التصوف حديث شيق ممتع، وجد مناخاً خصباً له في مصر تحديداً، وهو في حقيقته كما يؤكد رواده ومريدوه علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرزائل، وتحليتها بأنواع الفضائل. والتصوف أوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة.
والمهمومون بقضية التصوف يقصدون به تزكية النفس وصفاء القلوب، وإصلاح الأخلاق، والوصول به إلى مرتبة الإحسان. ويؤكد أتباع الصوفيّة أن الصحابة والتابعين كانوا صوفيين فعلاً لا اسماً، معللين رأيهم هذا بأن المرء يعيش لربه لا لنفسه، ويتحلى بالزهد وملازمة العبودية والإقبال على الله بالروح والقلب معاً في جميع الأوقات. بل ويذهب بعضهم بالقول بإن التصوف هو فرض عين مرتكزين في ذلك على قول السلف، فالإمام جلال الدين السيوطي قال: "وأما علم القلب ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوهما، فقال الغزالي: إنها فرض عين".
وحينما يهجم عليهم معتد بالقول في حقيقة التصوف باعتباره مجرد أوراد تتلى وحلقات أذكار فحسب، ينكرون عليه هذا بقولهم إن التصوف منهج عملي كامل، يحقق انقلاب الإنسان من شخصية منحرفة إلى شخصية مسلمة مثالية متكاملة. وأبو الحسن الشاذلي له رأي في ذلك بقوله: "من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر".
ورغم ما يتمتع به التصوف من مكانة وأهمية، إلا أن الخطاب الديني لاسيما السلفي يرى غير ذلك، بل ويشهر علانيةً سيف العداء تجاهه وتجاه أنصاره ومريديه، وبدلاً من أن يتحد هذا الخطاب السلفي والآخر الصوفي في بناء متكامل لنصرة وإعلاء الإسلام، راح يكيل له التهم ويعدد مثالب التصوف والخطاب الصوفي بوجه عام.
وإذا كان أصحاب الخطاب السلفي يدعون أن أعداد المنتمين لهم يفوق كل التنظيمات والتكتلات فإن أعداد محبي وعشاق التصوف والمتصوفة والعارفين بالله يفوق الحصر، ولعل هذا هو مدخل معرفة أسباب هجوم الخطاب السلفي على الصوفية، فإن فكرة الالتفاف دون أغراض سياسية أو أجندات موجهة هو ما دفع رجال التصوف إلى إعلان أن هجوم الخطاب السلفي لهم لهو حقد دفين عند بعضهم.
على العكس تماماً من الخطاب الديني لدى جماعة الإخوان المسلمين، الذين لم يقتربوا من فكرة تناول التصوف أو ملف الصوفية في مصر؛ حيث إن الإمام الشهيد حسن البنا قد أشار في كتابه (رسالة التعاليم) إلى أن الصوفيّة كانت مرحلة من مراحل حياته ونشأته، كما ذكر أكثر من مرة وهو يكرس لجماعته أنه من خصائص دعوته أنها حقيقة صوفيّة.
وقبل أن يتجه الخطاب الديني السلفي إلى منحاه السياسي المجتمعي كان يتشابه عظيم الشبه مع التصوف والقيم الصوفيّة، فكثير ما كان هذا الخطاب يدغدغ أسماع وأفئدة المستمعين بأحاديث الرقائق عن فضائل الصبر والطاعة والإحسان للغير وشكر النعمة، وهو نفس الخطاب والطرح الصوفي القديم والمعاصر، فالتجربة الصوفيّة تسهم في علاج الكثير من أمراض النفس البشريّة التي عقدتها الحياة الاصطناعيّة وطبيعة المجتمع المركب.
لكن الهجوم المتوقع من أنصار الخطاب الديني السلفي تجاه الصوفية كان له مبرراته التي لا نستطيع أن نفصلها عن نص الخطاب نفسه، فإذا كان التصوف يدعو إلى قطع العبد بعلائق الدنيا، وبقطع الهمة على المال والأهل والولد، والبلد، فإن هذا يتنافى مع خطاب يشحذ همته إلى ترسيخ وتكريس مفهوم الجهاد لدى أنصاره.
فحالة الصراع المستدامة التي يفجرها الخطاب الديني تحتاج إلى مواطن شديد الصلة بواقع مجتمعه، يفرق بين المعروف والمنكر حسبما وجهه إلى ذلك هذا الخطاب، وغير منقطع الصلة بوطنه الذي سيحمل سلاح الجهاد فيه لمواجهة أعدائه المتربصين به دائماً، وهذا ما يؤكده الخطاب السلفي من وجود أعداء دائمين للإسلام، وبدلاً من تقوية العقيدة لدينا راح هذا الخطاب يرفع حالة التأهب القصوى لقدوم العدو.
