعاطين كثيراً من المهن للارتزاق. بينهنَّ يوجد خياطات ومطرزات ودلالات وبائعات الجواهر والحلي يحملن إلى بيوت الحريم المسلمات الأقمشة والحلي وغير ذلك.

لبسهنَّ غالباً "الفسطان" مفتوح الصدر ويلبسنَ صدرية صغيرة لتغطية الثديين وهذه الصدرية في الأعياد والاحتفالات تكون مطرزة بالخيوط الذهبية. أما الناشئة الجديدة فتتبع الزي الأوربي وعند سيرهن في الطريق يتدثرنَ بإزار حرير أسود بألوان زاهية. وقد فاتني أن نذكر ذلك عند كلامنا عن نصرانيات بغداد، فهنَّ أيضاً جميعاً يلبسنَ الأزر الملونة بالخيوط الذهبية "كلبدون" ولا يلبسن الأزر الخفيفة السوداء فإن هذه مختصة باليهود، فعند اجتماعهنَّ في المحلات العمومية كالمعابد مثلاً يتألف من اجتماع تلك الألوان الزاهية البيضاء والحمراء والبنفسجيّة والخضراء والزرقاء السماوية وغيرها مشهد بديع يأخذ بمجامع القلوب ويجعل المعبد أشبه بروضة فيها الأزهار والورود والرياحين.

عند الزواج يتوسط دلال ويقدم أسماء البنات للشاب، فإذا رضي بواحدة منهنَّ يبتدئ السمسار بالمداولة والمساومة عن قيمة الابنة كأنها سلعة من السلع فإن كانت حسنة الصورة يكون صداقها قليلاً وإن كانت خالية من تلك الهبة تزداد قيمة صداقها.

العوائد النسائية عند اسرائيليات بغداد تضحك الثكلى ولكني أمسك عن شرحها لضيق المقام وخشية من أن نورث السأم في نفوس القراء الكرام طالبين المسامحة من حضرات السيدات الكريمات إن رأينَ في مقالتنا ما يمس حاساتهنَّ الشريفة، لأن القصد أن نبين الحقيقة وننبه إلى أوجه الخطأ، وليس الغرض أن نحط من شأن نصفنا وربما كان هذا النصف أسمى وأرقى في حاساته من النصف النشيط ولا سيما وأن كاتب هذه الأسطر قد اشتهر بمحاماته عن حقوق الجنس اللطيف بين إخوانه، ولو أنه رفع التكتم عن اسمه لعرفناه صديق العذارى العفيفات وأخ النساء الأديبات.

(فتاة الشرق، س6، ج5+6+7، مصر، 15 فبراير، و15 مارس و15 أبريل 1912)

 

الحياة النسائية في العالم: نهضة العراق

في العراق نهضة مباركة تناولت كل فروع الحياة وكان للمرأة نصيب كبير منها. فقد أرسل إلينا وكيلنا في بغداد وصفاً مسهباً لحفلة افتتاح "نادي النهضة النسائية" التي أقيمت في 23 نوفمبر الماضي (1924) بحضور اللادي دوبس قرينة المندوب السامي في العراق والمس بييل وكثيرات من فضليات السيدات والأوانس من وطنيات وأجانب. وقد انتخبت الآنسة كريمة فيضي أفندي الزهاوي رئيسة لهذا النادي والسيدة ماري وزير سكرتيرة له والسيدة قرينة نوري باشا السعيد وكيلة للرئيسة والآنسة كريمة جعفر بك أمينة للصندوق.

وهذه الخطبة التي ألقتها حضرة الآنسة رئيسة النادي في حفلة الافتتاح:

"أيتها السيدات النبيلات:

إن يومنا هذا يوم مشهود سعيد سيسجله لنا بالإكبار تاريخ العراق عامة والنساء خاصة، فإنه أول ناد في بغداد تفتتحه النساء، ولا أقصد بنضهتنا هذه إلا السعي وراء تقدم المرأة تلك هي الجناح الأيسر لارتفاع المجتمع عن قرارة الذل والجهل بتعليمها وتهذيبها.

يرفع الشعب فريقان: إناث وذكور

و هل الطائر إلا بجناحيه يطير

والأمل كل الأمل أن تمتد إليه يد المساعدة والمعونة من الرجال فإنهم آباء المرأة وأبناؤها وحق على الرجل أن يساعد ابنه أو ابنته بما يصل يده.

