منذ سنوات وأنا أقرأ ما ينشره الأستاذ عبده وازن في صحيفة (الحياة) وخصوصاً حين يتناول كتاباً معيّناً بالدرس والتحليل، وما أزال أذكر إفادتي الكبيرة منه حين عرض لكتاب (صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث) لجويا بلندل سعد، ونشر ما كتبه عن هذا الكتاب في (الحياة) بتاريخ 26/3/2008، إذ هداني إلى ذلك الكتاب أولاً، وحرصت على اقتنائه، وقراءته ثانياً، وكتبت عنه دراسة مفصّلة ثالثاً، ونَشَرتْ بعض المواقع الالكترونية تلك الدراسة، وفي مفتتحها إشارة إلى الأستاذ وازن، وحديثه عن ذلك الكتاب. هذا ما يجب أن يقال، وما يجب أن يقال أيضاً أنّه عمد إلى ديوان الحلاج فأخرجه بنشرة جديدة، وقد تناهى إلى سمعي خبر هذه النشرة، وقرأت عنها في (الحياة) مقالاً كتبته (مايا الحاج)، جاء تحت عنوان (ديوان الحلاج في مقاربة معاصرة) (تنظر الحياة، الأربعاء، 12/9/2012)، وهو مقال يعرّف بالديوان، وعمل الأستاذ وازن فيه، ولم تقترب صاحبته من جهد الأستاذ وازن في (التحقيق)، بل اكتفت بسؤال هو: (لماذا هذان الباحثان – ماسينيون والشيبي- دون كلّ مَنْ كتب، ودرس، وغاص في عوالم الحلاج المتداخلة؟)، في إشارة منها إلى اعتماد الأستاذ وازن على ماسينيون، ود. كامل مصطفى الشيبي في إخراج نسخته الخاصة، وتجيب: «ربّما في انتقاء الباحث لهذين الباحثين رغبة منه في تقديم مقاربتين معاصرتين من الشرق، والغرب توصلانه في نهاية المطاف إلى إيجاد صيغة ثالثة، ومعاصرة تعرّفنا بوضوح أكثر، وأخطاء أقلّ إلى شخصية صوفية جدلية كبيرة مثل الحلاج، فأكمل – وازن- ما فات الأول من خلال الثاني، والعكس أيضاً». ومعلوم أنّ هذا الجواب ليس من علم التحقيق في شيء كما سنرى، ولذلك حرصت على اقتناء نشرة الأستاذ وازن وقراءتها، وتبدّت بعد القراءة أمور هي التي أعرض لها في هذه الدراسة.
صدر (ديوان الحلاج) باعتناء الأستاذ وازن عن دار الجديد شتاء سنة (2013) كما ورد في الصفحة الرابعة، نعم سنة (2013)، وليس سنة (2012)، وهي السنة التي نزل فيها إلى الأسواق، فهكذا تصنع بعض دور النشر لتسويق مطبوعاتها حين تقترب السنة من الانتهاء فتحيل إلى التي تليها، فإذا تأخر قارئ ما عن شراء الكتاب في السنة التي صدر فيها، واقتناه في السنة التي تلتها ظنّ أنّ الكتاب صادر في السنة التي اقتناه فيها، وليس لي من تعليق على هذا الأمر، فغيري أقدر على الخوض فيه، وهناك إشارة أخرى في الصفحة نفسها وهي الرابعة، إلى أنّ هناك طبعة أولى صدرت عن الدار نفسها ربيع سنة 1998، وقد اطّلعت على تلك الطبعة أيضاً فإذا هي نفسها لم تتغيّر في هذه الطبعة الجديدة حتى في الحجم ونوع الخطّ، بمعنى أنّ الطبعتين واحدة على ما بينهما من مسافة زمنية.
