ترجمة زوينة آل تويّه
في أحد أيام خريف 1974 كنت أمشي من قسم اللغة الإنـﮔليزية في جامعة ماساتشوستس باتجاه موقف السيارات. كان صباحًا خريفيًّا رائقًا يشجّعك على أن تكون ودودًا مع الغرباء المارّين. شباب مفعمون بالحياة ينطلقون في كل الاتجاهات، واضحٌ أن كثيرًا منهم في سنواتهم الدراسية الأولى وفي فورة حماسهم الأولى. عندما استدرتُ كان هناك مُسنّ يمشي في الطريق نفسه، أبدى لي ملاحظته عن مدى صغرهم هذه الأيام. وافقتُه. ثم سألني عمّا إذا كنت طالبًا أنا الآخر. أجبته: لا، إنّني معلِّم. ماذا أُدرِّس؟ الأدب الأفريقي. قال إنّ ذلك طريفٌ لأنه يعرف شخصًا يُدرِّس الشيء ذاته، أو لعلّه التاريخ الأفريقي، في كليّة محليّة ليست ببعيدة من هنا. طالما أدهشه ذلك - مضى في حديثه - لأنه لم يفكّر قطّ أن يكون في أفريقيا هذا النوع من الأشياء، أنت تعرف. عند هذه اللحظة أخذت أغذُّ السير أكثر. أخيرًا سمعته يقول وهو خلفي: أوه حسنٌ، أعتقد أنه ينبغي لي أن أَدْرُس مقرّرك كي أستكشف الأمر. بعد بضعة أسابيع تلقّيت رسالتين مؤثّرتين جدًّا من طالبين في مدرسة ثانوية في يونكرز بنيويورك، كانا – بارك الله في مُعلِّمهما - قد قرءآ توًّا (أشياءٌ تتداعى)، أحدهما كان سعيدًا على الأخص بتعرُّفه عادات قبيلة أفريقية وخرافاتها.
عبر هذه المصادفات التافهة بالأصح، أعتزم الخروج بنتائج رصينة بالأصح، قد تبدو للوهلة الأولى أمرًا مبالغًا فيه نوعًا ما بالنسبة إليهم. ولكنني آمُل أنها تبدو كذلك للوهلة الأولى فقط. يبدو جليًّا أن الصبي الصغير من يونكرز -ربما بسبب سنّه إلى حدٍّ ما، لكنني أعتقد أيضًا لأسباب أخرى أكثر عمقًا وجِدًّا- غيرُ واعٍ بأن حياة قبيلته في يونكرز بنيويورك مُتخمةٌ بالعادات والخرافات الغريبة، ويتخيّل مثل الجميع في ثقافته، أنه بحاجة إلى رحلة إلى أفريقيا لمصادفة تلك الأشياء.
أما الشخص الآخر، الذي في عمري تمامًا، فلا يمكن إيجاد العذر له على أساس سنوات عمره. قد يكون الجهل السبب الأكثر رُجُوحًا، لكنني أعتقد هنا، مرة أخرى، أن ثمّة شيئًا مُتعمَّدًا أكثر من كونه مجرد افتقار للمعلومات. أيضًا، ألم يُعلن ذاك المؤرخ البريطاني الواسع المعرفة والأستاذ الملكي في أوكسفورد، هيو ترِﭭر روﭘر، أن تاريخ أفريقيا غير موجود؟
إذا كان ثمّة شيء في هذه التصريحات أكثر من قلّة تجربة غضّة، أكثر من افتقار إلى معرفة واقعية، فما هو؟ إنه ببساطة تامّة رغبة- قد يقول المرء حاجة حقًّا- السيكولوجيا الغربية في تقديم أفريقيا كخلفيّة لأوروﭙـا، وكمكان سلبِّي كان فيما مضى بعيدًا ومألوفًا على نحو مبهم، في مقارنة تُبرز ما عليه وضع أوروﭙـا من نعمة روحانية. هذه الحاجة ليست بجديدة، حالة تعفينا جميعًا من مسؤولية هائلة، وقد تجعلنا غير راغبين حتى في النظر إلى هذه الظاهرة على نحوٍ عاطفي. ليست لدي الرغبة ولا الكفاءة في الشروع في استخدام أدوات العلوم الاجتماعية والبيولوجية، بل ببساطة أكثر في طريقة استجابة روائي لكتاب شهير في السرد الأوروبي: (قلب الظلام) لِجوزيف كونراد، الذي يصوِّر أفضل من أي عمل آخر فيما أعرف، تلك الرغبة والحاجة الأوروﭙيتين اللتين أشرت إليهما توًّا. هناك بالتأكيد مكتبات كاملة من الكتب المكرّسة للغرض ذاته، لكن معظمها من الوضوح والبساطة إلى حدّ أن قليلًا من الناس يعبأ بها اليوم. إن كونراد، من ناحية أخرى، بلا شك، أحد الأسلوبيين الكبار في السرد الحديث وقصّاص جيد فوق ذلك. وعليه، تقع إسهاماته تلقائيًّا ضمن فئة مختلفة –الأدب الدائم- يقرؤها أكاديميون جادّون ويدرّسونها ويقيِّمونها باستمرار. إن (قلب الظلام) في مأمن اليوم إلى حدّ أن باحثًا رائدًا في أدب كونراد عدّها "بين أعظم نصف دزينة من الروايات القصيرة في اللغة الإنـﮔليزية". سوف أعود إلى هذا الرأي الحاسم في الوقت المناسب لأنه قد يعدّل على نحوٍ جادّ من افتراضاتي السابقة حول من قد يكون مذنبًا أو لا يكون في بعض المسائل التي سأثيرها الآن.
