تثير رواية (دنيا) للروائية اللبنانية علوية صبح الصادرة عن ـ دار الآداب ـ بيروت 2006 الكثير من الموضوعات المتعلقة بالفن الروائي من حيث هو جهد فني جمالي أداته اللغة التي يشيد بواسطتها الكاتب معمار روايته، شانه شأن الفنان التشكيلي أو النحات في تعاملهما مع موادهما الخام فالخطوط والألون وعلاقتها بتيمة اللوحة وببعضهما عبر وحدة موضوع اللوحة هي ما يجعل اللوحة ناجحة فنيا أو بالعكس في حالة الأول، والطين أو الحجر اللذان يخلّق من خرسهما النحات أشكالا نرى فيها مختلف الانفعالات الإنسانية من فرح وحزن غضب واستسلام رعب وإقدام وصرامة ولين يستخرجها أزميله أو أصابعه في القسمات البشرية الواضحة أو في النصب والمنحوتات المفردة المرمزة في إيقاعاتها وكتلها.
بنية النص:
من هذا المدخل سأحاول تحليل رواية علوية صبح (دنيا) وقبل أن أخوض في تفاصيل النص لابد من الإشارة إلى أن روايتها الأولى (مريم الحكايا) الصادرة أيضا عن دار الآداب ـ تناولت نفس تيمة وموضوع الرواية الثانية (دنيا) والتي تدور حول الإنسان اللبناني زمن الحرب الأهلية اللبنانية مركزة على ـ المرأة ـ ومحنتها في تلك الظروف، جديد هذا النص (دنيا) محاولتها رصد التحولات والتغييرات الدرامية التي أصابت الإنسان والمكان والأفكار، ورصد بروز القوى الدينية اللبنانية بعد أن كان دورها ثانويا في منتصف السبعينات وقت اندلاع الحرب الأهلية ـ 1975 ـ من خلال رصد شخصية ـ فرج ـ ابن عمة الساردة ـ بهيجة ـ الذي تحول نحو الدين وكّفر حتى أمه. لكنها لم تفرد لهذه الموضوعة الحيوية التي قلبت بنية المجتمع اللبناني وقسمته طائفيا بحدة المساحة الكافية التي تشبع فضول القارئ المعرفي الذي لم يفهم كيف حدث ذاك التحول الدرامي لا من ناحية التحليل السياسي الشكلاني، بل من ناحية التحول الحي لحماً ودماً وحدثاً وأفكاراً الذي لا يرصده إلا الروائي. كان مرورها شكليا من خلال حوار مبستر بين عمتها بهيجة وابنها فرج ص286 تلخص فيه الساردة كل ذلك التحول المجتمعي الخطير إلى محض حوار تصور فيه ـ فرج ـ أصفر الوجه كالميت، غائم النظرات، وكأنه يحلم بالجنة، يتحدث فقط عن عذاب القبر ونار جهنم ويوم الحساب، متبرما من رفض أمه ارتداء الحجاب. بينما ينشغل ما تبقى من النص موضوعاً وتيمة بطرف من أطراف الحرب في تلك السنوات، لم تصرح باسم الحزب الذي كان ينتمي إليه شخوص الرواية، لكنها تشير إلى أنه علماني كان سائدا في الجنوب وبيروت، أي أنها تخوض في بيئة ما كان سائدا في الساحة السياسية قبل الانعطاف الحاد نحو القوى الدينية. وأولها الساردة ـ دنيا ـ وعلاقتها بزوجها ـ مالك ـ الذي يصاب بالشلل التام نتيجة حادث عرضي في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، وما ترتب على تلك العلاقة المضطربة من تبعات، فبدأت بعلاقة حب من خلال نشاط سياسي لتتحول إلى علاقة كره مع تدهور يصيب ـ مالك ـ من مناضل مبدئي إلى قاتل محترف ماجن يخون ـ دنيا ـ أمام أنظارها، إلى مشلول، تضطر إلى العناية به كزوج مخافة من كلام الناس (وهذه الناحية لم تبررها الكاتبة بشكل مقنع للقارئ، مما أخل بعمود النص الفقري الذي شيدت ـ الكاتبة ـ سردها عليه). وتتمنى في مونولوغها الداخلي قتله ص10، وتفضي برغبتها إلى ـ فريال ـ جارتها التي تتقاسم بالتناوب سرد الرواية مع دنيا، لا بل تأخذ فريال مساحة في السرد أوسع بكثير من مساحة دنيا كما أن قصتها أكثر درامية من قصة ـ دنيا ـ فهي الأخرى ـ فريال ـ تتمنى قتل ـ أمها ـ لم يبن السرد دوافع تلك الرغبة، ولديها علاقة حب جسدية عنيفة مع ـ خالد ـ الذي يتركها ويتزوج من فتاة أخرى اختارتها العائلة له، فتسرد علينا تفاصيل تلك العلاقة ومطباتها، مضاف إلى ذكريات حياتها وعلاقتها بـ ـ دنيا ـ. تحاول الكاتبة استخدام تقنية المرايا فتارة نرى دنيا بعيني فريال وبالعكس.