وفي زمرة الحديث عن الخطاب الديني السلفي المعاصر، لابد من التسليم بقوة أسلحته وهو ينفَّر أنصاره من الصوفية والتصوف، ولأن أنصار هذا الخطاب ممن يحسنون الاستماع دون القراءة فإن المدخل الرئيس لضرب مفهوم التصوف والصوفية لديهم هو الشريعة الإسلامية نفسها. فراح هذا الخطاب سواء على المنابر أو من خلال المنشورات أو في ندوات موجهة إلى التشكيك في التزام المتصوفة بالشريعة الإسلامية وأحكامها، بل ويغالي بعضهم بأنهم يتحللون من الشريعة كليةً، وبالطبع هم يستندون في ذلك على بعض المنتسبين إلى الصوفية والمشهورين بالدجل والشعوذة، ولو كلف أحدهم مشقة البحث في هذا الحكم الصارم لوجد أن كبار المتصوفة مثلهم كمثل أي مسلم موحد بالله يذعن للشريعة وأحكامها، فهذا أبو الحسن الشاذلي يقول: "من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فهو بدعي"، أي أن الصوفية تتوافق مع الخطاب السلفي في أمر البدعة والبدعية التي طالما أكد هذا الخطاب عليها.
لذلك فالشيخ سهل التسترى يعبر عن حقيقة التزام الصوفي بأحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها بقوله: "أصول طريقنا سبعة: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة نبيه، وأكل الحلال، وكف الأذى، وتجنب المعاصي، ولزوم التوبة، وأداء الحقوق".
وذكر الإمام الجنيد أحد أقطاب التصوف أن كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، واتبع سنته، ولزم طريقته. وقال في ذلك نصاً: "علمنا هذا مشيد بالقرآن وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
إذاً القضية لا تختلف في الأصول بين أهل التصوف وبين الخطاب الديني السلفي بقدر ما تختلف الوجهة والأهداف، فأهل التصوف وإن يزعمون التكيف والعيش في مجتمع مدني إلا أنهم لا يبغون تسيده على المشهد السياسي والاجتماعي، ولا يسعون إلى تكريس خطابهم ليكون معبراً نحو الحياة السياسية، بخلاف الخطاب السلفي الذي بدا منذ سنين لا يدعو إلا لإعلاء كلمة الحق على المستوى الأيديولوجي، ولكن بعد سقوط النظام الحاكم والسياسي في مصر تبدلت الوجهة والهدف. ومن ثم كان على هذا الخطاب أن يزيح كافة التيارات والقوى الدينية التي تنازعه الملك في السيطرة على قلوب وعقول المواطنين.
وأصحاب الخطاب الديني يرفضون ما على أهل التصوف من ذل وضعف وزهد في الحياة، ويشيعون بين مريدهم أن المتصوفة يعانون من أمراض الانطواء والاستبعاد الاجتماعي، وكراهية الحياة، وحب الخمول والكسل، بل يذهب بعض أصحاب الخطاب السلفي بعيداً برأيهم فيقولون بأن أهل التصوف يعيشون على التسول.
ولا شك أن مثل هذه الأحاديث تجعل المستمعين لهذا الخطاب ينفرون من التصوف وأهله، بل وينظرون إلى أصحاب هذه الفرقة على أنهم أهل شعوذة وسحر وتسكع في الطرقات طلباً للحاجة. ولو كلف هؤلاء المريدون أنفسهم هم مشقة المعرفة والبحث في عصر غابت عنه الثقافة وتفشى الجهل والعدمية المعرفية لفطنوا وعرفوا أن معظم الصوفية الأماجد ارتبطت أسماؤهم بالمهن التي اشتغلوا بها كسباً للعيش.
ومن هذه الأسماء: الصيرفي، والغزالي، والزجاجي، والنساج، والقصار، والوراق، والخراز، والحلاج، ولعل أغلب المهن التي امتهنها هؤلاء المتصوفة كانت يدوية يغلب عليها العناء والكد لأنهم كانوا يربأون بأنفسهم عن مقربة السلاطين والخلفاء ورغبتهم في العيش بحرية دون سلطان من بشر، كما أنهم يخالفون ظن الخطاب الديني السلفي بأنهم يميلون للكسل والتسول، فهم يقتنعون بأن العمل عبادة، وأن العلم عبادة أيضاً.
وفي هذا يقول إبراهيم بن أدهم أحد أقطاب الصوفية يحض مريديه على العمل وطلبه: "عليكم بعمل الأبطال، الكسب من الحلال والنفقة على العيال". والإمام عبد الوهاب الشعراني ينصح أتباعه بقوله: "الاجتهاد في العمل وإتقانه يقوم مقام النوافل والتطوع للعبادة".
إذاً المشكلة لا تتعلق بمارسات غير طبيعية صادرة من أهل التصوف بقدر ما أن الخطاب الديني المعاصر لا يقبل فكرة التعددية واختلاف الأيديولوجيات، وخطاب مثل هذا لا يقوم على مرونة تقبل الآخر المختلف فكرياً في فروع ليست بالأصول الجوهرية مثل وحدة الوجود والمغالاة في فكرة الحلول والاتحاد المنسوبة لبعض أهل الصوفية المغالين في أقوالهم وآرائهم،لا يستطيع أن يقبل مشورة أو اقتراحاً لتطويره أو لاستيعاب تحديات ومستجدات تفرض سطوتها على واقعنا المعاصر.