تعطي (قلب الظلام) صورة عن أفريقيا أنها "العالم الآخر"، النقيض لأوروﭙـا، ومن ثَمَّ للحضارة، مكان تهزأ فيه الوحشية الظافرة أخيرًا من ذكاء الإنسان وتحضّره المتبجِّحيْن. ينفتح الكتاب على نهر التَّيمز، هادئًا وساكنًا بسلام «مع انقضاء النهار، بعد أزمان من الخدمات الطّيبة المُسداة إلى السلالة التي قطنت ضفافه»(1). بَيْد أن القصة الحقيقية ستأخذ مجراها في نهر الكونغو، النقيض الكلّي للتَّيمز. نهر الكونغو ليس نهرًا فخريًّا من غير ريب بالفعل، فهو لا يقدّم أية خدمات ولا يتمتّع بأجر تقاعدي في شيخوخته. يُقال لنا إن «عبور ذلك النهر أشبه بالسفر إلى الخلف، إلى البدايات المبكّرة للعالم».
هل يقول كونراد إذن إن ذينك النهرين مختلفان جدًّا، أحدهما خيِّر والآخر سيِّئ؟ نعم، ولكن ليست تلك هي المسألة الحقيقية. ليس الاختلاف ما يقلق كونراد، وإنما التلميح الكامن في القرابة، في الأصل المشترك. ذلك أن التَّيمز أيضًا «كان واحدًا من الأماكن المظلمة على الأرض». قهر الظلام، بالتأكيد، وهو الآن في وضح النهار وفي سلام. لكنه إذا ما زار قريبه البدائي، الكونغو، فإنه سيتعرض للمخاطرة المرعبة بسماع الأصداء الغريبة لظلامه المنسي، وسيقع ضحية نوبة انتقام آتيةٍ من هياج البدايات الأولى المجنون.
هذه الأصداء المُوحية تشكّل استحضار كونراد الشهير للجو الأفريقي في (قلب الظلام). في المراجعة الأخيرة للفكرة لا تبلغ طريقته أكثر من تكرار مطّرد ومضجر، وشعائري زائف لجملتين متضادتين، إحداهما عن الصمت والأخرى عن الهياج. يمكننا معاينة نموذجين لذلك في الصفحتين 36 و37 من الطبعة الحالية: أ- «إنها سكينة قوة عنيدة تواري نيّة مُبهمة» و، ب- «تقدَّمت الباخرة ببطءٍ على حافة هياج أسود مُبهم». هناك بالتأكيد تغيير حكيم للصفة من حين لآخر، بحيث إنك قد تجد عوضًا عن (مبهم)، مثلا، (لا يوصف)، وحتى (غامض بشكل صريح)، إلخ إلخ.
استرعى الناقدُ الإنـﮔليزي النافذ البصيرة، إف. آر. ليـﭬِس، الانتباهَ منذ مدة طويلة إلى «إصرار كونراد الوصفي على غموض لا يوصف وغير مفهوم.» لا ينبغي الاستخفاف بذلك الإصرار -كما يميل العديد من نقّاد كونراد إلى ذلك- بأنه مجرد عيب أسلوبي، ذلك أنه يثير تساؤلات جادّة عن حسن الاعتقاد الفني. عندما يتظاهر كاتب ما بتسجيل مشاهد وأحداث وآثارها الناجمة، فإنه في الواقع ينخرط في إحداث خدر منوّم في قُرائه من خلال قصف من الكلمات الانفعالية وأشكال أخرى من الخداع تكون أكثر بكثير على المحكّ من اللباقة الأسلوبية. إن القُرّاء العاديين عمومًا مسلّحون جيّدًا لكشف مثل هذه الممارسة الماكرة ومقاومتها. غير أن كونراد اختار موضوعه جيّدًا بحيث يضمن ألا يضعه في صراع والاستعداد النفسي لقُرَّائه، أو يُبرز حاجته إلى مكافحة مقاومتهم. لقد اختار دور مُموِّن الأساطير المُطمئِنة. مع ذلك، فإن أكثر الفقرات إثارة للاهتمام والكشف في (قلب الظلام) هي عن الناس. يجب أن ألتمس العذر من قارئي باقتباس ما يقرب من صفحة كاملة من حوالي منتصف الرحلة/ عندما يصادف ممثلو أوروبا في باخرة متجهة إلى الكونغو سكّانَ أفريقيا.
«كنّا هائمين على أرض ما قبل التاريخ، على أرضٍ اكتست بهيئة كوكب مجهول. كان بوسعنا تخيُّلُ أنفسِنا أوّلَ من استولى على إرثٍ ملعونٍ لإخضاعه على حساب ألمٍ عميقٍ وعملٍ شاقّ. ولكن فجأة، وبينما كنّا نصارع لاجتياز منعطف، تبدَّت أسوارٌ من نبات الأسَل، أسقفٌ معشوشبة ناتئة، انفجارٌ من الصرخات، دوامةٌ من الأطراف السوداء، حشدٌ من الأيادي المصفّقة، والأقدام الخابطة، والأجساد المتمايلة، والعيون المتقلّبة، تحت أوراق النباتات الكثيفة الساكنة المتدليّة. تقدّمت الباخرة ببطءٍ على حافة هياج أسود مُبهم. كان إنسان ما قبل التاريخ يلعننا، يتضرّع إلينا، يرحّب بنا، من يدري؟ كنّا معزولين عن فهم ما حولنا؛ انزلقنا بعيدًا مثل أشباح، متعجّبين ومذعورين على نحو خفيّ، كما يكون رجال سليمو العقل قبل دخولهم نوبة حماس في مستشفى للمجانين. لم نفهم لأننا كنا بعيدين جدّا، ولم نتذكّر لأننا كنا نسافر عبر ليل العصور الأولى، تلك العصور التي ولّت، ولم تكد تترك إشارة وراءها، ولا ذكريات.
بدت الأرض غير أرضية. كنَّا معتادين النظر إلى هيئة مسخٍ مهزومٍ ومُكبَّل، ولكن هناك، هناك يمكنك النظر إلى شيء ممسوخ وحُرّ. كان ذلك غير أرضي وكان الرجال ... لا لم يكونوا لابشريين. حسنٌ، ذلك أسوأ ما في الأمر، هذا الشك في عدم كونهم لابشريين. يتكوّن هذا الشك ببطء لدى المرء. كانوا يولولون ويقفزون ويدورون مقطّبين وجوهًا مفزعة، لكن ما هزّك كان مجرّد التفكير في إنسانيتهم –كإنسانيتك-، التفكير في قرابتك البعيدة إلى هذا الصخب البرّي المنفعل. بشع. نعم، كان ذلك بشعًا بما يكفي، بيد أنك إن كنت جريئًا بما يكفي ستعترف لنفسك بأن في داخلك استجابة ذات أثرٍ باهتٍ فقط لصراحة ذاك الصخب المروّعة، شكًّا غامضًا بوجود معنىً في ذاك الصخب الذي باستطاعتك أنت – أنت النائي كثيرًا عن ليالي العصور الأولى- فهمه».