حاولت الكاتبة السيطرة على نصها من خلال اختيار لحظة مفصلية في مكان وحياة شخصياتها ـ سكان العمارة وهم يلّمون أثاثهم بعد قرار هدمها، ومن هذه النقطة يبدأ السرد على لسان ـ دنيا ـ وفريال ليمتد إلى 400 صفحة من الحجم المتوسط.
عانيت كثيرا كي أستمر في قراءة النص وكدت أترك الرواية جانبا لكنني صبرت كثيرا وتولدت لدي رغبة في تحليل النص للوقوع على سبب عسر قراءته، فوجدت أن الأمر يتعلق ببنية النص ومعماره وفي تعامل الكاتبة مع اللغة باعتبارها أداة الكاتب. النص مليء بالاستطراد منذ مدخله، ويبدأ السرد مضطرباً منذ الصفحة الأولى ص5 إذ كشفت الكاتبة كل لعبة النص الفنية في الصفحة التالية في جمل استطرادية أجهضت سلاسته، وهي تحكي علينا عن ضب الأغراض ومالك المشلول والليل، لتضيع في أسئلة عن قتل الكاتبة والمنامات.
«وفي هذا المبنى بالذات كنت أقرأ فصول الرواية ... ولم يتبق لي منها سوى النهاية التي أخاف أن أقرأها. وإن لم أقتل الكاتبة في الفصل الأخير، فالحكاية لن تكون حكايتي. فأنا أعرف كيف أثأر قتلاً، وعائلتي تأخذ بالثائر لأسباب أقل بكثير من كشف أسرار النساء.
ترى من التي كتبت أسراري على هذه الأوراق الناصعة البياض مثل وجهي؟
سألت نفسي هذا السؤال وقد حيّرتني الكاتبة. أنا التي تروي وصديقتي وجارتي فريال تأخذ عني الكلام أحياناً، والكاتبة كتبت كلَّ ما كنا نحكيه أنا وفريال كل مساء إحدانا للأخرى من أسرار وحكايات ... وما أثار استغرابي أنها كانت تحلم بمناماتي، مثلما كنت أحلم أنا بمنامات أبطال الحكاية» ص6.
أوردت هذا المقتطف الطويل نوعا ما لسبب جوهري هي أن الكاتبة جعلت منه رابطا شكليا من خارج النص حاولت من خلاله ربط حكايات النص المبعثرة كلما فقدت سيطرتها على مادتها الخام. الحديث عن هذا التداخل وبهذه الكيفية أربك النص جملة وتفصيلا، فلا أدري ما معنى ان تحلم هي بمنامات فريال أو الكاتبة وهذا المقطع سيتكرر بنفس المحتوى وبأشكال مختلفة موزعا على فصول النص المرقمة وبدلا من أن يكون مادة لربط وتبرير النص صار حشواً وكلاماً مكررا لا ضرورة فنية له.
المقاطع العميقة والمسرودة بلغة عالية حسية مضغوطة على قدْ الحالة في صيرورة النص، كمشهد تحميم دنيا لزوجها المشلول ـ مالك ـ في ص10 سيضيع في استطرادات عن محاولة الكاتبة سرد حكايات الآخرين، فيتشتت خيط السرد الجوهري والموضوع معه في استطراد طويل عن الضبع والقرية ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بمسار النص كونه بنيّ على أساس فكرة نسوية في مجابهة رجالية نسوية تظهر دوما في كتابة الروائيات العربيات التي يشعر القارئ أحيانا أنهن حاقدات على الجنس الآخر في معادلة مشوهة كون الرجل هو نصف الحياة المكمل لا العدو ـ وهذه المعادلة العميقة وجودية ترتبط بالكينونة ـ لا تأخذها الروائيات بنظر الاعتبار وهي ضرورية جدا لبلوغ ناصية الحياد الموضوعي الذي يتيح للمبدع لمس الإنسان كقيمة مطلقة.