منذ ثلاثين سنة، وتزيد ظلّ (الحلاّج)، وديوانه، وطواسينه، وأخباره، واستشهاده موضع اهتمامي، ومحطّ عنايتي، غير أنّ أمرين مفصليين وقعا زادا من اهتمامي بالحلاّج، وديوانه، وأخباره، وكلماته، أمّا أوّلهما فهو تولّي أستاذنا الدكتور كامل مصطفى الشيبي تغمّده الله برحمته، وهو الناشر الثاني لديوان الحلاّج. أقول: تولّي د. الشيبي التدريس بجامعة آل البيت – المملكة الأردنية الهاشمية، لمدّة عامين دراسيين كما أتذكّر، والجامعة – كما هو معروف- تقع في مدينة (المفرق)، غير أنّ الأستاذ فضّل أن يسكن في العاصمة (عمّان)، وكانت فرصة نادرة للاقتراب من الأستاذ، والتحدّث معه من خلال زيارات متباعدة كنت أقوم بها إليه، سواء بمفردي أم بصحبة صديقي المحامي عدي القزويني، وكان حديثاً متشعّباً، ذا طرق ومسالك، غير أنّ الحلاج وديوانه كان النجم الساطع في تلك الأحاديث، والصعوبات التي واجهها الأستاذ في تحقيق الديوان، ونشره. ومع الحلاج، وحديثه الذي لا ينقطع، كتب الأستاذ الأخرى: (الصلة بين التصوف والتشيع) بجزئيه الكبيرين، ودراساته الرصينة المنشورة في المجلات العلمية المحكّمة، وخزينه المعرفي الكبير، غير أنّني لحظت أنّ الأستاذ الشيبي يولي الحلاج عناية خاصة، بحيث تجعله تلك العناية في صدارة اهتماماته، وكأنّ هناك خيطاً رفيعاً يربطه بالحلاج. أهي الغربة؟ أهو البعد عن الوطن؟ أهو الافتقار إلى النظير؟ وهنا يحضر البيتان النافذان، الموجعان اللذان يعبّران عن حالة فريدة، وهما:
وإنّي غريب بين بُست وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وما غربة الإنسان في غربة النوى ولكنها – والله- في عدم الشّكْلِ
والشكل هنا هو الشبيه، والقريب في الفكر، والتوجّه، وحين يُفتقد هذا (الشكل) تضيق الدنيا حتى تصبح أضيق من ظلّ الرمح كما تقول العرب، مع أنّها في الظاهر، السطحي، واسعة، ليّنة، ولا يدرك هذا سوى أصحاب الوعي المرهف، والإدراك الحسّاس. أقول: هل كان الإحساس بالفقد يتقحّم على الأستاذ فكره فيشعر بالغربة؟ وأزيد لأضيف إلى تلك الأسئلة سؤالاً أخيراً، وهو: أهو انتظار الموت كما كان صنيع الحلاج في حياته كلّها، ثم أليس هو القائل مخاطباً بعض الناس: «اعلموا أنّ الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني» (أخبار الحلاج، اعتنى بتصحيحه ونشره ماسينيون، وبول كراوس، ص74). أسئلة لم أجد لها أجوبة، ويظلّ الحلاج هو البؤرة التي تشعّ منها الأضواء. ولعلّ زيادة الاهتمام بالحلاج من جانبي، واكتسابه أبعاداً كثيرة مردّه إلى تلك اللقاءات، والحديث المفعم بالعمق، والرصانة التي كان يدور فيها.
هذا عن الأمر الأول، أمّا الثاني فهو انشغالي لما يقرب من سبع سنوات بتحقيق كتاب هو من عيون التراث الإباضي العماني هو (إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك)، للشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي، الذي صدر بعد هذا عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، سنة 2011، فقد خصّ الشيخ ناصر في هذا الكتاب تائيتيْ ابن الفارض: الصغرى، والكبرى بعنايته، وصنع من خلال شرحه لهما كتاباً تتبّع فيه مسار ابن الفارض الروحي، فقدّم بذلك عملاً فذّاً في الدراسات (الفارضية) لا نجد له نظيراً حين كشف ذلك التلازم الحميم بين التائيتين، إذ أنّ قراءة واحدة منهما بمعزل عن الأخرى فَصْم مؤكّد لذلك المسار الروحي الذي لا يمكن فهمه، والوصول إليه إلاّ بهما معاً، وصار ديوان (الحلاج). ماذا أقول؟ صار (تراث) الحلاج سميري، وأُنسي في تلك السنوات، ومعه عشرات من مصادر التصوف الأخرى، فإذا علمنا أنّ للـ(سلوكيين) الإباضيين موقفاً من الحلاج أدركنا صعوبة السير في تلك (المفازة)، وضرورة توخّي الحذر في التعامل مع النّص الحاضر، ونصّ الحلاج الغائب معاً، ولن أزيد. فهذا عن الأمرين اللذين وثّقا علاقتي بالحلاج، وديوانه، وجعلا من ذلك الديوان موضع عنايتي، ومحطّ اهتمامي، وقراءتي المستمرة فيه، ناهيك عن حياة الحلاج القلقة، الصاخبة، ونهايتها المفجعة ممّا لا يخفى على الدارسين، وخصوصاً الأستاذ عبده وازن، وهو الخبير.
وحين انتهيت من قراءة (ديوان الحلاج) الذي أعدّه الأستاذ وازن، وقدّم له، كما هو مثبت على الغلاف. أقول بعد أن انتهيت من القراءة تبادر إلى ذهني سؤال هو: لماذا يعمد (باحث)، أو (محقّق) إلى نشر ديوان كان قد نُشر غير مرة قبله؟ ولعلّ جواباً ما سيقفز ليقول: لعلّ هذا (الباحث) وجد في الطبعات السابقة نقصاً ما فعمد إلى هذا النشر (الجديد). وهنا أويت إلى ما أعرفه عن أصول تحقيق النصوص، وقواعده، وفي مسألة محدّدة، وهي إعادة نشر ما كان قد نُشر سابقاً، فوجدت المشتغلين بالتحقيق، والمؤلّفين فيه يُجمعون على أنّ النشر (الجديد) لا يحقّق الغرض منه إلاّ وفق الاعتبارات الآتية:
أولاً: أن يكتشف الناشر (الجديد) نسخة، أو نسخاً من المخطوط لم يطّلع عليها مَنْ قام بالتحقيق (الأول)، بسبب عدم معرفته بها، أو كسله عن تتبّع نسخ المخطوط جميعها. وعند هذا ستقدّم هذه النسخة، أو النسخ (الجديدة) قراءات مختلفة، وإضافات محتملة.