هنا يقبع مغزى (قلب الظلام)، والافتتان الذي تفرضه على العقل الغربي: «ما هزّك كان مجرّد التفكير في إنسانيتهم –كإنسانيتك ... بشع». بعد أن أَطْلَعنا كونراد على أفريقيا في مجموع البشر، يركّز في نصف صفحة، لاحقًا، على مثال محدّد، ليعطينا أحد أوصافه النادرة لأفريقي لم يكن مجرد أوصال أو عينين تتقلّبان: «وبين الفينة والأخرى، كان عليّ مراقبة المتوحش الذي يزوّد الباخرة بالوقود. كان عيّنة محسّنة؛ باستطاعته إيقاد مرجل بخاري عمودي. كان هناك، في الأسفل، وبالفعل، كان النظر إليه مُسلِّيًا، كالنظر إلى كلب ببنطال قصير وقبعة من الريش في عرض ساخر، ويمشي على قائمتيه الخلفيتين. كانت بضعة أشهر من التدريب كافية لذلك الفتى البارع حقًّا. عاين مقياس الضغط البخاري ومقياس منسوب الماء بجهد جسور واضح. لقد صقل أسنانه أيضًا، هذا الشيطان المسكين، وحلق شعر رأسه الأجعد في أشكال غريبة، وهناك ثلاثة ندوب تزيينية على خديّه. كان يجدر به أن يكون عند ضفة النهر يصفّق بيديه ويخبط برجليه، بدلًا من أن يكون مثابرًا في العمل، تحت سطوة سحرٍ غريبٍ مليءٍ بمعرفة متطوّرة».
كما يعلم الجميع، إن كونراد رومانسي أيضًا. قد لا يُعجَب تمامًا بالمتوحشين وهم يصفّقون بأكفّهم ويخبطون الأرض بأقدامهم، لكنّ لهم، على الأقل، مَيزة وجودهم في أماكنهم، خلافًا لهذا الكلب (ببنطال قصير وقبعة من الريش في عرض ساخر). بالنسبة إلى كونراد، أن تكون الأشياء في أماكنها أمرٌ في غاية الأهمية.
يخبرنا بوضوح: «أشخاص رائعون -أكلة لحوم البشر- في أماكنهم». تبدأ المأساة عندما تغادر الأشياء مكانها المعتاد، كأوروﭙـا لمّا تغادر معقلها الآمن بين الشرطي والخبّاز لتختلس النظر إلى قلب الظلام. قبل أن تلج بنا القصة إلى حوض الكونغو، من المناسب أن نُعطَى هذا الوصف الموجز الجميل كمثال على الأشياء في أماكنها: «بين الحين والآخر، يمنح قاربٌ آتٍ من الشاطئ المرءَ اتصالًا خاطفًا بالواقع. كان يجذّفه أشخاص سود. يمكنك أن ترى من بعيد تلألؤ بياض مُقلهم. كانوا يصرخون، يغنّون؛ أجسامهم تتصبّب عرقًا؛ وجوههم تشبه أقنعة بشعة -هؤلاء الرجال- لكنّ لهم عظامًا، وعضلات، وحيويّة بريّة، وطاقة كبيرة في الحركة، طبيعية وخفيفة كالأمواج المتكسّرة على طول ساحلهم. لا يحتاجون إلى تبرير وجودهم هناك. كان النظر إليهم راحة كبرى».
مع نهاية القصة، يكرّس كونراد صفحة كاملة، بشكل غير متوقع مطلقًا، لامرأة أفريقية بدا واضحًا أنها كانت على نحو ما عشيقة السيد كيرتز، وتشرف الآن (إذا أُجيز لي بعض الحرية) مثل لغز مرعب على رحيله الوشيك الذي لا يرحم: «كانت متوحشة ورائعة، بعينين جامحتين ومذهلتين ... وقفت تنظر إلينا دون حراك، وكالبريّة ذاتها، بملامح تواري نيّة مبهمة». رُسمت هذه الأمازونية بقدر كبير من التفصيل -وإن كان ذلك بطبيعة يمكن التنبؤ بها- لسببين. الأول، أنها في مكانها وبذلك يمكنها كسب العلامة الخاصة بموافقة كونراد، والثاني، أنها تفي بالشرط البنيوي للقصة: نظير وحشي للمرأة الأوروﭙية المهذّبة التي ستتقدّم لإنهاء القصة: «تقدّمت متّشحةً بالسواد وبوجه شاحب، طافيةً نحوي في الغسق. كانت في حِداد ... أخذت كلتا يديّ بين يديها وتمتمت: سمعت أنك أتيت ... كانت لها قدرة ناضجة على الإخلاص، على الإيمان، على المعاناة».
يُنقَل الفرق في موقف الروائي من هاتين المرأتين بطرق كثيرة مباشرة ودقيقة بحيث إنها لا تحتاج إلى توضيح. ولكنّ أهم فرق قد يكون هو ذاك المتضمن في منح المؤلف تعبيرًا بشريًّا لإحداهما وحجبه عن الأخرى. من الواضح أنه ليس جزءًا من غرض كونراد أن يمنح لغة لـ"لأرواح البدائية" لأفريقيا، فبدلًا من الكلام يصدرون «ثرثرة عنيفة ذات أصوات خرقاء». «يتبادلون عبارات قصيرة غير مفهومة» حتى فيما بينهم. لكنهم يكونون في معظم الأحيان أكثر انشغالًا بهيجانهم. هناك مناسبتان في الكتاب، مع ذلك، عندما يبتعد كونراد نوعًا ما عن عادته ويمنح كلامًا -حتى الكلام الإنـﮕليزي- للمتوحشين، الأولى عندما تتمكّن منهم وحشيتُّهم:
«امسك بهم.