كيف تجلت هذه الخلاصة التي ذكرتها في نص (دنيا)؟.
رغم تعصب الكاتبة النسوي لشخصياتها النسائية وهذا مفهوم كونها ـ امرأة ـ تبنى شخصية ـ دنيا ـ بطريقة لا إنسانية، حينما تصورها في ص102 وهي تحمم زوجها المشلول متشفية بعجزه الجنسي: «لكنه يصمت وينظر إلي شزراً حين أفرك عضوه المرتخي، فأطيل تمرير الليفة على جلده المزموم وعضلاته المضمومة العجينية الرخوة لكي أكيده» ص102
لاحظ ضعف السرد، إذ ترصف ثلاث مفردات تؤدي نفس الغرض ـ مضمومة، عجينية، رخوة ـ.
وتجعل القارئ لا يتعاطف معها من خلال تصويرها في صورة الشر المطلق إذ تصل بها إلى ذروة الاستخفاف بالعلاقة الإنسانية بين الأب والأبناء وهي تستنكف تمرير يدها على زوجها في الحمام ثم على أبنتهما ـ أية ـ: «ثم لا أريد إنا ليديّ أن تمرا على جسمها الصغير والطري بعد أن تعبرا جسد أبيها المشلول كجسد الموتى. لا أريد لرائحة القسوة والموت أن تعلق بهما وتنتقل إليهما» ص111
وهنا يتساءل القارئ:
ـ أي امرأة حقيرة وشريرة ـ دنيا ـ هذه؟
تشويه الإنسان في الأدب إلى حدود اشمئزاز القارئ شائع في الروايات العربية الحديثة وملموس في بعض روايات الكتاب العراقيين في المنفى، وهذا ليس موضع الحديث سأعود إليه في مقالة مستقلة عن علاقة الأدب بالإنسانية.
فالعديد من الروايات كهذه تفصح عن لا إنسانية الراوي والذي يعود برأيي إلى نقص عدة الكاتب الفكرية والثقافية بحيث يضفي شأنه الأيدلوجي على النص الفني، فالنصوص العراقية غلبت عليها البواعث الشخصية الحقد والخلاف، ونص ـ علوية صبح ـ غلبت عليه الأيدلوجية النسوية في كرهها للرجل باعتباره عدوا لا شريكا بصناعة الحياة. في الوقت الذي يجعلنا الكاتب العميق نتعاطف حتى مع أحط البشر، وأكثرهم شرا وهذا نجده في نصوص الكتاب الكبار، فدستيوفسكي في الجريمة والعقاب يجعل القارئ يتعاطف مع راسكينوكوف رغم كونه يقتل المرابية وصاحبتها في عرضٍ عميق لدواخل البشر في محنة وجودهم، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
أشرت إلى أن الكاتبة تحاول لملمة السرد الذي يتحول إلى مجرد ثرثرة نسوية ليس لها علاقة بمدخل النص وتيمته التي ظن القارئ انه سيتواصل معها ليصل إلى نقطة إشباع معرفي وجمالي.
تحاول عن طريق رابطة ذكرتها بالتدخل من خارج الحدث أو الحكاية المسرودة بالكلام عن كاتبه ما سوف تنفذ ما تحكيه الشخصيات على الورق وتذكر أسمها في مقطع بمنتصف الرواية كون إحدى الشخصيات قرأت للكاتبة ـ علوية صبح ـ أو استعارت رواية لها (مريم الحكايا) روايتها الأولى، مضاف إلى فكرة المنامات المتبادلة وكلها محاولة للسيطرة على مادتها الخام المنفلتة، تلجأ إلى رابط أخر هو بدوره شكلي محض، فمثلا تخبرنا الساردة عن شخصية ما في حياتها ما مرّ بها ثم يأتي عرضا أسم آخر، فتترك الساردة تلك وتبدأ بالسرد عن الشخصية الأخرى التي ذكر أسمها مما جعل من النص أقرب إلى الكولاج منه إلى النص الروائي ذو البنية المحكمة، هذه التقنية الشكلية تعم غالبية الانتقالات السردية في النص. أورد منها مثلا واحداً، فدنيا تحكي لنا سردا عن شكوى حماتها من أمراضها في صفحتين ص326 و ص 327 بشكل تفصيلي وباللهجة اللبنانية المحلية عن معاناتها من الأمراض وشكواها المتكررة لجارة دنيا ـ فريدة ـ فتذكر عرضا أسم ابنة حماتها ـ نهاد ـ لتترك فاصلة بيضاء من أربعة أسطر وتبدأ بالحديث عن حياة ـ نهاد ـ وزوجها الدفان، والموضوع ليس له صلة جوهرية بالسرد الذي يسبقه.