ثانياً: ويشترطون كذلك أن تقدّم تلك النسخ (الجديدة) إضافات أغفلها النشر الأول، وأخلّ بها، أو (تصحيحات) عدّلت من بناء النّص، فأكسبته قيمة علمية، ورصانة منهجية.
ثالثاً: أن يأتي التحقيق (الأول) حافلاً بالأخطاء، والنقص، فأمّا الأخطاء فغالباً ما يكون مردّها إلى سوء قراءة النّص المخطوط، وقلّة التمرّس في التعامل مع المخطوطات، والتغاضي عن الأخطاء الطباعية، وأمّا النقص فأن يُنشر ذلك التحقيق (الأول) غفلاً من مقدمة للتحقيق، أو الإشارة إلى اختلاف النسخ إن كان قد نُشر اعتماداً على عدّة نسخ، أو يأتي النشر خلواً من التعليقات الضرورية، أو الفهارس الفنية ممّا يعرفه أهل هذا العلم.
فهل انطبقت تلك الاعتبارات، أو بعضها على النشرات السابقة لـ(ديوان الحلاج)؟ وهل عمد الأستاذ وازن إلى تلافي تلك النواقص، أو بعضها في تلك النشرات. وقبل الإجابة عن تينك السؤالين أقدّم ما توصّلتُ إليه من تحقيق (ديوان الحلاج)، ونشره قبل سنة 1998، وهي سنة النشرة الأولى للأستاذ وازن للديوان، وبعد تلك السنة، إلى سنة 2012، وهي السنة التي صدر فيها الديوان بطبعته الثانية كي تتبيّن لنا جهود (الباحثين) في الاعتناء بهذا الديوان من جهة، ومدى اعتمادهم على المخطوطات في النشر من جهة ثانية:
1. ذكر الأستاذ وازن في مقدمته للديوان أنّ المستشرق (لويس ماسينيون) هو أول مَن نشر (ديوان الحلاج) معتمداً على ستّ نسخ مخطوطة، وكان ذلك في سنة 1914، وهذا ممّا لا غبار عليه.
2. وذكر أيضاً أنّ د. كامل مصطفى الشيبي حقّق الديوان معتمداً على النسخ المخطوطة السابقة التي اعتمدها ماسينيون، (وأضاف إليها كتابين منشورين، الأول عبارة عن رسالة كان نشرها ماسينيون نفسه في إحدى المجلات السويدية التي تصدرها جامعة أوبسالا عام 1954، والثاني قصة حسين الحلاج وما جرى له مع علماء بغداد، طبع في حلب بلا تاريخ، وأعيد طبعه في القاهرة) (ينظر الديوان، ص71)، وصدر سنة 1974، ثم عاد فأصدره ثانية سنة 1984، وممّا يجب ذكره هنا أنّ سنة 1974 التي يجعلها الأستاذ وازن سنة لإصدار (شرح ديوان الحلاج) ليست دقيقة، إذ هي سنة 1973 كما هو مثبت في الطبعة نفسها. وأمّا بالنسبة إلى طبعة سنة 1984 فمّما تجب إضافته أنّ دار الجمل – كولونيا- ألمانيا قد أعادت نشر هذه الطبعة سنة 1997، وأضافت إلى الديوان كتاب (الطواسين)، وهو للحلاج أيضاً – كما هو معلوم- بتحقيق بولس نويا اليسوعي، وهذا من غرائب النشر في أيامنا هذه، وقد جعل الأستاذ وازن هاتين الطبعتين – ماسينيون، والشيبي- معتمده في نشر الديوان، ولهذا الموضوع وقفة أخرى غير هذه.
3. نُشِر (ديوان الحلاج) مرتين في الصحيفة الآسيوية الفرنسية سنة 1931، وسنة 1955. (ينظر المكتبة الشعرية في العصر العباسي. د. مجاهد مصطفى بهجت، ص161)، وقد أشار الأستاذ وازن إلى هاتين الطبعتين، وأضاف إليهما ثالثة صدرت سنة 1981.
4. ديوان الحلاج. جمعه وقدّم له سعدي ضناوي. بيروت. دار صادر. سنة 1988. جعل الأستاذ سامي مكارم هذه الطبعة من مصادره في كتابه (الحلاج. في ما وراء المعنى والخطّ واللون). دار رياض الريس. سنة 2004.
5. صدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر، سنة 2002 ما سمّاه ناشره، وهو الأستاذ قاسم محمد عباس بـ (الحلاج – الأعمال الكاملة)، وضمّ هذا المجلّد ما يأتي: التفسير – الطواسين – بستان المعرفة- نصوص الولاية- المرويات- الديوان)، ولم يصرّح الأستاذ عباس عن ماهيّة عمله: أهو تحقيق، أم إعداد، أم نشر فحسب؟ إذ اكتفى بوضع اسمه في أعلى العنوان ليأتي بعده العنوان، وهو الذي سقناه سابقاً، وهناك كلام كثير يقال عن هذه (النشرة) ليس هنا موضعه.