قال بحدّة، وعيناه محتقنتان على اتساعهما، وأسنانه الحادّة تلمع.
امسك بهم. سلّمهم إلينا.
سألته:
لكم؟ ماذ ستفعلون بهم؟
قال بفظاظة:
نأكلهم».
المناسبة الأخرى كانت الإعلان الشهير: «مِستاه كيرتز .. ميّت»(2).
يمكن فهم هذه الأمثلة من الوهلة الأولى أنها أفعال سخيّة غير متوقّعة من كونراد. في الواقع، إنها تشكّل بعض أفضل تهجُّمه. في حال أكلة لحوم البشر، فإن الهمهمات غير المفهومة التي خدمتهم حتى هذه النقطة في الكلام، أثبتت فجأة عدم كفايتها لغرض كونراد في السماح للأوروﭙـي بأن يلمح التوق الذي لا يوصف في قلوبهم. عندما فكّر كونراد في ضرورة تحقيق الانسجام بين صورة البهائم الخرساء ومزاياها الحسيّة التي تثبت إدانتها بدليل واضح لا لبس فيه يصدر عن أفواهها هي نفسها، اختار الأخيرة. أما عندما أعلن (صاحبُ الرأس الأسود الوقح عند مدخل الباب) وفاةَ السيد كيرتز، فأيُّ نهاية أفضل أو أكثر ملاءمة - يمكن أن تُكتب لقصة مرعبة عن ابن الحضارة العاصي ذاك، الذي قدّم روحه متعمِّدًا لقُوى الظلام و«اتّخذ مقعدًا عاليًا بين شياطين الأرض» - من إعلان موته الجسدي على يد القُوى التي انضم إليها؟
يمكن المحاججة، بالتأكيد، بأن الموقف من الأفريقي في (قلب الظلام) ليس موقف كونراد، وإنما هو موقف راويه، مارلو، ولعلّ كونراد -بعيدًا عن تأييده هذا الموقف- أراد أن يسترعي الانتباه إلى موقف راويه حقًّا ليجعله موضع سخرية ونقد. من غير ريب، يبدو أن كونراد تجشَّم آلامًا كبيرة ليضع طبقات عازلة بينه وبين الكون الأخلاقي لتاريخه. لديه، مثلاً، راوٍ خلف الراوي. الراوي الرئيس هو مارلو، بيد أن وصفه يُقدَّم إلينا من خلال مِرشَحة راوٍ ثانٍ، شخص مظلِّل. ولكن إذا كانت نيّة كونراد أن يضع حاجزًا وقائيًّا بينه وبين القلق الأخلاقي والنفسي لراويه، فإن حرصه يبدو لي ضائعًا تمامًا لأنه يهمل التلميح، سواء على نحوٍ طفيف أو متردّد، إلى إطار مرجع بديل يمكننا بواسطته الحكم على أفعال شخصياته وآرائها. لن يكون فوق طاقة كونراد أن يتّخذ ذاك التدبير لو أنه فكّر أنه ضروري. يبدو مارلو بالنسبة إليّ متمتّعًا بثقة كونراد الكاملة. شعور تعزِّزه التشابهات القريبة بين مهنتي الاثنين.
يخرج إلينا مارلو ليس كشاهد على الحقيقة فحسب، بل كشخص اعتنق تلك الآراء التقدُّمية والإنسانية الملائمة للتقاليد الإنـﮔليزية الليبرالية التي اقتضت من جميع الإنـﮔليز المهذّبين أن يصابوا بصدمة عميقة جرّاء الفظاعات المرتكبة في بلغاريا أو في كونغو الملك ليوﭙولد ملك البلجيكيين أو في أي مكان. لذلك فإن مارلو قادر على إثارة مشاعر تدمي القلب كهذه:
«كانوا يموتون ببطء، كان ذلك واضحًا جدًّا. لم يكونوا أعداءً، لم يكونوا مجرمين، لم يكونوا أي شيء أرضي الآن، لا شيء سوى ظلال سوداء من المرض والجوع تضطجع بارتباك فوق كآبة خَضِرة. جُلِبوا من جميع زوايا السواحل المظلمة بعقود قانونية، ضاعوا في بيئات بغيضة، اقتاتوا طعامًا غير مألوف، حتى مرضوا، وأصبحوا غير فاعلين، وحينئذ تُرِكوا ليمضوا زاحفين وليستريحوا».
إن الليبرالية التي يعتنقها مارلو/ كونراد هنا لامست أفضل العقول في ذلك العصر في إنـﮔلترا وأوروﭙـا وأمريكا. اتّخذت أشكالًا مختلفة في عقول أناس مختلفين، لكنها تمكّنت على الدوام تقريبًا من تجنّب السؤال الجوهري للمساواة بين البيض والسود. ذلك التبشيري الرائع، ألبرت شفايتزر، الذي ضحّى بمهنتيه اللامعتين في الموسيقى واللاهوت في أوروﭙـا من أجل تكريس حياته لخدمة الأفارقة في منطقة تشبه كثيرًا المنطقة التي يكتب عنها كونراد، يوجز التناقض. في تعليق كثيرًا ما نُقل عنه، يقول شفايتزر: الأفريقي هو أخي حقًّا، ولكن أخي الأصغر. وهكذا شرع يبني مستشفى يلبي حاجات إخوته الأصغر بمعايير صحيّة تُذكِّر بالممارسة الطبية في أيام ما قبل ظهور نظرية جرثومية المرض إلى الوجود. من الطبيعي أن أَصبح مثار ضجة في أوروﭙـا وأمريكا. توافد الحجاج، وأظن أنهم ما زالوا يتوافدون حتى بعد مماته، ليشهدوا المعجزة المذهلة في "لمباريني"، على حافة الغابة البدائية.بيد أن ليبرالية كونراد ما كانت لتأخذه إلى حدّ بعيد كما أخذت شفايتزر. لن يستخدم كلمة أخ مهما كانت مهما كانت الصفة التي تحددها؛ إن أبعد ما سيصل إليه هو القرابة. عندما يسقط مُوجِّه دفّة مارلو الأفريقي والحربة مغروزة في قلبه، يُلقي على سيّده الأبيض نظرة مقلقة أخيرة.