أخلص إلى أن دافع السرد في النص ورابطه شكلي محض، أي لم ينبع من السياق الداخلي للنص، إذ يعتمد كما ذكرت على لازمة الكاتبة عن المنامات او عن طريق الاستطراد العرضي وأغلب المواضيع ليس لها دلالات عميقة، فكرية أو فلسفية، أو اجتماعية، بل مجرد حكي في تفاصيل حياتية باهتة لا تلفت النظر في سياق الحياة، أي لا تصلح لاختيارها والعمل عليها كمادة خام، وهذه الخلاصة تشمل العديد من الفصول المرقمة والمقاطع المفبركة داخل الفصل المرقم نفسه، أورد شواهد على سبيل المثال لا الحصر، فالرواية تعج بها، الأول: هو الفصل 13 فهو عبارة عن حوارات نسائية ـ ثرثرة ـ حتى أن المدخل مرتبك لغة وصوغا فنيا، والثاني هو: الفصل 7 إذ يتشتت السرد في استطراد طويل يتحدث عن كيفية ظهور لقب شخص ما، فتذكر لنا حدوتات وشخوص ليس لهم علاقة بتيمة النص أو شخصياته. الثالث: في الفصل 8 تيمة مهمة من تيمات الحروب الأهلية حيث يؤدي العنف والقتل إلى جنون ـ رؤوف ـ وبدلا من التركيز عليها نجدها تشتت السرد فتضيع وتبهت درامية المشاهد التي وصفتها لنا عن حالات ـ رؤوف ـ الراقد في مشفى المجانين ما بين ص 184 و ص 192. الرابع: الفصل الأول عندما تستدير عن تصوير المشهد الذروي في النص إلا وهو شلل زوج دنيا وتستطرد في مسرد طويل عن حكاية جدتها والضبع، وبقية فصول الرواية تعاني من نفس المشكلة.
الجنس في الرواية:
الجنس مصدر مهم وعميق للإلهام لكنه خطير فهو ذو حدين، فالغريزة البشرية تنبع من غور الجسد والوجود والتاريخ، والجنس من أهم الغرائز فهو يساوي الأكل والشرب ضرورة لاستمرار الوجود الفيزيقي للإنسان على الأرض، لكنه التبس في الصيرورة التاريخية وأصبح تابو في مجتمعاتنا، له عالمه السري، قلت منبع خطير، فهو يغري العديد من الكتاب، فينساق البعض منهم في سرد ما ليس له ضرورة فنية، أقصد ليس نابعاً من عمق النص حيث لا تستدعيه الحكاية وسياق السرد، فيصبح كولاجاً مفتعلا يتساوى مع أفلام الجنس الرخيص التي تعرض بكثرة في القنوات التلفزيونية الفضائية الإباحية. وهذا بالضبط ما وجدته في نص ـ علوية ـ (دنيا) فبخلاف نصها الروائي الأول (مريم الحكايا) التي وجدت في مقاطعه التي تناولت الجنس بجرأة من وجهة نظر المرأة العربية، وكانت وقتها كشفاً لعالم النساء الشرقيات المعاصرة، أضافت لي قيمة معرفية جعلتني أطل على الكيفية التي تفكر فيها المرأة العربية بالجنس في بيئتنا الشرقية الشكلية الصارمة، بحيث رسخت في ذهني حكاية صديقة الراوية التي تمارس الجنس مع عشاقها العابرين من الرجال فتمنحهم جسدها بالكامل ما عدا فرجها متحسبة ليوم الزواج. فهدمت أساس مهم من الأسس التي ترتكز عليها تقاليدنا الشكلية المتعلقة بالعفة والشرف والبكارة. وجدتها في نص (دنيا) تنساق إلى استخدام الجنس بطريقة لا تختلف قد أنملة عما يُسوق من أفلام جنس رخيص يحط أساساً من قيمة هذه العملية المقدسة من وجهة نظر الفلسفات الدينية والفلسفات الإنسانية المادية.