6. وهناك طبعات أخرى أقرب إلى أن تكون (تجارية) اكتفت بأن نقلت نشرة ماسينيون، أو الشيبي، بلا ذكر لهما، وتنضوي هذه الطبعات تحت ما يصطلح عليه بـ (النسخ المهدرة).
هذا ما تمكّنت من الوصول إليه من طبعات (ديوان الحلاج)، وهي تشير إلى اهتمام مستمرّ به، وعناية بنشره، غير أنّنا نعود إلى ما وقفنا عنده سابقاً، وهو اعتبارات نشر نصّ كان قد نُشر سابقاً غير مرة، وأكرّر السؤال الذي تقدّمت به سابقاً، وهو: هل انطبقت تلك الاعتبارات، أو بعضها على نشرة الأستاذ وازن؟ أعتقد أنّ الإجابة لن تكون إلاّ بالنفي، وذلك لاعتبارات موضوعية أخرى، وهي:
أولاً: جعل الأستاذ وازن نشرتيْ (ماسينيون)، و(الشيبي) لديوان الحلاج معتمده في نشر الديوان مرة ثالثة، أو رابعة، وذلك حين يقول: «في تحقيقي للديوان انطلقتُ ممّا أنجزه ماسينيون، والشيبي، فقارنت بين صنيعهما ساعياً للوصول إلى صيغة جديدة تجمع ما فات الأول، وورد لدى الثاني، وما فات الثاني، وورد لدى الأول» (تنظر نشرة الأستاذ وازن، ص72-73)، فماذا يعني هذا الكلام؟ إنّه يعني من ضمن ما يعنيه أنّ الأستاذ وازن لم يرجع إلى نسخ مخطوطة بغية إخراج الديوان، واكتفى بالمطبوع وحده، وهذا يعني أيضاً أنّه أهدر الاعتبارات الثلاثة المتقدمة دفعة واحدة حين غاب (المخطوط) – وهو المصدر الأصيل، والوحيد- عن العمل كلّه، وحضر المطبوع فقط، ممّا يؤدي إلى أن يكتنف الشك العلمي العمل برمّته بحسبان افتقاد (الناشر) للوثيقة الأصيلة التي ينطلق العمل المنهجي للتحقيق منها، وهذا يعني أيضاً أنّ الأستاذ وازن اقتنع – بلا اطلاع- بقراءة ماسينيون، والشيبي لمخطوطات الديوان ثقة به فيهما، والثقة في هذا الموضع بعينه غير واردة أصلاً لضرورة أن يطّلع (المحقّق) نفسه على المخطوطات، وتتكوّن من خلال هذا الاطلاع قراءته الخاصة التي هي صلب العمل، وعموده.
ثانياً: ولعلّ ذلك الاعتبار الأول ساق إلى اعتبار ثانٍ أوقع الأستاذ وازن في (التناقض)، وهو الآفة التي تصيب الأعمال الفكرية، والسوس الذي ينخر فيها، ذلك أنّه وصف عمله بأنّه (تحقيق) في النّص الذي أثبتناه فوق، بينما يصف العمل نفسه في صفحة الغلاف بـ (الإعداد والتقديم)، فإمّا أن يكون العمل تحقيقاً، وإمّا أن يكون إعداداً، ومحال اجتماعهما في عمل واحد، فلكلّ واحد منهما شرائطه، وخطواته، ونتائجه التي تختلف عن الآخر اختلافاً بيّناً، وأعتقد أنّ (الإعداد) هو الوصف الدقيق لهذا العمل، إذ ليس فيه من التحقيق، ومتطلباته شيء.
ثالثاً: وهكذا لم تزد نشرة الأستاذ وازن على أن تكون (تلفيقاً) بين نشرتين سابقتين، وأسارع فأقول إنّ مصطلح (التلفيق) لا يراد به السخرية، أو التهوين بأيّ عمل حين يوصف به، ففي لسان العرب (10/330-331، مادة لفق): (تلافق القوم: تلاءمت أمورهم ... ويقال للرجلين لا يفترقان: لفِقان)، وصاحب اللسان نفسه يشير إلى عمله الكبير بأنّه (جمع). يكتب: «وليس لي في هذا الكتاب – أي لسان العرب- فضيلة أمتّ بها، ولا وسيلة أتمسّك بسببها، سوى أنّي جمعت فيه ما تفرّق في تلك الكتب من العلوم، وبسطت القول فيه، ولم أشبع باليسير، وطالب العلم منهوم» (لسان العرب، 1/8). وانتقل هذا المدلول اللغوي، أي التلفيق، إلى الاصطلاح حين يسردون أنواع الكتابة مثل: التصنيف، والتأليف، والتذييل، والحواشي، ويأتي (التلفيق) معها الذي يعني إخراج عمل تأليفي جديد بالاعتماد على نصيّن سابقين، أو أكثر من نصّين في الموضوع نفسه، وذلك من خلال الجمع، والضمّ، والحذف، والاختصار، والزيادة، بحيث لا تخرج تلك الأفعال عن نطاق تلك النصوص المختارة سابقاً، وهو عين ما نراه في صنيع الأستاذ وازن مع ديوان الحلاج، وما لنا نذهب بعيداً، والأستاذ وازن نفسه يصف عمله بـ (الجمع) حين يكتب: «ولست أدّعي أكثر من أنّني حاولت الجمع بين صيغتين لديوان الحلاج بغية الخلوص إلى صيغة ثالثة حديثة، ومعاصرة، تُقرأ بوضوح، وتخلو، ما أمكن، من الأخطاء» (ينظر، ص74)، فليست هذه (الصيغة) الثالثة سوى نتيجة من نتائج (التلفيق)، و(الجمع) الذي تبنّاه الأستاذ وازن في عمله. وأضيف للفائدة أنّ عبدالقادر البغدادي صاحب كتاب (خزانة الأدب)، توقّف في كتاب آخر له هو (شرح شواهد المغني) عند تلك الأنواع سارداً أصنافها، ومبيّناً الاختلاف بينها.