«ما زال العمق الحميمي لتلك النظرة التي رمقني بها عندما تلقّى الطعنة باقيًا إلى هذا اليوم في ذاكرتي، مثل مطالبةٍ بقرابة بعيدة أُكِّدت في لحظة سامية».
من المهم أن نلاحظ أن كونراد، الحذِر دائما في كلماته، ليس قلقًا كثيرًا بشأن القرابة البعيدة كما هو قلق بشأن أن يدّعي أحد المطالبة بها. الرجل الأسود يطالب الرجل الأبيض بشكل لا يطاق تقريبًا. فرض هذه المطالبة هو ما يخيف كونراد ويفتنه في الوقت ذاته «التفكير في إنسانيتهم.. كإنسانيتك... بشع».
ينبغي أن تكون فكرة ملاحظاتي واضحة تمامًا حتى الآن، وهي أن جوزيف كونراد كان عنصريًّا متطرّفًا. «في النسخة الأولى المنشورة من هذا المقال، كانت الكلمة "ملعون"، وهي إهانة تجديفية ملطّفة في إنـﮔلترا، إذن "عنصري ملعون" هي العبارة الشهيرة التي يشير إليها رابِنويتز»(3). يعود التغاضي عن هذه الحقيقة البسيطة في نقد أعماله إلى حقيقة أن عنصرية الأبيض ضد الأفريقي طريقة معتادة في التفكير إلى حدّ أن تجلياتها تمرّ دون أن يُلتفت إليها مطلقًا. كثيرًا ما سيخبرك دارسو (قلب الظلام) أن كونراد لا يهتم بأفريقيا قدر اهتمامه بتدهور عقلٍ أوروﭘـيٍّ بسبب العزلة والمرض. سوف يلفتون نظرك إلى أن كونراد أقل إحسانًا إلى الأوروﭘيين في القصة منه إلى المحلّيين، وأن فكرة القصة هي السخرية من مهمة أوروﭘـا في جعل أفريقيا متحضرة. أخبرني دارس لكونراد في اسكتلندا أن أفريقيا هي مجرد مسرح لاضطراب عقل السيد كيرتز.
وهذه هي الفكرة إلى حدّ ما. أفريقيا كمسرح وستارة خلفية تحجب الأفريقي كعامل بشري، أفريقيا كساحة معركة ميتافيزيقية مجردة من كل إنسانية يمكن تعرّفها، والتي يدخلها الأوروﭘـي التائه مُعرّضًا حياته للخطر. أما من أحد بمقدوره أن يرى الغطرسة المنافية للطبيعة والحمقاء التي تَقصُر دور أفريقيا هكذا على أن تكون ديكورًا لاضطراب عقل شخص أوروﭘـي تافه؟ ولكن حتى تلك ليست هي القضية. القضية الحقيقية هي تجريد أفريقيا والأفارقة من إنسانيتهما، تجريدًا غذّاه واستمر في تغذيته في العالم هذا الموقف الطويل الأجل. والسؤال هو ما إذا أمكن رواية تحتفي بهذا التجريد من الإنسانية، وتسلب قسمًا من الجنس البشري شخصيته، أن تُدعى بعمل فني عظيم. إجابتي هي: لا، لا يمكن. لا أشكّ في مواهب كونراد العظيمة. حتى (قلب الظلام) لها فقراتها ولحظاتها الحسنة التي لا تُنسى:
«انفتح الأفق أمامنا وانسدّ خلفنا، كأنّ الغابة خطت على مهل فوق الماء لتعوق طريق عودتنا».
كثيرًا ما يكون استكشاف عقولِ الشخصيات الأوروﭘية ثاقبًا وممتلئًا بالبصيرة. لكنّ ذلك كلّه نوقش أكثر من اللازم في الخمسين سنة الأخيرة، غير أن عنصريته الجليّة لم تُعالَج. وها قد حان الوقت!
وُلِد كونراد في عام 1857، في العام نفسه الذي وصلت فيه الإرساليات الإنجيلية إلى أبناء شعبي في نيجيريا. أكيد لم يكن خطؤه أن قضى حياته في زمن كانت فيه سمعة الإنسان الأسود في مستوى متدنٍ على نحو خاص. ولكن حتى بعد الصفح عن جميع آثار التعصّب في حساسيته آنذاك، ما زال في موقف كونراد فَضْلَةٌ من كراهية للشعب الأسود، وحدها سيكولوجيته الغريبة يمكنها تفسيرها. وصفه لأول لقاء جمعه برجل أسود يكشف ذلك جيّدًا:
«ثمّة زنجيّ "أسود" ضخم صادفته في هاييتي أكّد فهمي للغضب الأعمى العنيف المسوق بالعاطفة الجامحة عندما يتجلّى في الحيوان البشري، حتى آخر يوم في حياتي. لقد اعتدت أن أرى ذاك الزنجي في أحلامي سنوات بعد ذلك». من المؤكّد أن كونراد كانت لديه مشكلة ضدَّ الزنوج. ينبغي أن يكون حبّه المفرط لتلك الكلمة ذاتها محط اهتمام المحلّلين النفسيين. وأحيانًا يبدو تركيزه على السواد مثيرًا للاهتمام على حدٍّ سواء عندما يمدّنا بهذا الوصف الموجز:
«وقف شكل أسود، خطا بقدمين طويلتين سوداوين، ملوّحًا بذراعين طويلتين سوداوين»، كأننا قد نتوقّع شكلاً أسود يخطو بقدمين سوداوين ليلوّح بذراعين بيضاوين! لكن هاجس كونراد قاسٍ جدًّا. كموضوع مثير للاهتمام يقدّم لنا كونراد، في كتابه (سجلّ شخصي)، ما يعادل أن يكون مثالاً مرافقًا لزنجي هاييتي "الأسود". في السادسة عشرة من عمره يصادف كونراد أول إنـﮔليزي في أوروﭘـا. يدعوه بـ"رجلي الإنـﮔليزي الذي لا يُنسى"، ويصفه بالطريقة الآتية:
«انكشفت ربلتا ساقيه لنظرات العامة المحدّقة ... مُبهرةً الناظر بإشراقة مظهرها الشبيه بالرخام وإضاءتها الغنية بلونها العاجي الطازج ... أضاء وجهه وعينيه المنتصرتين نور من رضًا غامر ومهيب عن بني البشر. في أثناء مروره أطلق نظرة فضولية عجلى عطوفًا، وومضة ودودًا لأسنان كبيرة سليمة وبرّاقة ... تحركت ربلتا ساقيه البيضاوان برشاقة وثبات».