إنما المرأة والمرء سواء في الجدارة

علموا المرأة فالمرأة عنوان الحضارة

ما أجدر المرأة بتربية أبنائها تربية صحيحة كما يقتضيه العلم في العصر العشرين عصر النور والهدى، لا عصر الظلمة والعمى. وسيكون هذا النادي بعونه تعالى خير وسيلة لاجتماع السيدات ومداولة الأفكار بينهن، لتقدم نصف جسم المجتمع في العراق، لئلا يبقى هذا النصف أشل يعيق الجسم كله عن الحركة الرشيدة إلى التقدم وصرف القوة في معترك الحياة الاجتماعية. وسنسعى إلى تعليم البنات وجعلهن جديرات بأن يكن أمهات لرجال الغد. فليعش الوطن المحبوب ويعش جلالة ملكه المعظم.

وتلتها حضرة السيدة ماري وزير فألقت الخطبة التالية:

سيداتي الكريمات:

أتشرف بالوقوف في هذه الحفلة بين نخبة عقيلات العاصمة وأوانسها لإلقاء كلمة تتعلق بمشروعنا والغاية التي تنطوي عليها مساعينا.

فقد جاء في المادة الثانية من نظام نادينا الأساسي "إن هذه النادي منحصر في تحسين حالة المرأة العراقية والعمل على تعليمها وتهذيبها طبقاً للأماني القومية والآداب الدينية". فترون من هذا الكلام البسيط أننا لسنا خارجات على نظامنا الاجتماعي الحاضر للعبث بالتقاليد القومية والآداب الدينية، بل إنما نسعى لتأييد هذا النظام بتهذيب النفس وتثقيف العقل، ونحن متمسكات بعاداتنا وآدابنا لأن النفس إذا تهذبت تقوّمت الأخلاق فرسخ الدين ورسخت آدابه على أساسه المتين، ولأن العقل إذا تهذب اعتدلت العادات وصحت التقاليد، فعلى هذه الأركان الثابتة نسعى لإصلاح شؤوننا ورقي مجتمعنا. وهنا مواطن السعادة ومظان النجاح اللذين ننشدهما.

يقول بعضهم أن التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها، ولكن نادينا يرى أن تهز المرأة السرير بكلتا يديها ما دامت في قيد الحياة وما دام الطفل حياً يرزق في جميع أدوار عمره، وهذا عمل عظيم للغاية، وربما كان أهم من عمل الرجل، لأن مهمة المرأة ذات وجهين، أحدهما أن تعنى بتربية نصف الجنس البشري من الرجال وتهذيبه لكي تنشئ للأمة أبطالاً صالحين لخوض غمرات الحياة والخروج منها ظافرين، والوجه الآخر أن تربي وتهذب النصف الآخر وهو النساء لتصبح المرأة أهلاً للقيام بعملها. وتبعة المرأة هذه تقضي تهذيباً سامياً ومعرفة جمة لتستطيع القيام بعملها. فإذا كان هذا شأن المرأة في المجتمع فهي ليست طفلاً يدايره الرجل أو خادمة مطبخ، بل هي فرد عامل في حضارة الأمة. ولا يقوم للمجتمع قائمة بغير تعاونها، وإلا كانت الحضارة عرجاء، وكان نظام المجتمع مختلاً.

إن الفرصة سانحة لنا للعمل، فالرجال ليسوا رجال الماضي الذين لم يكونوا ليروا شأناً للمرأة بل قد أصبحنا، والحمد لله، في عصر يناصرنا فيه رجالنا الأفاضل، لذلك قد عزمنا على أن لا نضيع هذه الفرصة، بل نعمل بكل قوانا لما فيه خير أمتنا وبلادنا ورائدنا أن نكسب ثقة الرجال بنا ليزيد اعتمادهم علينا في هذا العمل ونزيل الأوهام العالقة بأذهان بعضهم من أننا نسعى لإضرام الثورة على التقاليد والعادات، فحاشانا أن نفعل ذلك بل هما العمل المفيد عمل البر والإحسان.

والمجال متسع أمامنا للسعي ومهما بذلنا من الوسع لا نستطيع إلا إتمام الشيئ القليل مما يطلب منا إنجازه. إننا نعمل ليرى الرجل أنه مخلوق لمؤازرة المرأة كما أن المرأة مخلوقة لمؤازرة الرجل في أعمال البشر الخالدة.

فقد شرعنا في العمل ونحن عازمات على مواصلة السعي حتى النهاية مهما اعترض سعينا من الصعوبات، وأن نجاهد بالعزم والحزم والحكمة.

وأملنا من حضرات السيدات الفاضلات اللواتي ازدانت حفلتنا بهن أن يؤازرننا هذا المشروع بإشراك مساعيهنَّ بمساعينا وبذل نفوذهنَّ العظيم في حمل الجميع على مناصرتنا في مشروعنا الذي فيه خير الوطن وتأييد المبادئ الدينيّة والأدبيّة.

(فتاة الشرق، س19، ج3، مصر، 15 ديسمبر 1924)