رابعاً: ووفق ما تقدّم فإنّ (نشرة) الأستاذ وازن لا تعدو أن تكون نسخة أخرى من نشرتيْ (ماسينيون)، و(الشيبي) معاً، وأمّا ما ورد فيها من قراءات اجتهادية لبعض الكلمات، أو تصويبات لبعض البحور فكان من الممكن أن تُجمع في حيّز واحد، وتُنشر على هيئة مقال استدراكي على كلتا النشرتين، وهو أمر معروف عند (المحقّقين) الذين يقدّمون خدمات طيّبة لتقويم النصوص المنشورة، وتصحيحها. غير أنّنا لن نغادر هذا الموضع قبل التوقّف عند نقطتين محوريتين هما عمود هذا البحث، ولعلّ الثانية منهما كانت السبب الرئيس الذي حدا إلى تعقّب (نشرة) الأستاذ وازن، والكتابة عنها.
وتتمثّل النقطة الأولى في (المقدمة) الطّيبة التي صدّر بها الأستاذ وازن الديوان، وارتأى أن يسمّيها بـ (الحلاج: مقاربة معاصرة بمثابة تقديم)، وجاءت بحدود سبع وخمسين صفحة، حَوْصَل – على مذهب إخواننا المغاربة – الأستاذ وازن فيها مسرى الحلاج الروحي، وتجاذباته الفكرية، وآراء بعض الباحثين فيه، ونهايته المفجعة. كلّ ذلك بأسلوب ممتع، سلس، معتمداً على جمهرة من المصادر، والمراجع المعتبرة، فأضاف بهذه المقدمة الرصينة زاداً نافعاً إلى تراث الحلاج الذي كُتب فيه الكثير، ولم تُقَل فيه الكلمة النهائية حتى الآن بسبب خصوبته، وعمقه، وتنازع الآراء فيه.
أمّا النقطة الثانية فأسوقها على هيئة (الأمنية) التي أرجو من الأستاذ وازن أن يحقّقها، وخصوصاً بعد اعتنائه بالحلاج، ومصادره. وأنطلق في هذه النقطة من مقولة للأستاذ وازن نفسه، بل مقولات، وذلك حين يكتب: «ولكن ما من باحث عربي استطاع أن يصرف الجهد، والوقت اللذين صرفهما ماسينيون في عمله على الحلاج، إذ كرّس له أكثر من خمسين عاماً، منقّباً عن آثاره، مصنّفاً إيّاها، وجامعاً مصادرها، ولو لم يتوفّر باحث دؤوب، وشغوف بالإسلام، والصوفية، ووفيّ للحلاج مثل ماسينيون، لما كان للحلاج أن يخرج من ظلمة المتون، والمصادر القديمة، وأن ينفرد بعض آثاره في كتب مستقلّة. ويكفي أن نرجع إلى المؤلَّف الضخم الذي وضعه ماسينيون عن الحلاج، وكان بمثابة رسالة جامعية تقدّم بها لنَيل شهادة الدكتوراه في العام 1922، لندرك مبلغ افتنانه بالحلاج، والإسلام، وعمق ثقافته الإسلامية» (ينظر، ص13-14)، ويكتب أيضاً: «وكان ماسينيون خلال إعداده أطروحته الجامعية عن الحلاج بين عامي 1908 و1914 راسل الأب لويس شيخو مستوضحاً إيّاه عن مسائل ترتبط بالحلاج، والصوفية» (ينظر، ص51)، ويصف ثالثةً كتاب ماسينيون عن الحلاج بـ (الضخم) (ينظر، ص52)، ورغبة منّي في دعم ما ذهب إليه الأستاذ وازن عن أهمية كتاب ماسينيون عن (الحلاج) أقدّم مجموعة من الحقائق رافقت عمل ماسينيون، وهو يؤلف كتابه، ويجمع مادّته، إذ لم يكن الأب لويس شيخو هو الوحيد الذي راسله ماسينيون مستوضحاً إياه عن مسائل ترتبط بالحلاج، والصوفية، إذ راسل غيره من العلماء يسألهم عن الحلاج، وأحواله، ومؤلفاته، ممّا يشير إلى دأب نادر، واهتمام متصل به. فمن المعروف أنّ أول مَن لفت نظر ماسينيون إلى الحلاج هما الآلوسيان: السيد محمود شكري الآلوسي (1875-1924)، والسيد علي علاء الدين بن نعمان الآلوسي (1865-1922). ويشير ماسينيون نفسه صراحة إلى هذا الأمر في رسالة منه إلى الأب أنستاس ماري الكرملي بتاريخ 18/7/1908 حين يكتب: «كتبت هذا الصباح إلى الآلوسيَيْن في بغداد، فهما اللذان جعلاني أفكّر بالحلاج، وإليهما يرجع الفضل بمعرفتي للحقيقة. إنّها الحقيقة» (ماسينيون في بغداد. علي بدر، ص136)، وظلّ يراسلهما سائلاً عن الحلاج، وموضوعات علمية أخرى. كما دأب ماسينيون على مراسلة الأب أنستاس ماري الكرملي مستفسراً عن الحلاج، ومخطوطات مؤلفاته. يكتب مثلاً بتاريخ 1/8/1908: «أبتي المبجّل وصديقي ... يشيرون عليّ في الوقت ذاته إلى مخطوطة جديدة عن الحلاج، أليست هي صلة العريب؟ أظنّ ذلك. إنّهم ينسخونها الآن، وهي تعود إلى الشيخ سعيد» (ماسينيون في بغداد، علي بدر، ص140)، ويكتب أيضاً بتاريخ 24/10/1908: «أبتي المبجّل وصديقي... لا أعلم كيف أشكرك على نسخ المخطوطة التي تتناول الحسين بن منصور الحلاج. لمن تعود هذه المخطوطة؟ إن كان بإمكانك أن تضع يدك على أخبار الحلاج، أو على مقابر بغداد لتاج الدين البغدادي، ابن الساعي المتوفى (674-1274م) والتي كان قرأها حاجي خليفة في استنبول، سيكون أمراً لا يقدّر بثمن» (ماسينيون في بغداد. علي بدر، ص151)، ويكتب أخيراً بتاريخ 29/4/1909: «أبتي المبجّل وصديقي. كم أنا ممتنّ لك بهذه الملاحظة. أقصد ملاحظة الخطيب البغدادي عن الحلاج» (ماسينيون في بغداد. علي بدر، ص158)، وغير هذا كثير، كما أنّ ماسينيون، وهو يتهيأ لإخراج كتابه عن الحلاج في طبعته الثانية، راسل المؤرخ المعروف عباس العزاوي طالباً عونه في توضيح بعض المسائل، ونسخ بعض المخطوطات له. يكتب مثلاً بتاريخ 28/9/1948: «أيها الزميل المحترم والأستاذ العزيز. لقد تفضّلتم فذكرتم اشتغالي عن الحلاج في طبعتكم النفيسة لكتاب النبراس تأليف ابن دحية فشكراً لكم على ذلك. وأنتم تعلمون أنّني أشتغل الآن بالطبعة الثانية لكتابي الكبير عن الحلاج، ولا أتمكّن من إنجاز هذا العمل على الوجه الأكمل ... بدون معونة الزملاء أمثالكم الذين هم في نفس الموضع يكتشفون مخطوطات جديدة. ولذلك كتبت إليكم طالباً المساعدة قبل بضعة أسابيع بنسْخ عدّة صفحات عن الحلاج في مخطوطة خزانة الأوقاف ببغداد ... وبوسعكم أن تعلموا مقدار اهتمامي بهذه المعلومات للطبعة الثانية من كتابي الكبير التي أريد إنجازها مستفيداً من الإشارة التي نوّهتم بها للباحثين» (مخابرات ومراجعات علمية في التصوف الإسلامي بين المستشرقَين ماسينيون وريتر والمؤرخ العراقي عباس العزاوي. أخرجه وعلّق عليه فاضل عباس العزاوي. مجلة المورد البغدادية. المجلد السابع. العددان الأول والثاني. ربيع 1978، ص54)، ويكتب أيضاً بتاريخ 9/11/1948: «حضرة الزميل المحترم. أشكركم شكراً جزيلاً على كتابكم، وعلى المذكّرة المفصّلة التي رجعتم فيها إلى مناقشتنا في بغداد سنة 1945، فثبتّم كلّ الأسباب التي جمعتموها للطعن في وحدة الوجود التي نسبها المتصوفون في عهد ابن عربي إلى الحسين بن منصور الحلاج... إنّ الحلاج قد أكّد دائماً على (وحدة الشهود)، وهو مبدأ مقبول لدى فقهاء الحقيقة في الهند مثل أصحاب الفاروقي السرهندي، وهم الذين يحرّمون أصحاب (وحدة الوجود)... إنّني مسافر إلى اجتماع اليونسكو في بيروت، وسأكتب لكم تفصيلاً من هناك؛ لأنّني أحبّ أن أحقّق القضية تحقيقاً دقيقاً معكم، كما لو كان مع أستاذينا الآلوسيَيْن رحمهما الله» (المصدر السابق، ص62). ومن المعلوم أنّ ماسينيون ولد سنة 1883، وتوفي سنة 1962، وقد قدّم له أولئك العلماء فوائد جليلة من خلال إجاباتهم المطوّلة على رسائله، وأمدّوه بما استطاعوا الوصول إليه من معلومات، ومخطوطات منسوخة.