إذ تعرض لتفاصيل تركز وكأنها عين كاميرة مصور إباحي من مصوري أفلام الجنس الرخيص التي تتابع حركة العضو الجنسي للجنسين وتصور القذف والمص وما شابهه بلغة فيها فجاجة في مواقع عديدة بالرواية. يستطع القارئ العودة للنص ليتبين ما خلصت إليه، ففي ص 86 تستغرق ـ فريال ـ الشخصية الثانية التي تبني النص من خلال قيادتها للسرد في تسمية الأعضاء بأسمائها بطريقة مباشر يشّيء الجنس ويجعله فيزيقيا مبتذلا كما هو الحال عندما تركز عين الكاميرة على عضوي المرأة والرجل من زوايا مختلفة في أفلام البورنو الرخيصة، سأنتقي مقطعاً من النص يجسد ويلقي الضوء على الفكرة التي ذهبت إليها كون الجنس مصدر إلهام خطير استعملته ـ علوية ـ بطريقة شكلية تتناسب مع بنية نصها الشكلي بنية وتيمة: «ورائحة إبطيه أثّرت لاحقاً على دورتي الشهرية فانتظمت، وعززت خصوبتي، ورطّبت فرجي، وزودتني بالأمان والراحة.
وبإصبعي وعيني رحت أرسم ذلك المثلث ما حول عضوه وأسفل بطنه. قبلاتي ولمساتي المتسابقة على منطقته الحميمة ألهبت انفعالاتي. وصار أنين الرجولة المتأججة يعلو فيه، وأنا أقبل خصيتيه صعوداً حتى الخط الفاصل ما بين سرّته وعضوه، نزولاً حتى تلك المساحة الضيقة ما بين دبره وخصيتيه، ورائحة عضوه الخاصّة تعبق أنفي» ص87
وفيما يتعلق بالجنس لم تكتفِ بطريقة العرض المستعارة من أفلام الجنس الرخيص، بل بالغت ظانةً أنها ستشد القارئ، فروت علينا عن جهاز يجعل قضيب المشلول ينتصب على لسان (دنيا) وصورت لنا كيف تمارس الجنس مع ـ مالك وهو مشلول ص122.
أو حكاية عمة الراوية ـ سمية ـ التي ضاجعت زوجها وهو ميت ص270. وغيرها من المبالغات التي أدت إلى فقدان مصداقية حكايات النص.
لغة النص والصوغ الفني:
يعج النص بالجمل السردية الضعيفة، المكتوبة دون أحساس، وكأن الكاتبة تجهد نفسها باحثة عن الكلمات من مصادر قاموسية أقصد قاموس الكاتبة .. أي أنها تكتب دون تشبع عميق بحالات الشخصيات المكتوب عنها، ولهذا جاءت اللغة وتركيب الجملة السردية مفككاً ضعيفا، يطغي عليه الإنشاء، واستخدام مفردات وتراكيب مصنوعة بعناء وليست مسرودة بحس، تصدم سمع القارئ الحساس، ويعج أيضا بتشبيهات ساذجة، سأورد هنا نماذج يجسد إحساس الكاتبة بالمفردة الذي وجدته ليس له علاقة بالصوغ الفني الجمالي كون اللغة أداة الكاتب ووسيلته لمسك عالمه الروائي
«منشورات مستلبة بالحرب، تمضغها كما تمضغ البقرة طعامها، تلوك كلمات تنطق بحبر أسود على أوراق صارت شديدة الاصفرار. كلمات بدا بعضها منتحراً على الأوراق، فيما كثيرها ناحراً ومنحوراً، وحروف أكل العت والغبار معظمها، بينما غبّش بعضها الآخر التآكل والغبار» ص284
يكشف هذا المقطع عن طريقة التعامل الشكلي مع اللغة، فما معنى منشورات مستلبة بالحرب، ثم تشبيهها بالبقرة التي تمضغ (الأوقع تجتر) طعامها تشبيه ليس له دلالة، ثم لاحظ الجملة اللاحقة الضعيفة «تلوك كلمات تنطق بحبر .. الخ»
نموذج أخر من التشبيهات الساذجة التي يعج بها نصها: «العتمة تتكاثر في لحظات، كما لو أن الليل فاه (الأصح فم أو لو أضيف له الضمير، وهو غير وارد هنا ففوه فهو من الأسماء الخمسة وخبر أن) ضبع يفتحه ليبتلع الضوء» ص219.