حبّ غير عقلاني وكُره غير عقلاني يتصارعان داخل قلب ذاك الرجل الموهوب المعذّب. بيد أنه في حين إن الحب غير العقلاني يولّد أفعالًا طائشة حمقاء في أسوأ الأحوال، قد يعرّض الكره غير العقلاني حياة المجتمع للخطر. إنه من الطبيعي أن يكون كونراد حلم النقد التحليلي النفسي. ولعلّ أكثر دراسة مفصّلة عنه في هذا الاتجاه كتبها برنارد سي. مير (وهو طبيب). في كتابه المطوّل يتبع الدكتور مير كلّ محاولة ممكن تصورها (وأحيانًا محاولات غير ممكن تصورها) كي يشرح كونراد. يعطينا كمثال مقالات طويلة عن أهمية الشَّعر وقصّ الشَّعر عند كونراد. ومع ذلك، ما من حتى كلمة واحدة ادُّخرت لموقفه من السود. ولم تكن حتى مناقشة معاداة كونراد للسامية كافية لتومض في عقل الدكتور مير تلك الأفكار الأخرى المظلمة والمتفجّرة، الأمر الذي لا يقود المرء إلا إلى استخلاص أن المحلّلين النفسيين الغرببيين لا بدّ وأنهم يعدّون العنصرية التي يظهرها كونراد طبيعية تمامًا، على الرغم من العمل الهام العميق الذي أنجزه فرانز فانون(4) في مستشفيات الأمراض النفسية في الجزائر الفرنسية.
أيّا كانت مشكلات كونراد، قد تقولون إنه يرقد في قبره بأمان الآن. صحيح تمامًا. لسوء الحظ أن قلبه المظلم ما زال يعذّبنا. وهذا يفسّر لماذا يمكن وصف كتاب مهين وبائس من قبل باحث جادّ بأنه "بين أعظم نصف دزينة من الروايات القصيرة باللغة الإنـﮔليزية"، ولماذا هو اليوم أكثر الروايات الموصى بها في مقررات أدب القرن العشرين في أقسام اللغة الإنـﮔليزية في الجامعات الأمريكية. ثمة سببان ممكنان يمكن تفنيد ما بحوزتي من دعم لهما. الأول أنه ليس من مهمة الأدب أن يرضي الناس بشأن من يكتب عنهم. سوف أستمر في ذلك. لكنني لا أتحدث عن إرضاء الناس. أتحدّث عن كتاب يعرض متباهيًا وبأكثر الطرق سوقيّة، تعصُّبًا وإهاناتٍ عانى بسببها جزء من البشرية أَعْذِبةً وفظائعَ لا توصف في الماضي، واستمر ذلك بطرق شتى وفي أماكن كثيرة اليوم. أتحدّث عن قصة تضع إنسانية السود المجرّدة موضع تساؤل. ثانيا، قد يُعترض عليّ استنادًا إلى الواقع. كونراد، مع ذلك، أبحر إلى الكونغو في عام 1890 عندما كان والدي لا يزال طفلا يُحمل. كيف لي أن أقف بعد أكثر من خمسين عامًا بعد وفاته وأنبري لمعارضته؟ إجابتي هي أنني كرجل عاقل لن أقبل حكايات أي مسافر فقط على أساس أنني لستُ من قام بالرحلة. لن أثق في الأدلة حتى لو كانت بعيني إنسان عندما أشكّ أنها متحاملة مثل عيني كونراد. وحدث أيضا أن عرفنا أن كونراد، على حدّ تعبير كاتب سيرته برنارد سي مير، "اشتهر بعدم دقته في تقديم تاريخه الخاص".
بيد أن الأهم على الإطلاق هو الشهادة الوافية التي يمكننا جمعها عن متوحِّشي كونراد لو كنّا ميالين إلى ذلك من مصادر أخرى، والتي قد تقودنا إلى التفكير في حتميّة أن يكون لهؤلاء الناس مهن أخرى إلى جانب الاندماج في الغابة الشريرة أو التجسُّد منها ببساطة لإصابة مارلو وفرقته المكتئبة بالبلاء. لأنه وبعد فترة وجيزة من كتابة كونراد كتابه وقعت حادثة كان لها نتائج كبيرة في عالم الفن في أوروﭘـا. هكذا يصفها فرانك ويلِت، مؤرخ في الفن البريطاني:
«ذهب غوغان(5) إلى تاهيتي، الفعل الفرداني الأكثر تطرّفًا للتحوّل إلى ثقافة غير أوروﭙية في العقود السابقة واللاحقة مباشرة لعام 1900، حينما كان الفنانون الأوروﭙيون توّاقين إلى تجارب فنية جديدة، ولكن فقط فيما بين عامي 1904 و1905 بدأ الفن الأفريقي بإحداث تأثيره المميَّز. قطعة واحدة ما زال من الممكن تعرّفها؛ إنها قناع أُعطي لموريس ﭬـلامِنك(6) في عام 1905. يسجّل ﭬـلامِنك أن ديران(7) كان "عاجزًا عن الكلام" و"مذهولًا" عندما رأى القناع، فاشتراه من ﭬـلامِنك وعرضه بدوره على ﭙيكاسو(8) وماتيس(9) اللذين أيضًا تأثّرا به كثيرًا. استعاره أمبرواز ﭭولار(10) فيما بعد وسبكه بالبرونز ... كانت ثورة الفن في القرن العشرين في الطريق!»
القناع موضوع النقاش صنعه متوحّشون آخرون يعيشون تحديدًا في شمال كونغو كونراد. لهم اسم أيضًا: شعب الفانغ، وهو بلا شك من بين أعظم سادة النموذج النحتي في العالم. الحدث الذي يشير إليه فرانك ويلِت يميِّز بداية التكعيبية وضخّ حياة جديدة في الفن الأوروﭙـي، الذي كان قد استنفد قواه تمامًا. الهدف من هذا كلّه هو اقتراح أن صورة كونراد عن شعب الكونغو تبدو غير كافية بشكل فظّ حتى في ذروة خضوعه لفظاعات جمعية الملك ليوﭙولد الدولية لحضارة أفريقيا الوسطى.
إن الرحالة من ذوي العقول المغلقة يخبروننا بالقليل باستثناء ما يخبروننا به عن أنفسهم. ولكن حتى أولئك الذين لا يغشى عيونهم رهاب الأجانب، مثل كونراد، يمكن أن يكونوا عميانًا بشكل مذهل. لأستطرد هنا قليلا. سافر أحد أعظم الرحالة وأكثرهم جسارة على مرّ الأزمان، ماركو ﭙولو، إلى الشرق الأقصى من البحر الأبيض المتوسط في القرن الثالث عشر، وقضى عشرين عامًا في بلاط قوبلاي خان في الصين. ولدى عودته إلى البندقية دوّن في كتابه المعنون (وصف العالم) انطباعاته عن الناس والأماكن والعادات التي رآها. ولكن كان هناك على الأقل حذف لحدثين استثنائيّين في وصفه. لم يذكر شيئًا عن فن الطباعة، الذي كان ما زال مجهولا في أوروﭙـا ولكنه في كامل ازدهاره في الصين. إما لأنه لم يلحظه مطلقًا وإما -إن كان قد لحظه- أنه فشل في رؤية كيف يمكن لأوروﭙـا أن تستفيد منه. أيًّا يكن السبب، كان على أوروﭙـا أن تنتظر مائة سنة أخرى لغوتنبرغ. بيد أن الأكثر إذهالًا، كان حذف ماركو ﭙولو أيّ إشارة إلى سور الصين العظيم الذي يبلغ طوله 4000 ميل تقريبًا، وكان قد صار عمره ألف عام في وقت زيارته. مرة أخرى، لعلّه لم يره، لكن سور الصين العظيم هو البناء الوحيد للإنسان الذي يُرى من القمر! حقًّا يمكن أن يكون الرحالة عميانًا.
كما قلت سابقًا، لم يخترع كونراد صورة أفريقيا التي نجدها في كتابه. كانت وما زالت هي الصورة السائدة عن أفريقيا في الخيال الغربي، وكونراد جلب مواهبه العقلية الغريبة فحسب ليؤثر فيه. لأسباب يمكن استخدامها بالتأكيد في بحث سيكولوجي مُحكم، يبدو أن الغرب يعاني قلقًا عميقًا إزاء هشاشة حضارته، وأنه بحاجة إلى طمأنة مستمرة بمقارنته بأفريقيا. لو قُيِّض لأوروﭙـا، المتقدِّمة في الحضارة، أن تلقي -على نحو دوري- نظرة إلى الخلف، إلى أفريقيا العالقة في بربرية بدائية، لأمكنها القول بإيمان وإحساس: تلك أنا لولا رحمة الرب. أفريقيا بالنسبة إلى أوروﭙـا كالصورة بالنسبة إلى دوريان غراي(11)؛ حمّال يُفرغ فيه سيّده تشوهاته الجسدية والأخلاقية حتى يتمكّن من التقدّم منتصبًا ونقيًّا. وبالتالي أفريقيا شيء ينبغي تجنّبه تمامًا كما ينبغي للصورة أن تُخبّأ بعيدًا لحماية استقامة الرجل المعرّضة للخطر. ابق بعيدًا عن أفريقيا وإلا! كان ينبغي للسيّد كيرتز، بطل (قلب الظلام) أن ينتبه إلى ذلك التحذير، وكان الرعب الجائس في قلبه سيحتفظ بمكانه، مقيّدًا إلى مخبئه. لكنه عرّض نفسه بحماقة لإغراء الدّغل البرّي الذي لا يُقاوَم فكان أن اكتشفه الظلام.
في مفهومي الأصلي لهذا المقال كنت قد فكّرت بإنهائه، على نحوٍ لطيف، بملاحظة إيجابية مناسبة أقترح فيها من موقعي المتميز في الثقافتين الأفريقية والغربية بعضَ المزايا التي يمكن أن يستنتجها الغرب من أفريقيا ما إن يخلّص عقله من التحيّزات القديمة ويبدأ النظر إلى أفريقيا ليس من خلال تشوهات مضبّبة وغموض رخيص، بل ببساطة كبيرة من خلال كونها قارّة من البشر، ليسوا ملائكة، ولكنهم ليسوا أرواحًا بدائية أيضًا، بشر وحسب، هم في أحوال كثيرة بشر موهوبون، وفي أحوال كثيرة أخرى ناجحون بشكل لافت للنظر في مشاريعهم مع الحياة والمجتمع. لكنني لمّا فكرت أكثر في الصورة النمطية، في قبضتها وانتشارها، في العناد المتعمَّد الذي يحمله الغرب في قلبه؛ عندما فكرت في تلفزيون الغرب وسينماه وصحفه، في الكتب المقروءة في مدارسه وخارجها، في الكنائس وهي تَعِظ المقاعد الخاوية بالحاجة إلى إرسال المساعدة إلى الوثنيّ في أفريقيا، أدركتُ أنه ما من تفاؤلٍ سهلٍ ممكن. وكان هناك، على أيّة حال، شيء خاطئ تمامًا في تقديم رُشىً للغرب لقاء رأيه الجيد في أفريقيا. في النهاية يجب أن يكون هجر الأفكار الضارّة مكافأته الخاصة والوحيدة. على الرغم من استخدامي كلمة متعمَّد عدة مرات هنا لوصف رأي الغرب في أفريقيا، قد يكون من الجيد القول إن ما يحدث في هذه المرحلة أقرب إلى الفعل المنعكس منه إلى الخبث المحسوب، الأمر الذي لا يجعل من الوضع أكثر تفاؤلًا بل أقل تفاؤلًا.