إنَّ هذا الصبر الذي قلّ نظيره، والدأب النادر اللذين تميّز بهما ماسينيون وهو يؤلف كتابه عن الحلاج، وينشره، ويعيد نشره بعد هذا مرة أخرى ليؤكّد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ هذا الكتاب ركن ركين في الدراسات (الحلاجية) لا يُستغنى عنه، ويقدّم الأستاذ علي بدر أوصافاً لهذا الكتاب هي بمثابة تقويم علمي له، فهو (كتاب موسوعي عظيم) (ماسينيون في بغداد، ص36)، وهو «أكبر موسوعة إسلامية في التصوف ... إذ قدّم فيه ماسينيون كتاباً قلّ نظيره حول التصوف الإسلامي، والإسهام الأكبر هو البيبلوغرافيا التي تمخّض عنها عمله، والتي تعتبر إسهاماً كبيراً في التراث البحثي الإسلامي» (ماسينيون في بغداد، ص47)، وهو «ذروة أعمال ماسينيون، إن لم نقل أكبر انسكلوبيديا استشراقية في موضوعة محددة هي التصوف الإسلامي، وقد قطّره ماسينيون في شخصية الحسين بن منصور الحلاج... ويعدّ هذا الكتاب بحقّ أضخم كتاب كتبه ماسينيون بعد كتابه رحلة إلى بلاد الرافدين بجزأيه» (ماسينيون في بغداد، ص49-50)، وفي المسرد الذي قدّمه الأستاذ علي بدر لمؤلفات ماسينيون يتبيّن أنّ هذا الكتاب صدر في طبعته الأولى بجزءين سنة 1922، وفي طبعته الثانية بأربعة أجزاء سنة 1975، كما نُقل إلى اللغة الإنكليزية سنة 1982، وصدر بأربعة أجزاء أيضاً، فإذا ضممنا ما كتبه الأستاذان عبده وازن، وعلي بدر عن الكتاب أدركنا خطورة هذا الكتاب، وأهميته في مجال الدراسات الإسلامية عموماً، ودراسات التصوف خصوصاً.
وبعد كلّ ما تقدّم فإنّ هذا العمل (الضخم) الذي أنجزه ماسينيون لم ينقل إلى اللغة العربية – على حدّ علمي- حتى الآن، وهناك نتف منه استشهد بها بعض الدارسين، ومنهم الأستاذ عبده وازن، والأستاذ علي بدر، وكلاهما يرجعان إلى الكتاب بلغته الفرنسية. أقول: لو صرف الأستاذ وازن جهده إلى نقل هذا الأثر الكبير إلى العربية بدل إنفاقه ذلك الجهد (المهدر) في تقديم نسخة (أخرى) للديوان هي التي خصصناها بالحديث فيما تقدّم. ولا عبرة بتقادم العهد منذ نشر ماسينيون كتابه عن الحلاج قبل تسعين سنة وتزيد، فالجهد الذي بذله فيه ماسينيون، والتأنّي والصبر اللذان أنفقهما في تحليل المادة المدروسة، والآراء الشخصية عن الحلاج، ومسيرته الروحية التي بثّها فيه، والنتائج التي توصّل إليها، والمصادر الوفيرة التي توصل إليها، وهي التي ذكرت الحلاج، وقد اقتربت من ألف وسبعمائة مصدر، قرابة ثلثيها بالعربية، والبقية في لغات أخرى (ينظر ديوان الحلاج، عبده وازن، ص12). بالإضافة إلى ما سبق فإنّ ماسينيون قد ضمّ إليه مبحثاً في المصطلحات الفنية، وفهرساً لهذه المصطلحات كما يصرّح هو بنفسه في رسالته إلى الأستاذ عباس العزاوي (ينظر المقال السابق: مخابرات ومراجعات علمية في التصوف الإسلامي. فاضل عباس العزاوي، ص62). أقول: إنّ ذلك كلّه جدير أن يطّلع عليه القارئ العربي بهيئته الكاملة كما أرادها ماسينيون، وخصوصاً أنّ الحديث فيه منصبّ على الحلاج، وهو مَن هو أهمية، وتأثيراً، لا في مجرى التصوف الإسلامي وحده، بل في الثقافة الإسلامية عموماً.