أو تشبيه الهلال بجمل إنشائية طويلة لتصل في أخرها إلى تشبيه أيضا يقول: «نوره أشبه بابتسامة رضيع طيبة أنيسة في السماء» ص319.
الشواهد كثيرة تكاد لا تخلو صفحة من صفحات الرواية الـ 400 منها. هذه الطريقة بالتعامل مع اللغة تفصح عن حس كاتب النص باللغة وهنا أجد أن سرد ـ علوية صبح ـ لم يبلغ ناصية الرشد، ناهيك عن ناصية النضج أو الحكمة في (دنيا).
أصبح من البديهي في العرف الأدبي فيما يتعلق بالبناء الروائي المقولة الشائعة نقديا القائلة عن ضرورة تجلي تيمة النص في كل فقرة سردية أو مقطع وفصل، وهذا يستدعي شدة تركيز الكاتب، فأخطر ما يصيب كاتب النص هو الحماس وشدة الانبهار بما كشفه بحيث لا يجد اللغة التي تسعفه في التعبير، وهذا من الأسباب الجوهرية التي تستدعي من كل كاتب إجراء عملية التنقيح والشطب وتكثيف اللغة كي تأتي على قدر الحس والتجربة والحكاية، حتى أن ما يعطي تناغم إيقاع النص حينما تتضافر اللغة ومسار السرد هو أحيانا عزوف الكاتب عن كثير من الأفكار والاقتصار على ما هو ضروري لنغم النص الداخلي، وهنا يكمن سرّ انبهارنا بنصوص مترجمة من لغات أخرى لا سيما حينما يترجم مترجم مبدع نصا، لديه مثل هذه الحساسية التي أشرت إليها.
فالنصوص الناجحة التي نطلع عليها وتبهرنا هي كجسد الإنسان متناسق دقيق العلاقة بين مكونات الجسد كي يستطيع الحياة، فمادة الموضوع في النص الروائي الممتع والدقيق تتدفق من كل فقرة في النص. ولدينا أمثلة كثيرة عن نجاح النص الروائي منذ سرفانتس في ـ دون كيشوت ـ إلى دستيوفسكي .. وهمنغواي .. وكافكا .. ومحفوظ .. وماركيز .. فمن المستحيل على أي ناقد ملاحظة ما لاحظته في نص (دنيا) رغم الترجمة.
النص مشتت، متشظٍ، وهذا لا يعود في رأيي لطبيعة التجربة والحرب الأهلية والحداثة كما ذهب إليه بعض النقاد في تقريظهم للرواية نفسها، ناعتيها ببنية حداثية جديدة .. بل يعود إلى قلة خبرة الكاتبة وقصر أدواتها الفنية. فقد قرأنا روايات في ظروف مضطربة تاريخياً اضطراباً لا يختلف عن ظروف زمن الكاتبة، لكن تلك النصوص وتحديدا نصوص الحروب الأهلية كانت ناضجة متماسكة الإيقاع والتيمة والصوغ الفني، على سبيل المثال لا الحصر، رواية (نهر الدون الهادئ) لشولوخوف المكتوبة في بداية القرن العشرين، ورواية (مئة عام من العزلة) لماركيز المكتوبة لاحقا. فرغم ترجمة النصين من لغة ثانية كانا متماسكين لغة وتيمة.
خلاصة القول في ما يتعلق برواية (دنيا) وجدتها أوراق كاتب يحاول جاهدا الإحاطة بمادة الروي كانت تحتاج إلى إعادة نظر وشطب، ففي النص العديد من الدراما والمواضيع الحيوية الضرورية لصناعة نص عميق لكن الكاتبة أضاعتها بنشر نصها وهو مسودة ودون مراجعة. أي أن هذا النص لم يختمر تماما، كما هو حال نصها (مريم الحكايا) ففي مقابلة للكاتبة ـ علوية ـ تحدثت عن ظروف نشر نصها الروائي الأول (مريم الحكايا) الذي قدمته حسب قولها إلى دار ـ الآداب ـ طويلا فضفاضا فنصحها الناشر ـ دار الآداب ـ باختصاره. وفعلت ذلك بحيث ظهر النص بالشكل المنشور. كان من المفترض بالناشر نصحها بتكثيف نصها كما فعلت مع (مريم الحكايا) لكن نجاح النص الأول أعمى حتى الناشر.