نشرت صحيفة كريستيان ساينس مونيتر ذات مرة -وهي صحيفة أكثر استنارة من غيرها- مقالاً هامًّا كتبه محررها التعليمي حول المشكلات النفسية والتعلُّمية الجسيمة التي يواجهها الأطفال الصغار الذين يتحدثون لغة في المنزل وعندما يذهبون إلى المدرسة يتحدثون لغة أخرى. كان مقالًا واسع المجال يتناول الأطفال متحدثي الإسـﭙانية في أمريكا، وأطفال العمّال الإيطاليين المهاجرين في ألمانيا، والظاهرة الرباعية اللغات في ماليزيا، وهَلُّمَّ جرّا. وكل هذا حين يتحدث المقال بشكل لا لبس فيه عن اللغة، ثم ودون سابق إنذار يأتي ما يأتي:
«هناك في لندن أعداد هائلة من الأطفال المهاجرين الذين يتحدثون اللهجات الهندية أو النيجيرية، أو أية لغة وطنية أخرى.»
أعتقد أن إدخال اللهجات في هذا السياق، وهو خاطئ من الناحية الفنية، يكاد يكون رد فعل انعكاسيًّا سبّبته رغبة الكاتب الغريزية في إنزال النقاش إلى مستوى أفريقيا والهند. وهذا مماثل تمامًا لحجب كونراد اللغة عن أرواحه البدائية. اللغة أكثر فخامة من هؤلاء الرجال؛ لنمنحهم اللهجات! في هذا الموضوع كلّه يُمارَس كثير من العنف بشكل حتمي ليس فقط على صورة شعب محتقَر، بل حتى على الكلمات، أدوات الإصلاح ذاتها. انظروا إلى جملة اللغة الوطنية في مقتطف صحيفة ساينس مونيتر. من المؤكد أن اللغة الوطنية الوحيدة الممكنة في لندن هي الإنـﮔليزية الكوكنيَّة(12). لكن كاتبنا يقصد شيئًا آخر، شيئًا يناسب الأصوات التي يصدرها الهنود والأفارقة!
على الرغم من أن العمل الإصلاحي الذي ينبغي القيام به قد يبدو مثبِّطًا جدًّا، أعتقد أنه لن يبدأ في يوم قريب جدًّا. رأى كونراد شرور الاستغلال الإمبريالي وأدانه، لكنه لم يعِ، على نحو غريب، العنصرية التي شحذت بها الإمبرياليةُ أسنانَها الحديدية. بيد أن ضحايا الافتراء العنصري -الذين كان عليهم أن يُعايشوا قرونًا المعاملة الوحشية التي جعلهم الافتراء العنصري ورثتها- طالما خَبِروا هذه الوحشية أفضل من أي زائر عارض، حتى وإن جاء محمّلا بمواهب كونرادية.
المصدر والإشارات:
http://kirbyk.net/hod/image.of.africa.html
(1) يستخدم أتشيبي اقتباسات كثيرة من (قلب الظلام)، أضعُها هنا بين أقواس. اطّلعتُ على ترجمة عربية للرواية كنتُ على وشك اعتمادها في الفقرات المقتبسة في المقال، ولكنني بعد مقارنتها بالأصل فوجئت بحجم الأخطاء المهولة في الترجمة، والتي لم تقتصر على ركاكة اللغة، بل تعدّتها إلى إساءة فهم كثير من المقاصد التي يرمي إليها كونراد، ناهيك عن إغفال كثير من العبارات الاصطلاحية وترجمتها حرفيّا. أعدتُ ترجمة الفقرات المقتبسة مستعينةً بالقواميس اللازمة وباستشارة من لهم باع في اللغة والأدب، آمِلةً أن تكون ترجمتي هذه، سواء للفقرات المقتبسة أو للمقال ذاته، مناسبة ولا تلتبس على القارئ.
(2) كلمة "مِستاه" هنا تحريف لـ"مِستر"، نطقها الرجل الأسود هكذا لافتقاره إلى التحدّث بإنـﮔليزية صحيحة، وللسبب ذاته لم ينجح في استخدام الفعل "مات" بل الصفة "ميّت".
(3) ﭘيتر جي. رابِنويتز: أستاذ الأدب المقارن في كليّة هامِلتون بنيويورك، والذي كتب مقالًا بعنوان: "استجابة قارئ، مسؤولية قارئ: (قلب الظلام) وسياسة الانزياح"، مشيرًا فيه إلى عبارة "عنصري ملعون" التي استخدمها أتشيبي في النسخة الأولى من هذا المقال.
(4) فرانز عُمر فانون (1925-1961): طبيب نفسي وفيلسوف اجتماعي أسود، عُرِف بنضاله ضد التمييز والعنصرية. عمل طبيبًا عسكريًّا في الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي، وعالج ضحايا طرفي الصراع على الرغم من كونه مواطنًا فرنسيًّا.
(5) ﭙول غوغان (1848-1903): رسام فرنسي استقرّ في تاهيتي في عام 1891 عندما كانت مستعمرة فرنسية، ورسم العديد من اللوحات عن تاهيتي وشعبها.
(6) مصوّر فرنسي (1876-1958).
(7) أندريه ديران (1880-1954): فنان فرنسي.
(8) ﭙـابلو ﭙـيكاسو (1881-1973): فنان إسـﭙاني.
(9) هنري ماتيس (1869-1954): رسّام فرنسي.
(10) تاجر أعمال فنيّة فرنسي.
(11) رواية للكاتب الأيرلندي أوسكار وايلد.
(12) لهجة إنـﮔليزية يتحدث بها أبناء لندن، خصوصًا في أقصى الشرق منها.