وهل لي أن أستشهد بكتابين نُقِلا إلى العربية بعد مدة طويلة من نشرهما، وما يزالان محتفظَين بأهميتهما العلمية، وروائهما المنهجي، وأولهما كتاب (تاريخ القرآن) للمستشرق الألماني (تيودور نولدكه) الذي صدر سنة 1860 بطبعته الأولى، ثم توالى على فحصه، ودرسه، والإضافة إليه أجيال من المستشرقين الألمان أولهم (فريدرش شفالي) الذي أعاد صياغة الجزء الأول بتفويض من (نولدكه) نفسه، وبعد وفاة (شفالي) سنة 1919 أضاف (أوغوست فيشر) بعض التصحيحات عليه، وخصوصاً الجزء الثاني. أمّا الجزء الثالث فقد انتقلت مهمة إنجازه إلى (غوتهلف برغشترسر)، وأكمله تلميذه (أُتوبريستل) بسبب وفاة (برغشترسر) سنة 1933، وصدر الكتاب بالصورة التي نُقل بها إلى العربية سنة 1937. وتمّ نقله إلى العربية، ونشرته دار الجمل بألمانيا سنة 2008، أي بعد قرابة مائة وأربعين سنة، وتزيد من صدور طبعته الأولى، وثمانية وستين عاماً من صدور طبعته النهائية. وتولّى نقل هذا الكتاب المهم إلى العربية الدكتور جورج تامر، ومعه فريق عمل مؤلَّف من ثلاثة مترجمين آخرين، ونشرته دار الجمل – كما ذكرنا- بالتعاون مع مؤسسة كونراد- أدناور، ويقع بأربعين وثمنمائة صفحة.
والكتاب الثاني هو (المهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية) للباحث العراقي المرموق الدكتور جواد علي تغمّده الله برحمته الذي انتهى من تأليفه سنة 1938، كما يصرّح هو في مقدّمته، لا سنة 1939، كما ورد في التعريف بالكتاب المنشور على صفحته الثالثة، ولم يُنقل إلى العربية، ويُنشر إلاّ في سنة 2005، أي بعد مرور سبع وستين سنة تقريباً من الانتهاء من تأليفه. وتولّى نقل هذا الكتاب إلى العربية الباحث الجزائري المرموق الدكتور أبو العيد دودو. وهناك ملاحظة على العنوان الذي وضِع على غلاف الكتاب، وهو (المهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية)، فقد رأيت في ترجمة الدكتور جواد علي المنشورة في كتاب (أعلام المجمع العلمي العراقي) للأستاذ صباح ياسين الأعظمي، ص26، أنّ عنوان الكتاب هو (المهدي وسفراؤه الأربعة)، وأُثبت العنوان هكذا باللغتين العربية، والألمانية، بينما غاب العنوان باللغة الألمانية في نشرة (دار الجمل) التي تولّت هي أيضاً نشر الكتاب. وأمر تغيير العنوانات معروف لدى كثير من الناشرين بغية الترويج، والإشهار، على حدّ قول إخواننا المغاربة، وهو بعيد عن العلم، والمنهجية معاً. ولعلّ (دار الجمل) تراجع أمر العنوان في طبعة أخرى.
إنّ هذين الكتابين، ومعهما كتب أخرى، من الكتب التي لا يبليها الجديدان، كما تقول العرب، إذ تظلّ محتفظة بمكانتها العلمية في الأوساط الأكاديمية، والبحثية. وقد لمست هذا بنفسي، من خلال القراءات في القضايا الدينية عموماً، دخول هذين الكتابين ضمن مصادر العشرات من الباحثين العرب، واعتمادهم عليهما، وتوثيق النقل منهما، ممّا يقوّي ذلك الاحتفاظ بالمكانة العلمية الممتازة التي يتميّزان بها. والشيء نفسه يقال عن كتاب ماسينيون عن (الحلاج)، فهو جدير بالنقل إلى العربية على هيئته التي تركها ماسينيون، وارتضاها للسبب نفسه، ومن هنا جاءت تلك الأمنية التي افتتحت بها الحديث. وهي ليست بكبيرة على الأستاذ عبده وازن، ودأبه، وصبره، فلو عمد إلى نقل كتاب ماسينيون عن الحلاج إلى العربية بدل الاهتمام بنشر ديوان الحلاج كما صنع، لأفاد القارئ العربي فائدة لا تنكر، وأضاف للدراسات (الحلاّجية) إضافة عميقة، خصبة، لعلّها ستغيّر من مسار هذه الدراسات، وخصوصاً المكتوبة بالعربية إلى وجهة أخرى بسبب انفتاحها على آفاق رحبة، وهو ما نعرفه في دراسات ماسينيون الأخرى، خصوصاً تلك التي نُقلت إلى العربية، وممّا ينبغي ذكره هنا أنّ الأستاذ يواكيم مبارك أعدّ ثبتاً بمؤلفات ماسينيون، نشره في كتاب (Opera Minora)، حيث بلغت تلك المؤلفات المئات عدّا، تنقّلت بين الكتب والمقالات (200)، والتقارير والشهادات (100)، والمحاضرات (150)، وأغلب هذا التراث الضخم ما يزال قابعاً في لغته الفرنسية مع أنّه متّصل اتصالاً حميماً بالحضارة العربية – الإسلامية، وتاريخ العرب الحديث، وأدبهم، وفكرهم (ينظر ماسينيون في بغداد، علي بدر، ص19). فهل ينهد الأستاذ عبده وازن، أو غيره من محبّي العربية إلى نقل هذا الكتاب إلى العربية لكثرة الفوائد التي ستجنيها المكتبة العربية بعد هذا النقل المنتظر؟
باحث متفرغ: عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة